سياسة فنزويلا الخارجية


undefined

*بقلم/ د. طلعت شاهين

فنزويلا وفترة الحرب الباردة
ثروة النفط وحكومات الفساد
شافيز ومحاولة الانقلاب
شافيز والعمل السياسي
علاقات فنزويلا بالولايات المتحدة
ملامح مستقبل فنزويلا في ظل الأزمة الراهنة

منذ وطئت أقدام الرحالة المغامر كريستوفر كولومبوس أرض فنزويلا عام 1498، خلال رحلته الثالثة إلى الأرض الجديدة التي كان يعتقد أنها جزر الهند الغربية، أو جزر البهارات كما كان يسميها في مذكراته، لم تعرف تلك الأرض السلام الاجتماعي قط، مثلها مثل سائر بلاد العالم الجديد التي نقلت أوروبا إليها نزاعاتها وأمراضها واعتبرتها سجونا لأخطر مجرميها وتركتهم يعيثون فيها فسادا، فقد انتقلت تلك الأرض من أرض حرة يعيش أهلها الذين أطلقوا عليهم اسم "الهنود الحمر" في تجمعات صغيرة بالقرب من منابع الأنهار، أو في أعماق الغابات التي تغطي معظم أجزاء تلك الأرض الواقعة على الشمال من نهر الأمازون العظيم الذي يربطها بالبرازيل، لتصبح جزءا من مستعمرات الإمبراطورية الإسبانية التي لا تغيب عنها الشمس، من الفلبين في أقصى الشرق إلى البيرو والتشيلي في أقصى الغرب، ومن شمال أوروبا إلى أقصى نقطة تصل إليها أشعة الشمس في القطب الجنوبي.

بعد حصولها على الاستقلال عام 1811 بعد حروب التحرير الدامية التي خاضها المحرر سيمون دي بوليفار خلال القرن التاسع عشر، وما أعقبها بعد ذلك من دكتاتوريات عسكرية، انتقلت فنزويلا مثل غيرها من بقية أراضي أميركا اللاتينية من الخضوع المباشر للإمبراطورية الإسبانية إلى الخضوع غير المباشر لها، وكأن شيئا لم يكن، حيث تولت السلطة طبقة مكونة من البيض المنتمين إلى أوروبا بشكل عام أو من يطبقون عليهم هناك اسم "الكيوريوس" المنتمين إلى إسبانيا باعتبارهم يحملون وراثة الدم والعرق، أما الشعوب الأصلية لتلك البلاد فقد عاشوا ولا يزالون في تجمعات منعزلة بعيدا على ضفاف الأنهار أو في أعماق الغابات، ومن اقترب منهم من التجمعات الحضرية تحولوا إلى تروس صغيرة في الآلة العملاقة التي تخرج ثروات الأرض وتوزعها بطول العالم وعرضه، إلا قلة منهم اندمجوا مع أحفاد المستعمرين القدامى.

فنزويلا وفترة الحرب الباردة

إضافة إلى استمرار السكان الأصليين في الحياة على هامش الدولة والمجتمع المدني دون أي حقوق، تقلبت فنزويلا على نار التدخل الخارجي مثلها مثل غيرها من دول وسط وجنوب أميركا اللاتينية لتصل في النهاية إلى أن تكون إحدى الدول المهمة في شبكة المصالح الأجنبية تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية، حيث تعتبر أميركا أن اليابسة التي تقع إلى الجنوب منها، من أول المكسيك على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة نفسها وحتى أقصى نقطة في طرف القارة، فناء خلفيا لها، لا يجب ولا يجوز لأحد أن يقترب منه، فتحكمت في مصير تلك البلاد تارة من خلال الشركات السرطانية التي كانت تتمدد كالأفعى تحت شمس تلك البلاد الحارقة، مثل "شركة الفواكه المتحدة" التي حولت المنطقة إلى جمهوريات مهمتها زراعة الموز والبن وغيره من المحاصيل المطلوبة لأبناء الشمال الأميركي والأوروبي المرفهين مقابل أسعار زهيدة، وتمد سيطرتها على السكان من خلال حكام عسكريين مهمتهم الدفاع عن مصالح تلك الشركات مقابل مميزات خاصة لهؤلاء العسكريين لا تعدو أن تكون بعضا من فتات موائد تلك الشركات.

