الإسلاميون وأسباب الحضور الشعبي المتقدم


undefined

سعد الدين العثماني

تعددت طيلة عقدين من الزمان التوقعات بأفول نجم التيار الإسلامي من قبل خصومه ومن قبل عدد من الباحثين والمتتبعين.

التنبؤ بالأفول والطبيعة المتجددة
العوامل المفسرة للظاهرة
وبعد

التنبؤ بالأفول والطبيعة المتجددة

"
تعلق بعض الباحثين بالفقر والتهميش الاجتماعي لتفسير الظاهرة، لكن ذلك التفسير لا ينسجم مع سيل النجاحات الانتخابية للإسلاميين في مناطق مختلفة، وفي مقدمتها دول الخليج

"

فقد كتب الكاتب المصري المعروف محمد أحمد خلف الله منذ ما يقرب من 20 سنة كتابه "الصحوة الإسلامية في مصر" مؤكدا أن "المستقبل ليس في صالح الصحوة (الإسلامية)"، وأن "المستقبل سيكون على حساب الصحوة".

كما أصدر عالم السياسة الفرنسي أوليفيي لوروا سنة 1992 كتابه "فشل الإسلام السياسي". ثم جاء بعده أونطوان بسبوس وأصدر سنة 2000 كتابه "الإسلامية.. ثورة مجهضة". وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وانطلاق الحرب على الإرهاب، توقع الكثيرون أن تكون نهاية الحركات الإسلامية.

لكن التطورات أثبتت بعد ذلك عدم صحة تلك التوقعات، وأصبح تزايد شعبية الإسلاميين اليوم أمرا واقعيا ومتفقا عليه، وأثبتته الاستشارات الانتخابية في العديد من الدول، والراجح أنها ستميز الانتخابات القادمة في أي بلد عربي أو إسلامي في المدى المنظور، كلما تميزت تلك الانتخابات بحد أدنى من الشفافية والنزاهة.

هذا ما أثبتته المعطيات الانتخابية في الجزائر وباكستان والأردن وتركيا والمغرب والبحرين والعراق ومصر وغيرها. وهو ما أكدته النتائج غير المنتظرة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة.

صحيح أن الإسلاميين لا يحملون دائما نفس الفكر، ولا يتبنون نفس المنهج، لكنهم في مختلف الدول التي سمح لهم فيها بخوض الانتخابات يحققون نجاحات قد تكون نسبية وقد تكون كبيرة، لكنها نجاحات لا يمكن إنكارها، بينما تخفق اتجاهات هيئات سياسية أخرى سبقتهم في الغالب إلى الميدان سنوات أو عقودا.

أما لماذا هذا الفوز المطرد للحركات الإسلامية، وما هي العوامل المفسرة لازدياد شعبيتها؟ فلا شك أن الجواب ليس بسيطا. فإن العوامل متعددة ومتداخلة، لكن يمكن الوقوف عند أهمها من خلال سياقاتها الكبرى.

فالعوامل منها الكلي والجزئي، منها الأساسي والثانوي، ومن الضروري بذل جهد للتمييز بين الصنفين.

لقد تعلق بعض الباحثين بالفقر والتهميش الاجتماعي لتفسير الظاهرة، واعتبروا الرخاء الاقتصادي طريقا لتجاوزها. لكن ذلك التفسير لا ينسجم مع سيل النجاحات الانتخابية للإسلاميين في مناطق مختلفة، وفي مقدمتها المناطق التي تعرف بحبوحة اقتصادية واضحة مثل بعض دول الخليج.

هذا إضافة إلى كون الإحصائيات في الدول الأخرى لم تعرف أي تمركز للحركات الإسلامية في المدن أو الأحياء الفقيرة، بل تشمل تلك الغنية أيضا.

وقد قام الخبير الفرنسي فرانسوا بورغا في بعض كتبه وخصوصا كتابه "الإسلامية بالمغرب العربي: صوت الجنوب" (1988) وكتابه "الإسلامية في زمن القاعدة" (2005)، بانتقاد التفسيرات المتسرعة والمتأثرة بإرث الماضي الصراعي بين الإسلام وأوروبا.

