الإضراب الشامل.. نهج نضالي يوحد الفلسطينيين ويؤسس لمرحلة جديدة

الإضراب الشامل تنديدا بالعدوان الإسرائيلي عمّ كافة المناطق الفلسطينية (الجزيرة)

توحد الفلسطينيون في "فلسطين التاريخية" بإعلان إضراب شامل الثلاثاء ضد سياسات الاحتلال الإسرائيلي والتي أشعلت حربا على غزة، بدأت من مدينة القدس وامتدت إلى داخل الخط الأخضر والضفة الغربية المحتلة.

كانت آخر الخطوات النضالية المشتركة بين الفلسطينيين من البحر إلى النهر، في الانتفاضة الفلسطينية الثانية "انتفاضة الأقصى" عام 2000، عندما اقتحم رئيس وزراء الاحتلال الأسبق شارون المسجد الأقصى وفجّر ذلك غضبا فلسطينيا في كل أماكن الوجود الفلسطيني.

الإضراب جاء بعد هبة شعبية واسعة لمختلف الفعاليات الفلسطينية في الضفة والداخل (الجزيرة)

مرحلة جديدة

يقول رئيس اللجنة الشعبية للدفاع عن الأرض والمسكن في وادي عارة، أحمد ملحم، "نتحدث عن هبّة شعبية عفوية قوامها الحراك الشبابي بالبلدات العربية، وهو حراك غير معهود وبعيد عن التنظيمات التقليدية، ويحمل رسالة للمؤسسة الإسرائيلية بإشعال شرارة غضب تراكمي، حيث بات واضحا أنه لا يمكن لأي أحد أن يتحكم ويسيطر على هذه الهبة".

وأوضح ملحم في حديثه للجزيرة نت أن ما يشهده الداخل الفلسطيني من احتجاجات ومسيرات يعكس بالأساس خوض معركة الوجود للشعب الفلسطيني الذي انتفض نصرة للقدس والأقصى، وقد اختارت الأجيال الشابة خوض المواجهات عبر هبة شعبية دفاعا عن النفس قبالة اعتداءات عصابات المستوطنين على الوجود الفلسطيني.

ويعتقد رئيس اللجنة الشعبية أن الإضراب الشامل بالداخل الفلسطيني يؤسس لمرحلة جديدة في الوعي الفلسطيني في كل فلسطين التاريخية، بعيدا عن نهج وأداء القيادات الفلسطينية، كما أنه يعيد الحسابات في مستقبل وطبيعة العلاقة ما بين الفلسطينيين بالداخل وإسرائيل التي تواجه تحديات حيال كيفية التعامل مع النشء الفلسطيني الذي لا يتردد بالخروج عن دائرة الصمت لينتفض ضد الممارسات الإسرائيلية.

آلاف الفلسطينيين خرجوا في المظاهرات والمسيرات المنددة بالعدوان الإسرائيلي (الجزيرة)

حدث تاريخي

من جهته، يصف القيادي في الحركة الوطنية، سليمان أبو رشيد، الإضراب الشامل في فلسطين بالحدث التاريخي، ويعتقد أن الهبة الشعبية التي أشعلتها شرارات متراكمة من الغضب والظلم والاضطهاد تفرض معادلة جديدة جوهرها القدس والأقصى.

ويرى أبو رشيد في حديثه للجزيرة نت، أن نهج وممارسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين -بكل فلسطين التاريخية- جعلت الحدود المصطنعة التي ابتكرتها إسرائيل مجرد خطوط وحبر على ورق، فالممارسات الإسرائيلية وحدت كافة مجتمعات الشعب الفلسطيني، وأضحى أهل الداخل الفلسطيني الذين فرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية على قناعة تامة أن ليس لهم امتياز معين عن أهل القدس والضفة وقطاع غزة، بل يواجهون اعتداءات المستوطنين ورصاص الشرطة.

وأوضح أبو رشيد أن الاحتجاجات المتواصلة والإضراب الشامل بالداخل هو أكثر ما يقلق إسرائيل بهذه المرحلة، حيث اعتادت خلال حروبها السابقة أن تكون الجبهة الداخلية مستقرة، بينما تواصل عجلة الاقتصاد حركتها العادية بسواعد فلسطينيي 48، وهو ما يختلف هذه المرة حيث الجبهة الداخلية مشتعلة وعجلة الاقتصاد معطلة. 

فعاليات شبابية شاركت في المظاهرات المنددة بالعدوان الإسرائيلي على غزة والمقدسات (الجزيرة)

وحدة وتلاحم

ولأول مرة منذ انتفاضة القدس والأقصى، التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول عام 2000، يعم الإضراب الشامل البلدات العربية داخل الخط الأخضر بما عكس التلاحم والوحدة للشعب الفلسطيني الذي يخوض فعاليات نضالية نصرة للقدس والأقصى وتنديدا بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتصديا لاعتداءات عصابات المستوطنين على فلسطينيي 48.