عندما بدأ الوعي يتفتح في تلك البلاد على القدرات الخاصة التي تتمتع بها أوطانهم بدأت تسود سياسة الانقلابات العسكرية، التي يتم التخطيط لها في واشنطن، وتنفذها المخابرات المركزية تحت شعار مكافحة "الشيوعية"، فتحولت تلك الأرض، لفترة طويلة، إلى ساحة للمعارك بين الغرب الأميركي والشرق السوفياتي.

ثروة النفط وحكومات الفساد


تقاسم الحزبان المحافظان الديمقراطي الاجتماعي والاجتماعي المسيحي الحكم خلال أربعة عقود وعوائد البترول وتخزينها في البنوك الخارجية وبقي الشعب يعيش في حالة الفقر المدقع

بعد ظهور البترول في مناطق شمال شرق فنزويلا قام النظام الديمقراطي الذي يعتمد على حزبين رئيسيين حكما البلاد بالتبادل في ما بينهما منذ العام 1952، ولكن هذين الحزبين عملا خلال ما يزيد عن أربعين عاما على إبقاء حالة من القمع والفساد القائمة قبل وصول الديمقراطية، وتقاسم الحزبان الحكم ومعه عوائد البترول وتخزينها في البنوك الأميركية والسويسرية، في حين بقي الشعب في معظمه يعيش في حالة الفقر المدقع، فقد ظلت فنزويلا رغم عوائد البترول الضخمة تفتقر إلى الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وطرق ومياه عذبة وكهرباء، رغم أنها تعتبر ثالث دولة منتجة للبترول ورابع دولة مصدرة له، حتى آخر حكومة تقليدية قبل انتخابات العام 1998 التي جاءت بالكولونيل هوغو شافيز لتمثل 80% من مجموع السكان البالغ عددهم 24 مليون نسمة.

شافيز ومحاولة الانقلاب

أول ظهور للرئيس هوغو شافيز في الحياة السياسية كان في العام 1992 عندما قاد مع عدد من ضباط القوات الخاصة انقلابا عسكريا ضد حكومة الرئيس كارلوس أندريه بيريز، إلا أن هذا الانقلاب فشل بعد مواجهة مع الحرس الرئاسي أسفرت عن مصرع 17 وجرح 50 من الجنود المشاركين في الانقلاب، مما دفع الكولونيل شافيز إلى طلب الاستسلام من خلال ميكروفات الإذاعة الوطنية في مداخلة استمرت أقل من دقيقتين، طالب خلالها الجماهير بالتوقف عن دعم انقلابه والعمل من خلال القنوات الديمقراطية على تغيير الأوضاع بشكل شرعي، لكن هذه المداخلة الإذاعية القصيرة كانت كافية لأن يصبح بعدها شافيز شخصية شهيرة في البلاد تمثل حلم التغيير للسواد الأعظم من الشعب الفنزويلي، بل وتعدت الحدود إلى العديد من دول أميركا اللاتينية الأخرى.

تمت بعد ذلك محاكمة هوغو شافيز أمام محكمة عسكرية، وصدر ضده حكم بالسجن، ثم تم الإفراج عنه بعد عامين فقط بعد قبوله شروطا معينة، منها الاستقالة من القوات المسلحة، وممارسة السياسة من خلال القنوات الديمقراطية القائمة في البلاد.

شافيز والعمل السياسي


قوبل نجاح هوغو شافيز في الانتخابات الرئاسية بارتياح من الطبقة الفقيرة المسحوقة التي تمثل السواد الأعظم للشعب الفنزويلي وهي التي عاشت سنوات طويلة تشاهد ثروات البلاد تخرج من أرضها كما ترى في إصلاحات شافيز منقذا لها

بعد الإفراج عنه مباشرة، قام هوغو شافيز بتشكيل "حركة الجمهورية الخامسة" التي تقوم على إحياء مبادئ سيمون دي بوليفار، وتجنب الكشف عن مبادئ تلك الحركة والإعلان عن انتمائها السياسي يمينا أو يسارا تجنبا للحكم المسبق عليه سياسيا، إلى أن استطاعت الحركة أن تدخل انتخابات 6 ديسمبر/ كانون الأول 1998 وتفوز بنسبة 56.2% من مجموع الأصوات في ظل تذمر عام من الجماهير ضد الأحزاب التقليدية.

