كورونا يحيل أعضاء فرق موسيقية إلى عازفين جائلين بشوارع مصر

حالة من البهجة العارمة تنتشر في الطرقات الساكنة، حينما يتعالى شدو مزمار مختلطا بدقات طبلة ورق، عزف يشكله أفراد ثلاثة من فرقة موسيقية أقعدهم فيروس كورونا المستجد عن أعمالهم في ساحات النوادي وقاعات الأفراح.
تفتح الشرفات على الموسيقى الصاعدة إليها، ليُطل منها للعازفين في فرح، أولئك السجناء في منازلهم استجابة لدعوات البقاء في المنزل خشية انتشار الفيروس، في بلد بات على أعتاب الغرق في السيناريوهات المؤلمة التي وقعت في إيطاليا وإسبانيا وأميركا، بسقوط عشرات الآلاف فرائس للموت والمرض بالفيروس.
تبدأ تفاصيل الحكاية قبل هذه اللحظة البهيجة بقليل، حينما يتواعد كمال وأسعد وحسين على اللقاء في مكان محدد، آخر النهار بعد انكسار حرارة الجو، وقبيل موعد الحظر الليلي بوقت كاف، ثم يحمل كل منهم آلته الموسيقية، ويذهب لرفيقيه في فرقة "الأحلام الموسيقية" التي لم تعد تدعى في الأفراح والمناسبات والأنشطة بسبب قرارات منع التجمعات.
في المكان المحدد يتشاور الثلاثة لاتخاذ وجهة السير، بناء على كثافة السكان في الشارع المستهدف، ثم يسيرون معا وهم يعزفون في الطرقات.
يغني كمال أغاني دينية اعتاد أن يستهل بها حفلات الأفراح، يلفظ كمال عبارته تلك وهو ينظر بترحاب لشاب يقترب منه ويعطيه ورقة من فئة عشرة جنيهات، "ربما تسد مع غيرها مما يجمعها حاجة البيت الذي بات من دون مورد مالي منذ شهرين، بعد فرض الحظر على الأنشطة الترفيهية ومنع التجمعات والحفلات"، حسب قوله.
يطلق حسين نفخة طويلة شجية من مزماره، ثم يقول للجزيرة نت بأسى "كنا نعزف ونغني في مختلف المناسبات الشعبية الاجتماعية والنوادي وليالي رمضان والأعياد، كانت الأمور تسير بشكل جيد، ولدينا مورد دائم ووفير للرزق، اليوم لا نجد حرجا في أن نعرض إبداعنا على الناس في الشوارع بمقابل بسيط، والحمد لله على كل حال".
يطرق أسعد على الطبلة عدة طرقات قوية تحية لفتاة دست في يده بضعة جنيهات، ويقول للجزيرة نت "كان الأمر صعبا علينا في البداية، فنحن فنانون، لكننا بعد وقت من التفكير والاعتياد، وجدنا أنه لا فرق بين أن نعزف لجمهور في مناسبة ما فيدفع لنا صاحب المناسبة أجرنا، وبين أن نعزف للجمهور في الشوارع فيدفعون لنا مباشرة".

