الهجرة إلى الواحات.. ظاهرة قديمة أحيتها جائحة كورونا

الذاهبون نحو الواحات مقتنعون بأن التطور التكنولوجي والرأسمالية الرقمية تقود العالم نحو طريق مسدود

الأزمة الصحية العالمية لعبت دورا في الانتقال الجماعي من المدن للمناطق الأقرب للطبيعة (غيتي)

تشير معطيات عديدة إلى موجة جديدة من النزوح الجماعي نحو أماكن جديدة، والرغبة في تجربة أنماط عيش بديلة، كما كان الحال في سبعينيات القرن الماضي.

وتتعزز هذه الظواهر فترات الأزمات الاقتصادية وخلال الحركات الاجتماعية التي لا تجد ما يلبي توقعاتها، بحسب لوران جان بيير أستاذ العلوم السياسية بجامعة باريس بانتيون سوربون الذي الضوء على موجة جديدة من الهجرة يحركها الشعور بـ "المأزق البيئي" في حواره مع صحيفة "نوفيل أوبسرفاتور" (nouvelobs) الفرنسية.

عكف جان بيير 3 سنوات على دراسة هذه الظاهرة التي تشهدها فرنسا ومناطق مختلفة من العالم، والتي أطلق عليها الهجرة إلى "الواحات". لكن من أين جاءت هذه التسمية؟

لماذا الهجرة إلى الواحات؟

يقول جان بيير إن هذا المصطلح يرتبط بما سماه "الطوباوية الجماعية المعاصرة" (وتعني الاشتراكية التي تحلم بمجتمع مثالي خال من الصراع وتسعى لتحقيق مثل عليا بعيدة عن الواقع، وهي نزعة لحياة مثالية خالية من العيوب). وقد ظهرت منذ أربعينيات القرن الماضي مع الروائية الأميركية ماري مكارثي التي كتبت قصة بعنوان "الواحة" قبل أن تطور الفيلسوفة الألمانية حنة آرنت هذه الاستعارة وتُعطيها صدى واسعا.

ويعتقد أن الأزمة الصحية التي مر بها العالم الفترة الماضية لعبت دورا في الانتقال الجماعي من المدن إلى هذه المناطق الأقرب للطبيعة، لكنه يؤكد صعوبة تحديد حجم هذه الظاهرة في غياب الإحصائيات الرسمية.

تجارب الهجرة للواحات تجدد نفسها بترك مسافة مع العالم الخارجي وإقامة علاقات جيدة مع سكان القرى المجاورة (غيتي)

ما الذي يميز التجربة الحالية عن سابقاتها؟

ويضيف الباحث الفرنسي أن البحث عن أنماط حياة بديلة أمر متكرر في تاريخ البشرية، لكن الحركة الحالية تتميز عن سابقاتها بعاملين رئيسيين. الأول "العامل الأيكولوجي" (بيئي يمكن أن يؤدي في ظروف معينة إلى التأثير بصورة ملحوظة على كائنات معينة أو مجتمعاتها، بحيث يتسبب بارتفاع أو انخفاض أعداد الكائنات) والذي لم يكن غائبًا عن الموجات السابقة، مثل النزوح نحو الأرياف، وكذلك "هيبز" (بالإنجليزية (Hippies)‏ وهي اجتماعية كانت بالأصل حركة شبابية نشأت بالولايات المتحدة ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ثم ما لبثت أن انتشرت في باقي الدول الغربية) وبعض التجارب الاشتراكية في القرن 19، لكنه أكثر وضوحا في الوقت الحالي.

واليوم تعبر هذه التحركات عن رغبة في الهروب من براثن العمل المأجور، ومحاولة لإعادة تشكيل وسائل الإنتاج والتحكم في الموارد عبر التعاون الجماعي والإدارة الذاتية.

ويبدو ذلك رد فعل على "المأزق بيئي الذي قادتنا إليه (النيوليبرالية) الليبرالية الجديدة" (فكر أيديولوجي مبني على الليبرالية الاقتصادية التي هي المكوّن الاقتصادي لليبرالية الكلاسيكية والذي يمثل تأييد الرأسمالية المطلقة وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد).

أما عن العامل الآخر الذي يميز الظاهرة الحالية، فهو الطابع المؤسسي الذي يحاول هؤلاء المهاجرون الجدد إضفاءه على تجاربهم. صحيح أن هذه المؤسسات ما تزال هشة، لكن من الواضح -حسب جان بيير- أن هناك استفادة من الدروس السابقة، ولا سيما الإخفاقات الاجتماعية التي شهدتها فترة السبعينيات.

