علاقات العالم العربي بجمهوريات آسيا الوسطى
15/7/2007

من الصور النمطية الشائعة عن العالم العربي أن بلدانه كثيراً ما تضيع الفرص الثمينة من بين يديها. وعادةً ما يُشار من أجل البرهنة على ذلك إلى أن الدول العربية ضيعت أكثر من عرض لتسوية الصراع سلمياً مع إسرائيل، وخسرت فرصة تلو أخرى لتحقيق تنمية تتناسب مع قاعدة الموارد التي تملكها، وعجزت عن استثمار كل الفرص التي لاحت لها للتحول إلى الديمقراطية.
ومع أن الصور النمطية تنطوي بطبيعتها على قدر من المبالغة، فإنها تحمل برغم ذلك جزءا من الحقيقة.
وتمثل مقولة "الفرص الضائعة" هذه واحدة من الخلفيات التي يمكن في إطارها فهم العلاقات المتواضعة التي بنتها الدول العربية مع جمهوريات آسيا الوسطى الخمس: أوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان وقرغيزستان وكزاخستان منذ استقلالها عام 1991 وإلى اليوم.
ويزداد الاقتناع بضياع الفرصة إذا ما أُخذ في الحسبان أن تلك الجمهوريات تمثل رباطاً تاريخياً وعمقاً إستراتيجياً وسوقاً اقتصادياً وحليفاً سياسياً مفترضاً لم تلتفت الدول العربية إليه منذ أكثر من عقد ونصف، في حين أن دولاً أخرى عديدة سارعت إلى المنطقة فور سقوط الاتحاد السوفياتي وبنت علاقات إستراتيجية واسعة مع جمهورياتها. وتلك خلفيات أخرى من المفيد الوقوف على التوالي عند كل منها.
إعلان
وبرغم أن الخلفيات التاريخية والإستراتيجية والاقتصادية والسياسية تمثل أعماقاً لتطوير العلاقات بين الدول العربية وجمهوريات آسيا الوسطى، فإنها أعماق نظرية أكثر منها في الواقع أو هي بتعبير آخر أعماق بلا آفاق.
الملمح العام لتفاعلات الدول العربية مع جمهوريات آسيا الوسطى إيجابي، بمعنى خلوها من مظاهر التوتر التي تمر بها أحياناً العلاقة بين تلك الجمهوريات ودول مثل روسيا والولايات المتحدة وتركيا وإيران. إلا أنها مع ذلك تبقى علاقات خفيفة الوزن يغلب عليها الطابع الرسمي والروتينية.
فبعد أكثر من خمسة عشر عاماً على استقلال الجمهوريات الخمس خرج مجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري في سبتمبر/أيلول 2006 بتوصية إلى الأمانة العامة يطلب منها الاستمرار في جهودها من أجل تطوير العلاقات وتكثيف الصلات مع عدد من دول العالم من بينها جمهوريات آسيا الوسطى.
" دول آسيا الوسطى تمثل بالنسبة للدول العربية رباطاً تاريخياً وعمقاً إستراتيجياً وسوقاً اقتصادياً وحليفاً سياسياً مفترضاً لم يلتفت العالم العربي إليه منذ أكثر من عقد ونصف " |
وحينما توضع هذه التوصية في إطار قرارات كثيرة للجامعة بما فيها تلك التي تخص الساحة العربية نفسها والتي لم تفعل منذ سنوات، يتبين أن الدبلوماسية العربية الجماعية إزاء دول آسيا الوسطى لا تزيد عن كونها مشروعاً للنوايا الطيبة.
وحتى على مستوى التفاعل الثنائي، فإن المردود يأتي متواضعاً إلى حد بعيد. وتؤكد الإحصاءات الخاصة بالجانب الاقتصادي على ذلك.
فالصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، على سبيل المثال، والذي يُعد واحداً من أنجح الصناديق التنموية في العالم العربي، قدم للجمهوريات الخمس ما بين 1993 وحتى 2006 قروضاً يصل مجموعها إلى 18 مليون دولار أميركي، في حين قدم إلى هندوراس، إحدى جمهوريات أميركا الوسطى، خلال الفترة 1992-2005 نفس المبلغ.
وتدعم إحصاءات التجارة بدورها تلك الصورة المتواضعة. فالتبادل التجاري بين أكبر جمهوريتين بآسيا الوسطى هما أوزبكستان وكزاخستان من جهة وعدد من دول الخليج العربي -باعتبارها في مقدمة الدول العربية المنخرطة في التجارة العالمية من جهة أخرى- يكشف عن أرقام بسيطة للغاية.
إعلان
فباستثناء دولة الإمارات التي سجلت تجارتها مع أوزبكستان قبل ثلاثة أعوام 50 مليون دولار، بلغ حجم التجارة الأوزبكية مع الكويت والسعودية 4.3 و3.9 مليون دولار على التوالي.
