دور الخيار العسكري في تحقيق الدولة الحلم


undefined

شفيق شقير

تلازم الخيارين العسكرة والدولة الواحدة
انحناءات الخيار العسكري
تحديات الخيارالعسكري

ارتبط الخيار العسكري عضويا بالقضية الفلسطينية، وكانت كل التنظيمات الفلسطينية تنشأ وفقا لمعيارين رئيسيين، وفقا للأيديولوجيا التي تتبناها، ووفقا لشكل الدولة التي تحلم بها.

تلازم الخيارين العسكرة والدولة الواحدة

كانت عموم الفصائل الفلسطينية تتخذ من العمل العسكري سبيلا وحيدا  لتحرير كامل الأرض، ولم تكن "المفاوضات" إلا جزءا يسيرا يسير وراء الكواليس.

إلا أنه بعد خيبات الأمل التي امتدت من نكبة 1948 ونكسة 1967 مرورا باجتياح بيروت عام 1982 وإخراج المقاومة الفلسطينية منها، انتهى المطاف بمنظمة التحرير الفلسطينية العمود الفقري للمقاومة حينها بتوقيع اتفاق "أوسلو" وإضفاء الشرعية على خيار الدولتين: دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل.

وأصبح الخيار العسكري أقل أهمية لدى المنظمة وأصبحت "للمفاوضات" الأولوية على ما سواها بوصفها آلية إستراتيجية السلام التي تعهدت بها المنظمة، ولكن هذا لم يمنع عرفات من السماح لبروز قوة عسكرية تحت اسم "كتائب شهداء الأقصى" واعتمد عليها لخدمة "خط التفاوض".

فيما عظمت بعض الأطراف الأخرى من شأن الخيارالعسكري وأعطته الأولوية المطلقة، واعتبرته السبيل الوحيد للتحرير ولبناء الدولة الفلسطينية المنشودة، لأن الصراع من وجهة نظرها "صراع وجود وليس صراع حدود".

ويُعد التيار الإسلامي من أبرز القائلين بهذا القول، وهو ينظر إلى إسرائيل على أنها جزء من مشروع "استعماري غربي صهيوني" يهدف إلى تهجير الفلسطينيين من ديارهم وتمزيق وحدة العالم العربي.

ويعتقد بأن "الجهاد" بأنواعه وأشكاله المختلفة هو السبيل لتحرير التراب الفلسطيني، وأن مفاوضات السلام مع الإسرائيليين هي مضيعة للوقت ووسيلة للتفريط في الحقوق.

بل يعتقد هذا التيار بخطأ المسيرة السلمية التي سار فيها العرب بعد مؤتمر مدريد عام 1991، ودعا في أكثر من مناسبة لإلغاء اتفاق أوسلو والتراجع عن كل مقتضياته ولاسيما الاعتراف المتبادل بين المنظمة وإسرائيل بحق الوجود لكليهما، واعتبرت تغيير ميثاق المنظمة وحذف الجمل والعبارات الداعية إلى القضاء على دولة إسرائيل تفريطا يجب رفضه.

وتندرج حركة الجهاد الإسلامي وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) الفلسطينيتين تحت عموم المتمسكين بهذا الخيار، وتقفان على رأس العاملين على تحقيقه بكافة الوسائل المتاحة لهما.

المقاومة العسكرية خيار وأيديولوجيا

"
بفعل الخيبات أصبح الخيار العسكري أقل أهمية لدى المنظمة وأعطت "للمفاوضات" الأولوية على ما سواها ولكن هذا لم يمنع عرفات من الاعتماد على "كتائب شهداء الأقصى" لخدمة خط التفاوض

"

ومن الملاحظ أن الحركات الإسلامية الفلسطينية ولدت من رحم المقاومة وليس العكس، فحماس تأسست أوائل الانتفاضة الأولى، وبيانها الأول صدر بتاريخ 14 ديسمبر/ كانون الأول 1987.

وبرغم أنها قدمت نفسها كحركة تنتمي إلى حركة الإخوان المسلمين وأدبياتها، وهو ما أعطاها عمقا سياسيا واجتماعيا داخل المجتمع الفلسطيني، إلا أنه لا يمكن النفي أن بنيتها التنظيمية أعدت خصيصا لمواجهة الخيار العسكري.

وهذا الأمر ينطبق أيضا على حركة الجهاد الإسلامي التي كانت انطلاقتها بعملية حائط البراق ضد الجنود الإسرائيليين في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1986، والتي نفذها ذراعها العسكري آنذاك سرايا الجهاد الإسلامي.

ولا تملك الحركة جمهورا شعبيا كالذي تتمتع به حماس ربما لأنها أقل انصرافا للشؤون غير العسكرية، حيث أن نشاطها الأكبر يتعلق بالعمل العسكري وما يرتبط به ثقافيا وتربويا وما إلى ذلك، خاصة وأن حركة الجهاد تلقت أصداء "الثورة الإسلامية في إيران" ونسجت بنيتها

التنظيمية آنذاك على منوال الثورات، حتى أنها كانت توصف في بعض المراحل بـ "الثورة الإسلامية في فلسطين".

