ما بعد إسرائيل.. بداية التوراة ونهاية الصهيونية
عرض/ محمد السيد غنايم
تشهد إسرائيل حاليا مرحلة جديدة تختلف عما سبق، والمقصود "بما سبق" هنا هو نجاح اليهود الذين أسسوا الحركة الصهيونية في جمع عدد من يهود العالم وإقامة دولة على أرض فلسطين تحميها قوة عسكرية قادرة تسمى "إسرائيل". أما وقد نجحت الصهيونية في إقامة هذه الدولة فإن الهدف الذي قامت لأجله قد تحقق، ومن ثم فإن بقاءها لم يعد ذي قيمة، ذلك أن الصهيونية لا تصلح فكرا سرمديا دائما، بل هي أيدولوجيا وسيطة.. أي نسق من الأفكار والسياسات التي تنتهي بهدف محدد وتستمر ما لم يتحقق الهدف، لذا فإن قيام واستمرار إسرائيل إنما يؤكد نهاية الصهيونية بمثل ما يؤيد نجاحها.
|
وإذا كان الحال كذلك فما الذي عساه أن تكون عليه إسرائيل بعد نهاية الصهيونية؟ يرى المؤلف أن ما بعد الصهيونية إنما يعني بالضبط "ما بعد إسرائيل". وهو ما تناقشه صفحات هذا الكتاب في تدرج تاريخي متقن لحد كبير يغوص المؤلف خلاله في أعماق تاريخ اليهود واليهودية تارة، ويبحر تارة أخرى في أذهان المؤرخين اليهود وغيرهم، ويستغل هذا العرض التاريخي ليقدم مقترحاته عن سبل النهوض بالفكر السياسي العربي وطريقة تعاطيه مع نظيره اليهودي في الفترة القادمة، وليلفت الأنظار إلى خطورة الأصولية اليهودية على المنطقة برمتها.
فهم طبيعة النظام الدولي
في مقدمة الكتاب التي تشكل موضوعا مستقلا وكاشفا للحالة برمتها، يلفت المؤلف الانتباه إلى كفاءة الفهم اليهودي لطبيعة النظام الدولي وسبقه في ذلك الآخرين، فعندما كانت بريطانيا هي مركز النظام العالمي كان الرهان اليهودي على لندن، وكان وعد بلفور وإعلان إسرائيل بدعم كامل من بريطانيا، وعندما تحول مركز العالم إلى واشنطن تحولت إسرائيل ويهود العالم إليها، وبمثل ما أسهمت لندن في إعلان الدولة أسهمت واشنطن في بقائها ونفوذها، ثم ها هي أفكار تتحدث عن دور ألماني في النظام القادم، وها هي الحركة اليهودية باتجاه ألمانيا في السنوات العشر الأخيرة تثبت فهما وسبقا بالغين.
رغم ذلك، يخلص المؤلف في مقدمته إلى أن إسرائيل في حقيقة الأمر ما هي إلا جملة من المشاكل، أزمات سكانية وهجرة إلى الخارج وأزمة في الاقتصاد وأزمة في المجتمع.. وعلى مساحة صغيرة يعيش الكل في خوف.. كثير من القلق وقليل من الأمن.
ارتباك التاريخ
في الفصل الأول يعرض المؤلف لحالة الدين والعرف ويمر على ما ذكر في علم نقد التوراة في الغرب، ثم يستعرض محاولة الفيلسوف اليهودي "موسى بن ميمون" لضبط حالة الارتباك والخلط والموازنة بين النص والعقل، ثم محاولة "أسبينوزا" بعد ذلك بقرون وهي المحاولة التي انطلق فيها من داخل الدين وانتهى بها خارجه، ثم يقف الفصل عند إضافات "موسى مندلسون" الملقب بـ"أسبينوزا الثاني" ورؤية الفيلسوف اليهودي "مارتن بوبر" إلى أن يصل بعد هذا العرض المتتالي لرموز الفلسفة السياسية اليهود، إلى ذلك التيار الثالث الذي تجاوز "ابن ميمون" و" أسبينوزا" معا.. وسعى إلى العمل بخلاف قول "ابن ميمون" من أن المعبد الثالث لن تبنيه أيد بشرية وأنه سينزل جاهزا من السماء، فكانت الفكرة ثم جاءت الحركة ومضت الصهيونية إلى شوط جديد راحت تعمل بأصول الدنيا لا بأصول الدين كي تبحث عن امتداد لذاتها.
