محاكمة هنري كيسنجر
خدمة كامبردج بوك ريفيوز
هذا الكتاب هو لائحة ادعاء جريئة ضد هنري كيسنجر, وزير الخارجية الأميركي الأسبق في عهد نيكسون ومستشار الأمن القومي آنذاك. ويطالب المؤلف, كريستوفر هيتشنز, بمحاكمة كيسنجر كمجرم حرب بسبب جرائمه ضد الإنسانية خلال فترة خدمته في الإدارة الأميركية. وهو يرى أن اعتقال ومحاكمة أوغستو بينوشيه, رئيس تشيلي السابق, ومحاكمة سلوبودان ميلوسوفيتش تعنينان أن القانون الدولي يشهد الآن تحولاً بإتجاه جلب مجرمي الحرب الذي دأبوا على الاختفاء خلف مناصبهم الرسمية والدبلوماسية الرفيعة, وأن هذا التحول يجب أن ينطبق على كل مجرمي الحرب سواء أكانوا من الدول الصغرى والضعيفة أم من الدول الكبرى والقوية, وكيسنجر يمثل نموذجاً من مجرمي الدول الكبرى.
|
لائحة الاتهام التي يوجهها هيتشنز إلى كيسنجر تنحي الاتهامات والمؤامرات التي انخرط فيها كيسنجر التي يمكن إثباتها وهي كثيرة, كما تستثني الاستشهاد بتعليقات الضحايا ومشاعر العداء والكراهية التي "يتمتع" بهما كيسنجر في معظم مناطق العالم كون تلك المشاعر لن تضيف سنداً قانونيا للمحاكمة التي يطالب بها. ولهذا فإن تلك اللائحة تحتوي ست تهم رئيسية يمكن تجريم كيسنجر بسهولة إزائها نظراً لوجود الأدلة والبراهين والشهود, وهذه التهم هي: القتل المتعمد للمدنيين في الهند الصينية (فيتنام, كمبوديا, …), التآمر المتعمد في عمليات قتل جماعي وإعدامات في بنغلاديش, والانخراط شخصياً في التخطيط لقتل مسؤول دستوري رفيع في دولة ديمقراطية (تشيلي) لم تكن في حالة حرب مع الولايات المتحدة, الانخراط شخصياً في مؤامرة لتصفية رئيس دولة ديمقراطية (قبرص), تسهيل ودعم حملات الإبادة في تيمور الشرقية, الانخراط شخصياً في خطة لخطف ثم اغتيال أحد الصحفيين في واشنطن دي سي.
” المؤلف: كيسنجر يرتعد خوفاً كلما سمع أن أرشيفات سرية فتحت, أو أن عميلاً قديماً كان له به علاقة كتب مذكرات, أو أن دكتاتوراً من قدامى أصدقائه يتعرض إلى محاكمة وذلك بسبب طول لائحة الاتهام الموجهة إليه وكثرة جرائمه ” |
يقول المؤلف إنه بسبب طول لائحة الاتهام الموجهة إليه وكثرة جرائمه, فإن كيسنجر يرتعد خوفاً كلما سمع أن أرشيفات سرية فتحت, أو عميلاً قديماً كان له به علاقة كتب مذكرات, أو أن دكتاتوراً من قدامى أصدقائه يتعرض إلى محاكمة. ويورد في هذا السياق رد فعل كيسنجر الغاضب على محاكمة بينوشيه نظراً لأن تلك المحاكمة, فيما لو استمرت, ستكشف عن دور كيسنجر ونيكسون في دعم الانقلاب التشيلي ضد الحكم الديمقراطي في تشيلي, ومساعدة بينوشيه في جرائم القتل الجماعي ضد معارضيه بدءاً من أول عقد السبعينيات في القرن الماضي. على أن كيسنجر لا يتوقف عن تسويق نفسه كأحد رموز فكرة "القوة العارية عن الأخلاق" والتي تحركها المصلحة القومية الصرفة, في حالة الدولة, أو المصلحة الفردية الأنانية في حالة الفرد. ومن خلال شركته الاستشارية "كيسنجر أسوشيتس" فإنه يقدم خدماته للحكام والحكومات, خاصة الدكتاتورية, حول كيفية "تحسين الصورة الإعلامية" لهم, فضلاً عن كيفية التعامل مع الأزمات السياسية التي يواجهونها. أما إذا استدعي لإلقاء كلمة أو محاضرة أو استشارة في ملتقى عام فإن "تسعيرته" هي 25 ألف دولار للساعة!.
