حركة القوميين العرب.. مقدمة عامة


undefined

جورج شكري كتن

شهد القرن العشرين انتشاراً واسعاً للمفاهيم الديمقراطية في العالم، وهزيمة الأنظمة الفاشية والنازية الديكتاتورية، بعد حرب عالمية مدمرة كان من أهم نتائجها في المجال الديمقراطي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، كمثل أعلى مشترك للحريات الأساسية تعمل لبلوغه كافة الأمم.

undefinedكما شهد القرن المنصرم صعود الأنظمة الشيوعية الشمولية قبل وبعد الحرب العالمية الثانية التي ألغت الحريات وحقوق الإنسان في بلدانها بحجة العدالة الاجتماعية، مما عجل بانهيارها بعد حرب باردة لصالح انتشار الأفكار والممارسات الديمقراطية.

أما الدول العربية فتكاد تكون استثناءً من الحالة الديمقراطية، إذ ما زالت معظمها تدار من قبل أنظمة لا تسمح إلا بحريات محدودة في بلدانها، وهو أمر يتعارض مع التطورات العالمية التي لم يعد أي نظام يستطيع تجاهلها والادعاء بأنها مسألة داخلية لا يسمح فيها لتدخل خارجي. فحالياً يتعزز باستمرار مفهوم أن البشر والمواطنين في أي بلد هم جزء من مجتمع كوني إنساني أعلى من انتمائهم لبلدانهم، مما يستدعي سعي المجتمع الإنساني دولا ومنظمات وأفرادا لتحرير كل جزء فيه، من أنظمة يمكن أن تصبح خارجة على قانون دولي جديد يجعل بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية مواد فيه، يستوجب عدم العمل بها عقوبات محددة للأنظمة المخالفة.


ما يهمنا في بحثنا هذا هو حق تشكيل الأحزاب، ومدى تطبيقها المبادئ الديمقراطية في صفوفها وفي علاقتها مع الأحزاب الأخرى، وفي طبيعة النظم السياسية التي تسعى لتسود في بلدانها ومدى تطبيق هذه المبادئ عندما تصل هذه الأحزاب إلى السلطة

ما يهمنا في بحثنا هذا حق تشكيل الأحزاب ومدى تطبيقها المبادئ الديمقراطية في صفوفها وفي علاقتها مع الأحزاب الأخرى، وفي طبيعة النظم السياسية التي تسعى لتسود في بلدانها ومدى تطبيق هذه المبادئ عندما تصل هذه الأحزاب إلى السلطة.

فإذا نظرنا إلى واقع الأحزاب العربية الراهن نجد أن دولاً عربية عديدة تستمر في منع قيام الأحزاب كلياً حتى يصل التحريم في ليبيا لاعتبار أي عمل حزبي خيانة عقوبتها الإعدام (1).

كما أن دولاً تمارس حكم الحزب الواحد، وأخرى انتقلت لتعددية حزبية مقيدة أو شكلية تسمح لأحزاب وتمنع أخرى مع أفضلية للحزب الحاكم الذي يقيد التنافس الحزبي بقوانين وإجراءات تمنع التداول السلمي للسلطة.

إن استمرار انتقاص الحرية الحزبية في معظم الدول العربية ليس أمراً راهناً فقط بل هو امتداد لأوضاع وأفكار ونظريات قديمة تبنتها معظم الأنظمة العربية رغم عدم مواءمتها للعصر الحالي، ورغم أنها باتت معيقة للتطور وسداً أمام محاولات النهوض العربي، وسلاحاً بيد أنظمة فردية مطلقة وأحزاب تحتكر السلطة للدفاع عن مصالحها وامتيازاتها رغم تناقضها مع مصالح أكثرية المواطنين.

وإلى جانب ذلك فإن أحزاباً عربية لا تزال حتى الآن تتمسك بمفاهيم وممارسات تتناقض مع مفاهيم وممارسات الحزب الديمقراطي الحقيقي.

الحزب الديمقراطي

نشأ الحزب الديمقراطي كاتحاد حر لأشخاص يجتمعون على عقيدة سياسية قابلة للتطوير ويدعمون برنامجاً سياسياً مشتركاً، عندما بدأت جماهير الشعب في دخول الحياة السياسية (2)، وهو وسيلة وليس غاية، فهو مشروع لمرحلة سياسية معينة يخلي الطريق لشكل آخر من العمل الحزبي في مرحلة تالية مختلفة، مما يفقده أبديته التي تسود في الأحزاب الشمولية. أهم مبدأ فيه حق الاختلاف الذي يصهر تيارات متعددة، فتعدد التيارات والآراء في الحزب ليس سبباً لتفككه، بل عدم الاعتراف للأعضاء بحق الدفاع عن آرائهم داخل الحزب وخارجه بكل الوسائل المتاحة هو الذي يدفعهم للتخلي عنه بشكل فردي أو بانشقاق جماعي. تعايش وتحاور الآراء المختلفة داخل الحزب يؤدي لإغنائه بإبداعات أعضائه، حيث العضو يمتلك حرية تفكير وتعبير واسعة فهو ليس متلقياً بل هو مبدع.