الصهيونية.. سيرة متفرقة
يذهب الفصل الثاني عندئذ إلى عرض ما أسماه المؤلف بالسيرة المتفرقة للصهيونية، ويحفل هذا الفصل بمناقشة أربعة موضوعات تشكل مجتمعة تلك السيرة المتفرقة.
يأتي الموضوع الأول تحت عنوان "إجابة خاطئة لسؤال غير مطروح"، ويعني بذلك السؤال ما طرحه "هرتزل" سابقا حينما سأل "إلى أين يذهب اليهود؟". ويرى المؤلف أن السؤال في حد ذاته خطأ، والإجابة المنطقية هي أن يبقوا في أماكنهم، فقد صاروا جزءا من بلدانهم التي عاشوا فيها، وهم أقدم من كثيرين أقاموا داخلها، ولا معنى لاستخدام "أين" مع هذا السؤال لأن المكان يشكل وطنا لا جسرا للمواطنين اليهود يعبرون عن طريقه إلى موطن آخر.
ويتطرق الموضوع الثاني إلى الإجابة الخطأ التي سعى هرتزل لتحقيقها، فيصفها المؤلف بأنها "عودة غامضة إلى أرض مجهولة"، لأن اليهود الذين تصوروا أنهم شعب بلا أرض رحلوا إلى ما يتصورونها أرض بلا شعب، وراحوا إلى مكان لا يعرفهم ولا يعرفونه ليصنعوا المأساة هناك وليجدوا أنفسهم أمام الخديعة الكبرى إذ إن فلسطين أرض عليها شعب!!
أما الموضوع الثالث فيأتي بعنوان معبر هو "تعامل لاتاريخي مع أخطار عادية"، وهو وصف للتعامل العربي البدائي مع ذلك الخطر الذي لم يكن بالغا في حينه، ومنه يدلف المؤلف إلى أطول موضوعات هذا الفصل والذي حمل عنوان "مفاوضات سلام تمضي من غير سلام"، وهو ما حدث بالضبط منذ أول مشروع تقدمت به إسرائيل تليه مشروعات تقدم بها وسطاء آخرون ثم مشروعات لساسة ومثقفين عرب عن عملية التسوية، وأخيرا إلى مأزق الانتفاضة ومحنة التسوية معاً.
” بدت الصورة في لقطة واحدة تجمع مشهدين، ثورة فلسطينية تواجه كارثة، ودولة يهودية تواجه كارثة. فالانتفاضة لا يمكنها المضي في مواكب النعوش حتى النهاية، وإسرائيل لا يمكنها الشعور بالأمن ما بقيت عملية التسوية متعثرة ” |
فقد بدت الصورة في لقطة واحدة تجمع مشهدين، ثورة فلسطينية تواجه كارثة، ودولة يهودية تواجه كارثة. فالانتفاضة لا يمكنها المضي في مواكب النعوش حتى النهاية، وإسرائيل لا يمكنها الشعور بالأمن ما بقيت عملية التسوية تتعثر في ثوبها المهلهل أو تتدلى من شقوقه الواسعة. وعلى الرغم من أن استمرار ملحمة الانتفاضة تواجهها عمليات القتل والهدم دون أفق للحوار أو طريق لأن تضع التسوية أوزارها، فإن ضرورات "اليأس" أضحت تعصف بالفكر الإسرائيلي.
