صراع طويل تحسمه العلمانية

سيد عبد المجيد
بين الأمس والحاضر في تركيا مسيرة طويلة ومعقدة مر فيها التعليم العلماني المستهدف تكريسه بعقبات كادت تعيد الجمهورية الوليدة إلى الوراء، إذ بدا أن تركيا التي كانت تعيش حالة ثورة في طريقها نحو الفشل لعجزها عن خلق نظام فكري خاص بها، وبات السؤال المركزي: كيف يتحقق ذلك؟ هنا برزت الصفات الاستثنائية لمؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك وهي الجسارة والكاريزما، الذي فرض رؤيته دون أدنى اعتبار لردود فعل المعارضين.
البدء من الجذور
تكريس العلمانية
رفض التغيير
شجعت سياسات الكماليين الأحادية والشمولية المؤسسات التعليمية على أن تكون صارمة في وأد النزعات المناوئة للقومية مرورا بتلك التي تحض على الصراع الطبقي وانتهاء بمحاولات ربط الدين بالدولة.
غير أنه بدا للكماليين الجدد أن ثورتهم لن تصل إلى جذور المجتمع دون نجاحها في تعليم الجماهير الواسعة من السكان، فحتى العام 1926 كانت الجمهورية الجديدة تستند في تشريعاتها إلى الشريعة الإسلامية إلى أن استبدل بها القانون المدني السويسري وقانون العقوبات الإيطالي، وقانون للتجارة مستمد من الأنظمة القانونية الألمانية والإيطالية، ثم جاء إلغاء الحرف العربي واستبدال الحرف اللاتيني منه، بحجة أن "حروف اللغة العربية الفارسية لم تكن ملائمة".
"
بدأت الإجراءات الكمالية من تغيير استخدام الحرف العربي في الكتابة واعتبرته مسئولا عن تدني المستوى التعليمي " |
ليس ذلك وحسب، بل اعتبرت الحرف العربي هو المسؤول عن المستوى المتدني جدا للتعليم بين الأتراك، وبخطوات تدريجية بدأ التغيير، ففي الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1928 أقر البرلمان قانونا بالأبجدية التركية الجديدة.
ويذهب العديد من المؤرخين والمتخصصين في الشأن التركي إلى اعتبار إجراء استبدال الحرف اللاتيني من العربي أول خطوة مؤثرة في بنية المجتمع التركي، ولأنه كان أحد المطالب الأساسية لمثقفي الحقبة العثمانية في مراحلها الأخيرة، شهدت عملية التعليم والتربية في تركيا الثورية الجديدة تطورا ملحوظا خاصة في المدن الكبرى.
في هذه الأثناء ظلت القرى في الأناضول بعيدة إلى حد كبير عن التعليم بالطريقة الجديدة نتيجة القيم المحافظة ومقاومة الشيوخ ورجال الدين لأي إصلاحات، وبدت فكرة إيقاظ الفلاحين بتعليمهم القراءة والكتابة وإعطائهم إحساسا بالثقة والاعتماد على النفس شديدة الخطورة بالنسبة للمألوف والسائد في بقاع الأناضول البعيدة عن الثورة وإرهاصاتها، وتأسس على ذلك أن واجهت معاهد الأرياف والقرى والتي سميت باسم بيوت الشعب مقاومة صلدة من ملاك الأراضي وكبار الإقطاعيين.
ورغم ذلك طرأ على تلك الأوضاع متغير مهم تمثل في آلاف العائدين من تأدية الخدمة العسكرية، فهؤلاء تسلحوا في الثكنات بالقراءة والكتابة بالأبجدية اللاتينية وبتعاليم ومبادئ أتاتورك، العلمانية واللغة الواحدة والوطن الواحد والأمة الواحدة، ومن خلال مقار الحزب سيتولى هؤلاء مهمة تعليم مواطنيهم وليصبح عقد الثلاثينيات من القرن الماضي عقد مواجهة تحديات التعليم.
ونجحت الأبجدية فأبو الأتراك (أتاتورك) اعتبارا من 1934 كان على درجة من التناغم مع القوى المحافظة في مجتمعه، وكذا كتب للتغيير النجاح لسبب بسيط، هو أن أتاتورك ربط التغيير بالعاطفة الوطنية (نظرية لغة الشمس) حيث تدعي أن اللغة التركية هي الأب الحقيقي لكل اللغات.