إلا أنه خلال خطاب تسلمه المنصب كأصغر رئيس لفنزويلا من خارج الحزبين التقليديين في الثاني من فبراير/ شباط 1999، أعلن عن إجراء استفتاء عام لاختيار جمعية وطنية تضع دستورا جديدا يقطع الطريق على السياسيين التقليديين للعودة إلى الحكم، وتم الاستفتاء في 25 أبريل/ نيسان من العام نفسه، وحصل على دعم جماهيري لم تعرفه البلاد من قبل، حيث كانت الموافقة بنسبة 87.95% من مجموع أصوات الناخبين، ووافقت نسبة 81.62% على منح الرئيس هوغو شافيز تفويضا استثنائيا لإصدار قرارات جمهورية لها قوة القانون دون الرجوع إلى الجمعية الوطنية.

في 25 يوليو/ تموز 1999 تم إجراء انتخابات لتشكيل "الجمعية الوطنية المؤسسة" المكلفة بوضع الدستور الجديد أسفرت عن فوز ساحق لأنصار الرئيس هوغو شافيز الذين فازوا بـ120 مقعدا من مجموع 128، وعاد الرئيس إلى عقد استفتاء جديد على الدستور بعد إجراء التعديلات التي اقترحها، ووافق الناخبون على تلك التعديلات بنسبة 71%، ليتم بعدها إجراء انتخابات رئاسية جديدة بعد تعديل فترة الرئاسة لتكون سبع سنوات بدلا من خمس كان ينص عليها الدستور القديم.

واجه هوغو شافيز خلال انتخابات الرئاسة زميله الضابط السابق "فرانثيسكو إرياس"، أحد زملائه في انقلاب العام 1992 الذي انشق على حركة الجمهورية الخامسة متهما شافيز بأنه يسعى إلى إقامة "دكتاتورية دستورية"، في حين فشلت المعارضة الحزبية التقليدية في الاتفاق على تقديم مرشح يمكنه إثبات وجودها خلال تلك الانتخابات، فكانت النتيجة أن عاد هوغو شافيز إلى الفوز مجددا في الانتخابات الرئاسية بنسبة 59%، في حين حصل منافسه على 37% من مجموع الأصوات.

قوبل نجاح هوغو شافيز بارتياح داخلي، خاصة من الطبقة الفقيرة المسحوقة التي تمثل السواد الأعظم للشعب الفنزويلي، التي عاشت لسنوات طويلة تشاهد ثروات البلاد تخرج من أرضها دون أن تحصل على مقابل حقيقي لها.

علاقات فنزويلا بالولايات المتحدة

شعارات تقلق أميركا
كانت شعارات هوغو شافيز الانتخابية وتحركاته السياسية الخارجية مقلقة لصناع السياسة الأميركية في واشنطن، خاصة بعد أن قضت إصلاحاته الدستورية على أي أمل لعودة الأحزاب التقليدية إلى الحكم، فقد كان يرفع شعارات "مشبوهة" من وجهة النظر الأميركية، مثل: العدل والمساواة وتوزيع الثروة، وهي شعارات تتعارض مع مصالح الشركات الأميركية الكبرى التي ترى في فنزويلا مجرد "آبار بترولية" قريبة من سوق الاستهلاك الأميركي المتعطش لها، حيث يمثل البترول الفنزويلي حوالي 13% من مجموع واردات الولايات المتحدة من البترول، إضافة إلى أنه المصدر البديل والمأمون في حالة حدوث أي قلاقل بمنطقة الشرق الأوسط التي تغطي جزءا مهما من واردات البترول الأميركية.