موقف الحزب من أقلياته أهم ما يميزه كحزب ديمقراطي، ففي هذا الحزب تحترم الأكثرية الأقلية وحقها في التحول إلى أكثرية بنشر آرائها لتكوين رأي حزبي أو جماهيري مناقض لما هو سائد في الحزب، وتتجمع في تيارات أو تكتلات أو منابر تمتلك حرية التعبير والعمل. وهو حزب يجذر الديمقراطية في صفوفه كما يريدها أن تكون في المجتمع، فعليه أن يثبت أنها قابلة للتطبيق في الحزب أولاً، فهو مدرسة لتعليم الممارسات الديمقراطية للأعضاء وهو وسيلة لوصول الشعب إلى السلطة وليس الشعب وسيلة لوصول الحزب إلى السلطة، وهو ينشر الوعي ضد الاستبداد بكافة أشكاله ويرتبط بالشعب ويعمل في صفوفه ويحارب نزعة الاستعلاء والتفوق "الطليعي".

يعتمد الحزب الديمقراطي على الانتخاب وحده للوصول إلى أي مسؤولية أو قيادة وينبذ التعيين، مع الإقرار بحق العزل لأي قيادي دون انتظار نهاية ولايته، ويقنن التجديد للقيادات لأكثر من مرة واحدة، ويعتمد القيادة الجماعية ومبدأ التناوب والتداول للمسؤوليات، ويعترف بأخطائه وينتقدها بشكل دوري أمام المواطنين، كما يغلب العمل التطوعي وليس المحترف إلا في حالات محدودة، فانتشار التفرغ يخلق شريحة بيروقراطية فيه تعتمد لاستمرارها على القيادة التي تدفع لها رواتبها، مما يحول الحزب إلى تنظيم بيروقراطي مأجور (3).

بعكس ذلك فإن الحزب الذي لا يمارس الديمقراطية داخله لا يمكن أن يأتي بالديمقراطية للمجتمع، فهو حزب مركزي عادة رغم أنه يعتمد "المركزية الديمقراطية"، وهي مركزية متسترة بقناع ديمقراطي، تخنق الديمقراطية في الحزب بشكل دائم، وهي في معظم الأحزاب العربية مستقاة من المركزية الديمقراطية في الحزب من "النموذج اللينيني" الذي بدأ بعد استلامه السلطة في الاتحاد السوفياتي السابق بتحريم الأحزاب الليبرالية ثم انتقل لقمع الأحزاب الاشتراكية الأخرى ثم حظر التيارات داخل الحزب الشيوعي نفسه ثم أرسى الديكتاتورية الستالينية وعبادة الفرد. وليس صدفة أن الأحزاب التي تعتمد المركزية الديمقراطية تنتهي عادة إلى هيمنة فرد غير خاضع للمحاسبة على الحزب والسلطة، وليس مستبعداً في مثل هذه الأحزاب انتقال السلطة فيها عن الطريق الوراثي.


يعتمد الحزب الديمقراطي على الانتخاب وحده للوصول إلى أي مسؤولية أو قيادة وينبذ التعيين، مع الإقرار بحق العزل لأي قيادي دون انتظار نهاية ولايته، ويقنن التجديد للقيادات لأكثر من مرة واحدة، ويعتمد القيادة الجماعية ومبدأ التناوب والتداول للمسؤوليات، ويعترف بأخطائه وينتقدها بشكل دوري أمام المواطنين

في الحزب المركزي تتخذ القرارات من أعلى ويقال إنها اعتمدت على آراء القاعدة، إلا أن هذه الآراء لا تؤخذ في الاعتبار في أغلب الأحيان، وهو حزب شمولي حيث العقيدة تتخذ طابعاً دينياً مما يمكن القيادة من السيطرة المطلقة على الأعضاء، ويتم داخله بشكل دائم القضاء على اختلاف الآراء تحت شعار "وحدة الفكر والإرادة والعمل" بالاعتماد على "الطاعة" و"الخضوع" أو التعتيم والإسكات وأخيراً الطرد من الحزب الذي يقترن بالتشهير. أعضاء الحزب كأفراد يخضعون لهيئاتهم الحزبية، وتخضع الأقلية للأكثرية وتخضع كل هيئة للأعلى فيها بالنسبة لأي قضية فكرية أو سياسية أو تنظيمية، وتخضع جميع منظمات الحزب للجنة المركزية، وكل عمل انقسامي يعتبر تخريباً معادياً للحزب وخرقاً لنظامه وخيانة للقضية (4)، والتكتلات في الحزب وكذلك إثارة الانتقادات والملاحظات خارج الهيئات الحزبية محظورة، يعاقب مرتكبها بشكل صارم (5).