في السياق نفسه أسس أتاتورك الجمعية التاريخية التركية وفيها جاء تكريس (سمو) المكانة التاريخية التي يتمتع بها الأتراك في تطور الحضارة الإنسانية. لقد أرسى مصطفى كمال أتاتورك عمليا النزعة النرجسية التي سبق أن نادي بها الاتحاديون أوائل القرن الماضي، وفي الكتب المدرسية جرى تأكيد فكرة أن الأتراك أقدم شعب متحضر في التاريخ، وفي عهد أتاتورك غدا الماضي التركي يشكل مركزية في الدراسات التاريخية التركية وذلك لتحقيق هدفين، فمن جانب زرع نزعة تربوية وطنية في الأجيال التركية المعاصرة، ومن جانب ثان تكريس إسهامات تركيا في التاريخ الإنساني في الذاكرة الوطنية وفي نفس الوقت التقليل من أهمية العرب في بناء الحضارة الإنسانية.
كان التعليم في بدايات العهد الجديد منخفضا بشكل كبير، فحسب إحصاء أورده فيروز أحمد في كتابه "صنع في تركيا" للعام 1927 لم تتعد نسبة المتعلمين 9% من إجمالي عدد السكان، حتى تلك النسبة كانت موضع تشكيك، إذ ذهب باحثون إلى القول إن نسبة الأمية تجاوزت 95%. وانطلاقا من هذا التردي أطلقت الحكومة اعتبارا من نوفمبر/ تشرين الثاني 1929، مشروع المدارس الوطنية لتعليم الكتابة بالأبجدية الجديدة. وناشد كمال أتاتورك المثقفين أن يساعدوا في تنفيذ المشروع قائلا "سيكون الوقت لنا، وسنقتلع أخطاء الماضي جذرا وغصنا، وسنصحح هذه الأخطاء وعلى المواطنين أن يلعبوا دورا فاعلا ويجب على المجتمع التركي أن يتعلم الأبجدية الجديدة خلال سنة أو سنتين".
"
قبل نهاية العشرينيات كانت نسبة الأمية في تركيا تصل إلى 95 % لكن هذه النسبة قلت كثيرا خلال السنوات اللاحقة |
والحق أن تبني الحروف اللاتينية والتوجه نحو التعليم أعقبه زيادة كبيرة في مستوى التعليم وبات من يعرفون القراءة والكتابة عام 1935 ما نسبته 20%، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وصلت النسبة إلى أكثر من 30%، لكن تبقى هناك ملاحظة مهمة أن زيادة وتائر التعليم من خلال ثورة الكتابة لم تكن هدفا بحد ذاتها بل ربط تركيا بأوروبا واقعيا وماديا هو الهدف الأساسي.
وإجمالا يمكن القول إن الإصلاحات التي تمت على مدار عقود في قطاع التعليم وشارك فيها خبراء محليون مناوئون لأي ربط بين الدين بالدولة بالإضافة إلى أجانب لم تكن وليدة اللحظة التي جاء فيها اتاتورك، وإنما كانت امتدادا لجهود حثيثة بذلها مثقفو العقود الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية، لكن الكماليين تمكنوا مدعومين من الجيش والمؤسسات المدنية من استثمارها وتطويرها ومواجهة ضغوط المحافظين.
صحيح لم يخل الأمر من انتكاسات، كتلك التي حدثت في عقد الخمسينيات حيث أغلقت المدارس الوطنية بذريعة أن التعليم الذي يقدمه معلمو هذه المعاهد للفلاحين جعلهم أهدافا سهلة للإيديولوجيات غير المرغوب فيها ويحرضهم على الصراع الطبقي. ولم يكن ذلك هو السبب الحقيقي، فالأناضول لم يكن مستعدا آنذاك لقبول التعليم المختلط، فمن شأنه تقويض القيم والتقاليد.