وقد وجد بعض الفلسطينيين أن حجم الدمار الذي تلحقه آلة الحرب الإسرائيلية والاستباحة الكاملة لكل ركائز الحياة والوجود الفلسطيني في الضفة والقطاع قد وصل مدى لا يطاق، فالانتفاضة تخلق أبطالا في جانب وتخلف أميين في جانب آخر، كما كانت تقدم شجعانا يتنازلون عن الحياة ووراءهم أناس لا يقدرون على الحياة، أي كانت الكارثة هي الوجه الآخر للبطولة.
وفي الجانب الآخر كان المثقفون الإسرائيليون يشعرون بكارثة أكبر خلف البطولة المزيفة التي خلقها شارون، وساد بينهم قلق أشد باتجاه المستقبل.
يستشهد المؤلف بما ذكره المفكر اليهودي "ميرون بنفنستي" حين قال "سوف تستمر المواجهة المسلحة مع الفلسطينيين حتى عام 2006، فهل نستطيع العيش في جهنم عدة سنوات أخرى؟ سوف ننتصر، لكن الانتصار سوف يخلف أمة مهزومة ومهانة تلعق جراحها وترى في إنجازها انتصارا للصهيونية الوحشية وتطلق العنان أكثر لسياسة الاستيطان لتنمو بذور الانتفاضة الثالثة من الانتفاضة الثانية". وهكذا تلاقت الأزمة في جانبيها، حرب بلا نصر في جانب، ونصر بلا معنى في الجانب الآخر.
” هذه الأحداث خلقت واقعا مريرا أحبط الذهن العربي وأدى إلى كساده بعدما ظل يدور في حلقات مفرغة أمام مشكلات الصراع العربي الإسرائيلي وكيفية الخروج منها ” |
قرن من الفشل
هذه الأحداث خلقت واقعا مريرا أحبط الذهن العربي وأدى إلى كساده بعدما ظل يدور في حلقات مفرغة أمام مشكلات الصراع العربي الإسرائيلي وكيفية الخروج منها. فالقرن العشرين انتهى على مشهد دامغ للفشل من عجز سابق عن مواجهة "ما وراء إسرائيل" إلى عجز لاحق عن مواجهة إسرائيل وحدها، ومن مشروع قومي عربي يمتلئ بالطموح والجاذبية إلى انهيار الدولة في الصومال وانكسارها في السودان ونكبتها في العراق ومحنتها في كل مكان.. ومن وفرة في النفط وتلال من الدولارات إلى أزمات اقتصادية تظهر في العديد من الدول العربية، ومن وزن ثقافي مرئي ودور حضاري ممكن وأفق إنساني محتمل إلى حداثة مجدبة وليبرالية قاحلة وأصولية بائسة.
ما بعد الصهيونية
الفكر العربي ومرحلة ما بعد الصهيونية، وهو موضوع الفصل الثالث ولب الكتاب وأساس أطروحته والذي يعرض المؤلف فيه لموضوعات ثلاثة:
يصف الأول حالة المؤرخين الجدد الذين قدموا معرفة تقارب الاعتذار، ويعرض الموضوع الثاني لمحاولات تجديد الصهيونية عبر الشرق الأوسط الجديد، ويقف الموضوع الثالث على نقاش مطول إزاء ظاهرة الأصولية اليهودية.. أوهام المعبد الثالث.
المؤرخون الجدد
يرى المؤلف هنا ضرورة الإفادة من حركة المؤرخين الجدد في إسرائيل، وذلك عبر إنشاء حركة عربية موازية لحركتهم، مع توريط النقد الإسرائيلي الذاتي في خدمة المعركة العربية.
فالفكر العربي أكثر احتياجا الآن من أي وقت مضى لعمل حركة فكرية موازية ومتوازنة وذات خطاب إنساني عالمي تكون مهمتها نقد الصهيونية، على أن تكون أقل انفعالا مما كان يجري في العالم العربي سابقا، وأكثر وضوحا وتبيانا مما يجري لدى المؤرخين الجدد حاليا، وسيكون الأمر أكثر إفادة لو جرى نقل وتطوير الكثير من المعلومات والتحليلات الإٍسرائيلية نفسها في هذه الكتابات المرجوة، الأمر الذي يؤدي إلى تأسيس مكانة جديدة للفكر السياسي العربي الذي طالما خسر معاركه مع نظيره الإسرائيلي.
