الممارسة الديموقراطية داخل حزب جبهة العمل الإسلامي

* بقلم/ خالد سليمان

مقدمة خارجة عن النص
على أعتاب الورقة
تقديم نظري
إشكالية ممارسة الديموقراطية الداخلية في الأحزاب العربية
الممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب الأردنية
عوائق ممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب السياسية
التنظيمات الحزبية الإسلامية في الأردن
وقفة ختامية

مقدمة خارجة عن النص
مبتلاة فعالياتنا الحياتية على امتداد الساحة العربية، سواء على صعيد السياسة أو الثقافة أو الاقتصاد أو الاجتماع ـ إلا فيما ندر ـ بالافتقار إلى النظرة الشمولية التكاملية التي تسعى إلى التعامل مع تلك الفعاليات ومقاربتها، نظريا وعمليا، بصورة أقرب إلى الإحاطة والإحكام. وما يصبغ حياتنا بطابعه، في المقابل، هو الاحتكام إلى رؤى جزئية مفككة، كثيرا ما نهدر سنوات طويلة ـ قد لا يمـكن تعويضـها ونحن في أمس الحاجة لكل ثانية لتجاوز واقعنا المأزوم ـ حتى ندرك ضيق أفقها وتهافت منطقها، ولكن لا لكي نستعيض عنها ـ في معظم الحالات مع الأسف الشديد ـ برؤى أكثر شمولية وتكاملا، بل لكي نستبدلها برؤى جزئية أخرى تدخلنا من جديد في متاهة الفهم القاصر لواقعنا، وتحول دون تمكننا من العمل الفاعل على استشراف الآفاق الممكنة للنهوض به، وإخراجه من مستنقع التخلف الذي يتخبط فيه منذ قرون.

ما استدعى إيراد تلك المقدمة الحادة -ولكن الضرورية فيما نظن- هو الغياب، وربما التغييب المريب، للبحث في قضية بخطورة قضية ممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب العربية كل هذه السنوات، على الرغم من تعالي العديد من الأصوات هنا وهناك بضرورة فتح ملف تلك القضية، وعلى نطاق واسع وجدي. غير أن ما جرى في الواقع هو تجاهل تلك القضية الأساسية المركزية، والعمل بدلا من ذلك على إراقة جهود هائلة للبحث في موضوعات نزعم إن بعضها قد لا يتمتع بكل تلك الأهمية، كما نزعم إن بعضها قد قتل بحثا وتحليلا، وكأننا كنا متورطين طيلة الوقت بوضع العربة قبل الحصان. فهل كان من المنطقي أن نتوقع أن بوسع الأحزاب السياسية الإسهام، ولو بأضعف الإيمان، في تدعيم المسيرة الديموقراطية في شوارع مدننا العربية دون أن نتحقق مما إذا كانت تعمل بالفعل على ممارسة قواعد تلك الديموقراطية، ولو بالحدود الدنيا، داخل أروقتها !. وهل كان من المنطقي أن نملأ الدنيا صخبا وضجيجا حول ضرورة تمكين الأحزاب السياسيـة من لعب دور فاعل على المسرح الديموقراطـي في الوقـت الذي لم تتوقـف فيه تلك الأحـزاب عن صفعنا بكثير من مشاهـد التعسـف والاستبداد !، اللـهم إلا إذا كنا نفترض إن في مقدور فاقد الشـيء أن يعطيه !. ربما، فالمتتبـع لكميـة الفوضـى العاتيـة التي تمـلأ دروب حياتنا في المنطقـة العربيـة لن يدهــش على الإطـلاق إذا ما اصطـدم بعشـرات القواعد المنطقية تدوسها الأقدام صباح مساء !.

والواقع إنه قد يكون من المناسب استثمار ما تم طرحه آنفا لتأكيد صعوبة الفصل بين ما يمكن تسميته بالممارسة الداخلية للديموقراطية والممارسة الخارجية لها لدى الأحزاب، فالممارسـة الداخليـة هي الوجـه الآخر لنظيرتهـا الخارجيـة، ما يعني إن هناك علاقة تضايف ـ بالمصطلح المنطقي ـ بين الجانبين، بحيث لا يمكن تخيل وجود الأول دون حضور الآخر بالضرورة، والعكس صحيح. وخلاف ذلك يعني الانزلاق إلى حالة من الانفصام المرضي، الذي نخشى القول بشيوعه في حياتنا على نطاق بعيد. وما أكثر النماذج الفردية التي تذكرنا بشخصية ( السيد أحمد عبد الجواد ) في ثلاثية ( نجيب محفوظ ) الشهيرة، الذي كان مثالا للتشدد والانقباض بين أهله وفي محيط داره، ومثالا للسماحة والانشراح بين أصدقائه وخلانه. فهل ينسحب ذلك الاعتلال الانفصامي الخطير على التنظيمـات السياسيـة العربية، ومنها التنظيمات الحزبية، انسحابـه على الأفراد ؟. تساؤل مقلق نتركه معلقا، وإن كنا نخشـى أن يكـون هناك من المؤشرات ما يجعلنا نجيب عليه بالإيجاب!.

