شعار قسم مدونات

وقفات حول غيرة النساء

blogs - الغيرة

(1)
وقتما كنت أكتب مقال "قبسات في الحب من بيت النبوة" دخلت عليّ زوجتي وباغتتني بسؤال: "أنت إن شاء الله كده لما تدخل الجنة.. مين أول شخص تتمنى تاخده ف إيدك ساعتها؟"، فأجبتها بتلقائية -وقلّما أجيب أسئلة زوجاتي بتلقائية- وقلتُ: أُمّي طبعا -رحمها الله- فوضعَتْ يدها في وسطها، وتغير وجهها، وكشّرت عن أنيابها! وقالت: "وطبعا بعد أمك يكون أبوك وبعدين أولادك وبعدين مش عارفة مين، وأنا بقى إن شاء الله هكون فين؟"، وظهرت بوادر أزمة!! فنظرتُ إليها متأملا متفكرا متسائلا: كيف أخرج من هذه الورطة التي أوقعت نفسي فيها؟ ثم قلت لها: "أنتِ نفْسي أصلا، يعني طالما أنا دخلت يبقى إنتي معايا". والحمد لله أنها اقتنعت بالجواب، ومر الموقف دون خسائر في الأرواح أو الأموال.

بدأت بذكر هذا الموقف للتأكيد على أن غيرة المرأة ليس لها سقف ولا يحدُّها حدٌّ، وينبغي على أيِّ رجل متزوج أو مقبل على الزواج أن يعد عدته لذلك، فأي إنسان متدين في مكاني لابد أن يستحضر جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على من سأله: مَن أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: "أمك" قال: ثم مَن؟ قال: "أمك" قال: ثم مَن؟ قال: "أمك" قال: ثم مَن؟ قال: "أبوك، ثم أدناك فأدناك"، وأنا أعلم أن زوجتي قد استحضرت ذلك فيما بعد، لكن الغيرة طبيعة غلّابة في المرأة.
 

المرأة مؤهلة لقبول تعدد الزوجات عند الرجل، لكن الأمر يصعب وقد يتعسر إذا تخيلت أنه يحب الأخرى أكثر منها، أو أنه يفضِّل الأخرى عليها.

 ولئن كنت عن نفسي أحب الغيرة عند المرأة وأعتبرها من صفات الأنوثة الجميلة المحمودة، كما أن غيرة الرجل أيضا من كمال رجولته، إلا أنني أنصح كل امرأة بألا تفسح لغيرتها المجال حتى تضع الرجل بينها وبين أُمّه، لأن أي رجل محترم لابد أن يقدم الأم على من سواها، ولتضع هذه المرأة نفسها موضع الأم عندما يكبر ولدها ويتزوج حتى ترى الأمور على حقيقتها، وحتى تتمكن من ضبط غيرتها ووضعها في نصابها الصحيح، وكم من بيوت تهدمت بسبب منازعة الزوجة لمكانة الأم في قلب زوجها!! وأنا هنا لا أتكلم عن مواطن يكون فيها ظلم من الأم على الزوجة، فالظلم ظلمات أيًّا كان مصدره، ولابد من رفعه عن المظلوم أيًّا كان فاعله.

(2)
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة وكان معه أضياف من الصحابة، فأرادت أم سلمة أن تساهم في إكرام الضيوف فأرسلت قصعةً فيها طعام، فما كان من عائشة إلا أنها كسرت القصعة اعتبارا منها أن صنيع أم سلمة يشير إلى عدم قدرتها على إكرام الضيوف، فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام، وقال للصحابة: "غارت أُمُّكم"، ثم أخذ قصعة من بيت عائشة وردها مكان التي كسرتها.
 

عندما نتكلم عن تعدد الزوجات، لابد وأن نجد من يحدثنا عن القدرة المادية، لكن قليلا ما نجد من يحدثنا عن القدرة النفسية "الاتزان وضبط الانفعالات"، رغم أنها أصل أصيل وركن ركين في الحفاظ على السفينة من الغرق والطائرة من السقوط، وإن كان الاتزان والانضباط أمرا مطلوبا في كل الأحوال.. فهو أشد طلبا عند التعاطي مع غِيرة المرأة. كما أن سياق القصة يدل على أن عائشة -رضي الله عنها- كسرت القصعة أمام الصحابة "يعني بمنْطِقنا قمّة الإحراج والاستفزاز"، وأنا يصعب عليَّ أن أتخيل نفسي في هذا الموقف فضلا عن تخيل رد الفعل، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمنا شيئًا جميلا جدا، وهو أن استدعاء الابتسامة أمكن للرجل وأعون له على ضبط نفسه والتحكم بها عند حدوث ما يستدعي الغضب، ولا بأس بعد ذلك من التماس العذر واحتواء الموقف.
 