العلاقات مع كوبا
لم يمر وقت طويل حتى تحقق جزء كبير من تخوف صناع السياسة الخارجية الأميركية، فقد كانت أول زيارة لهوغو شافيز للخارج إلى كوبا، ونتج عن هذه الزيارة توقيع عدد من الاتفاقيات التي تقوم فنزويلا بمقتضاها بتوفير البترول لنظام فيدل كاسترو بأسعار وصفها بعض المراقبين بأنها "مجانية"، مقابل خبراء كوبيين لمساعدة حكومة هوغو شافيز على تنفيذ برامجها الاجتماعية، وبشكل خاص الجانب الصحي والتعليمي منها، لأن كوبا تمتلك، حسب رأي خبراء الأمم المتحدة، أفضل نظام صحي في العالم، ولديها فائض كبير من الأطباء والمعلمين.


undefinedالتحالف مع المكسيك وكولومبيا

تزامن هذا الاتفاق الذي يكسر الحصار الأميركي على نظام كاسترو مع تحركات أخرى للرئيس هوغو شافيز رأت فيها دوائر صناعة القرار في واشنطن خطوات عملية نحو تشكيل تكتل سياسي واقتصادي جديد في المنطقة، خاصة بعد قمة كراكاس بين الرئيس الفنزويلي مع زميليه المكسيكي "فيشنتي فوكس" والكولومبي وقتها "أندريس باسترانا" التي انعقدت خلال الأسبوع الأول من أبريل/ نيسان 2001.

أهمية ذلك اللقاء الثلاثي أنه كان محاولة جديدة لدفع مشروع قديم بين الدول الثلاث بدأ عام 1989 وتم الإعلان عنه في مدينة بويرتو وارداث لتشكيل منطقة جمركية حرة، باتجاه خلق تجمع جديد يشكل قوة إقليمية في حد ذاتها نظرا لتمتع الدول الثلاث بوجود اقتصادي كبير وبشكل خاص فنزويلا والمكسيك كمنتجين للبترول.

النتائج الأولية لاجتماع الزعماء الثلاثة بدت أكثر إقلاقا للولايات المتحدة وسياستها في المنطقة، خاصة بعد حدوث تقارب كبير في وجهات النظر على العديد من الأساسيات التي يطمحون إلى تنفيذها منها: تشجيع اللقاءات وقنوات الاتصال على مختلف المستويات، مما يسمح بالحفاظ على استمرارية الحوار وديمومته.

تم الاتفاق على أن يجتمع رؤساء الدول الثلاث بصفة دورية كل عامين بينما يجتمع وزراء الخارجية مرة كل عام، ونواب وزراء الخارجية مرة كل ستة أشهر، وهي فترات روعي فيها أن تشكل استمرارية اللقاء والمشاورات حول كل مستجد في السياسة الدولية يمكن أن يؤثر في تقاربهم. وتكثيف المشاورات وتبنّي مواقف مشتركة، عند الضرورة، في الموضوعات الملائمة والمتقاربة المواقف منها، وذلك في إطار المنتديات والمحافل الدولية والآليات المتعددة الأطراف، مع دعم الجهود البينية بغية تحقيق التزامات التعمق في تنفيذ معاهدة التجارة الحرة بين أعضاء مجموعة الثلاثة، بهدف توسيع نطاق مزاياها، وتشجيع انضمام خدمات التمويل إلى عملية ضخ الأموال وزيادة رؤوس الأموال المستثمرة في القطاع الإنتاجي في الدول الثلاث. وكذلك دعوة قطاعات رجال الأعمال إلى عقد لقاءات ثلاثية دورية والإبلاغ عن نتائجها في الاجتماعات الرئاسية، حتى يمكن رسم سياسات اقتصادية تتكامل فيها جهود رجال الأعمال في الدول الثلاث لخدمة القطاعات التي تحتاجها قبل غيرها، وحتى لا تتناقض الخطط فتشكل عاملا مشتتا للجهود.

سياسة شافيز في أميركا اللاتينية

undefinedردا على تحركات هوغو شافيز لتحسين علاقاته مع دول الجوار قامت الولايات المتحدة بالإعلان عن خطط عسكرية في إطار مساعدة الحكومة الكولومبية في حربها الطويلة ضد الجماعات المتمردة، ولكن خطط الولايات المتحدة قوبلت بانتقادات شديدة من جانب عدد من دول المنطقة دعمت موقف هوغو شافيز من السياسة الأميركية في المنطقة، وبشكل خاص البرازيل والأرجنتين والأوروغواي التي وجدت أن تلك الخطط تمثل خطرا يتهدد حدودها المشتركة مع كولومبيا أو القريبة منها.

