من الفكرة القومية إلى الجسر الحضاري
لا يمكن فهم توجهات الجمهورية التركية في علاقاتها مع العالم الإسلامي بشكل عام منذ أسسها الزعيم مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 دون التطرق لصلتها بالإسلام نفسه، وكذلك لأزمة الهوية التي يعد الدين الإسلامي الذي تعتنقه أغلبية المواطنين جزءا منها، لاسيما بسبب العلاقة الخاصة لتركيا مع الغرب وحضارته.
قطع العلاقة
العودة إلى الجذور
المنطقة الوسطى
الجسر الحضاري
أوجد تبني الخلافة في الدولة العثمانية نوعا من السلطة الدينية على المسلمين في أنحاء العالم، وذلك رغم أن هذا الأمر لم يصاحبه أسلمه حقيقية لنظام الحكم الذي استند في تسيير أحوال المسلمين إلى مزيج من قواعد الشريعة والقوانين العلمانية المستقاة من الغرب خاصة في السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية.
" تبنت الجمهورية التركية أفكار أتاتورك التي رأت العالم الإسلامي متخلفا ورجعيا " |
وبغض النظر عن تدين الحكم العثماني فإن مفهوم الخلافة بحد ذاته فرض نوعا من العلاقة الوثيقة بين مركز هذا الحكم في إسطنبول والعالم الإسلامي، كما وضع تركيا قرونا عدة في موقع القيادة للمسلمين وإن كان كثير منهم ممن كانوا رعايا للدولة الممتدة الأطراف لم يروا في السلاطين وحاشيتهم وحكام الولايات ومفردات النظام بشكل عام ما يعكس الروح الحقيقية للإسلام.
وبعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، قاد مصطفى كمال (أتاتورك) ما سمي بحرب التحرير التي انتهت كما هو معروف بإلغاء الخلافة وإعلان تركيا الجمهورية بحدودها الحالية، لكن هذه المتغيرات الحادة صاحبتها رؤية جديدة للعلاقة مع المسلمين في العالم، وهي رؤية توجزها كلمة أتاتورك لتسويغ قرار إلغاء الخلافة أمام المجلس الوطني الكبير الذي شكله في أنقرة ليكون بديلا عن البرلمان في إسطنبول، فهو في تلك الكلمة رأى العالم الإسلامي متخلفا ورجعيا وقال "أليس من أجل الخلافة والإسلام ورجال الدين قاتل القرويون الأتراك وماتوا طيلة خمسة قرون؟ لقد آن الأوان لتنظر تركيا إلى مصالحها وتتجاهل الهنود والعرب وتنقذ نفسها من تزعم الدول الإسلامية".
وحتى وفاته عام 1938 كان نهج أتاتورك النفي المطلق للآخر الإسلامي، ومحاربة الهوية الإسلامية لتركيا في الداخل والخارج واستبدال القومية كرابط بين الأتراك بها وفرض العلمانية التي لا تعني فصل الدين على الدولة كما يحدث في الغرب ولكن سيطرة الدولة على الدين ما جعلها علمانية متطرفة متوحشة حسب رأي الكثير من الباحثين والمفكرين.
وفي ظل هذا الفكر والرؤى السياسية لم يكن متوقعا تطور العلاقة مع العالم الإسلامي إلا في إطار مصالح الغرب أو برعاية أميركية بمعنى أدق، كما حدث فيما يتصل بتشكيل حلف بغداد في حقبة الخمسينيات. كما أن الولايات المتحدة لعبت دورا في إبعاد تركيا عن العالم الإسلامي بربطها بحلف الأطلنطي، وإدخالها على خط المواجهة مع الاتحاد السوفياتي وتشجيع الاتجاه التغريبي للنخبة الكمالية التي حكمت البلاد لعشرات السنين.
لكن تحولا سياسيا مهما حصل بعد حوالي نصف قرن من ولادة الجمهورية، تمثل ذلك في تأسيس حزب النظام الوطني على يد نجم الدين أربكان الذي تحول فيما بعد إلى أبو الأحزاب الإسلامية في تركيا، وقد المح برنامج الحزب إلى ضرورة التقارب مع العالم الإسلامي بل وضع سقفا عاليا لهذا التقارب عندما وصل إلى السلطة بعد ذلك.