يبدأ المؤلف بتفصيل دور كيسنجر في إطالة حرب فيتنام لمدة أربع سنوات بالتحالف مع ريتشارد نيكسون قبيل تسلمه الحكم. ففي خريف 1968 كانت الحرب قريبة من النهاية حيث كان من المقرر أن تعقد "مفاوضات باريس" بين الأميركان وفيتنام الجنوبية لإنهاء الحرب. لكن نيكسون وكيسنجر تحركا لقطع الطريق على إعادة انتخاب الديمقراطيين للحكم عن طريق إحباط المفاوضات وبالتالي سقوط الديمقراطيين في الانتخابات. وكان التحرك باتجاه الاتصال بنظام الحكم في فيتنام الجنوبية وإرسال موفدين لهم يحملون رسالة تقول بأن الجمهوريين سوف يعطون الفيتناميين صفقة أفضل من الديمقراطيين إذا فازوا في الانتخابات المزمع عقدها قريباً. وقد صدق الفيتناميون "الوعد" وانسحبوا من مفاوضات باريس, وأمتد أمد الحرب أربعة سنوات أخرى انتخب في أولها نيكسون رئيسا للولايات المتحدة, وكسينجر مستشارا للأمن القومي ثم وزيراً للخارجية. وخلال هذه السنوات قتل مئات الألوف من الفيتناميين والكمبوديين في الحرب المستعرة, فضلاً عن عشرين ألف أميركي آخر غير الذين قتلوا في السنوات السابقة. وكان أن توقفت الحرب بعد مباحثات جديدة في باريس ووفق اتفاق لم يختلف في جوهره عن الاتفاق الذي تم التوصل إليه مبدئياً سنة 1968.
كما يسرد هيتشنز تفاصيل دقيقة عن مجريات الحرب في فيتنام وتسلسل الأوامر القيادية من نيكسون وكيسنجر إلى الميدان, وما رافقها من مجازر جماعية وقعت بحق مدنيين, واستخدام النابالم الأميركي لحرق مناطق شاسعة من القرى والغابات في الريف والجبال الفيتنامية. ولعل من أهم الآراء القانونية التي يسوقها المؤلف إزاء تقييم الجرائم الأميركية في فيتنام ومسؤولية القيادات السياسية آنذاك, وأهمهم نيكسون وكيسنجر, هو رأي الجنرال تيلفورد تايلور الذي كان المدعي العام الرئيسي في محاكمات نورمبيرغ الشهيرة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية والتي حوكمت أمامها قيادات ألمانيا النازية. ويقول تايلور إنه لو طبقت نفس معايير محكمة نورمبيرغ ومحكمة مانيلا التي حوكم بموجبها, عقب إنتهاء نفس تلك الحرب، القادة العسكريون اليابانيون, على المسؤولين الأميركيين الذي كانوا وراء حرب فيتنام فإن نتيجة الحكم سوف تكون غالباً نفس نتيجة الحكم التي أصدرتها محاكم نورمبيرغ ومانيلا (ص 25) وهذه شهادة فائقة الأهمية من جنرال وقانوني دولي أميركي تستحق التأمل, خاصة وأنها جاءت بعد أن تابع الجنرال وقائع وتفصيلات الحرب والمجازر التي حدثت فيها. ويعلق على الرسائل التي كانت تصل إلى واشنطن من الميدان وتشير بوضوح إلى أن شرط التقدم العسكري في هذه المنطقة أو تلك هو "تنظيفها من القرى والحقول والأبنية" المدنية بالطبع. وكيف أن كيسنجر وزملاءه في القيادة العليا كانوا يغضون النظر عن هذه الرسائل ولم يطلبوا اتخاذ أية إجراءات لحماية المدنيين أو تجنبهم. وينطبق نفس الأمر والسياسة على عمليات قصف كمبوديا ولاوس بسبب اتهامها بإيواء الثوار الفيتناميين ومساعدتهم, حيث أحرقت قرى مدنية بأكملها بزعم أنها تسترت على مقاتلين فيتناميين.
” يوجه المؤلف إدانة لكيسنجر شخصياً في حروب الهند الصينية وعملية (سبيدي إكسبرس), التي قتل فيها أكثر من 11 ألفاً من المدنيين في منطقة كين هوا من أجل تنظيفها وقد قامت بذلك الوحدة التاسعة بأوامر مباشرة ومصادقة من القيادات السياسية العليا وكيسنجر تحديداً ” |
ومن أهم العمليات المباشرة التي يوثق فيها المؤلف إدانة كيسنجر شخصياً في حروب الهند الصينية عملية "الانتقال السريع" (سبيدي إكسبرس), التي قتل فيها أزيد من أحد عشر ألفاً من المدنيين في منطقة كين هوا من أجل تنظيفها وقد قامت بذلك الوحدة التاسعة بأوامر مباشرة ومصادقة من القيادات السياسية العليا وكيسنجر تحديداً, واستخدمت المدفعية الثقيلة والطائرات المروحية والمقاتلات الحربية. ويشير المؤلف إلى أن الشعار الذي كان مكتوباً على إحدى الطائرات المروحية كان يقول "الموت صنعتنا وهي صنعة جيدة!". وكانت نتيجة الحرب التي ألقت فيها الولايات المتحدة أكثر من أربعة ملايين ونصف طن من القنابل والمتفجرات على فيتنام, أي ضعف ما ألقي في الحرب العالمية الثانية, مقتل أكثر من ثلاثة ملايين فيتنامي وحرق البلد وتدمير مدنه وقراه بأكملها.
