شعار قسم ميدان

"بلاك ميرور باندرسناتش".. لماذا جعلتنا نتفليكس نتحكم بمصائر أبطال هذه الحلقة؟

ميدان - بلاك ميرور 111
اضغط للاستماع

  

في يوم السبت 28 ديسمبر/كانون الأول أصدرت منصة "نتفليكس" حلقة خاصة من المسلسل الشهير "المرآة السوداء" (Black Mirror)، والمختلف في هذه الحلقة الخاصة/الفيلم أنه يُجبر الجمهور على مشاهدته عبر "نتفليكس" وعدا ذلك لن يتمكن من ممارسة التقنية التفاعلية التي يُعرض بها، فنحن أمام فيلم تفاعلي لا يقرر فيه البطل شيئا كاختيار فطور الصباح ونوع الأغاني التي يسمعها وحتى قراراته المصيرية كقبول عمل جديد أم لا، فكل هذه الاختيارات رهن إشارة من المشاهد، والبطل هنا مسلوبُ الإرادة الحرة ونحن من يتحكم فيه، لكن هل نحن متحكمون فيه حقا؟
 

"نحن مجرد دمى ولسنا المسيطرين"

(المسلسل)

 

  

نيتفليكس ومعضلة "الإرادة الحرة"

عندما قُتل الملك دنكان على يد مكبث لم يكن قرارًا شيطانيًّا من مكبث، بل كان يمشي إلى مصيره حيث النُّبُوءة التي يجب أن تتحقق، لكنه في النهاية لم ينتظر الموت الطبيعي للملك فتسلل في الليل وغرس السيف في قلبه ظنا منه أنه يحقق مشيئة القدر. رغم ذلك، كاد الشعور بالذنب أن يقتله فأصابه مس من الجنون، ألم يحقق ما قالته النبوءة؟ ألم تخبره الساحرات الثلاث بأنه الملك وسيرث أبناؤه المُلك؟  منذ مئات السنين يطرح علينا شكسبير في مسرحية مكبث معضلة مصير الإنسان، هل هو حقا مسيّر أم أنه صاحب إرادة حرة؟ ومن الذي قتل الملك دنكان إذًا، قدرُه المحتوم أم رغبةُ مكبث الحرة في قتلِه؟ أم أن ليدي مكبث استغلت مفهومه الخاطئ للقدر وتلاعبت بعقله وأقنعته بارتكاب الجريمة؟

شهد تاريخ الفلسفة منذ القدم إلى الآن جدلا واسعا ومتناقضا بشأن "حرية الإرادة والحتمية"، وهما نظريتان متناقضتان في البحث عن هوية المتحكم الحقيقي في مصائر البشر، فهل نحن أحرار بالكامل في اختيار تصرفاتنا وأفعالنا وبالتالي شكل حياتنا، أم أننا محكومون من قِبل قوة خارجية سواء كانت القدر أو السياسة أو الطبقة الاجتماعية واختياراتنا المصيرية هي اختياراتهم؟ إن الوصول إلى إجابة فاصلة بيده أن يغير نظرة الفرد منا إلى الحياة وجدواها، لذا فالإجابة ليست محض جدال فلسفي، بل إنها تدفعنا إلى تغيير علاقتنا بالحياة.

يتفق الأغلبية في أننا لسنا مسيرين بالكامل ولا مخيرين بالكامل، فنحن نملك حرية اتخاذ القرار بداية من شرب القهوة أو الشاي في الصباح، مرورا باختيار الوظيفة وشريك الحياة والاستمرار في الحياة أو الانتحار، لكننا في النهاية محكومون في قوالب حياتية معينة، فنحن لم نختر هيئتنا ولا ديانتنا ولا أهلنا ولا البلد التي نعيشها، لكننا ما زلنا نملك حرية الاختيار، فعندما تكبر قد تغير دينك أو تترك أهلك أو تسافرُ إلى بلاد بعيدة، لكن لأن الحياة مزدحمة للغاية نحن مشغولون كل يوم بعشرات بل مئات القرارات التي نتخذها بشكل آلي دون أن نطرح على أنفسنا سؤالا أكثر تعقيدا، هل نحن حقا المتحكمون في هذه القرارات أم أن أحدا يُمليها علينا؟

   

 