ويؤكد أن الإسلاميين لا يمكن تصنيفهم على أنهم فقراء "منسيون من التنمية"، أو "أغنياء" منغمسون يبددون ثروة بترولية، ولا مجرد "بورجوازيين ورعين"، أو نساء يعشن الظلم والقهر. إنهم حاضرون ضمن هذه الفئات الاجتماعية وغيرها. وتتنوع أشكال تعبيرهم وتختلف، تنوع واختلاف تلك الانتماءات. ومن الواجب علميا النظر إليهم كما هم جميعا، دون أي استثناء.

هذه المقاربة لها من الإيجابيات أنها تخرجنا من النظرة التجزيئية والتفسيرات المبتسرة، إلى التفسيرات الأعمق والأشمل، التفسيرات التي تقترب من الظاهرة في شموليتها، عالميا، ولا تنغلق داخل تجارب محدودة، في ظرفيات خاصة.

العوامل المفسرة للظاهرة

وهكذا يمكنا أن نرصد أربعة عوامل أساسية، دون إغفال الإشارة إلى أن هناك عددا آخر من العوامل تتداخل معها، لكنها في رأينا أقل أهمية وتأثيرا.

نداء الهوية

"
استمرت قوى الهيمنة الغربية في عرقلة محاولات التحرر والنهوض ودعمت أنظمة قمعية وأطلقت حربها على "الإرهاب" مما أشعر المواطنين العرب بالظلم فاتجهوا في عمومهم إلى الدين وإلى الحركات الإسلامية

"

يبدو أن السياق الأساس للصعود يعود إلى الصحوة الدينية التي تبرز على فترات في مختلف الديانات منذ عقود من الزمان. وللإسلام فيها القسط الأكبر.

لقد مضى زمن ادعاءات أفول الأديان، لتشهد مختلف شعوب العالم صحوات إيمانية تعبر عن الرغبة في الرجوع إلى الهوية. وهناك دراسات وتحليلات كثيرة حول الظاهرة بالولايات المتحدة الأميركية وفي أميركا اللاتينية. لكن حالة العالم الإسلامي لها خصوصيات عديدة منها ما هو ثابت عميق، ومنها ما هو ظرفي موقت.

أما الثابت العميق فهو كون التاريخ الإسلامي يشهد دوما فترات منتظمة من إحياء الدين وتجديده. وتكاد لا تجد حركة إصلاحية، تروم مقاومة الضعف والتفرق والتخلف في الأمة إلا وتستعين بالإحياء الديني رافعة للإصلاح.

أما الظرفي المؤقت فهو مرتبط بظروف ما بعد الحرب الباردة. فالراجح أن ما تعرض له المسلمون من تطهير عرقي في البوسنة والهرسك وكوسوفو والشيشان وغيرهم من مسلمي البلدان التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي، واستمرار الانتهاكات الصهيونية للحقوق الفلسطينية والتهديدات المستمرة على المسجد الأقصى والاحتلال الأميركي للعراق، قد أدى إلى عودة الشعور بالهوية الإسلامية بقوة.

ويزيد من ذلك العديد من التصريحات والممارسات من قبل مسؤولين وفاعلين غربيين تعطي الطابع الديني للتوترات والصراعات الموجودة. مثل حديث الرئيس الأميركي بوش عن الحرب الصليبية، وتحذير بعض الغربيين من الإسلام. وآخر ذلك الرسوم الأخيرة المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم.

وليست ملاحظة الصحوة الإيمانية عالميا وإسلاميا هي السبب الوحيد الذي جعل المعطى الهوياتي معطى أساسيا في القضية، بل إن صعود الإسلاميين لا يرتبط فقط بالجانب السياسي، ولكن أيضا وأساسا بجوانب الحياة الاجتماعية والثقافية.

فالكتاب الديني والإسلامي هو الأكثر مبيعا. والإقبال على المساجد يزداد يوما بعد يوم. والبرامج الدينية في القنوات هي الأكثر مشاهدة من بين سيل البرامج الأخرى. و"الحجاب" ظاهرة تنتشر بقوة بين النساء من مختلف الفئات، حتى أن كثيرا من الدول ذهبت إلى التضييق عليهن. إنها صحوة اجتماعية ذات أبعاد مختلفة. وليس الحضور السياسي للإسلاميين إلا مظهرا ونتيجة لذلك الحضور في المجتمع.