بل إن الرئيس البرازيلي السابق أنريكي كاردوسو وقف إلى جانب هوغو شافيز بإعلانه أن أي خطط عسكرية أميركية تهدف حقيقة إلى إنهاء الحرب الأهلية الدائرة في كولومبيا لا يجب أن تتم بمعزل عن التعاون مع دول المنطقة بما فيها فنزويلا التي تربطها حدود مشتركة طويلة مع كولومبيا، حتى لا تخلق مزيدا من العداء ضد واشنطن، ودفع هذا الموقف الولايات المتحدة إلى التراجع، مما اعتبره بعض المراقبين انتصارا جديدا حققه الرئيس هوغو شافيز في مسيرته السياسية بمنطقة أميركا اللاتينية.


قلقت واشنطن عندما قام شافيز بزيارة بغداد وطرابلس، والتقى بصدام حسين والقذافي لضمان اتفاق على سياسات منظمة أوبك وقد عادت أسعار البترول إلى الارتفاع

شافيز ومنظمة الأوبك
في علاقاته خارج منطقة أميركا اللاتينية سار الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز أيضا في اتجاه معاكس للسياسة الخارجية التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركية، وبشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط، وإن كانت هذه السياسة تنطلق من مصالح بلاده التي تأثرت بأزمة أسعار البترول خلال العام 2000 والتي وصل فيها سعر البرميل من النفط الخام إلى أقل من 12 دولارا وهددت خطط التنمية في العديد من الدول المصدرة للنفط بما فيها فنزويلا، كان تحرك الرئيس هوغو شافيز سريعا، باعتباره رئيس الدولة المقرر فيها عقد الاجتماع الدوري للمنظمة، للوصول إلى اتفاق بين الدول المصدرة في منظمة "الأوبك"، حول إجراءات معينة تضمن حدا أدنى للأسعار مثار قلق في واشنطن، وأيضا أقلق هذا التحرك الدول الأوروبية المستفيدة من انخفاض تلك الأسعار.


undefinedوبدأت واشنطن تقلق أكثر عندما قام شافيز بزيارة كل من بغداد وطرابلس، والتقى بصدام حسين والقذافي لضمان اتفاق أوسع على تلك الإجراءات التي انتهت في النهاية إلى وضعها حيز التنفيذ، فعادت أسعار البترول إلى الارتفاع. وهو ما اعتبرته واشنطن خروجا على خططها السياسية في منطقة الشرق الأوسط، لأن زيارة بغداد في هذا الوقت بالذات كان يعتبر دعما لموقف العراق من قرارات الحصار المفروض عليه بعد عملية تحرير الكويت من جيش صدام حسين.

ثم وجدت الولايات المتحدة أن في انتخاب الوزير الفنزويلي «علي رودريغز» أمينا عاما لمنظمة الدول المصدرة للنفط "الأوبك" نجاحا آخر يضاف إلى سلسلة النجاحات السياسية الدولية التي حققها هوغو شافيز منذ وصوله للحكم، وقررت واشنطن ألا يمر هذا الأمر دون اتخاذ إجراءات حاسمة ضده، حتى لا يتمادى في السير في طريق يبدو خطرا على السياسة الخارجية الأميركية في أميركا اللاتينية ومنطقة الشرق الأوسط.

ومن هنا بدأت العام الماضي أول حملة ضده في الإعلام الغربي الموالي للمصالح الأميركية، وركزت تلك الحملة في حينها على علاقة فنزويلا ببعض الفصائل المتمردة في جارتها كولومبيا، ولكنها فشلت في تقديم أدلة مادية كافية تثبت هذه العلاقة، حتى الحكومة الكولومبية نفسها نفت أن تكون لديها معلومات حول أي دعم فنزويلي للجماعات المتمردة.

