ليس مطلوبا من أحد أن يبرهن على عروبة العراق، فهذا الأمر جزء حي من بنية هذا البلد وتاريخه وثقافته والوعي القومي لأبنائه، وهو حاضر في العشائر العربية التي تسكن معظم أرجائه وتشكل الغالبية العظمى من أبنائه، ولن يكون لائقا ولا عادلا أن يعمد أحد إلى مناقشة مسلمة تتعلق بعروبة العراق الآن بعد آلاف السنين من استيطان العرب فيه وإعماره وتأسيس أولى الحضارات الإنسانية على أرضه، لكنه من المهم العمل لرد التشكيك في هذه العروبة الذي بدأ مع بدء الاحتلال ولم ينته مع الصيغة التي تضمنتها مسودة الدستور حول هوية العراق.
جاء في المادة (3) من مسودة الدستور العراقي: ((العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو جزء من العالم الإسلامي، وعضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها))، وقد تم الاتفاق على هذا النص كحل وسط لتلبية الاعتراضات الشديدة التي ووجه بها النص الرسمي الذي وافقت عليه الجمعية الوطنية قبل ذلك وكان يشير إلى أن ((العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو جزء من العالم الإسلامي، والشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية))، حيث اعتبر الأعضاء العرب السنة في اللجنة الدستورية وكذلك الجامعة العربية وبعض الدول العربية أن هذا النص يسيء لهوية العراق ناهيك عن أنه يتعامل مع العرب وكأنهم أقلية عرقية في البلاد في حين أنهم يشكلون أكثر من 80 % من مجموع سكانها.
" عروبة العراق مسلمة لا يمكن تجاهلها أو حتى محاولة البرهنة عليها فهي واقع يمتد لآلاف السنين ويمثل بنية العراق الثقافية والحضارية والبشرية
" |
وارتبط موضوع الهوية بإجراءات عملية على الأرض ترتبط خصوصا بموضوع اللغة الرسمية حيث جرى في المادة (4) من الدستور اعتماد اللغتين العربية والكردية لغتين رسميتين للعراق وكذلك تخويل الأقاليم الفيدرالية المقبلة والمحافظات اعتماد أية لغات رسمية أخرى في نطاق حدودها، مع تهميش واضح للغة العربية حيث لم يلزم الدستور باستخدامها كلغة رسمية في مؤسسات إقليم كردستان في حين نص على اعتماد اللغة الكردية لغة رسمية في جميع مرافق الدولة ومؤسساتها.
وقد أثار هذا التعامل مع هوية العراق سجالا حادا اعتبر فيه المعترضون أن صفقة بين الأكراد والأحزاب الشيعية سمحت بتمرير نصوص استندت أساسا إلى قانون الدولة للمرحلة الانتقالية الذي وضعته سلطة الاحتلال الأميركي، ولم يثر في حينه نفس القدر من الاحتجاجات، لأن العراقيين تعاملوا معه كنص مؤقت فرضه الاحتلال وافترضوا أنه سيزول حينما يتولى العراقيون كتابة دستور بلادهم.
ولا تعرف خفايا الصفقة بين الذين مرروا النصوص الخاصة بالهوية، لكن الأحزاب الشيعية ذات الأغلبية في اللجنة الدستورية اتهمت بأنها رضخت لمطالب الأكراد بعدم النص على عروبة العراق مقابل موافقة هؤلاء على شمول كل أنحاء العراق بالنظام الفيدرالي.
لا يمكن الركون إلى حسن النية فيما جرى بشأن موضوع الهوية، ليس فقط من جانب الأقليات العرقية في العراق التي أرادت تمرير رؤيتها وسط مناخ الاضطراب والضعف في البلاد، لكن الأمر يشمل بشكل خاص القوى السياسية التي توصف بالشيعية التي يؤخذ عليها أنها قامت بحملة دعائية ضخمة ضد العروبة وقرنت الدول العربية بالإرهاب وبحملة قتل أبناء الشعب العراقي وهاجمت بشراسة الفكر القومي وربطته بالأوضاع التي آل إليها العراق، كما عمدت إلى وصف العراق بالأمة العراقية والتركيز على أنه بلد يتوزع فيه الناس إلى ملل ونحل وقوميات مختلفة وجرى تغييب كل الرموز والحقائق التاريخية التي تؤكد عروبة العراق أو تربطه بأمته العربية أو تكرس الدور الحضاري للعراق كمركز للخلافة العربية الإسلامية، ومضى الأمر إلى شن عمليات مطاردة وتهجير للمواطنين العرب القاطنين في العراق والاستيلاء على ممتلكاتهم والاعتداء عليهم.