وسبق قرار الإضراب، الذي أقرته لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، تصاعد الفعاليات الاحتجاجية والمسيرات للحراك الشبابي التي أسست لهبة شعبية عفوية في بلدات الداخل الفلسطيني عقب استشهاد الشاب موسى حسونة (31 عامًا) من مدينة اللد برصاص مستوطنين، وإطلاق الشرطة الإسرائيلية العنان لعصابات المستوطنين بالاعتداء على المواطنين العرب،  وبالتزامن مع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

وأمام زخم احتجاجات الفلسطينيين خصوصا الأجيال الشابة وتوسع رقعة المظاهرات والمسيرات في جميع البلدات العربية، رغم العنف غير المسبوق لشرطة الاحتلال واعتقال أكثر من ألف من الشبان العرب، أعلنت اللجنة الإضراب الشامل الذي عمّ كافة مرافق الحياة وقطاعات العمل، وتنظيم مسيرة بمشاركة عشرات الآلاف في مدينة سخنين في الجليل، وتقديم وثيقة للهيئات الدولية تطالب من خلالها توفير الحماية الدولية لفلسطينيي 48.

شابان فلسطينيان يحملان لافتة تدعو إلى الإضراب (الجزيرة)

نهج نضالي

يقول المحاضر الجامعي د. بلال سلامة إن الخطوات النضالية التي استخدمها الفلسطينيون ضد المحتل كثيرة، كان الإضراب واحدا منها. وقد نفذ الفلاحون في منطقة الساحل أول إضراب في فلسطين عام 1892، ضد السياسات التي كانت تستغل الفئات المهمشة، ثم جاءت احتجاجات عام 1917 على "وعد بلفور"، فالهبات الجماهيرية في العشرينيات ضد الإنجليز، ثم الإضراب العام والاحتجاجات الواسعة عام 1936.

ويؤكد سلامة في حديثه للجزيرة نت أن الفلسطينيين أكدوا هويتهم الحديثة كشعب واحد عام 1936 في الإضراب والاحتجاجات التي استمرت لأشهر طويلة، من خلال الخطوات النضالية ضد الانتداب البريطاني وهجرة اليهود والسياسات المتبعة ضدهم، وكان المسجد الأقصى هو المحور الحساس الذي يفجر الأحداث تاريخيا ووطنيا.

وبحسبه، لم يستمر توحد الفلسطينيين كثيرا ضد المحتل، فبعد إعلان دولة إسرائيل عام 1948 على أكثر من 70% من فلسطين التاريخية، بدأت المتغيرات ومحاولة فرض الاحتلال الإسرائيلي كواقع جديد، و"أسرلة" المجتمع وتهويد التعليم وفرض اللغة العبرية والعمل على عزل الشخصية الفلسطينية عن المحيط العربي.

كما أن فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة وغياب التواصل الجغرافي بينهما، وتشتيت الفلسطينيين في مخيمات اللجوء حال دون توحدهم، واستمر هذا الحال بعد أن احتلت إسرائيل بقية الأرض الفلسطينية عام 1967، وبدأت بتمييزهم حسب موقعهم الجغرافي.

وحّد يوم الأرض عام 1976 المجتمع الفلسطيني مرة أخرى وأعاد له لُحمته رغم انفصاله الجغرافي، عندما بدأت شرارة الاحتجاجات على سياسات تهويد الجليل داخل الخط الأخضر، وأسهمت هذه الأحداث في تأكيد تمسك الفلسطينيين بأرضهم وهويتهم الوطنية، وأصبح الاحتفال بيوم الأرض سنويا رمزا للصمود والوحدة.

ويعتبر د. سلامة أن اتفاقية أوسلو عام 1993 قد شرذمت الفلسطينيين من خلال عدم الحديث عن فلسطينيي الداخل، وعززت الانقسام الفلسطيني، لكن انتفاضة الأقصى عام 2000 بعد اقتحام المسجد الأقصى، وحدت الفلسطينيين مرة أخرى عبر المظاهرات التي أدت إلى انتفاضة عارمة في كل فلسطين، قبل أن تعود وتنحسر في الضفة وغزة.

الدعوة للإضراب استجابت له مختلف فئات المجتمع الفلسطيني (الجزيرة)

هدف الإضرابات

استخدم الفلسطينيون الإضراب بشكل واضح في الانتفاضة الأولى عام 1987، والتي تركزت أكثر في الأرض المحتلة عام 1967، وكانت كقرار من القيادة الوطنية الموحدة كأحد الأشكال النضالية، واستخدم العصيان المدني للتعبير عن رفض سياسات الاحتلال، وكان الإضراب يتم ليوم أو يومين أو لشهر، حسب المتغيرات السياسية.

ويعتقد د. سلامة أن ما يميز الإضراب الشامل في فلسطين اليوم، هو إعادة توحيد الفلسطينيين بشكل كامل، مشيرا إلى أن الخطوات والأشكال الاحتجاجية للفلسطينيين يجب أن تختلف حسب موقعهم الجغرافي، فالأدوات المستخدمة في الضفة تختلف عن غزة التي تواجه الاحتلال عسكريا، وتختلف عن فلسطينيي الداخل المنخرطين بالمجتمع الإسرائيلي أكثر.

ويرى سلامة أن في ذلك تكاملا وظيفيا يشكل ضغطا واضحا على المحتل ورسالة تفيد بأن الفلسطيني لا يلتزم بالحدود المصطنعة ويتمسك بهويته الجامعة، واعتبر أن الإضراب هو مناسبة لتأطير الخطاب الوطني، وتوحيد الشعارات، وصولا لبلورة القضايا المطلبية لكل الشعب الفلسطيني.

المصدر : الجزيرة