شافيز والموقف من الإرهاب
ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول في نيويورك وواشنطن لتجد في هوغو شافيز شخصا غير مرغوب فيه، لأنه عارض منذ اللحظات الأولى أي عمل عسكري أميركي «انتقامي» ضد أي دولة في إطار ما تسميه الولايات المتحدة "التحالف الدولي ضد الإرهاب"، وطلب هوغو شافيز من الرئيس بوش أن يتريث قبل إصدار حكم متسرع يمكن أن تكون نتائجه خطرة ومدمرة على السلام الدولي، وأبدى معارضته لأي عمل عسكري إلا بعد التأكد من أن هناك علاقة مؤكدة وواضحة بين ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول والدولة المراد عقابها، وأن يتم ذلك في إطار الأمم المتحدة التي تعتبر المنظمة الدولية الوحيدة المقبولة في أي عمل دولي من هذا النوع، والمنوط بها العمل على حفظ حقوق جميع دول العالم دون استثناء.

كل تلك المواقف التي اتخذها الرئيس الفنزويلي جعلته "عدوا" لصناع السياسة في واشنطن الذين اعتقدوا أن نفوذ الاتحاد السوفياتي في أميركا اللاتينية انتهى بسقوط جدار برلين، وأنه لم يعد هناك أحد يمكنه أن يعارض سياسة واشنطن في تلك القارة بعد إسقاط النظام السانديني «المناهض» لواشنطن في نيكاراغوا، وتدجين العديد من الدول الأخرى من خلال أنظمة "ديمقراطية" موالية لا تستطيع أن تقف على قدميها دون مساعدة اقتصادية مباشرة من واشنطن، أو غير مباشرة عبر المؤسسات المالية التي تخضع لنفوذها، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

الضغط الأميركي على شافيز
تبعت تحركات واشنطن السياسية تحركات من جانب رؤوس الأموال الأجنبية التي بدأت في الانسحاب من أسواق الاستثمار في فنزويلا بدعوى عدم الاستقرار السياسي في ظل حكم الرئيس هوغو شافيز، مما نتج عنه تعويم العملة الوطنية حتى لا يتآكل احتياطي النقد الأجنبي، هذه التحركات دفعت بالوضع في فنزويلا إلى التأزم، خاصة بعد أن استطاعت طبقة رجال الأعمال في إقناع زعماء النقابات العمالية القدامى الذي فقدوا امتيازاتهم بسقوط الأحزاب التقليدية لدعم انقلاب عسكري ضد الرئيس هوغو شافيز.

فشل الإنقلاب العسكري
وقع الانقلاب عشية الثاني عشر من أبريل/ نبسان 2002، وتم القبض على الرئيس هوغو شافيز وترحيله إلى إحدى قواعد الجيش خارج العاصمة، وتعيين رئيس كونفدرالية رجال الأعمال "بيدرو كارمونا" رئيسا مؤقتا للبلاد، إلى حين إجراء انتخابات عامة تحاول أن تقضي على كل الإصلاحات التي أدخلها هوغو شافيز على الدستور والقوانين الوطنية لتطبيق برنامجه الانتخابي تحت شعار الجمهورية الخامسة، لكن الانقلاب لم يستمر أكثر من 47 ساعة بسبب قيام أنصار الرئيس بمظاهرات حاصرت الانقلابيين في القصر الرئاسي في كراكاس، ورفض قطاعات كبيرة من ضباط الجيش التدخل الخارجي السافر من جانب الولايات المتحدة التي ثبت أن عددا من ضباط مخابراتها المركزية كانوا مع قادة الانقلاب داخل القصر الرئاسي، بل إن بعض أعضاء السفارة الأميركية ظهروا في الصور خلال أداء الرئيس المؤقت لليمين الدستورية.

لم تنته متاعب الرئيس هوغو شافيز بفشل الانقلاب ضده، وعودته إلى كرسي الرئاسة، بل استمرت بعد ذلك من خلال الضغوط الخارجية التي مارسها عدد من زعماء الدول الأوروبية للإفراج عن المعتقلين ووقف أي تحقيقات حول مشاركة الولايات المتحدة في التخطيط والتنفيذ في هذا الانقلاب، مقابل التوسط لدى الولايات المتحدة لتخفف من اتصالاتها بالمعارضة الفنزويلية، وفي خطوة اعتبرها المراقبون إشارة من الرئيس هوغو شافيز للتعامل العملي مع الواقع السياسي المفروض على بلاده من الخارج، تم بالفعل الإفراج عن جميع الضباط المشاركين في الانقلاب، وأيضا تم الإفراج عن بيدرو كارمونا بعد فترة قصيرة من الاعتقال المنزلي.


