المسار السياسي من باراك إلى شارون

undefined

*إعداد/ شفيق شقير

اتسم عهد باراك في الحكم بتردد واضح بين الاستمرار في خطى رابين وهو الوصف الذي كان يروق للمتفائلين من أنصار السلام، وتوسل العنف لإخضاع الفلسطينيين وإملاء شروطه عليهم دون تقديم تنازلات حقيقية. فلم يكن باراك بهذا الاعتبار صاحب مشروع للسلام كما هو رابين ولا صاحب رؤية للحرب كما هو سجل شارون التاريخي.

سقوط باراك ورحيل كلينتون


باراك عاد في موقف مفاجئ ووافق على خطة كلينتون بعد دقائق فقط من رفض الفلسطينيين لها، كي يلقي باللوم في فشل مفاوضات الفرصة الأخيرة، كما دأب الطرف الإسرائيلي على تسميتها، على الطرف الفلسطيني

إلا أن وجود الرئيس كلينتون على رأس الحكم في أميركا كان أحد الحوافز التي حافظت على خيط المفاوضات من الانقطاع، فالرئيس كلينتون كان يتابع شخصيا تطورات الموقف بين الفلسطينيين والإسرائيليين، خاصة أنه كان شخصيا الراعي لاتفاق أوسلو عام 1993 الذي قامت بموجبه السلطة الوطنية الفلسطينية وتوقف الصراع بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وهو ما يعد من أهم إنجازاته في السياسة الخارجية حتما.

وربما لهذا استمر كلينتون في رعاية سير المفاوضات بين الطرفين حتى اللحظة الأخيرة من ولايته التي انتهت وهو يحظى بشعبية تبلغ 76%، متفوقا بذلك على كل الرؤساء الذين حكموا الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، وربما لهذا حرص على عجل على أن يلقي باقتراح دائم للسلام بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.

ولم يكن هذا الاقتراح يملك أيا من مقومات الحياة، لأن مقترحات كلينتون التي طرحها في نهاية ولايته كانت تقضي بأن يتنازل الفلسطينيون عن حق عودة أكثر من أربعة ملايين لاجئ فلسطيني إلى ديارهم التي أخرجوا منها، مقابل الحصول على سيادة جزئية على بعض المناطق في القدس الشرقية، وهو ما كان مستحيلا للطرفين، إلا أن باراك عاد في موقف مفاجئ ووافق على خطة كلينتون بعد دقائق فقط من رفض الفلسطينيين لها، كي يلقي باللوم في فشل مفاوضات الفرصة الأخيرة، كما دأب الطرف الإسرائيلي على تسميتها، على الجانب الفلسطيني، الأمر الذي استغله شارون وأكد أنه سيتجاهل في حال انتخابه أي اتفاق يتوصل إليه باراك مع عرفات قبل الانتخابات. مع الإشارة إلى أن اليمين الإسرائيلي استطاع حشد أكثر من مائة ألف متظاهر بعضهم من الولايات المتحدة وأوروبا رافضين مقترحات كلينتون لأنها تنص على تقاسم الإسرائيليين والفلسطينيين سيادة القدس.

ولم يكن باراك يدري أنه عندما سمح لشارون بالقيام بزيارته الاستفزازية الشهيرة للمسجد الأقصى إنما كان يضيق الخناق على نفسه، حيث أشعلت هذه الزيارة انتفاضة لم تنطفئ إلى اللحظة، وانتقلت بشعبيته نحو الانخفاض المستمر ووضعت الإسرائيليين مجددا أمام ضرورة تحقيق الأمن المفقود.

ومن الأخطاء التي تحسب على باراك أيضا عدم إذعانه لاستطلاعات الرأي في الانتخابات الماضية التي أظهرت تفوقا واضحا لشارون، في حين أشارت في الوقت نفسه إلى أن لدى شمعون بيريز فرصة أكبر من باراك للفوز، فالأخير رفض التنازل لبيريز كي يخوض المعركة الانتخابية عن حزب العمل ليرفع من حظوظ الحزب في وجه منافسه اليميني المتطرف.

كما أن البعض يعتبر أن باراك كان أحد أهم أسباب التنازع والضعف في حزب العمل، فقد أراد أن يكون صقرا في حزب يحرص على لعب دور الحمائم، فلا الحزب حافظ على دوره المفترض ولا باراك استطاع أن يحلق كالصقور.