ومع أن كلاً من مصر وأوزبكستان هما الأكثر سكاناً في المنطقتين، فإن التجارة بينهما كانت أكثر تواضعاً حيث يدور حجمها الإجمالي حول نصف مليون دولار.
ولا تختلف الصورة كثيراً في حالة كزاخستان التي وصلت تجارتها عام 2005 مع كل من قطر وسلطنة عُمان والسعودية ومصر إلى 1.2 و7.5 و1.9 و7.1 ملايين دولار على التوالي.
ومع أن معظم الدول العربية أقامت علاقات دبلوماسية مع جمهوريات آسيا الوسطى خلال عامي 1992 و1993، فإنه باستثناء العاصمتين الكبيرتين طشقند وآستانة، يعتمد كثير من الدول العربية على سفراء غير مقيمين بالجمهوريات الثلاث الأخرى مما يعكس محدودية العلاقات التي تحتاج من يرعاها. بل حتى في العاصمة الكزاخية الجديدة آستانة لا تتجاوز السفارات العربية عدد أصابع اليد الواحدة.
ومع أن معظم الدول العربية أقامت علاقات دبلوماسية مع جمهوريات آسيا الوسطى خلال عامي 1992 و1993، فإنه باستثناء العاصمتين الكبيرتين طشقند وآستانة، يعتمد كثير من الدول العربية على سفراء غير مقيمين بالجمهوريات الثلاث الأخرى مما يعكس محدودية العلاقات التي تحتاج من يرعاها. بل حتى في العاصمة الكزاخية الجديدة آستانة لا تتجاوز السفارات العربية عدد أصابع اليد الواحدة.
وتقدم اتفاقيات التعاون الموقعة بين دول المنطقتين مؤشراً آخر على ضآلة التفاعل. ولو أخذت أوزبكستان كمثال، فإنه باستثناء وحيد يخص الاتفاقيات التي وقعتها مع مصر ووصلت بنهاية 2005 إلى 30 اتفاقية، تأتي بقية الدول العربية على مسافة بعيدة من ذلك. فلديها مع السعودية تسع اتفاقيات، والكويت أربع، وقطر خمس، ومع البحرين واحدة، وسلطنة عُمان ثلاث. والأمر ينطبق بصور مشابهة على بقية جمهوريات المنطقة.
والملاحظ أن لهذه الاتفاقيات طابعاً إنشائياً عاماً يُرسي مبادئ فضفاضة للتعاون، دون أن يسندها بالدعم المالي والسياسي اللازم لجعلها فعالة.
وإذا كانت بعض مظاهر التقدم تبرز من حين لآخر وبالذات في المجال الثقافي، فإن ذلك يظل جزءا بسيطاً من مرحلة تكوين طويلة لم تنقل العلاقات من الطابع الروتيني إلى الطابع الإستراتيجي.
إعلان
فمصر على سبيل المثال، وإن قدمت العام الماضي وحده 123 منحة تدريبية لموفدين من أوزبكستان وأعداد أخرى أقل إلى بقية الجمهوريات، فإن تلك المنح كانت قصيرة المدة تركز غالبيتها في قطاع الشرطة مما أضفى على التعاون الثقافي مسحةً أمنية.
كما أن المشروعات الثقافية التي حاولت دعم مسألة الهوية بتلك الدول ومن بينها بناء قطر مركزا إسلاميا بالعاصمة الكزاخية آستانة، وتحمل السعودية كلفة بناء مبنى البرلمان الجديد بنفس المدينة وإن ساعد على تثبيت حقوق الكازاخ على منطقة من بلدهم يكثر فيها السكان ذوو الأصول الروسية، فإن ذلك الدعم يظل محدوداً في عمل واحد.
ولتفسير بقاء العلاقات العربية مع تلك الجمهوريات عند مستويات محدودة، عادةً ما تساق عدة تفسيرات من أبرزها:
-
تشابه القاعدة الاقتصادية بين المنطقتين حيث إن عدداً من دولهما منتج للنفط، مما يجعلهما متنافستين وليستا متكاملتين.
-
تعد آسيا الوسطى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ساحة لما يعرف "بالمباراة الكبرى الجديدة" التي تحاول فيها قوى عظمى وكبرى إقليمية ودولية وراثة النفوذ السوفياتي القديم، في الوقت الذي تتصدى فيه موسكو لتلك القوى دفاعاً عما تسميه بالجوار القريب الذي تراه مجالاً حيوياً لا يمكن أن تضحي به. وفي خضم تلك الحرب الصامتة وجدت الدول العربية نفسها أمام قوى أكبر منها حجماً وأكثر منها استعداداً.
-
تزامن استقلال الجمهوريات الخمس مع مرحلة ما بعد تحرير الكويت، والتي لا تزال تداعياتها تتواصل إلى اليوم. وبسبب عدم الاستقرار الإقليمي بالمنطقة العربية، لم يكن لدى السياسات الخارجية العربية الفرصة للامتداد شرقاً نحو منطقة جديدة تردد حينما انهار الاتحاد السوفياتي أنها ستكون جزءا من الشرق الأوسط الجديد.