وصل أربكان إلى السلطة في تركيا عبر حزبه الرفاه في انتخابات العام 1995 محققا سابقة تاريخية وإن كان مضطرا للائتلاف مع قوة علمانية هي حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشلر، وفي نحو عام واحد قضاها هذا الحزب في الحكم بزعامة أربكان قبل أن يطاح به برهن هذا الحزب على أن طبيعته الإسلامية كانت مؤشرا أساسيا لسياسته الخارجية واهتمامه الخاص بتطوير العلاقات مع العالم الإسلامي بطريقة مثلت بشكل من الأشكال انقلابا وإن كان محدودا وقصيرا زمنيا على مبادئ أتاتورك وأفكاره الذي انتهي بانقلاب مضاد من الجيش.
" حزب الفضيلة كان أول من طرح فكرة العودة إلى الجذور الإسلامية وأقام علاقات مميزة مع الدول الإسلامية " |
لقد اعتبر هذا الحزب الإسلام الرابطة الأولى بين الأتراك وانطلقت مبادئه من فكرة القومية الإسلامية ورفض التغريب، ودعا إلى عودة تركيا لجذورها الإسلامية والاتجاه نحو العالم الإسلامي كمحيط طبيعي لتركيا ومعرضة فكرة انضمامه للاتحاد الأوروبي.
والحقيقة أن زعيم الحزب نجم الدين أربكان كان قد عبر خلال الحملة الانتخابية عن طموحات كبيرة في اتجاه تطوير العلاقة مع العالم الإسلامي سعى بالفعل خلال توليه رئاسة الوزراء إلى تنفيذها، ومن ذلك:
-
إقامة منظمة الأمم المتحدة الإسلامية .
-
إقامة منظمة التعاون الدفاعي المشترك للدول الإسلامية أو ما وصفه البعض بـ"الناتو الإسلامي"
-
إقامة منظمة التعاون الثقافي للدول الإسلامية.
-
إقامة سوق اقتصادية مشتركة للدول الإسلامية ووحدة نقدية بينها بتعميم الدينار الإسلامي.
-
إقامة صندوق نقد إسلامي.
خلال نحو عام من الحكم نجح أربكان في تطوير علاقات تركيا بالعالم الإسلامي وأسس مجموعة الثماني الاقتصادية التي تضم ثماني دول إسلامية كان عدد سكانها حينذاك 800 مليون شخص، وهي تركيا وإيران ومصر وإندونيسيا وماليزيا وباكستان وبنغلاديش ونيجيريا، وقام بزيارتين لإيران وليبيا أثارتا مزيدا من الجدل لكنه في الوقت ذاته أعطى معنى مناقضا بقبوله اتفاقية الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوربي، وموافقته على اتفاق التعاون العسكري التركي مع إسرائيل ومد عمل القوات الأجنبية في شمال العراق انطلاقا من قاعدة إنجيرلك.
وقد فسرت مواقفه المتناقضة بعدم قدرته على فرض كامل إرادته بسبب ائتلافه مع حزب علماني، وكذلك سعيه لعدم استفزاز الجيش الذي كان مؤثرا في صنع السياسة الخارجية للبلاد من خلال السيطرة على مجلس الأمن القومي أعلى هيئة حاكمة في الدولة فعليا.
وطوال المرحلة التي تلت الانقلاب على حزب الرفاه وحتى مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة إثر انتخابات الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 عادت توجهات تركيا نحو العالم الإسلامي إلي سابق عهدها حيث العلاقات المحدودة والسعي إلى الاندماج في الغرب ممثلا في الاتحاد الأوروبي وكان قرار الاتحاد عام 1999 باعتبار تركيا مرشحا لعضويته بمثابة فتح باب كبير للأمل لدى النخبة العلمانية في إكمال عملية التغريب التي بدأها أتاتورك .
