المرض العقلي والإبداع.. مأساة فان جوخ وإدفارد مونش

إعلان

لطالما حلّ موضوع "العلاقة بين الخلل العقلي والإبداع" ضيفًا على عشرات آلاف الأطروحات والدراسات في علم النفس.. الفصام، اضطراب ثنائي القطب، اضطراب الوسواس القهري، الاكتئاب، التوحد، فقدان الشهيّة العصبي.. وعشرات الأمراض التي اقترنت بحالة إبداع جامح وانتهى أصحابها للانتحار.. وعلى مر العقود، كان السؤال: هل تعزز الأمراض النفسية حالة الإبداع؟ وقد قوّى مِن تلك الفرضية، أنّ هناك علاقة! فعدد ضخم مِن المبدعين الذين انتهت حياتهم بالانتحار؛ شعراء وكُتَّاب ورسّامون وممثلون، انتحروا بعد حياة متأججة بالإبداع والمرض العقلي أيضًا.  

ولعل واحدٌ مِن أبرز هؤلاء هو "فنسنت فان جوخ" الرسّام الهولندي، 30 (مارس/آذار) 1853 – 29 (يوليو/تموز) 1890. فان جوخ، الذي عانى اضطراب ثنائي القُطب وانتحر في سن السابعة والثلاثين، عاش حياة متأججة بالإبداع والمرض النفسي كليهما. فبالرغم من أن فان جوخ قضى نصف عمره بالتمام في المصحات النفسية، إثر نوبات سعادة عارمة أو حزن قاتل، إلا أنه في نفس الوقت خلَّف ورائه أكثر من ألفي لوحة واسكتش. وهو عدد ضخم مقارنة بحياته القصيرة ومقارنة أيضًا بالوقت الضائع منها في العلاج النفسي.[1] 

إعلان

انتحار فان جوخ كان موضوعًا دسما للعديد من الدراسات والأطروحات التي تناولت جدلية الخلل العقلي والإبداع والانتحار. وبالرغم من عدد التفسيرات والدراسات الهائل حول مرضه وانتحاره، فقد سلط انتحاره الضوء بشكل لا يشوبه شك على المرض العقلي كمحرك للإبداع.[2] ففي أواخر أيامه، رسم فان جوخ عدد من اللوحات التي اعتبرها الأطباء بمثابة رسائل انتحار، مثل لوحة "ليلة النجوم / Starry Night" والتي رسم فيها شجرة سرو تربط بين الأرض والسماء. وقد عُرف شجر السرو في تلك الفترة بأنه شجر المدافن والمقابر.[3] 

   

لوحة "ليلية النجوم" لـ"فان جوخ" (مواقع التواصل)

 
لوحة أخرى هي "حقلُ قمح مع غربان" والتي رسمها في (يوليو/تموز) 1890، وهي أيضًا آخر لوحاته. في اللوحة، نرى ألوان درامية داكنة سماء غائمة وطيور سوداء وممر بين الحقول مقطوع في المُنتصف في إشارة مِنه لقُرب نهايته. أطلق فان جوخ الرصاص على نفسه يوم 27 من نفس الشهر ومات بعد يومين مُتأثرًا بجروحه. 

  

لوحة "حقل قمح مع الغربان" لـ"فان جوخ" (مواقع التواصل )
إعلان

 
آخرٌ يبرزُ على قائمة دراسات الخلل النفسي والإبداع هو الرسّام النرويجي إدفارد مونش (12 (ديسمبر/كانون الأول) 1863 – 23 (يناير/كانون الثاني) 1944). مونش، والذي عُرف بحياة أُسريّة مُفكّكة ووفاة والدته وهو طفل، مثل فان جوخ، عانى اضطراب ثنائي القطب هو الآخر. وقد بلغ اضطرابه ذروته حينما أطلق على نفسه الرصاص فأصاب يده اليُسرى دون أن تأتي إصابته للوفاة على غرار فان جوخ.[4]

 