تقوم واشنطن بدعم المعارضة الفنزويلية لإقصاء شافيز نظرا لحاجة أميركا إلى البترول الفنزويلي الذي يمكنه أن يكون بديلا لبترول الشرق الأوسط في حال التورط في حرب طويلة في العراق

إضراب المعارضة الفنزويلية المستمر
لكن إصرار الرئيس هوغو شافيز على الاستمرار في تنفيذ برنامجه الانتخابي الذي يحظى بقبول كبير من جانب الغالبية العظمى من الشعب الفنزويلي التي ترى فيه المخلص لها من الطبقة السياسية القديمة التي أغرقت البلاد في الفساد طوال ما يزيد عن أربعين عاما، قررت المعارضة التي يقوم بها رجال الأعمال بالتحالف مع بعض القيادات النقابية المنتمية إلى الأحزاب القديمة بعد فشل الانقلاب العسكري التحرك لخلق مناخ عام يشبه ذلك المناخ الذي خلقته المخابرات الأميركية في التشيلي خلال السنوات الأولى من السبعينيات الذي انتهى بالانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال بينوشيه تحت «إشراف» مباشر من وزير الخارجية الأميركي وقتها «هنري كيسنجر» في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 1973، وراح ضحيته الرئيس الشرعي للبلاد لفادور الليندي وغرقت بعدها تشيلي في حمام من الدم.

تحولت مظاهرات المعارضة إلى شبه يومية في شوارع العاصمة كراكاس، وجندت الكثير من وسائل الإعلام الخاصة من صحف وإذاعة وتلفزيون نفسها لشن حملة داخلية لتشويه صورة حكومة الرئيس هوغو شافيز مطالبة باستقالته، رغم أن دستور البلاد، سواء الدستور القديم الذي تريد تلك المعارضة العودة إليه أو الدستور الجديد تضع مبادئ يتحتم على المعارضة اتباعها وكلها تؤيد استمرار الرئيس في منصبه حتى العام 2007.

ثم تطور عمل المعارضة من التظاهر إلى إعلان الإضراب العام الذي شمل جميع مظاهر الحياة وامتد إلى قطاع البترول الحيوي الذي تسيطر عليه قيادات تنتمي إلى الأحزاب القديمة سواء على مستوى الإدارة أو النقابات العمالية العاملة في هذا القطاع، واشتدت الأزمة بين هذا القطاع والحكومة الشرعية للبلاد بعد تعيين الأمين العام السابق لمنظمة الأوبك "علي رودريغز" رئيسا للشركة، واعتبرت القيادة القديمة هذا التعيين تدخلا في شؤون إدارتها، على الرغم من أن هذا التعيين من صميم عمل الحكومة الشرعية لأن شركة بترول فنزويلا قطاع عام مملوك للدولة بالكامل، ومن حق الحكومة تعيين من تراه مناسبا لإدارتها، مما اضطر الحكومة الفنزويلية إلى إصدار أوامر للجيش للاستيلاء على بعض ناقلات النفط المضربة وتسييرها، والقبض على عمالها.

استمرار الإضراب ودخوله الأسبوع الثالث دفع الرئيس هوغو شافيز إلى طلب مساعدة دول الأوبك في تقديم معونة فنية حتى لا يتوقف ضخ النفط من بلاده، ومساعدة منظمة الأمم الإيبروأميركية للتوسط حتى يمكن حل الأزمة السياسية مع المعارضة في إطار قبول جميع الأطراف لأحكام الدستور الوطني.

إلا أن وساطة السكرتير العام لمنظمة الأمم الإيبروأميركية "ثيسار جافيريا" لم تسفر حتى الآن عن أي تقدم، لأن المعارضة ترفض الاحتكام إلى الدستور والقانون الوطني وتصر على "إبعاد" الرئيس هوغو شافيز عن السلطة، رغم شرعية انتخابه. ويفسر المراقبون موقف المعارضة بعدم التراجع عن مطلبها هذا بأنه مطلب واشنطن قبل أن يكون مطلب المعارضة الفنزويلية نفسها، خاصة أنه في الوقت الذي كانت تجري فيه المفاوضات بين الحكومة والمعارضة في كراكاس كان مسؤولون في الخارجية الأميركية يستقبلون مندوبين عن المعارضة ويملون عليهم التعليمات التي يجب اتباعها لحل الأزمة.