قال ابن حجر: وقوله "غارت أمكم" اعتذار منه -صلى الله عليه وسلم- لئلا يُحمل صنيعها على ما يُذَم، بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة، فإنها مُرَكّبة في النفس بحيث لا يُقْدَر على دفعها) وقال أيضا: (فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة) اهـ.

(3)
كان عليه الصلاة والسلام في ليلة عائشة، فدخل وخلع ثيابه ونام وهي بجواره، ثم قام رويدا وارتدى ثيابه وخرج، فظنت عائشة أنه ذاهب لبعض نسائه، فتبِعَتْه، فمشى حتى وصل إلى المقابر، وقف هناك قليلا ثم رجع، فاضطرت عائشة أن تسرع كي تسبقه إلى البيت، فلما رجع نظر إليها وقد تسارعت أنفاسها، فاستشعر أنها كانت خلفه، فسألها، فأخْبَرَتْه بما حدث، قالت: فلَهَدَني لهْدةً آلمتني، وهنا استشعرت -رضي الله عنها- غضبه، فحاولت أن تغير الموضوع، فقالت له: يا رسول الله، ماذا أقول عند زيارتي للمقابر؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله للاحقون".
 

استشعار المسؤولية من الطرفين وتبسيط الأمور ووضعها في نصابها الصحيح، يجعل المشكلة كأن لم تكن أصلا، بخلاف تضخيمها وتعظيمها مما يؤثر سلبا على الحياة الزوجية ويترك في النفوس ما يصعب إزالته.

المرأة مؤهلة لقبول تعدد الزوجات عند الرجل، لكن الأمر يصعب وقد يتعسر إذا تخيلت أنه يحب الأخرى أكثر منها، أو أنه يفضِّل الأخرى عليها، والدرس الأكبر هنا في هذه القصة هو أن الحرص على استقرار الحياة الزوجية واجب على الزوجين، وليس على طرف دون آخر؛ وإذا كانت المرأة تكره أن يظلمها الزوج أو يتعدى على حقها، فإن الرجل كذلك يكره أن تصبح زوجته جاسوسا عليه "تعبث بأوراقه، تتفحص هاتفه، تتنصت عليه.. إلخ" خاصة إذا كان الأصل في حياته العدل والتقوى والخوف من الله.
 

والطريف في القصة أن عائشة رغم صغر سنها، إلا أنها غلبت كثيرا من النساء بقدرتها على امتصاص غضب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم تقف مع الضربة التي ضربها لها "أنت بتضربني ليه؟ أول وآخر مرة تمد إيدك عليّ، فاهم؟، أنا لو ماكنتش بحبك أصلا ماكنتش عبّرتك ولا مشيت وراك.." إلى آخر تلك الكلمات التي لا تعجز المرأة عن استحضارها في هذا الموقف، والجميل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الآخر استجاب لها في عدم الإصرار على تضخيم الأمر، فلما سألته عن شيء خارج الموضوع، وكأنها قد اعترفت بخطئها، لم يقل لها "خلينا في موضوعنا، بلاش تهربي" كما نفعل نحن كثيرا عندما تحدث لنا مواقف شبيهة.

استشعار المسؤولية من الطرفين وتبسيط الأمور ووضعها في نصابها الصحيح، يجعل المشكلة كأن لم تكن أصلا، بخلاف تضخيمها وتعظيمها مما يؤثر سلبا على الحياة الزوجية ويترك في النفوس ما يصعب إزالته.

منذ فترة وأنا اريد كتابة سلسلة عن عوامل نجاح الحياة الزوجية، لكن الموقف الذي ذكرته في بداية المقال إضافة للقاء تليفزيوني عن التعدد يذاع غدا الجمعة بإذن الله قد دفعاني للتعجيل بالكتابة في هذا الموضوع، وأسأل الله العون والسداد على الإكمال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.