انحناءات الخيار العسكري

"
كثرت بيانات المثقفين الفلسطينيين والعرب وأغلبهم من الليبراليين وهي تدعو إلى إيقاف ما تطلق عليه بعض فصائل المقاومة العمليات الاستشهادية واعتبرتها عمليات انتحارية وأنها تستهدف الأبرياء

"

ساءت العلاقة بين السلطة الفلسطينية المنبثقةعن اتفاق أوسلو ومعارضيها، وتحديدا من التيار الإسلامي الذي تبنى الخيار العسكري الآنف الذكر، وبلغ الأمر في بعض المراحل أن وقعت اشتباكات بين السلطة وحماس ووضع الشيخ أحمد ياسين في الإقامة الجبرية (يونيو/حزيران 2002)، كما اتهمت حماس والجهاد السلطة الفلسطينية بالتعاون الأمني مع إسرائيل واغتيال بعض الناشطين المطاردين من الاحتلال، فضلا عن اعتقال وتعذيب بعضهم الآخر.

كما كثرت بيانات المثقفين الفلسطينيين والعرب -وأغلبهم من الليبراليين- التي تدعو إلى إيقاف ما تطلق عليه بعض فصائل المقاومة العمليات الاستشهادية واعتبرتها عمليات انتحارية، وأنها تستهدف الأبرياء، وشككت في قدرة العمل العسكري على التحرير أو تحقيق أي إنجاز.

فيما اقترح قادة حماس صيغة اتفاق يقضي بوقف عملياتها "الاستشهادية" في مقابل توقف إسرائيل عن استهداف المدنيين الفلسطينيين، ولكن إسرائيل رفضت العرض، لأنها كما يبدو لا تريد أن تكرر الاتفاق الذي عقدته مع المقاومة اللبنانية، والذي كان يقضي بعدم استهداف المدنيين من الطرفين مما أطلق يد حزب الله في استهداف الجيش الإسرائيلي وإجباره على الانسحاب من جنوب لبنان.

ولعبت الولايات المتحدة وأوروبا عموما دورا ضاغطا على حماس والجهاد بدءا من وضعهما على لوائح الإرهاب، انتهاء بمقاطعتهما دبلوماسيا، وإن حدثت بعض الاتصالات أحيانا للحصول على بعض التنازلات.

ولكن كان اعتمادهم بالدرجة الأولى على الدور المصري الذي لعب دورا بارزا لتقريب وجهات النظر بين السلطة وفصائل المقاومة من جهة، ولتأمين هدنة تشمل السلطة والفصائل مع إسرائيل من جهة أخرى.

 انتكاسة خط التفاوض
ولكن في الوقت الذي كانت تصب السلطة اهتمامها على ضبط المقاومة العسكرية لصالح إنجاح المفاوضات مع الإسرائيليين، كان مسار التفاوض يتعرض لانتكاسة كبرى، حيث باءت بالفشل المفاوضات التي رعاها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في كامب ديفد، وفشل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك في التوصل إلى اتفاق.

وانطلقت في أعقابها حملة إعلامية ودبلوماسية إسرائيلية أميركية تحمل عرفات أسباب الفشل، ومنذ تلك اللحظة بدأ خط المفاوضات في التراجع، وتتوج بإطلاق شارون في يونيو/حزيران 2002 عملية واسعة تضمن جزء منها محاصرة عرفات في مقر إقامته واعتباره ليس أهلا للتفاوض وأنه يؤيد الإرهابيين.

وتبنت واشنطن موقف شارون من دون تحفظ، وأصبح وصف عرفات عندها أنه مخادع ولا يصلح أن يكون شريكا في السلام.

ومع انتكاسة خط التفاوض عاد لينشط الخيار العسكري فلسطينيا، ولعل هذه الفترة هي أحد أهم الفترات التي شهدت تقاربا ملحوظا بين جميع الفصائل الفلسطينية والسلطة، وشهدت عمليات مشتركة بين كتائب شهداء الأقصى والجهاد وحماس.

وانعكاسا لأجواء التقارب هذه، استجابت فصائل المقاومة بما فيها حماس والجهاد يوم 29 يونيو/حزيران 2003 لدعوة رئيس الحكومة الفلسطينية محمود عباس لعقد هدنة مع إسرائيل.


ولكن إسرائيل قامت يوم 21 أغسطس/آب 2003 باغتيال القيادي في حماس إسماعيل أبو شنب، واعتبرت أن الهدنة هي من الطرف الفلسطيني

فقط، مما دفع حماس إلى التحلل من الهدنة وإعلان عودتها إلى العمليات العسكرية مرة أخرى.

تحديات الخيار العسكري

"
المقاومة الإسلامية -حماس والجهاد الإسلامي- هي في ظرف عسكري صعب بعد أن دمرت بناها التحتية بشكل كبير في الضفة، كما أنها مكشوفة أمنيا في غزة حيث أضفى الصمت الدولي والعربي شرعية واقعية على عمليات الاغتيال التي تقوم بها إسرائيل

"

أثبتت السنوات الأخيرة وخاصة منذ تولي شارون رئاسة الحكومة الإسرائيلية أن الخيار العسكري مكلف جدا للشعب الفلسطيني، حيث باشر ولايته بتوجه عسكري وأمني تجاه الفلسطينيين، وعاد بالواقع الإسرائيلي إلى زمن تأسيس الدولة، وعزز الشعور بالخطر على مستقبل الدولة لدى الإسرائيليين كي يتحملوا خسائر المعركة التي سيخوضونها.