تختلف تجربة حزب العدالة والتنمية عن حزب الرفاه، فالأول يثير توصيفه الالتباس، حيث إنه ينفي عن نفسه صفة الإسلامي أو الديني بشكل قاطع ويؤكد احترامه الكامل للنظام العلماني الذي يكرس الفصل الحاد للدولة عن الدين، غير أن هناك عاملين يشيران إلى علاقة لا يمكن نفيها بالتيار الإسلامي، الأول أنه خرج من عباءة حزب الرفاه الإسلامي ثم وريثه الفضيلة، والعامل الثاني أن معظم قيادات الحزب وكوادره الوسيطة لها تاريخ معروف كناشطين في حزب الرفاه مثل زعيمه رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ونائبه في رئاسة الحزب والحكومة عبد الله غول ورئيس البرلمان بولنت أرنج.
" يطرح حزب العدالة والتنمية توليفة أيديولوجية تمزج بين الإسلام الروحي والعلمانية السياسية " |
والحقيقة أن الحزب يمثل توليفة أيديولوجية جدية تمزج بين الإسلام الروحي والعلمانية السياسية وربما يكون توصيف غول للحزب بأنه يشبه الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا صحيحا أيضا ، وهو فضلا عن أن قاعدته الأساسية من المتدينين الأتراك بين المسلمين السنة تحديدا فإنه يضم تيارات أخرى ليبرالية ويمينية وإن كان الإسلاميون القدامى يهيمنون عليه.
وقد كان الحزب حذرا للغاية في برنامجه الانتخابي في الجانب المتعلق بالسياسة الخارجية حيث يقول "يتبع حزبنا سياسة خارجية تتسم بالواقعية وتتسق مع تاريخ تركيا وموقعها الجغرافي خالية من الأفكار المسبقة والتعسفية على أن تقوم على مبدأ المصالح المتبادلة".
وجاء في البرنامج أيضا "سيعيد الحزب تعريف أولويات السياسة الخارجية في مواجهة الحقائق الإقليمية والدولية المتغيرة وسيخلق توازنا جديدا بين هذه الحقائق والمصالح الوطنية" وعندما نتأمل هذه الكلام نجد فيه إشارات إلى تغيير في التعامل مع العالم الإسلامي خاصة الحديث عن الأفكار المسبقة والتعسفية.
وبالقطع فإنه عندما نتأمل التطبيق نجد أن هناك تغييرا في التعامل مع العالم الإسلامي منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة، هذا التغيير يضع الحزب في منطقة وسط بين أفكار ومبادئ التيار الإسلامي الأربكاني التقليدي وأنصار العقيدة الكمالية التي تجمع بين القومية المتشددة والعلمانية المتطرفة.
وقد احتفظت الحكومة بالمبدأ الأساسي الذي طرحه أتاتورك وهو السعي للاندماج في الغرب باعتباره ملاذ تركيا من التخلف والفقر، وفي هذه النقطة بالذات نشير إلى أن حزب العدالة والتنمية اعتبر نيل تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي مشروعه الرئيسي، ومن هنا قاد عملية إصلاح غير مسبوقة في تاريخ البلاد غيرت شكل الحياة السياسية.
غير أن فترة حكم الحزب شهدت في الوقت نفسه تقاربا لافتا مع العالم الإسلامي لا يلغيه الرغبة في الاندماج في الغرب، لكن جوهر هذا التقارب هو المصالح التركية خاصة في ما يتصل بالعلاقات الاقتصادية التي شكلت أولوية للحزب وحكومته، لكن كان هناك تقارب سياسي أيضا، وهنا نشير إلى أن النظرية الحاكمة للسياسة الخارجية التركية هي تلك التي طرحها البروفيسور أحمد داود أوغلو كبير مستشاري أردوغان للشؤون الخارجية والتي تقوم على فكرة أن تركيا جزء فعلي أو حاضر معنويا في دوائر جغرافية عدة مثل أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والبلقان، وأنه ليس هناك تناقض في تفاعلها مع كل هذه الدوائر، وقد رأت حكومة أردوغان أن عضوية حلف الناتو لا تتعارض مع دور تركيا في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي.