لنتذكّر مرة أخرى أن "نتفليكس" اختارت أن تقدم هذه التقنية التفاعلية من خلال "المرآة السوداء" (Black mirror) الذي خضنا معه رحلات درامية عديدة عن المستقبل غير المشرق للتكنولوجيا وتأثيراتها وتحكمها في حياة البشر، ونحن هنا لا نشاهد مسلسلا تفاعليا عاديا، بل نحن في قلب لعبة يُذكّرنا سياقها العام أن التكنولوجيا تخدعنا دائما، ولكننا هذه المرة في الماضي لا المستقبل؛ تدور الأحداث في عام 1984 حول ستيفان الشاب مبرمج لعبة الفيديو جيم "باندرسناتش" التي اقتبس فكرتها من رواية بالاسم نفسه للكاتب جيروم إف ديفيس، فنحن إذًا جئنا له من المستقبل مما يعني أننا الخدعة، وأن ما قدّمه لنا المسلسل سابقا من تصور سوداوي للمستقبل يتحقق بالفعل في عالم ستيفان.

  
كانت خياراتنا الأولى لحياة بطل المسلسل ستيفان بسيطة للغاية كأنها تجذبنا بهدوء إلى لعبة التحكم تلك، فنختار له الفطور والموسيقى التي يسمعها، وبالتدريج نختار ما هو أصعب من ذلك. يمكننا تلخيص ما قاله الأخصائي النفسي باري شوارتز عن حرية الاختيار في معادلة بسيطة: "كلما زادت خياراتنا الشخصية زادت الحرية"[1]، فنحن بشكل يومي نمارس الحرية في اتخاذ قراراتنا، لكننا من باب الفضول والتجريب قررنا أن نخوض تجربة مشاهدة تفاعلية لنتحكم في حياة شخص لا نعرفه، وبخياراتنا حوّلناه إلى إنسان مسلوبِ الحرية في اتخاذ القرار، وعلى جانب آخر ودون أن ندري حطمنا بأيدينا أسطورة حرية الإرادة وأثبتنا أنها وهم، فإذا كنا مارسنا التحكم في حياته فهذا يعني بالضرورة إيمانَنا بالمبدأ وبأننا مسيّرون، فما الضامن الآن أننا أحرار؟ ألا يجوز أيضا أن نكون مجرد لعبة في جهاز محاكاة أو مسلسل تلفزيوني شهير؟ خاصة وإذا عرفنا أنه في يوليو/تموز عام 1984 كانت هناك لعبة بالفعل اسمها "باندرسناتش" لكنها لم تُطرح في الأسواق[2].          

  
يتفق أساتذة الفلسفة داميان كوكس ومايكل ليفين على أن السينما وما تحمله جعبتها من حِيل وتقنيات ساعدتها لتكون أكثر تناغما مع الفلسفة مثل الأدب والفنون، ويطرحون سؤالا: إذا كانت الأفلام تمارس الفلسفة، فمن الذي يتفلسف إذن؟[3] بالتأكيد شاهدنا العديد من الأفلام التي تحتوي على طرح فلسفي عميق عن علاقتنا بالحياة أو علاقاتنا الاجتماعية وعن الوهم والخيال وأيهما نعيشه، ونحن نتلقى هذه الأسئلة ونزيد عليها وندخل في دوامة لا نهائية من الشكوك تنتهي بنهاية الفيلم أو بعده بساعات، وهنا في مسلسل "المرآة السوداء" نتشارك مع صناع العمل في الطرح الفلسفي الذي يقدمونه ونسعى لفهمه، لكننا في فيلم "باندرسناتش" نغوص في دوامة من القرارات دون أن نسأل أنفسنا لماذا؟ لأننا مشغولون بإثبات تحكّمنا، ولأننا أيضا دون أن ندري نتفلسف.

"أنت تخوض عراكا مع عقلك"

(المسلسل)

متاهة العقل

في ورقة بحثية بعنوان "مبارزة العقل والكمبيوتر: هل نملك إرادة حرة"[4] تطرح أمامنا معلومات جديدة ستغير من نظرتنا لأصول أفعالنا واختياراتنا وفقا لتجربة طبية لأشخاص أثناء إجرائهم عمليات جراحية في المخ، إذ وُجد أن القشرة الجدارية السفلية للمخ* إذا تعرضت للوكز أو الصعق فسيؤدي ذلك إلى القيام بحركة جسدية لا يعي الفرد منهم أنه قام بها، كأن يحرك ذراعه مثلا، وأن هذا الوكزَ الذي تعرض له هذا الجزء من المخ تسبب في الإقدام على هذه الحركة دون وعي أو رغبة حقيقية منه.

