كيف رسم الإسلام لنفسه موقعا على خريطة الفنون العالمية؟

أتاحت حركة التجارة الواسعة التي انتعشت في ربوع الإمبراطورية الإسلامية ظهور أنواع أخرى من الفنون مثل فنون السيراميك والمشكاوات والرسم والكتابة على الزجاج.

استمدت المشكاوات اسمها من الآية القرآنية "مثل نوره كمشكاة" (مواقع التواصل)

"إن الله جميلٌ يحب الجمال" حديث شريف بيّن صفة من صفات الخالق عز وجل وأتى ذكرها على لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. هذا الحديث ألهم آلافا من الفنانين المسلمين على مدار أكثر من 1400 عام. هذا الإلهام لم يأت كما جرت العادة في الحضارات والثقافات السابقة للإسلام في شكل مادي (على هيئة تماثيل أو منحوتات أو تجسيد ذوات الأرواح) بل مضى نحو بعدٍ آخر.

دفعت الثقافة الإسلامية، التي تميل للزهد في العالم الدنيوي في سبيل العالم الآخر، الفنانين إلى مجالات فنية تتجاوز هذا العالم الأرضي: العمارة والخط والرسم على الزجاج والسيراميك والمنسوجات، وغير ذلك الكثير، وكانت مجالات ثرية للإبداع المتأثر بتلك الثقافة الروحية العازفة عن المنحوتات والتماثيل.

انتشر الإسلام في شبه جزيرة العرب وامتدت الفتوحات حتى أواسط آسيا وأجزاء من أفريقيا ومشارف فرنسا بعد أن فُتحت إسبانيا. كل هذا بالقرن الأول من البعثة. وعليه، فإن تلك الإمبراطورية العملاقة التي ترامت أطرافها شرقًا وغربًا باتت بوتقة انصهرت فيها قوميات عدة ولغات مختلفة وثقافات محلية لا حصر لها، لتشكل جميعها مجتمعة ما يعرف عالميًا بالفنون الإسلامية.

تراث فني متماسك

تعددت عواصم الخلافة الإسلامية على مر القرون من المدينة المنورة لبغداد لدمشق للقاهرة وصولا للقسطنطينية في عهد الدولة العثمانية. وبالرغم من أن تعدد الثقافات واختلاف الأعراق كان من المتوقع له أن ينتج أعمالا فنية محلية لا علاقة لبعضها بالآخر، فقد جاءت الإمبراطورية الإسلامية على عكس المتوقع لتقدم تراثا فنيا فريدا ومتماسكا. وهناك سبب بعينه دفع لظهور هذا الإنتاج الفني الصلب المتماثل.

هذا السبب هو القرآن الكريم. فسعي المسلمون الأوائل لتدوين كتاب الله العزيز وجمعه من صدور الحفظة، مما فتح الباب على مصراعيه أمام الكتبة الذين أبدعوا في تدوينه بخطوط عدة تبجيلا وإجلالا له لأنه كلام الله عز وجل. فكانت تلك نقطة انطلاق لواحد من أعرق وأشهر الفنون الإسلامية وهو الخط العربي. وقد تشعبت أنواعه وتعددت بعد ذلك لتضم خط الرقعة والكوفي والثلث وغير ذلك.

"تستخدم البلدان المختلفة طرقا وتصميمات متعددة في الكتابة، وهو ما يعطي الخط العربي إمكانيات زخرفية شتى" متحف متروبوليتان الأميركي.

قسم من مخطوطة قرآنية أواخر القرن الـ 14 وأوائل القرن الـ 15(متحف متروبوليتان للفنون بنيويورك)

التوسع في استخدام الأنماط الزخرفية لم يقتصر على الخط العربي. فقد امتد ليشمل فن العمارة الذي سيأخذ صبغة إسلامية روحية مميزة له عن البيزنطية واليونانية والرومانية السالفة له بمرور الوقت. وعلى هذا النحو، صارت الزخرفة في حد ذاتها عامل توحيد رئيسي لكافة أنواع الفنون التي أنتجت على تلك الرقعة العملاقة من الأرض (الإمبراطورية الإسلامية).