دخل مونش المصحة النفسية، في عام 1908، بعد تزايد الهلاوس السمعية والبصرية ووساوس الانتحار.  بالعودة للوراء فإننا نجد نتاج هذا الاضطراب النفسي قد تجلى في أكثر لوحات مونش شهرة، والتي هي إحدى أشهر اللوحات في التاريخ أيضًا وأكثرها اضطرابا وحزنا، إنها لوحة "الصرخة" التي رسمها عام 1893.[5]

إعلان

  

لوحة "الصرخة" لـ"إدفارد مونش" (مواقع التواصل)

 

إعلان

اللوحة لا تتّسق في شكلها مع الألوان والأحجام الطبيعية للأشياء؛ فتعكس كيف يرى مونش العالم لا حقيقة العالم كما هو. واللوحة، التي تحمل في طيّاتها من الاضطراب والقلق النفسي ذروته، لم يكتفي مونش بواحدة منها. فرسم عدة نُسخ، عدة صرخات، يتفقن كلهن في الشكل والمضمون، وكأنه لا يتوقف أبدًا عن إطلاق نداء الاستغاثة.

 

الصرخة ليست اللوحة الوحيدة لمونش التي عكست نفسًا معذبة. هناك أيضًا لوحة "القلق/Anxiety" التي رسمها، عام 1894، بُعيد الصرخة بعام، وكأنّه يُعيد الاستغاثة. وفي اللوحة، مرة أخرى، يرسم السماء باللون الأحمر الدامي، وبدلًا من أن كان يقف بمفرده على جسر، يرسمُ عددًا من البشر بملامح أشباح وملابس جنائزية قاتمة وكأنه يرثي الإنسانية ككل.[6]

إعلان

 

ففي الصرخة والقلق، نجد أن اللوحتين كلتاهما تعكسان حالة القلق الوجودي والاضطراب النفسي الذي يعاني منه مونش وتعاني منه الإنسانية ككل. نرى، نفس الجسر ونفس الدوّامات في السماء ونفس لون السماء والكنيسة والقوارب وغير ذلك من الهياكل، كل ذلك يُعيد ملامح الصرخة.

   

إعلان
لوحة "القلق" لـ"إدفارد مونش" (مواقع التواصل)

  

الفرق بينهما، أن الصرخة تُركّز على حالة هلع ذاتية لمونش نفسه، فيما تركز لوحة "القلق" على حالة من القلق الوجودي واليأس الجماعي. بالتالي، فإن الشعور بالقلق والاضطراب في لوحة القلق أكثر شمولية. وهذا يسلّط الضوء على مرحلة مهمة من مرض مونش النفسي: وهي أنه إذا كان عاجزًا عن مساعدة نفسه، وهو ما ظهر في لوحة الصرخة، فإنه في "القلق" يعلن ألا أحد أيضًا يستطيع مساعدته إذا أن الجميع يسيرون برعب نحو هاوية محققة.

إعلان

حالة اليأس من الآخرين تلك، نرى أنها مُشتركة بين فان جوخ ومونش من حيث أن فان جوخ كان يائسًا من أن يُحبه أحد بسبب مرضه العقلي وفيما كانت نفسه تتوق للحب ويريد تكوين أسرة وإنجاب أطفال لم يجد امرأة جواره. نفس الحالة التي عاشها مونش.
  

"لم توجد أبدًا عقليّات عظيمة دون أنّ يمسّها الجنون"[7]

(أرسطو) 

بالنظر في حياة مونش وفان جوخ، فإننا نجد أربعة عوامل مشتركة بين الرسامين. العامل الأول، هو الاضطراب الأسري الذي عانى منه كلاهما، سواءً مونش بفقدان أمه أو فان جوخ هو الآخر بفقدان أمه. العامل الثاني، أن الرسامين كليهما عانا عُزلة مُفرطة ووحدة وحاجة ماسة للاحتواء والحنان. العامل الثالث، أن الاضطراب الأسري الناجم عن فقد الأم وحالة الضياع كانت سبب إصابتهم باضطراب ثنائي القطب، وليس كما هو متوقع أن اضطراب ثنائي القطب مقترن بموهبتهم الفطرية في الرسم. العامل الرابع، أنَّ مِن رحم المأساة خرجت موهبة الرسم فقدَّما كلاهما أشهر اللوحات في التاريخ.

المصدر : الجزيرة

إعلان