      undefined

في إحدى مراحل الفيلم نصل فيها إلى ذروة التعقيد يُطلب منا أن نختار أن يضرب ستيفان الحاسوب أو أن يسكب عليه الشاي، لكنه في هذه اللحظة أدرك أن يده تدفعه للقيام بفعل ما لكنه غيرُ نابع منه، في هذه اللحظة اعترض ستيفان وبدأ يصرخ في المشاهد: "من أنت؟"، ثم طلب منا أن نعطيه أي إشارة، هنا يتأكد أنه لا يتحكم في حياته وأنه مسيّر تماما. في لحظة لاحقة يضعنا "نتفليكس" أمام ستيفان ووالدِه ومطفأة سجائر ويطلب منا الاختيار: "هل يتراجع عن ضرب أبيه، أم يقتلُه؟" وهذا الخيار يضعنا نحن أمام معضلةٍ أخلاقية، هل يقتل أباه أم يتركه؟ والخيار في النهاية للمشاهد المسير أيضا الذي تدفعه المشاهدة إلى اختيارات غير أخلاقية بالمرة لكنه في النهاية مجبر عليها.

"يظن الناس أن ثمة عالما واقعيا واحدا، لكن هناك العديد من العوالم المتشعبة كالجذور، وما نفعله في مسار يؤثر في ما يحدث في المسارات الأخرى. الزمن مركب، يظن الناس أنه لا يمكن العودة وتغيير الأمور، لكن يمكنك ذلك، هذه هي العودة بالذاكرة، إنها دعوة للعودة واتخاذ قرارات مختلفة"

(المسلسل)

    

undefined

نحن الآن أمام سلسلة من الخيارات والفرضيات التي تؤدي إلى بعضها البعض، وهذا يقودنا إلى ترك فلسفة الإرادة الحرة والوقوف قليلا عند فلسفة الحتمية التي تقتضي بحسب كـريـس هورنر وإمريس ويستاكوت[5] أن لكل حدث أو فعل مسبباته السابقة ضمن سلسلة طويلة من المسببات تعود جذورها إلى الماضي، فعندما نقول إن A تحدد B، فهذا يعني أن A تسبب B، وأن A تؤدي بالضرورة إلى B (أي عندما توجد A لا بد أن تتبعها B)، وهذا يفسر لنا أيضا كل الإشارات الواردة في الفيلم لحلقات سابقة من مسلسل "المرآة السوداء" (Black Mirror)، ويفسر أيضا ظهور إشارة إلى لعبة مستقبلية تفاعلية على غلاف إحدى المجلات التي ظهرت في الحلقة الثانية "Playtest" من الموسم الثالث من المسلسل[6]؛ نحن إذًا في حلقة متصلة من الفرضيات تربطها "نتفليكس" لترسّخ فرضية أن المستقبل سهل التنبؤ به بشكل كامل لأنه متصل ببعضه.    

يبدو الأمر الآن منطقيا لكنه مرعب أيضا، فهذا يُفسّر لماذا قتل مكبث الملك، ولماذا كانت نهاية ستيفان سعيدة عندما تشابهت مع نهاية مؤلف الرواية جيروم إف ديفيس، ولماذا تحكمت فينا "نتفليكس"، ولماذا يتحكم فينا القدر والمجتمع والسياسة والمال، فكل شيء له سبب محدد سابقا ضمن سلسلة لا منتهية، والأمر بعيد تماما عن اختياراتنا الشخصية.

"حين تتخذ قرارا تظن أنك من اتخذه، لكن هذا غير صحيح، إنها الروح الموجودة بالخارج والمرتبطة بعالمنا والتي تقرر ما نفعله وليس علينا سوى أن ننقاد معها"

(المسلسل)

في عالم ألعاب الفيديو كما في الرواية كما في المسلسل، نحن لم نضع الاختيارات، نحن اخترنا أن نختار وفق المتاح أمامنا، تماما مثل ستيفان، وإن كان علينا أن نشكر "نتفليكس" على هذه الخدعة الجديدة التي وضعتنا فيها لتهدم قناعاتنا بإرادتنا الحرة، فنحن الآن في مأزق فلسفي سيلاحقنا، هل نحن مسيّرون حقا أم أن هناك قوة تتحكم في حياتنا كيفما تشاء؟ وأين الحقيقية إذًا؟ بالنظر إلى كل النهايات التي وضعها الفيلم/الحلقة أمامنا كان الموت هو الشريك الوحيد المرافق لكل خيار، وهو ما يُعيدنا لحقيقة واحدة وهي الموت الذي تنتهي به اللعبة والرواية والفيلم لتبدأ حياة جديدة في زمن جديد في دورة مستمرة إلى ما لا نهاية.

____________________________________________

هوامش:

* Inferior parietal cortex

المصدر : الجزيرة