" الهجوم على عروبة العراق يعود إلى فترة ما بعد الاحتلال ويهدف إلى قطع الصلة بين العراق وأمته
" |
ومع افتراض حسن النية فقد كان متوقعا وربما مفهوما أن يقوم البعض بالتعرض للعروبة كنوع من الهجوم على حزب البعث ذو التوجه القومي العروبي الصارم لاسيما في الأشهر الأولى التي تلت الاحتلال والتي كانت معبأة بفوضى في المشاعر والحماسة واضطراب في تحديد المنتصر والمهزوم في ما جرى، لكن لم يكن جائزا استمرار هذه الحملة بعد ذلك حيث أصبحت الحملة وكأنها تهدف إلى إحداث أزمة هوية وفراغ فكري لا يمتلئ إلا بفكر ونمط ولاء ومرجعية جديدة هي بالتحديد المرجعية الطائفية والمناطقية الضيقة، كما أنه لم يكن مقبولا أن يجري البناء فوق هذا النمط والتعامل معه كواقع حال عند صياغة مسودة الدستور، لكن ما جرى جاء ليؤكد أن الحملة المستمرة ضد العروبة والعرب في العراق لم تكن مجرد حملة عاطفية أو تعبيرا عن مواقف شخصية منعزلة عن بعضها بل إنها كانت حملة مقصودة ومبرمجة بغرض الوصول إلى مرحلة يسهل فيها تمرير النص الدستوري الذي يرفع عن العراق هويته العربية, ويحوله إلى بلد غير متجانس من أقوام وأديان ومذاهب في افتعال واضح لشكل جديد للبلاد
يتغاضى عن حقيقة غالبيته الإسلامية والعربية المطلقة.
في عام 1925 صدر أول دستور عراقي دائم للعراق ولم يكن يتضمن أي نص حول هوية العراق أو انتمائه إلى الأمة العربية، ولم يعترض أحد في حينه على هذا التجاهل كما أن أحدا لم ينتقده من المؤرخين والدارسين وحتى الثوريين الذين ناهضوا الحكم الملكي أو ساندوا الانقلاب عليه، وفي دساتير دول عربية أخرى مهمة مثل مصر التي حملت راية القومية العربية عقودا عدة لا توجد أية إشارة إلى موضوع الهوية القومية، فلماذا إذن هذه الضجة ضد الدستور العراقي الجديد وحده دون سائر الدساتير؟
المشكلة الحقيقية التي أثارها هذا الدستور هي أنه أراد تثبيت واقع قانوني لهوية العراق يتناقض مع واقعه البشري والحضاري والثقافي وهو لم يصمت عن الإشارة لموضوع الهوية لإرضاء الأقليات العرقية -رغم أن ذلك ليس من حقها- محتجاا بالدستور العراقي الأول، لكنه عمد إلى الحديث عن الهوية بطريقة أثارت الغضب والشك والانقسام الداخلي.
" عروبة العراق لن تنزع بنص دستوري لكن السيناريو الذي جرى به إخراج الأمر دفع للريبة والشك
" |
إن هوية العراق العربية لا تحتاج إلى نص دستوري يؤكدها وأظن أن هذا هو سبب تجاهلها في دستور 1925، كما أن إيراد النص بالشكل الذي ورد به في الدستور الأخير لن ينزع عن العراق عروبته كبلد وكشعب، لكن السيناريو الذي جرى فيه تمرير كل ذلك هو الذي أثار الريبة والمعارضة لا سيما أنه كان بالإمكان تلبية الحساسيات الخاصة بالأقليات القومية الأخرى في العراق بنصوص دستورية من غير التعرض لحق الأغلبية العربية المطلقة بوسم البلاد بسمتها القومية.
وحتى بعد التعديل الأخير للنص الخاص بالهوية وربط العراق بالجامعة العربية، فإن الواقع لم يتغير كثيرا، إذ لا يمكن تصور ربط الهوية القومية الممتدة إلى آلاف السنين بمنظمة رسمية عمرها خمسون عاما، ثم ما الذي سيحصل إذا ما ألغيت الجامعة العربية لأي سبب من الأسباب؟ وكيف سيجري التعامل مع النص الدستوري الجديد؟
وحتى مع القول إن مجرد الربط بين العراق والجامعة العربية يتضمن اعترافا بعروبته استنادا لميثاق الجامعة الذي لا يسمح لغير البلدان العربية بالانضمام إليها، أقول مع ذلك فإن مثل هذا الطريق الملتوي للوصول إلى الإقرار بالانتماء العربي للعراق لم يكن لائقا لبلاد شهدت أولى الحضارات العربية بعد اليمن والجزيرة كما لم يكن مناسبا بحق غالبية أبنائه الذين يعتزون بهذا الانتماء.
_______________
الجزيرة نت