ومن نتائج هذا العامل الأول أن الحركة الإسلامية الإصلاحية لم تكن صدى لدعوات أو توجهات خارجية أو جاءت استجابة لتحديات وظروف غريبة عن واقع بلدانها، بل نبعت من واقع شعوبها.

ولذلك فإنها لم تعان من حالة اغتراب اجتماعي أو سياسي أو ثقافي في محيطها. وقد أدركت منذ البداية أنها تتحرك في مجتمع يقوم على قاعدة فكرية هي نفسها القاعدة التي تؤمن بها شعوبها. وهذا ما جعلها أقرب إلى تلك الشعوب وإلى وجدانها.

مقاومة الهيمنة الاستعمارية
يشكل هذا العامل واحدا من أهم عوامل التعبئة التي تجعل الناس يقبلون على التيار الإسلامي. لقد خضع العالم الإسلامي لعقود طويلة للهيمنة الاستعمارية، وبعد التحرر من الاستعمار العسكري بقيت الهيمنة السياسية والاقتصادية تشكل عبئا ينوء تحته.

ودأب العديد من القوى الغربية على التدخل المباشر في بلدان العالم الإسلامي لتكريس حالات التفرقة والخلاف العنصري والطائفي، وافتعال مشاكل الحدود والنزاعات الإقليمية، وتم تشريد الشعب الفلسطيني واقتطاع فلسطين من جسم العالم الإسلامي، واستمر دعم العديد من القوى الغربية للكيان الصهيوني الذي قام طوال أكثر من نصف قرن بارتكاب مختلف أشكال المجازر والاعتداءات ضد الفلسطينيين وضد شعوب عربية أخرى.

واستمرت قوى الهيمنة الغربية في عرقلة مختلف محاولات التحرر والنهوض، ودعمت العديد من الأنظمة القمعية في بلدان العالم الإسلامي، وفي غيرها من بلدان العالم الثالث. وبعد إطلاق الولايات المتحدة حربها على "الإرهاب" ازدادت الاعتداءات في أفغانستان والعراق وغيرها.

إنه سيناريو يشعر المواطنين في بلداننا بالإهانة والقهر والظلم. فيتجهون في عمومهم إلى الدين وإلى الحركات الإسلامية كتعبير عن الرفض وتوق إلى الأمل في مستقبل تسوده العزة.

وبينت بعض الدراسات أن الانتهاكات المتواصلة لحقوق الإنسان العربي والمسلم، وحقوق الشعوب العربية والمسلمة والغضب الشعبي العارم إزاء السياسة الأميركية، لها علاقة مباشرة بالإقبال على الحركات الإسلامية.

كما أن موقف التيار الإسلامي من تلك السياسة ومناهضتها، ساهم في رصيده ومصداقيته لدى الرأي العام وأضر بعدد من الأحزاب السياسية التقليدية التي لم تبد اهتماما كبيرا بها.

الفاعلية الاجتماعية

"
لقد استفادت الحركة الإسلامية في الغالب من المشاكل التي تعيشها النخب السياسية والاجتماعية الأخرى، والتي تعتبر مسؤولة عما آلت إليه أوضاع بلداننا

"

فالحركات الإسلامية تملك فاعلية اجتماعية عالية تمكنها من اكتساب احترام الناس وثقتهم، فأبناؤها حاضرون مع عموم المواطنين، يشاركونهم الأفراح والأتراح، بتجرد ودون بحث عن مقابل.

ولا شك أن ذلك يمكنهم من تشكيل التوجهات السياسية والاجتماعية لشرائح واسعة من المجتمع. كما أن الغالبية الساحقة من قيادات وأطر وأعضاء الحركات الإسلامية فاعلون نشيطون في المجتمع قبل أن ينتقلوا إلى الحركة السياسية، وكثير منهم من طبقات شعبية فقيرة أو متوسطة.