شارون بالأبيض والأسود


جدد شارون الخوف في الإسرائيليين على مصير دولتهم ومستقبل الوجود اليهودي فيها، ما رفع الاستعداد لدى الشعب الإسرائيلي لتحمل تكاليف مواجهة الانتفاضة

رغم معرفة الشارع الإسرائيلي لنهج شارون ودمويته والدعاية العربية والدولية إلى حد ما ضده، سواء في قضية اتهامه بمجزرة صبرا وشاتيلا ومحاولة محاكمته في المحاكم البلجيكية أو تحميله المسؤولية عن قتل الأسرى المصريين في حرب 1967، إلا أنه استطاع جذب أصوات الناخبين الإسرائيليين الذين أوصلوه لسدة الحكم لإخماد الانتفاضة الفلسطينية التي تسبب هو نفسه بإشعالها، وليقوم بما عجز عنه باراك من إخضاع الفلسطينيين والقضاء على مقاومتهم في مؤشر على ميل الشارع الإسرائيلي بأغلبيته نحو التطرف والعنف، (مع العلم بأن حزب العمل نفسه أثناء الانتخابات نشر ملصقات تندد بشارون المتهم بمجزرتي صبرا وشاتيلا).

وبالفعل فإن شارون استطاع أن يجعل العنف اليومي الممارس ضد الفلسطينيين حدثا عاديا ومبررا، وعرف كيف يستغل أحداث سبتمبر/ أيلول في الولايات المتحدة الأميركية ليربط بين اليمين الأميركي واليمين الإسرائيلي، فأصبحت الانتفاضة عملية إرهابية كبيرة (كتلك التي قامت بها القاعدة) تستهدف دولة إسرائيل، وأصبحت العمليات الفدائية الفلسطينية امتدادا لتلك التي هزت نيويورك وواشنطن، وأصبح عرفات (صدام فلسطين) المخادع الذي يتذرع بالسلام وهو لا يريده، وعليه فيجب حصاره وعزله أو نفيه حتى إنه أي شارون أظهر ندما لأنه لم يقتله في لبنان منذ عشرين عاما.

ولقي شارون ترحابا حارا من الرئيس الأميركي بوش وحل ضيفا عزيزا ودائما على البيت الأبيض، رغم سياسة الاغتيال والحصار والتنكر لكل الاتفاقات التي رعتها واشنطن وعلى رأسها اتفاق أوسلو، ورغم تراشقه الإعلامي مع إدارة بوش بعد اتهامه لأميركا بأنها تخاطر باسترضاء الدول العربية على حساب إسرائيل تماما كاسترضاء هتلر عشية الحرب العالمية الثانية.

بينما لم يحظ عرفات ولو بلقاء واحد من الرئيس بوش، بل أكثر من ذلك فقد تبنت أميركا رأي شارون بأن عرفات غير جاد في السلام واقتصرت لقاءاتها على أي مسؤول سواه من الفلسطينيين، وطالبت بتنحيته وإجراء إصلاحات في السلطة، وهو ما أصبح شرطا لأي تدخل أميركي لإحياء عملية السلام.

ومما لا شك فيه أن شارون استطاع خلال رئاسته للحكومة العودة بشعبه إلى لحظة الوجود الأولى لليهود كإسرائيليين في فلسطين، وجدد الخوف فيهم على مصير الدولة الإسرائيلية ومستقبل الوجود اليهودي فيها، ما رفع الاستعداد لدى الشعب الإسرائيلي لتحمل تكاليف مواجهة الانتفاضة، واستطاع بهذا أن ينتزع التأييد لسياسته المغرقة في العنف، حتى إن رجلا حائزا على جائزة نوبل للسلام مثل بيريز رضي بأن يكون وزيرا لخارجيته لفترة ما، وحزبا دفع أحد أبرز زعمائه (رابين) حياته ثمنا لاتفاقات السلام مع الفلسطينيين لم يجد مفرا من الانصياع لسياسة شارون وتبني خيار الحرب.

إلا أن هذه الصورة التي بشرت باستمرار شارون على رأس الحكومة الإسرائيلية وباستمرار حزب الليكود في صدارة الأحزاب الإسرائيلية دون منازع أصيبت بانتكاسة أعادت الأمل إلى حزب العمل بعودة ممكنة إلى الحكم، في الانتخابات المرتقبة. فالفضائح أخذت تتوالى على شارون وحزبه، فمن اتهام لليكود بشراء أصوات أثناء اختيار مرشحي الحزب إلى الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها يوم 28 من الشهر الجاري، إلى تهم بالفساد والرشوة طالت شارون نفسه، بعد نشر فضيحة تورطه وولديه، عمري وغلعاد، في قضية الأموال التي حولها إليهما المليونير اليهودي سيريل كيرن، من جنوب أفريقيا، وما يرافق ذلك من شبهات بحصول شارون على رشى والكذب وخداع الشرطة ومراقب الدولة، خلال التحقيق الذي جرى في مسألة الشركات الوهمية التي دعمته في الانتخابات التمهيدية لرئاسة الليكود عام 1999.

وبغض النظر عن النتيجة التي ستؤول إليها هذه الفضيحة أو ما ستؤول إليه نتيجة الانتخابات برمتها، فإن حزب الليكود عموما يواجه اختبارا صعبا، لأن الرجل الذي كان سبب قوته وانتصاره في الانتخابات الماضية، قد يكون أحد أهم اسباب ضعفه في الانتخابات الحالية.
ــــــــــــــــ
* قسم البحوث والدراسات-الجزيرة نت

المصدر : غير معروف