ويوضح كمال، وهو يطلق عبارة بالمدح والدعاء تجاه الواقفين بإحدى الشرفات، "المسألة تقديرية ونتركها لمدى استمتاع الجمهور بما نقدمه"، ويضيف للجزيرة نت "هؤلاء مثلا لا ننتظر منهم شيئا، لأنهم لن ينزلوا خصيصا ليدفعوا لنا، ورغم ذلك نقدم لهم إبداعنا، ونكتفي منهم بتحيتنا من الشرفات، إذا أسعدنا الناس في هذه الأوضاع البائسة القاسية فذلك يكفينا".
وفي الأحوال العادية، تعمل الفرقة -المؤلفة من بضعة أشخاص يزيدون وينقصون حسب الحاجة إلى العازف أو الموسيقى- وفق الاتفاق مع الزبون صاحب الفرح أو المناسبة المقامة.
يقول كمال إنه لا يعيب الفنان أبدا أن يذهب بفنه للناس بأي شكل وأي وسيلة، فالمطرب الراحل محمد عبد الوهاب مثلا كان يجول القرى في بداياته الفنية على حمار ليصل للناس ويغني في الأفراح أمام الفلاحين، حتى اشتهر وصار يُلقب "بموسيقار الأجيال".
وتشظت الفرقة عقب تفشي فيروس كورونا في البلاد، فباتت كل مجموعة من اثنين أو ثلاثة من أعضاء الفرقة يتواعدون معا للخروج، فبحسب حسين "الوضع لا يحتمل تقسيم الجنيهات القليلة الآتية من أيدي المستمتعين بما نقدمه على كل أعضاء الفرقة بعددها الكبير".
ويؤكد أعضاء الفرقة أنهم ليسوا بدعا من الفرق فيما آلت إليه أحوالهم المستجدة بسبب فيروس كورونا المستجد، فكثير من أعضاء الفرق الأخرى سلكوا النهج نفسه، وهنالك آخرون لديهم من التمويل والإمكانات ما أتاح لهم العمل والتكسب عبر الإنترنت، فلم ينزلوا للشوارع، والفرق أن هؤلاء يعرضون إبداعهم افتراضيا في حين يقدم أعضاء "الأحلام" عروضهم واقعيا.

الجمهور يشجع
وتجري نشوى (طالبة جامعية) ناحية الشرفة عندما تسمع دقات طبول وعزف فرقة موسيقية جوالة تمر أسفل مسكن أسرتها، وتقول للجزيرة نت "أشعر بالبهجة عندما يصلون، فهم يقدمون متعة صافية لا يقدمها تطبيق ساوند كلاود بكل ما فيه من آلاف الأغاني الشهيرة".
وتضيف "أشفق عليهم كثيرا لأنهم ضحايا، ربما سقطوا سهوا من حسابات الكافة، فالحكومة لا تعتبرهم عمالة غير منتظمة تستحق الدعم، والبعض ينظر إليهم على أنهم يقدمون شيئا مخالفا للشرع، فالموسيقى حرام برأيهم، لذا يدعون لعدم الدفع لهم".
وتؤكد رانيا (طالبة) أنها تشعر بالأنس مع قدوم هذه الفرق وقيام أفرادها بالعزف أسفل نافذتها المغلقة دوما بأوامر صارمة من الوالد والوالدة، خشية العدوى، مع هذ الرعب البالغ، ويصير سماع صوت مبهج قادم من الشارع الصامت دوما مبعث سعادة ربما تزيد المناعة في مواجهة الفيروس".
ويؤكد الرأي السابق الكاتب وحيد عبد المجيد -في مقال له- قائلا إن "محنة كورونا أظهرت مدى حاجة الإنسان إلى الموسيقى في خوفه من أن يصيبه الفيروس، وفي وحدته المفروضة عليه في ظل الإجراءات المتعلقة بالتباعد الجسدي".
وتابع عبد المجيد أن "الإدراك يزداد الآن بأن الموسيقى لا تسمع بالأذن فقط، بل تنتقل إلى الجسم كله عبر الخلايا العصبية، وتساعد في تحسين الحالة المزاجية والنفسية، وتمد الإنسان بالقدرة على مقاومة الشعور بالخوف والعزلة في أوقات الشدة، بعد أن كانت الموسيقي أقل أنواع الإبداع الفني شعبية، إذ ينظر إليها بوصفها ترفا لا يطيقه معظم الناس، ولا يجدون حاجة إليه".
كان النهار يلملم أضواءه ليرحل تاركا أعضاء فرقة الأحلام غارقين في غبشة المغرب، وقبل موعد حظر التجول، فسارع إليهم أطفال بأكياس من البلح والعجوة والعصائر، قبل أن يستأنفوا المسيرة مخترقين بألحانهم البسيطة وأغانيهم الرقيقة ظلام الطرقات من جديد.