وبالفعل أبدى الإسرائيليون تحملا للخسائر التي حملتها عمليات التفجير خلال ولاية شارون أكثر من ذي قبل.

وهذا أعطى شارون فرصة ليضرب رقما قياسيا في تنفيذ التوغلات والاعتداءات على المدن والقرى الفلسطينية، وأطلق عليها مسميات مختلفة مثل عملية السور الواقي وقوس قزح وأيام الندم، مما أفقد المقاومة العسكرية الفلسطينية العمل بكفاءة كما كان الحال في السابق وخاصة في الضفة الغربية.

وبالغ في سياسة القتل واغتيال قادة المقاومة -مثل الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وسواهما- لإضعافها وتجريدها من قدرتها على المبادرة وخاصة في قطاع غزة ومخيماته.

والهدنة بين المقاومة وإسرائيل التي توصل إليها عباس بعد استلامه للرئاسة، والتي تتخللها بعض الخروق من حين إلى آخر، من المشكوك فيه أن تستمر لأبعد من الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من غزة.

 لأن رئيس الوزراء الإسرائيلي طلب من الرئيس عباس أن يسهل انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة دون أن يضع الهدنة في أي إطار سياسي يعزز مسار التسوية، وذلك كي لا تقيده الهدنة أو تلزمه بما لا يريد أن يلزم نفسه به.

وتذرع شارون دائما بأن فصائل المقاومة تريد تدمير إسرائيل وأنه ما دامت هذه الفصائل موجودة فمن الصعب المضي في أي تسوية، ويلقى زعمه آذانا صاغية نسبيا في العالم.

المقاومة العسكرية والمستقبل
والحال هذه فإن فصائل المقاومة الفلسطينية تواجه وضعا صعبا حيث إن كتائب شهداء الأقصى فقدت الكثير من فاعليتها بمجيء الرئيس عباس وفق برنامجه الشهير "عدم عسكرة الانتفاضة" وإلى الآن لا يبدو أنه يرغب في استعمال سلاحها كعنصر مكمل للمفاوضات.

أما المقاومة الإسلامية -حماس والجهاد الإسلامي- فهي في ظرف عسكري صعب بعد أن دمرت بناها التحتية بشكل كبير في الضفة، كما أنها مكشوفة أمنيا في غزة حيث أضفى الصمت الدولي والعربي شرعية واقعية على عمليات الاغتيال التي تقوم بها إسرائيل.

هذا فضلا عن محاولات بعض الدول ومنها دول عربية قطع طرق التمويل المادي لحركات المقاومة، وشددت بعض دول الطوق (مصر والأردن) إجراءاتها لمنع وصول الأسلحة إلى الداخل الفلسطيني.

وهذا سيؤدي بفصائل المقاومة إلى إعادة النظر في إستراتيجيتها لمواجهة التحديات القادمة، فهي بحاجة إلى حماية الخيار العسكري بصيغة سياسية تجنبها ما أمكن المواجهة القاسية مع السلطة الفلسطينية في الداخل، ومع المجتمع الدولي في الخارج، وتضعها بنفس الوقت في موقع يسمح لأصدقائها أن يساعدوها.

وهناك أصوات غير واضحة نسبيا* تشير إلى أن حماس ستتوجه نحو ربط نشاطها العسكري بتحرير أرض 67 وإقامة دولة فلسطينية عليها، في مقابل هدنة مفتوحة نسبيا مع إسرائيل والاحتفاظ بحقها في عدم الاعتراف بالدولة العبرية.

وبغض النظر عن صحة هذه المزاعم، فإن هناك إدراكا متزايدا في الأروقة الفلسطينية -ومنها أروقة المقاومة نفسها- أن الموقف من شكل الدولة سيشكل فارقا جوهريا في التعامل مع المقاومة الفلسطينية بشقيها العسكري والسياسي، وتحديدا مع حركتي حماس والجهاد.

ولعل إعادة رسم الموقف من شكل الدولة الفلسطينية واستمرار العمل

العسكري، هو التحدي الأكبر في تاريخ فصائل المقاومة الفلسطينية.
________________
الجزيرة نت
المصدر: أرشيف الجزيرة نت.

* نسب تقرير المجموعة الدولية للأزمات، التعامل مع حماس الصادر في 26/1/2004 (صفحة 16) تصريحات لبعض القادة الفلسطينيين بما يوحي استعداد الحركة إنهاء النزاع العسكري في حال إقامة دولة فلسطينية على أرض عام 67، ولكن لا تزال التصريحات المعلنة "بوضوح" لقادة حماس لا تتفق مع ما أورده تقرير المجموعة.

المصدر : الجزيرة