بل إن الرئيس جورج بوش نزل إلى حلبة الصراع بين الرئيس الفنزويلي والمعارضة بتصريحات طالب فيها بإجراء انتخابات مبكرة كحل للأزمة السياسية في فنزويلا، وهو مطلب غير مقبول، لأنه يعتبر أولا تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة، وثانيا لأن الدستور الوطني الفنزويلي يتضمن خطوات يجب اتخاذها في حالة حدوث أزمة مثل هذه، وليس من بين تلك الخطوات ما يطالب به جورج بوش، لذلك لم يستحق هذا التدخل في الشؤون الداخلية لفنزويلا من جانب الولايات المتحدة أكثر من تعليق نائب الرئيس الفنزويلي الذي اتهم الولايات المتحدة بالخروج على الشرعية الديمقراطية، لأنها "تطالب أي معارضة في دول أميركا اللاتينية بالخروج في مظاهرات لتغيير الحكومة المنتخبة ديمقراطيا لمجرد أنها تعتقد في عدم شرعية حكوماتها وتخطي جميع الوسائل التي يتيحها الدستور في مثل هذه الحالات، وهو ما يؤدي في النهاية إلى الفوضى".

واتهم بعض المراقبين موقف الأمين العام لمنظمة الأمم الإيبروأميركية خلال وساطته بين الحكومة والمعارضة في فنزويلا بأنه موال لسياسة واشنطن تجاه الوضع المتفجر هناك، لأنه يضغط على ممثلي هوغو شافيز بقبول طلب المعارضة وإجراء انتخابات مبكرة تكون نتيجتها حاسمة في وضع حد للإضراب العام، على الرغم من عدم شرعية تلك المطالب، في الوقت نفسه لم يطلب من المعارضة أي تنازل.

ويفسر المراقبون دعم واشنطن لمطالب المعارضة الفنزويلية بأنه تحرك مباشر لإقصاء الرئيس هوغو شافيز عن رئاسة فنزويلا تحت إلحاح حاجتها إلى البترول الفنزويلي الذي يمكنه أن يكون بديلا لبترول الشرق الأوسط في حال التورط في حرب طويلة في العراق، خاصة أن معظم المحللين السياسيين والعسكريين أبدوا شكوكا حول إمكانية القضاء على نظام صدام حسين الذي تتخذه واشنطن ذريعة لإعادة تخطيط منطقة الشرق الأوسط بالكامل.

ملامح مستقبل فنزويلا في ظل الأزمة الراهنة

خلال الفوضى الشاملة التي تعيشها فنزويلا بعد أن دخل الإضراب العام أسبوعه الرابع هناك مخاوف من حرب أهلية شاملة، لأن المعارضة المطالبة باستقالة الرئيس هوغو شافيز لا تمثل حقيقة معظم الشعب الفنزويلي كما يعتقد البعض، بل هناك مؤيدون له وهم يمثلون قاعدة عريضة انضم إليهم مؤخرا صغار رجال الأعمال والتجار الذين وجدوا في مطالب المعارضة عودة إلى زمن الفساد الحزبي الذي قضت عليه "حركة الجمهورية الخامسة"، في حين يستبعد المراقبون حدوث انقلاب عسكري نظرا لرفض قادة الجيش وصغار ضباطه للتدخل الأميركي، وهو ما كان واضحا خلال انقلاب أبريل/ نيسان الماضي الذي لعب فيه صغار الضباط دورا معاكسا بإفراجهم عن الرئيس هوغو شافيز وإعادته إلى قصر الرئاسة، لأن مهمتهم الوطنية تنحصر في الدفاع عن الدستور، وفي رأيهم أن الحكومة الحالية حكومة شرعية.
_______________
* كاتب وباحث مصري مقيم في إسبانيا

المصدر : غير معروف