وتوجد الآن دورات تدريبية وشبكات محلية ودولية تعمل على تأطير هذه الهجرات، وقد تغلغلت ثقافة "إدارة المشاريع" في هذه التجارب، حيث يتم جمع الأموال وإنشاء مدارس للأطفال، وهو ما لم يكن موجودا قبل بضع سنوات.

ويعتقد جان بيير أن هذا الطابع المؤسسي يمكن أن يوفر مزيدًا من الاستقرار والقدرة على البقاء لهذه المجتمعات التي كانت في السابق تشهد عددا كبيرا من الوفيات في صفوف الأطفال، ولم تكن تستطيع الصمود لفترات طويلة.

النزوح نحو الأرياف ظاهرة انتشرت ستينيات وسبعينيات القرن 20 وعادت مع جائحة كورونا (غيتي)

من يعيش بهذه الأماكن؟

يقول الباحث الفرنسي إن هذه الظاهرة الطوباوية كانت ترتبط منتصف القرن 19 بفئة معينة من الحرفيين والأرستقراطيين. وفي سبعينيات القرن 20، أصبحت تشمل أساسا أشخاصا متعلمين وطلبة، ولا يزال الأمر مستمرا إلى اليوم.

ويشعر الكثير ممن أنهوا تعليمهم الجامعي، ونسبة كبيرة من المهندسين، بالاشمئزاز من أسلوب الحياة المعاصر المفروض عليهم، وقد فقدوا الثقة في الوعود "النيوليبرالية" وأصبحوا يرفضون فكرة وتوظيف مهاراتهم ومعارفهم في خدمة نظام آلي لا يتوافق مع قيمهم، ووصلوا إلى قناعة بأن التطور التكنولوجي والرأسمالية الرقمية تقود العالم نحو طريق مسدود.

هل هي حالة تمرد؟

هل يعني ذلك أن هذه الظاهرة الاجتماعية هي شكل من أشكال "التمرد" الذي تقوده النخبة؟ يرى جان بيير بهذا الصدد أنه لا يجب اختزال هذه الظاهرة في فئة محددة، لأن هناك أيضًا نشطاء بيئيين وسياسيين، وليس جميعهم من حاملي الشهادات الجامعية.

عام 2018، رصدت "الشبكة العالمية للقرى الأيكولوجية"، وهي منظمة غير حكومية لها مقعد استشاري بالأمم المتحدة، 15 ألف من المهاجرين البيئيين في 114 دولة، وخلافًا للاعتقاد السائد فإن أغلبهم في دول الجنوب.

ويؤكد جان بيير أن الطابع الأيديولوجي السياسي يحتل مكانة أقل في مثل هذه المجتمعات حاليا، مقارنة بما كانت عليه في السبعينيات، حيث يسود الخطاب العملي والتقني، ويتم التركيز على الزراعة المستدامة وإنشاء الموائل البيئية، وهو ما يؤثر على الحياة اليومية وطبيعة العلاقات الاجتماعية داخل هذه المجموعات.

وحسب رأيه، يمكن أن نلاحظ أن هناك إرادة لتغيير العالم عن طريق هذه التجارب التي تهدف إلى تنبيه العالم إلى خطورة الوضع الراهن وضرورة العمل على تحقيق حياة أفضل، باستخدام خطاب روحاني وأخلاقي بعيدا عن السياسة.

مع ذلك، ينبّه الباحث الفرنسي إلى أن هذه التجارب الحديثة ليست خالية تماما عن الاعتبارات الأيديولوجية والسياسية، وليست أقل "راديكالية" من تجارب الماضي، والسبب أن سيطرة النيوليبرالية على كل جوانب الحياة البشرية الفترة الماضية أصبحت تفرض قدرا أكبر من الصلابة والقدرة على الصمود من أجل تبني أساليب عيش بديلة.

لماذا تختفي وتفشل سريعا؟

يفسر جان بيير ما يحدث داخل هذه المجموعات من توتر وصراعات، خاصة أن مكانة القائد صاحب الكاريزما في الوقت الراهن لم تعد مثلما كان عليه الحال في التجارب السابقة.

ومع ذلك، يقول إن هذه التجارب تبقى قادرة على تجديد نفسها باستمرار من خلال ترك مسافة مع العالم "الخارجي" وإقامة علاقات جيدة مع سكان القرى المجاورة والسلطات المحلية.

المصدر : الصحافة الفرنسية