ونجاح هذه الفاعلية الاجتماعية لا يعود إلى توفر الإسلاميين على إمكانات مادية هائلة، فذلك غير صحيح في أغلب الحالات. كما أن الأحزاب الحاكمة والأحزاب المنافسة تتوفر على إمكانات تفوق بكثير إمكانات الحركات الإسلامية.

لكن تلك الفاعلية ونجاحها في الواقع يعود أساسا إلى ما عرف عن أبناء الحركات الإسلامية عموما من نظافة في اليد، ونزاهة في المعاملات، ومحاربة للرشوة، وجدية في العمل مما أكسبهم ثقة الناس. ونظن أن هذا يرتبط بالعامل الأول الذي يعطي التربية الإيمانية والأخلاقية.

ولا يجعل ذلك أبناء الحركة الإسلامية بعيدين عن الخطأ والأعراف، لكن ذلك يدعم قيم الاستقامة والنزاهة، ويقوي قبول الناس لهم.

فشل التجارب السابقة
السبب الرابع وراء شعبية الحركات الإسلامية هو إفلاس البرنامج السياسي والاقتصادي للأنظمة المتعاقبة في العديد من دولنا وللأحزاب السياسية الأخرى.

لقد أدى تدبيرها للشأن العام إلى العديد من الاختلالات الاجتماعية، وعرف الكثير منها بالفساد وإيثار المصالح الخاصة على المصالح العامة وتفشي مشاكل مزمنة من فقر وأزمات اقتصادية طاحنة.. وهذا ما جعل المواطن العربي يشعر بحالة من الاستياء والإحباط، وجعله يتوجه للجماعات الإسلامية بحثا عن مخرج لهذا الانسداد في الأفق السياسي والاقتصادي.

ومع تناقص مصداقية النخب والأحزاب التقليدية لدى المواطنين، وعدم اقتناعهم بوجود فرص حقيقية في حياة ديمقراطية وعيش كريم، لجؤوا إلى التصويت العقابي ضد تلك النخب والأحزاب وعلقوا كل أملهم على هذا الوافد الجديد على العمل السياسي، والمتمثل في الحركة الإسلامية.

وقد كان هذا السبب واضحا في تحليل النتائج التي حصلت عليها حركة حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وكون ذلك رد فعل على فساد بعض من كانوا في السلطة من المنافسين.

لقد استفادت الحركة الإسلامية في الغالب من المشاكل التي تعيشها النخب السياسية والاجتماعية الأخرى، والتي تعتبر مسؤولة عما آلت إليه أوضاع بلداننا، وخصوصا أن الناس يعتبرون الحركة الإسلامية في الواقع تقوم بمهام معارضة الفساد والاختلالات.

وبعد

هذه هي إذن أهم عوامل الحضور الشعبي المتزايد للحركات الإسلامية، وهي لا تستوعب كل العوامل الكامنة وراء شعبيتها، لكنها في رأيي الأهم والأكثر تأثيرا.

ويظهر أن منها عوامل ذاتية مرتبطة بالهوية الإسلامية وطبيعتها، ومنها ما هو موضوعي يرتبط بطبيعة التطورات والتحولات التي تجري في الواقع الإنساني والسياسي والاقتصادي في العالم الإسلامي.

أما إتقان العمليات الانتخابية والبراعة فيها، وهو المعطى الذي برهنت عليه تلك الحركات في مختلف التجارب التي شاركت فيها، فليست إلا نتيجة لهذه المقدمات، التي جعلت الحركة الإسلامية اليوم تتميز بالحيوية والقدرة على التأقلم مع حاجات الواقع وإكراهاته.
_______________
أمين عام حزب العدالة والتنمية في المغرب

المصادر

1- الصحوة الإسلامية في مصر، محمد أحمد خلف الله، دراسة ضمن كتاب: الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، أغسطس/آب 1988، ص 98.
2- فشل الإسلام السياسي، أوليفيي لوروا.
3- الإسلامية.. ثورة مجهضة، أونطوان بسبوس.
4- الإسلامية بالمغرب العربي: صوت الجنوب، فرانسوا بورغا.
5- الإسلامية في زمن القاعدة، فرانسوا بورغا.

المصدر : الجزيرة