وقد تكون مرحلة ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول التي تشهد جملة مراجعات وانقلابات غير مسبوقة فرصة مواتية لتمرير هذا النهج، وليس صعبا أن يتم تقديم الصهيونية إلى جوار الأصولية في مهب الريح أو أن يجري الترويج لكون الأصولية نتاج الصهيونية، أو أن الأصولية اليهودية تقف وراء الأصوليات الأخرى.
الشرق الأوسط الجديد
تحت هذا العنوان يذكر المؤلف أن مشروع الشرق الأوسط الجديد إنما يمثل إجابة مفادها أن إسرائيل دولة شرق أوسطية، وهي رد على إجابة سابقة بأن إسرائيل دولة أوروبية في الشرق الأوسط، وكثيرا ما توازى الجدل إزاء كون إسرائيل دولة اليهود أم أنها دولة يهودية مع الجدل بشأن كونها جزءا من الغرب الحضاري أو جزءا من الشرق الأوسط المحيط. يستشهد المؤلف على هذا بجزء من خطبة لوزير الخارجية الإسرائيلي "شاريت" أمام الأمم المتحدة أواخر الخمسينيات ذكر فيها أن إسرائيل دولة غربية وامتداد للحضارة الأوروبية في صحراء التخلف. وعلى النقيض وقف "جابوتنسكي" أحد رموز ما يسمى بالصهيونية التصحيحية ضد هذا الوصف حين ذكر أن جوهر التاريخ الأوروبي هو استئصال اليهود، وكان استئصالهم من قبل النازيين بتواطؤ كل النظم الأوروبية، وأما فترة التعاطف مع اليهود التي ميزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فليست سوى لمحة من الزمن ولا يوجد ما يمنع من تصور فترة قادمة أكثر تعصبا ضد السامية، وبهذا فإن "جابوتنسكي" الذي عاش في ظل الدولة العثمانية قبل تصفيتها في الحرب العالمية الأولى انتصر لكون إسرائيل دولة شرق أوسطية لا أوروبية. وداخل هذا الإطار رأى أن الصراع ليس عربيا إسرائيليا، ولكنه إسلامي صهيوني، هو صراع بين إسلام متخلف ويهودية متقدمة وليس بين قومية عربية وقومية صهيونية، إنه أيضا صراع حتمي لا مفر منه.
واستكمالا لهذا الجدل يعرض المؤلف أيضا لرؤية عالم السياسة الدكتور "حامد ربيع" الذي ذكر أن إسرائيل سوف تتحول بنهاية المطاف إلى دولة شرق أوسطية. وفي السياق الآخر تتطور إسرائيل لتصبح دولة يهودية لا دولة اليهود، أي ليست دولة تمثل قومية اليهود في العالم، وإنما إحدى "القوميات اليهودية" في العالم، أي ستصبح إسرائيل دولة يهودية وليس أكثر، وينتهي "حامد ربيع" إلى أنه من الممكن للدولة الفلسطينية أن تعيش بجوار إسرائيل، وهناك نماذج عديدة لهذه الحالة.
” إذا كانت هناك أسباب عديدة تدفع لتفاهم اقتصادي بين العرب وإسرائيل يوما ما، فإن هناك ألف سبب يدفع للنقيض، إنها أزمة شاملة، ويحدث ذلك وسط صعود موجة عاجزة من الأصولية الإسلامية وموجة فاعلة من الأصولية اليهودية ” |
لكن المؤلف يرى أنه إذا كانت هناك أسباب عديدة تدفع لتفاهم اقتصادي بين العرب وإسرائيل يوما ما، فإن هناك ألف سبب يدفع للنقيض، إنها أزمة شاملة، ويحدث ذلك وسط صعود موجة عاجزة من الأصولية الإسلامية وموجة فاعلة من الأصولية اليهودية، جاءت الأولى بجملة كوارث أحاطت بالعالم الإسلامي من جاكرتا إلى الدار البيضاء، وبقت الثانية تعمل في صمت وهي تتأمل في ابتهال احتمالات الصدام بين الإسلام والغرب. وبدلا من أن يدفع الإسلام بالأصولية اليهودية خارج الحضارة في مهب الريح، دفعت الأصولية اليهودية الإسلام إلى صدام خارج المكان.