أما بشأن بنغلاديش فقد تواطأ كيسنجر مع رئيس الحكم العسكري يحيى خان, في 1970/ 1971 ضد نتائج الانتخابات الديمقراطية في باكستان الشرقية, والتي استقلت لاحقاً باسم بنغلاديش. لكن الأسوأ من ذلك هو سكوت كيسنجر المفضوح عن الجرائم التي أرتكبها الجيش الباكستاني بحق المدنيين البنغال الذين ثاروا ضد الحكم العسكري وضد إلغاء الديمقراطية. ففي مارس / آذار 1971 قصف الجيش الباكستاني داكا العاصمة البنغالية وأنتشرت قوات الجيش فيها ونفذت جرائم إبادة جماعية ضد السكان "لتأديبهم" بما في ذلك من حرق لمساكن الطالبات, وقتل شامل واغتصاب. وتقدر المصادر المختلفة أن عدد الضحايا من البنغال المدنيين في تلك الأسابيع الدامية تراوح بين نصف مليون ومليون إنسان. وكان كيسنجر, بوصفه وزيرا للخارجية, مطلع أول بأول على تفاصيل المجازر ويتسلم الرسائل الغاضبة من السفير الأميركي في داكا التي تدين الصمت الأميركي على الإبادة (وهو السفير الذي خسر منصبه إثر موقفه المتمرد على كيسنجر). وتتبدى فجاجة كيسنجر ووحشيته في ممارسة "السياسة الواقعية" في رسالة بعث بها في تلك الأثناء إلى الرئيس الباكستاني العسكري يحيى خان يهنئه فيها على "الدقة والحذق" التي عالج بها المسألة البنغالية. ونعرف الآن أن كل ذلك الحرص الكيسنجري على الرئيس الدموي الباكستاني كان بسبب أن سفيره في بكين كان هو قناة الاتصال السرية بين واشنطن وبكين وهي القناة التي هيأت لزيارة نيكسون التاريخية إلى الصين.
يتابع المؤلف سيرة "توحش السياسة" عند كيسنجر في مناطق أخرى أهمها إندونيسيا حيث لعبت السي آي إيه وبتوجيهات سياسية عليا على إدارة الانقلاب العسكري ضد أحمد سوكارنو في أوائل السبعينات من القرن الماضي, وكان أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز ومن أشد أعداء الإمبريالية الأميركية آنذاك. ودعمت واشنطن سوهارتو ووقفت خلفه مقابل ولائه لها. وقد قبض سوهارتو ثمناً سياسياً مجزياً لقاء ذلك, وهو إطلاق يده في تيمور الشرقية التي قررت الاستقلال بحسب استفتاء شعبي كاسح. سوهارتو مارس إبادة سكانية في تيمور الشرقية طالت مئات الألوف من الأبرياء, وكان كيسنجر الغطاء الدبلوماسي الذي حماه ووفر له الأجواء السياسية العالمية للمضي في جرائمه.
أما في القارة الأفريقية فقد لعب كيسنجر أدواراً قذرة في جنوب القارة. ورغم أن الكتاب لم يتناول "الفصل الأفريقي" من سيرة كيسنجر إلا أن ما صار معروفاً هو مساهمة كيسنجر في توطيد حكم التفرقة العنصرية في دولة جنوب أفريقيا في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن المنصرم وذلك مقابل أن تلعب جوهانسبرغ دور الشرطي الأميركي في المنطقة. فخلال تلك الحقبة تصاعدت وتائر حركات التحرر والاستقلال في الجنوب الأفريقي (زيمبابوي, زامبيا, ناميبيا, أنغولا وغيرها). وكانت معظم تلك الحركات معادية للولايات المتحدة وسياستها, ولهذا فقد تحالف كيسنجر مع جوهانسبرغ كي تعمل على إخماد واستئصال تلك الحركات. وكانت أقذر السياسات الأميركية قد مورست بحق أنغولا حيث أطيل أمد الحرب الأهلية لتصبح أطول حرب أهلية في العالم, وقد استمرت حتى الآن لأن الاطرف التي تناصرها واشنطن في تلك الحرب تسيطر على المناطق الغنية بالماس وحيث تنشط الشركات الأميركية التي تصدره للخارج وتتاجر به.