ورغم ذلك بذلت جهود مضنية تم خلالها تكريس التعليم العلماني وعلى نحو قاطع، هذا التعليم الذي سيفرز ضباط الجيش ومدرسين وقضاة ومثقفين وشرائح مهنية مهندسين وأطباء ودبلوماسيين الذين شاركوا بإخلاص في نقل المجتمع التركي إلى فضاء واسع ورحب. ولم تكن المؤسسة التعليمية ساكنة جامدة بل اتسم أداؤها بالديناميكية بفضل الابتكارات التي أتيحت وحرية البحث العلمي.
وهكذا وكما يقول الدكتور سيار الجميل في كتابه "العرب والأتراك الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة" فالنخبة العصرية اليوم هي ابنة المراحل التاريخية كبنية لها منظومتها المتميزة داخل المجتمع التركي وهي تربط بين المراحل التاريخية وتطورات المجتمع نفسه".
ويضيف الجميل قائلا "إن هذه النخبة لم تبق أسيرة لبرنامج معين، بل اتسمت نظرتها بالاتساع والمعالجة النقدية الدائمة لمواجهة المشاكل المطروحة ولعل أبرز هيئة تركية أسهمت في ذلك مساهمة فعالة هي "اللجنة المختصة بالسياسات المقارنة التابعة لمجلس البحث في العلوم الاجتماعية"، فقد تجاوزت هذه اللجنة، وضع الأسس التنموية إلى مجال البحث عن الأدوات والوسائل التي رافقت بدورها حركة التحديث التي سيكون لها عميق الأثر في النظرة والممارسة على حركة النظام السياسي ككل وكذلك على رموز الحياة السياسية.
من بين هذه الرموز مثلا الرئيس الراحل توركوت أوزال، فهو يعود إلى جذور دينية صوفية وأمضى جزءا من حياته السياسية خلال السبعينيات في حزب ذي طابع إسلامي هو حزب السلامة الوطني، وكان يوظف رموزا دينية في خطاباته، لكنه مع ذلك كان شديد الدفاع عن العلمانية وإصلاحات أتاتورك والدفع في طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وسليمان ديميريل الرئيس التاسع للجمهورية، ورغم أنه تخرج من جامعة إسطنبول التقنية فقد ظل أسير قيم الأناضول المحافظة، ولم يخف عن الرأي العام أن أمه وشقيقته كانتا محجبتين حسب التقاليد المحلية، ومع ذلك فهو سيرفض رفضا قاطعا مبدأ الحجاب في المؤسسات التعليمية.
لعبت النخب التركية دورا ضاغطا يؤازرها في ذلك إعلام مناوئ للخلط بين الدين والسياسة، حتى تمكن مجلس الأمن القومي من اتخاذ قرارات فبراير/ شباط الشهيرة عام 1997 لمكافحة ما وصف بالتيارات الرجعية، وهي المرحلة التي أفضت عمليا إلى إقصاء حكومة نجم الدين أربكان في منتصف يونيو/ حزيران من ذلك العام.
"
أجهضت الجامعات محاولات اردوغان لتعديل قوانينها وأصرت على منع الحجاب داخلها ورفض قبول خريجي المدارس الدينية فيها " |
اما نساء هذه النخب اللاتي حصلن على حقوق هائلة لا تتوفر للنساء في العالم الإسلامي فقد خرجن بالآلاف منددين بحجاب النائبة السابقة مروة قاوقجي في نهايات العقد الماضي في ظل حكومة بولند أجويد الائتلافية، وبما أن المؤسسات التعليمية هي الجزء الأصيل في تكوين تلك النخب فإن النخبة من النساء رفضن أيضا فكرة السماح بالحجاب في المدارس والجامعات.
لكن الجامعات لم تكتف برفض الحجاب كتكريس للعلمانية ورفض أي مظهر للدين في المؤسسات التعليمية بما في ذلك أزياء الطلبة، بل إنها أجهضت محاولات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بتعديل قانون تنظيم الجامعات ورفضت أيضا قبول خريجي مدارس إمام خطيب لكلياتها ومعاهدها.