أوهام المعبد الجديد
لا تقع الأصولية اليهودية خارج النظام العام في إسرائيل، فهي جزء من مؤسسات الدولة، وهي أساس في الحياة والمعيشة، ولها كذلك أحزاب وشركات وحاخامات ووزراء، وهي وثيقة الصلة بالليكود وموضع حساب وتقدير من اليسار، وقد بات العلمانيون يخشون على أنفسهم وحياتهم من جراء المد الأصولي في إسرائيل. ومن النادر أن يجد القارئ إحصاءات مستمرة عن عدد العلمانيين والمتدينين في أي بلد مثلما يجد في إسرائيل.
وعلى وجه العموم فإن "تل أبيب" عاصمة العلمانية التي يتحصنون فيها ضد القدس مقر الأصوليين، ويرى رجال الدين أن تل أبيب هي سودوم جديدة، مدينة الخطيئة والفاحشة التي حل عليها غضب الرب وجعل عاليها سافلها، ويرى الأصوليون أنه بعد أن انتهوا من فرض آرائهم وفرغوا من أمر مدينة القدس تحولوا إلى مدينة تل أبيب من أجل إعادتها إلى الصواب والصراط المستقيم حيث إن 90% من سكانها علمانيون.
وإذا كان ذلك حال الأصولية اليهودية ضد العلمانية اليهودية، فكيف يكون موقفها ضد الأديان الأخرى وخاصة الإسلام؟ يذكر المؤلف أن هذا هو التساؤل الذي عرضه "إسرائيل شاحاك ونورتون ميتسفنسكي" في دراستهما التي حملت عنوان "الأصولية".
والملاحظة الأولى للمؤلف على هذا السؤال أن الإسلام يعترف باليهودية لذا فهناك العديد من الدراسات الإسلامية عن رأي الإسلام في اليهودية، وكان طبيعيا أن يهب لدراستها. أما اليهودية فهي على النقيض لا تعترف بالإسلام لذا كان طبيعيا أن تهمل النظر إليه.
ويدلل المؤلف على ذلك بأنه منذ زمن الفيلسوف اليهودي "موسى بن ميمون" لا يوجد ذلك النقاش الغني بين الإسلام واليهودية، أو ذلك الاهتمام العقائدي والفكري اليهودي تجاه المسلمين، يضاف إلى ذلك أن اليهودية دين مغلق لا يدخله أحد بالإيمان أو القبول وإنما بصلة الدم وديانة الأم، والإسلام دين مفتوح عماده التبشير والدعوة وهو بذلك يحتاج إلى فهم عقائد وثقافات الآخرين حتى يتمكن من النفاذ إليهم ونيل قبولهم وتهيئة الطريق إلى إسلامهم.
وقد جاءت إسرائيل لتجعل من اليهودية دينا سياسيا محضا ينصب كل اهتمامها على موازين القوى مع العرب والمسلمين واحتمالات الحرب وآفاق التسوية.
” جاءت إسرائيل لتجعل من اليهودية دينا سياسيا محضا ينصب كل اهتمامها على موازين القوى مع العرب والمسلمين واحتمالات الحرب وآفاق التسوية ” |
ويسوق المؤلف مثالا طريفا على هذا الأمر حين يذكر أن النائب العربي في الكنيست عبد المالك دهامشة طالب السلطات الإسرائيلية بإقامة مسجد داخل الكنيست الإسرائيلي لكي يستطيع النواب العرب الصلاة فيه أسوة بوجود كنيس يهودي بالكنيست، وقد وافقت السلطات الإسرائيلية على إقامة المصلى، وتم افتتاح المسجد للصلاة في أكتوبر/ تشرين الأول 1996 حين كان نتنياهو في السلطة والأصوليون إلى جواره، وبينما كان يجري التحضير لحفر نفق يستهدف هدم بيت المقدس استقبل مسجد الكنيست الذي كان غرفة لسكرتيرة سجادة جديدة وعددا من المصاحف وصورة للمسجد الأقصى على أحد الجدران.