-
أقلق المدخل الثقافي الذي اعتمدت عليه الدول العربية، وركز إلى حد كبير على الجوانب الدينية، حكومات الجمهوريات الخمس ذات الطابع العلماني وتسبب في قلق آخر لدى روسيا التي خشيت أن تكون تلك العلاقات أداة لتغيير هوية المنطقة بشكل يخرجها تماماً عن سيطرتها التقليدية.
-
بدأت الجمهوريات الخمس لتوها عملية بناء الدولة، ومن يتعامل معها تواجهه عقبات جسيمة لم تكن الدول العربية على استعداد لتحملها، خاصةً وأن أمامها مناطق أخرى أكثر تقدماً يمكن أن توجه إليها استثماراتها وتجارتها. وإضافة إلى ذلك ظهرت لدى قيادات الدول حديثة العهد بالاستقلال نزعة موغلة في البراغماتية لم تنظر إلى العلاقات مع البلدان العربية إلا من منظور الثروة المالية التي يمكن تجميعها دون النظر إلى أهمية تطوير قاعدة متشابكة من المصالح تدعم التعاون وتعززه. وإلى جانب تلك الأسباب، يبرز إطار أنسب لتفسير العلاقات المتواضعة بين المنطقتين يتمثل في فكرة العلاقة بين الهوامش في النظام الدولي والتي عادةً ما تكون العلاقات بينها هشة وضعيفة.
إعلان
ورغم أن المنطقتين العربية وآسيا الوسطى غنية بالموارد، فإن القرار في دول الهوامش ليس بالكامل في يدها، وإنما تؤثر فيه التدخلات الخارجية. وينطبق ذلك على العالم العربي وآسيا الوسطى حيث تبدو المنطقتان مسرحين تلعب عليهما القوى الكبرى ما حول دولهما من فاعلين إلى ساحات للصراع الدولي، ولم يعد بإمكانها أن تترابط مع دول المنطقة الأخرى دون الانتباه إلى ما تفرضه عليهما القوى الكبرى من قيود ودون التزام بالضوابط التي تحددها قواعد اللعبة بين الكبار.
وإذا كانت دول أخرى أنشط مثل تركيا وإيران ذهبت إلى آسيا الوسطى ووجدت أن اللعبة الكبرى بين روسيا والصين والولايات المتحدة تفرض عليها خطوطاً لا يمكن تعديها، فإن الدول العربية تبدو في طليعة ضحايا تلك اللعبة.
" يعوز منهج العمل المعتمد من الجانب العربي المراجعة والتعديل سواء من حيث كثافة التفاعل أو فيما يتعلق بالأدوات المستعملة للتقارب مع تلك الجمهوريات " |
برغم أن الخلفيات التاريخية والإستراتيجية والاقتصادية والسياسية تمثل أعماقاً لتطوير العلاقات بين الدول العربية وجمهوريات آسيا الوسطى، فإنها أعماق نظرية على الورق أكثر منها في الواقع، أو هي بتعبير آخر أعماق بلا آفاق.
وإذا كان الجانبان يتحملان جانباً من المسؤولية عن ذلك، فإن النظام الدولي يحول بدوره دون دفع العلاقات بينهما قدماً. ويكفي للتدليل على ذلك أن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحته الولايات المتحدة في فبراير/شباط 2004، وبصرف النظر عن مضمونه الفكري، تضمن من الناحية الجغرافية إلى جانب الدول العربية كلاً من تركيا وإيران وإسرائيل وأفغانستان وباكستان. أما جمهوريات آسيا الوسطى فلم يرد لها ذكر لأن قواعد النظام الدولي -وحتى بعد أن رجحت كفة الولايات المتحدة عقب نهاية الحرب الباردة- لا زالت تعترف لموسكو بمجال حيوي واسع يغطي جمهوريات المنطقة الخمس.
وما يضيف إلى العقبات التي تسد الآفاق منهج العمل المعتمد من الجانب العربي، والذي تعوزه مراجعة وتعديل سواء من حيث كثافة التفاعل أو فيما يتعلق بالأدوات المستعملة للتقارب مع تلك الجمهوريات.
إعلان
وقد يكون لقضية الهوية أهميتها بالنسبة لتلك الجمهوريات باعتبارها حديثة العهد بالاستقلال، ومن المؤكد أيضاً أن الدول العربية وما تقدمه من دعم ثقافي حتى ولو محدود تسهم في تقوية تلك الهويات الجديدة، فإن الهوية بطبيعتها لا تصمد إلا بتوفير الدعم المالي والقاعدة الاقتصادية التي يمكن أن تقف عليها.
فالعمق الثقافي مهما بلغ بين العالم العربي وتلك الجمهوريات سيفقد معناه طالما لا تتم ترجمته إلى واقع يلمسه سكان تلك المنطقة.
________________
أستاذ جامعي وكاتب متخصص في آسيا الوسطى.
المصدر : الجزيرة