أحدث حزب العدالة والتنمية تحولا نسبيا في علاقات تركيا بالعالم الإسلامي منذ توليه الحكم عام 2002، وهو تحول قد لا يكون جذريا كما أراد أربكان أن يفعل لكنه أيضا مختلف عما أراد له العلمانيون من مسافة بعيدة مع العالم الإسلامي، ويمكن رصد أبرز ملامح هذا التحول بالتالي:
" أنجزت حكومة العدالة والتنمية عددا من الخطوات لتطوير علاقات تركيا مع العالم الإسلامي باختلاف عن حماسة أربكان وامتناع العلمانيين " |
اولا : نشطت تركيا بالفعل دورها في منظمة المؤتمر الإسلامي وتمكنت من نيل منصب السكرتير العام للمنظمة في يونيو/ حزيران 2004 الذي فاز به البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو وهو تركي من أم مصرية يتحدث العربية بطلاقة، وذلك في الانتخابات التي جرت لأول مرة على هذا المنصب في اجتماعات دول المنظمة على مستوى وزراء الخارجية في إسطنبول في تطور تاريخي.
ثانيا : شاركت تركيا في ترؤس مبادرة الشرق الأوسط الموسع الأميركية الأصل مع كل من إيطاليا واليمن التي أقرتها مجموعة دول الثماني الكبرى عام 2005 وهذه المبادرة كما هو معروف تستهدف إجراء إصلاحات في دول العالم الإسلامي، وهنا نشير إلى أن المطالبة بهذه الإصلاحات كان مبدأ متكررا في الخطاب السياسي للحكومة التركية وتلازم مع انتقادات للأنظمة في الدول الإسلامية، وقد استضافت تركيا العديد من المؤتمرات في إطار المشروع.
ثالثا :سعت الحكومة إلي نفي الصورة الأربكانية لدول العالم الإسلامي، وعلى سبيل المثال رفض أردوغان فكرة السوق الإسلامية المشتركة أثناء زيارة قام بها للسعودية عام 2005 معتبرا أنه لا يمكن أن يكون التعاون الاقتصادي على أساس ديني.
رابعا: في المقابل وصفت بعض توجهات تركيا تجاه العالم الإسلامي في بعض المواقف بأنها تنم عن أفكار دينية قديمة شبيهة بأيديولوجية التيار الأربكاني المحافظ مثل الإدانة القوية لاغتيال زعيمي حركة حماس الدكتور عبد العزيز الرنتيسي والشيخ احمد ياسين عام 2005 واستقبال الحكومة التركية لوفد الحركة بزعامة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لها في فبراير/ شباط 2006.
خامسا: الفكرة الرئيسة التي طرحتها حكومة أردوغان وحزبه هو أن تركيا يمكن أن تكون بمثابة جسر بين الغرب والعالم الإسلامي، وهي فكرة روجها رئيس الوزراء اليساري الأسبق بولنت أجاويد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001.
والحق أن معظم العزف كان على هذه الفكرة، حيث سعت حكومة أردوغان لتسويقها للطرفين الغرب والعالم الإسلامي في مناسبات عدة ومثلت أساسا للخطاب الحكومي في إطار المساعي الرامية لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي.
وعندما اندلعت أزمة الرسوم المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي نشرت في الدانمارك نهاية 2005 وتفاعلت بعد ذلك بشهور عرضت الحكومة التركية الوساطة لإنهائها، غير أن أحدا لم يلتفت لهذا العرض، وهنا نشير إلى تشكك أطراف في الغرب والعالم الإسلامي في حيثية فكرة الجسر الحضاري التي يصر عليه حزب العدالة والتنمية وحكومته.
ولعل أهم ما نخلص إليه بهذا الشأن هو الترابط بين التفاعلات الداخلية في تركيا والعلاقات مع العالم الإسلامي، وباستثناء مبادرات محدودة فإن العالم الإسلامي لم يبذل مجهودا كبيرا لجذب تركيا إليه، وكان قربه أو بعده محصلة لإرادة الطرف التركي، وهذا التحليل لا يشمل تعامل بعض الدول الإسلامية مع تركيا دون الأخذ في الحسبان الإطار الإسلامي للعلاقة، فسوريا عندما اقتربت في السنوات الأخيرة كان مدخلها ومحركها المصلحة الوطنية، ونفس الأمر بالنسبة لبعض دول آسيا الوسطى، وفي كل الأحوال تبقى تركيا دولة ذات وضع خاص في العالم الإسلامي، ويبدو هذا الوضع غير قابل للتغيير إذا لم يأت هذا التغيير من داخل تركيا نفسها وهو أمر يبدو مستبعدا في المستقبل المنظور.
_______________
مراسل جريدة الاهرام في تركيا