تحالف من جانب واحد
في مشهد أخير يشير المؤلف إلى خطوات التحالف بين الأصوليتين اليهودية والمسيحية على أنها تحول عن مسار العلاقة بين الديانتين على مر التاريخ، فالخلاف الجوهري إزاء صحة نبوة المسيح ومسؤولية قتله والقضاء عليه مثلت سببا عقائديا وسياسيا حال دون الالتقاء قرونا طويلة.
وقد كان الفاتيكان من أشد المعارضين للحركة الصهيونية منذ مؤتمر بازل عام 1897 ورفض البابا بيوس العاشر في لقائه مع ثيودور هرتزل عام 1904 دعم الحركة الصهيونية وهجرة اليهود إلى فلسطين، كما لم توافق الكنيسة الكاثوليكية على وعد بلفور عام 1917. ثم بدأ التنازل تباعا فأعلن الفاتيكان الحياد إزاء إعلان قيام دولة إسرائيلية عام 1948، ثم كان إصدار البابا يوحنا الثالث والعشرين عام 1964 وثيقة تقضي بتبرئة اليهود من دم المسيح. ولاحقا أصدر البابا يوحنا بولص الثاني وثيقة تؤكد الأصل اليهودي للمسيح، وفي عام 1994 اعتذر الفاتيكان لعدم تدخله لإنقاذ اليهود من أيدي النازيين.
لكن إسرائيل لم تقطع ذات الشوط في الاتجاه المعاكس حيث تكن إسرائيل ازدراء للمسيحية وعداء شديدا للتبشير بها في الأوساط اليهودية. ويذكر المؤلف أن المفكر "سهيل ديب" رأى أن "تارفورد" و"ماكنيكول" صاحبا كتاب "مرجل الشرق الأوسط" (the middle east cauldron) اكتشفا أن التبشير هو أقوى سلاح يمكن به محاربة إسرائيل.
” اعترف الكاتب الأميركي "ماكس ديمونت" المتخصص في اليهوديات أن الفتح الإسلامي لشبه جزيرة أيبيريا وإسبانيا والبرتغال قد وضع حدا لإكراه اليهود على اعتناق المسيحية، وقد ردت اليهودية على الإسلام بجزاء من نوع آخر ..احتلال وتدمير وكأن هذا التاريخ لم يكن ذات يوم ” |
أما عن دور الإسلام مع اليهودية واليهود فقد اعترف الكاتب الأميركي "ماكس ديمونت" المتخصص في اليهوديات أن الفتح الإسلامي لشبه جزيرة أيبيريا وإسبانيا والبرتغال قد وضع حدا لإكراه اليهود على اعتناق المسيحية، فتحت حكم المسلمين الذي استمر خمسة قرون نشأت إسبانيا ذات الديانات الثلاث والحضارة الواحدة، حيث شارك المسلمون والمسيحيون واليهود في صنع حضارة امتزجت فيها ثقافاتهم ودماؤهم وأديانهم.
وقد ردت اليهودية على الإسلام بجزاء آخر هو احتلال وتدمير، ثم إنكار لتقاليد عريقة في الحوار والحياة المشتركة، وكأن هذا التاريخ لم يكن ذات يوم.
وفي نهاية هذا العرض يخلص المؤلف إلى أن الأصولية اليهودية توجب اليقظة ليس لصراع مع عدو سرق الأرض وهتك العرض واستحل أرواح الآخرين، بل يقظة شاملة لموجات من المخربين يزداد بأسهم يوما بعد يوم ويقتطعون في كل يوم أرضا جديدة، وإذا كان الصراع مع إسرائيل قد أجهد العرب نصف قرن، فإن الصراع مع الأصوليين اليهود إذا ما دانت لهم إسرائيل سيكون أصعب وأقسى.