وفي ذلك يعتقد القائمون على الجامعات أنه من غير المقبول أن يقوموا بتخريج أشخاص درسوا في مثل هذه المدارس الدينية ويمكن أن يتولى أحدهم يوما منصب رئيس الجمهورية (الشهادة الجامعية من شروط المنصب) ويجلس على نفس المقعد الذي سبق أن جلس عليه مؤسس البلاد، وهذه المعضلة هي الثانية التي تواجه أردوغان بعد معضلة حجاب حرمه في سعيه الطموح لتولي منصب رئيس الجمهورية، لأنه خريج إحدى المدارس الدينية.
وهكذا تبدو العلمانية في تركيا قد ترسخت وبات لها مناصرون في كافة قطاعات المجتمع، وحتى لو كان هناك صراع، وهو حتما موجود بشكل أو بآخر، فإنه لن ينتهي بتقويض ما انتهت إليه الجمهورية التركية بعد ما يزيد علي ثمانية عقود.
إن نجاح حزب العدالة والتنمية في انتخابات 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 وحصوله على 34% وتشكيله حكومة بمفرده أعطى انطباعا مؤداه أن الأناضول عائد إلى الأسلمة، بيد أن الروائي التركي أورهان باموك الذي فاز هذا العام بجائزة نوبل للآداب لم يخف حذره قائلا في مقال نشر في صحيفة لوس أنجلوس تايمز الاميركية مستهل 2003 "في الحقيقة لا أريد لهذا الفوز أن يكون تحديا للعلمانية"، ثم يمضي وقد تحلى ببعض التفاؤل قائلا "نحن الآن أمام تجربة جديدة، إذ إن أردوغان سيحاول تحجيم دور الإسلاميين في الحكم رغم أنه جاء من خلفية إسلامية" ثم يختتم مقاله بعبارة موجزة لا تخلو من دلالة "كل ما أقوله لزملائي وفي نفس الوقت لمخاوفي، الرجاء التروي لنرى"!
وربما تتعزز مثل هذه الرؤية إذا ما تابعنا وضع المنهج المضاد تماما للتعليم العلماني أي التعليم الديني فيما يعرف بمدارس (إمام وخطيب)، فقد واجه هذا التعليم قيودا قانونية قيدته بشكل كبير لصالح تطور التعليم علماني الطابع، لكن التعليم الديني في تركيا، وتلك مفارقة، كان يشهد ازدهارا وتنامي عقب الانقلابات العسكرية خاصة انقلاب 12 سبتمبر/ أيلول 1980 والذي مثل منحنى مهما في تخفيف القيود على التعليم الديني، وكان ذلك بهدف تطويق النزعات اليسارية المتنامية آنذاك خاصة في المدن الكبرى.
وحتى تكتمل المفارقة سنجد أن مدارس إمام خطيب كانت تشهد طفرات مهمة في ظل الحكومات العلمانية تحديدا، ففي سبع حكومات رأسها سليمان ديميريل أنشئت 300 مدرسة، وفي عهد تانسو تشلر(1993-1996) أنشئت 80 مدرسة، وفي حكومة واحدة لمسعود يلماظ دشنت 23 مدرسة، وفي حكومتي أجويد بنيت 33 مدرسة في حين أنشئت 19 مدرسة فقط خلال الفترة من 1951 إلى 1959 وهي الفترة إلتي حكمها عدنان مندريس والموصوف بأنه أول رئيس حكومة ذو نزعات اسلامية في تركيا، وبسبب هذه الميول أسقطت حكومته بانقلاب عسكري وأعدم مع عدد من مساعديه عام 1961 بسبب ما وصف بانتهاكه للقوانين العلمانية.
ورغم هذه الزيادة في أعداد المدارس الدينية فإن التعليم الديني في تركيا لم يؤثرعلى النظام العلماني الذي بدا متجذرا خاصة في مؤسسات التعليم العالي وهي في مجملها شديدة التمسك بمبادئ الدولة، وعبثا حاول أردوغان اختراق هذا السياج إلا أنه لم يتمكن من ذلك حتى اللحظة الراهنة، وغالبيته البرلمانية لم تستطع تعديلا جذريا لقانون الجامعات بفضل تكاتف رؤساء الجامعات وأعضاء هيئات التدريس من جانب والتفاف قطاعات عريضة من الشعب التركي حولهم.
_______________
صحفي مصري في تركيا