الطاعة والخضوع تقليد عسكري لا يتلاءم مع حزب سياسي ديمقراطي تقوم العلاقات فيه على حق الاختلاف والاتفاق على قواسم مشتركة بناء على القناعة الحرة، فالانضباط "الحديدي" الذي تدعو إليه الأحزاب المركزية صفة لفرقة عسكرية وليس لعمل سياسي، ويمكن أن تتطور الأوضاع في بعض الأحزاب ليصبح الانضباط هو الركيزة الأساسية للحزب الذي تؤمن تماسكه وليس العقيدة أو البرنامج السياسي. يمكن من الخضوع والطاعة في الحزب المركزي الشمولي نظام هرمي تراتبي يعيق وصول الحقائق بين القيادة والقاعدة والجمهور في محطات متدرجة، أو يمكن من تحويرها أو قبر المبادرات الشخصية في ثناياها، وكلما ازدادت المراتب عدداً تتمكن القيادة من التحكم في الحزب أكثر، بينما كلما توسعت العلاقات الأفقية على حساب العلاقات العمودية ازداد الحزب ديمقراطية.

يعتمد الحزب المركزي الشمولي عملية التطهير أو التصفية لإدخال برامج جديدة أو استبعاد أفكار جديدة يخشى من تبلورها في تيارات. والانتماء إليه ليس مفتوحاً للجماهير لمن يوافق على برنامج الحزب ويتعهد بنشر مبادئه، فلا بد لكل عضو من تزكية، ثم يخضع المرشح لفترة تدريب واختبار، وقد تكون هناك مدارس للحزب لقولبة العضو وتكوين نخبة في الحزب ترفد الطبقة الحاكمة. أما نشاط العضو الحزبي في الأحزاب المنفتحة فهو أحد أوجه نشاطاته الاجتماعية المتعددة بينما الأحزاب الشمولية تسعى لأخذ كل أوقات العضو وكل جوانب حياته لامتلاكه بشكل كامل.
تعتقد هذه الأحزاب أنها "طليعة" لشعب لا يستطيع حكم نفسه، فالديمقراطية لديها وسيلة ينتهي استخدامها عند الوصول للسلطة بأي طريقة ممكنة، وفي أغلب الحالات تفضل الأسلوب الانقلابي العسكري الذي يدعى "ثورة شعبية" تنهي أي مظاهر ديمقراطية كانت موجودة قبله، وبذلك تنزلق للتعالي على المواطنين واستبدال دورهم بدل أن تكون مهمتها الأساسية حثهم على أخذ أمورهم بأيديهم. ويسعى الحزب الشمولي لجعل علاقته بالمنظمات الشعبية من نقابات واتحادات وتعاونيات وجمعيات.. علاقات تبعية بحيث تخدم الحزب بدل أن يكون الحزب في خدمتها، وبحيث تتحول مهمة الحزب في السلطة لنشر لأوامر القائد الفرد ومراقبة المواطنين والوشاية بهم (6).

والحزب المركزي الشمولي عندما يصل إلى السلطة بأية طريقة، فإنه عادة يتبنى حكم الحزب الواحد ويلغي الأحزاب الأخرى، فالديكتاتورية والاستبداد قديمة قدم العالم، لكن الديكتاتورية المستندة إلى حزب واحد هي اختراع جديد، خاصة في الاتحاد السوفياتي وألمانيا وإيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى، ثم توسع بعد الحرب العالمية الثانية ليشمل دول أوروبا الشرقية وغالبية دول العالم الثالث بعد استقلالها. وتشابهت الأحزاب الفاشية والشيوعية والقومية الاشتراكية في عدد من المسائل الديمقراطية، فيما عدا أن الأولى تركز على حصر السلطة بحزب ينوب عن الطبقة البرجوازية بينما تركز الثانية والثالثة على حصرها في حزب يستبدل الطبقة العاملة والفلاحين.
في بحثنا هذا سنحاول عرض تجربة أحد الأحزاب العربية في ممارسته للديمقراطية داخله وفي علاقته بأحزاب أخرى وفي المجتمع: "حركة القوميين العرب" التي نشطت في المشرق العربي خلال عقدي الخمسينيات والستينيات. أهمية البحث أنها تجربة لا تختلف إلا في التفاصيل عن أحزاب قومية ويسارية وإسلامية راهنة، فأفكارها تجرجر نفسها في العديد من الأحزاب المشابهة التي ساهمت في إعاقة التقدم، مما يفترض دراسة جذور هذه الظاهرة بأسلوب نقدي والتوصل إلى الأسس التي تمكن من تجاوزها نحو نهوض عربي أحد أسسه الأحزاب المتعددة الديمقراطية. على ألا يفسر نقدنا لتجربة "الحركة" في المجال الديمقراطي كإدانة لها أو تجاهل لنضالات وتضحيات منتسبيها السابقين ونحن منهم.
_____________
* باحث متخصص في الشؤون الديمقراطية

للتعليق والتعقيب اضغط هنا

المصدر : غير معروف