وعلى مدى القرون، ربطت العمارة بين القوميات والأعراق المختلفة المكونة لدول الخلافة. وصبّت تلك القوميات في نهرٍ واحدٍ دافقٍ تحت قبة من مبادئ زخرفية إسلامية شاملة تنطبق على جميع أنواع المباني والأشياء في جميع الأمصار الإسلامية. فأضحت الزخرفة وسيلة لإيجاد إحساس بسعة الأماكن وترامي أبعادها مهما صغرت المساحة، لأن البعد الروحي كان يعطي قدرًا من السعة التي صارت سمة مميزة للعمارة الإسلامية.

"هناك مبادئ زخرفية شاملة إسلامية تنطبق على جميع أنواع المباني والأشياء في جميع الأوقات. ومن هنا تأتي العلاقة الحميمية في الإسلام بين جميع الفنون التطبيقية والعمارة" حسب المؤرخ الفني جورج ميشيل.

هنا تأتي العلاقة الحميمية في الإسلام بين جميع الفنون التطبيقية والعمارة (ويكيبيديا)

جنان أرضيّة

كان الملوك والأمراء في دول الخلافة المتقدمة يهتمون بشكل خاص بتشييد قصورهم وتأثيثها بأفخر أنواع السجاد والأقمشة ومقاعد الأرابيسك. وقد انعكس هذا الاهتمام على الفن. فأنتجت كافة الأمصار السجاد المزخرف والمصنوع يدويًا والستائر والأغطية التي لا يزال بعضها معروضًا اليوم في المتاحف العالمية.

فمثلا، يعرض متحف متروبوليتان الأميركي مجموعة خاصة ونادرة من الأقمشة والسجاد الذي يعود لحقب إسلامية مختلفة. وقد أتى في صدر صفحته عن تلك القطع الأثرية ما معناه "في ظل السلالات العثمانية والصفوية والمغولية، تم تحويل نسج السجاد من حرفة صغيرة تعتمد على أنماط تنتقل من جيل إلى جيل إلى صناعة هامة على مستوى الأمصار، وقد تم تداولها في أوروبا والشرق الأقصى حيث كانت أغلى من أي مكان آخر. كما تم استخدامها لتغطية الأثاث أو تعليقها على الجدران حيث كانت الأسر الحاكمة تجمع القطع الجميلة بشكل خاص".

وعلى نحو ما ذكر المتحف، كان السجاد الفارسي واحدًا من أرقى أنواع السجاد عالميًا. وحقق مكانة عالمية وأرباحا تجارية خيالية في ظل حكم الصفويين في القرن الـ 16. وقد تميّز بتناغم الأنماط والزخارف والألوان، واستخدام الأزهار في التزيين والتطريز، مع الميل للأشكال الهندسية النباتية المستوحاة من الطبيعة.

كلمات مُضيئة

أتاحت حركة التجارة الواسعة التي انتعشت في ربوع الإمبراطورية الإسلامية ظهور أنواع أخرى من الفنون مثل السيراميك والمشكاوات والرسم والكتابة على الزجاج. ويرى علاء الدين محمود، مدير إدارة البحث العلمي في مصر، أن الاهتمام بالإضاءة والأواني الخزفية والسيراميك وصل ذروته في عهد المماليك. وأن المشكاوات استخدمت بكثرة في مصر والشام حيث احتلت مكانًا أثيرًا في أوقات الاستزادة من الإضاءة خلال شهر رمضان.

وقد استمدت المشكاوات اسمها من الآية القرآنية الشهيرة ".. مثل نوره كمشكاة". وتذكر موسوعة بريطانيكا أنه تم نقش الزجاج ونحت المشكاوات بعبارات مختلفة منها الدينية أو الشعرية لتضيء بمجرد إضاءة المشكاة مزينة فضاء الأماكن التي تعلق فيها. وتتركز معظم المشكاوات التاريخية الأثرية بين متحف الفن الإسلامي بالقاهرة ومتحف متروبوليتان بالولايات المتحدة.

المصدر : مواقع إلكترونية