على أية حال، وبتجاوز ما تقدم؛ لا يملك المرء إلا أن يثمن عاليا مبادرة مشروع دراسات الديموقراطية في البلدان العربية إلى فتح هذا الملف المهم ( ملف ممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب العربية )(1)، لعلَ هذا المسعى الرائد يشكل خطوة مثمرة على طريق تذكير جموع المؤمنين بالديموقراطية ـ والذكرى تنفع المؤمنين ـ بضرورة إيلاء ذلك الموضوع ما يستحقه من العناية والبحث بدرجة تتوازى، على الأقل، مع درجة الإهمال التي لحقت به كل هذه المدة.

على أعتاب الورقة
تسعى هذه الورقة، في المقام الأول، إلى تسليط عدسات استقصائها وتحليلها لتطل عبرها على حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن، وهو ما يعده البعض الذراع السياسي لجمعية الإخوان المسلمين. رامية إلى الوقوف على معالم ممارسة القواعد الديموقراطية داخل ذلك الحزب، الذي لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إنه يقف في مقدمة الأحزاب الأردنية، سواء على صعيد القدرات أو الحجم أو مستوى التنظيم أو الشعبية الجماهيرية. وتحقيق الغاية الرئيسة من هذه الورقة استلزم استهلالها بمقدمة نظرية تناقش المقومات الأساسية التي لا بد للحزب السياسي من توفيرها حتى يمكن إدراج ممارساته التنظيمية الداخلية ضمن خانة الممارسات الديموقراطية، كما استدعى تحقيق ذلك الهدف العمل على مناقشة إشكالية ممارسة الديموقراطية الداخلية في الأحزاب العربية والأردنية بوجه عام، بما يرتبط بذلك من وجاهة الوقوف عند أبرز العوامل التي قد تكون مسؤولة عن خلق تلك الإشكالية.

عقب ذلك تم تركيز العدسة على حزب جبهة العمل الإسلامي نفسه، ما استوجب التعريف بالحزب وملابسات نشأته وعلاقته بجماعة الإخوان المسلمين، ليتم بعد ذلك الانتقال إلى زيارة المحطـات المتعلقـة بممارسـة الديموقراطيـة الداخليـة في نظامه الأساسي، مرورا بمناقشـة قضية التزامـه بالتعدديـة واحترام الحوار، وصولا إلى التوقف عند قضية تداول السلطة فيه.

وفي النهاية، كان لا بد من وقفـة تعقيبيـة ختاميـة توضح أبرز ما خلصت إليه الورقة من نتائج، وتبرز أبرز العوامل التي قد تكون مسئولة عن جعل حزب جبهة العمل الإسلامي يتسم بالخصائص التي انتهت الورقة إلى تحديد ملامحها فيما يتعلق بممارسته للديموقراطية الداخلية.

تقديم نظري
المقومات الجوهرية التي تميز الحزب الديموقراطي عن غيره:
درجت العادة لدى كثير من المعنيين بالديموقراطية على القول إنها تعبر عن ممارسةٍ عمليةٍ في التحليل الأخير، غير أن هذا لا يحول دون القول إنها تعبر في أصلهـا، وقبل أن تكون ممارسةً عمليةً متجسدة، عن مفهوم أو أنموذج مثالي مجرد، يتسم بجملة من الخصائص التي تمنحه هويته الخاصة وتميزه عن غيره من النماذج أو المفاهيم. ومن ثم؛ فإن الحكم على ممارسة ما باعتبارها ممارسة ديموقراطية حقا، تتمتع بما يسوغ إلحاقها بنسب عائلة ذلك المفهوم ـ النبيل ـ لا يمكن إصداره ما لم تعبر تلك الممارسة عن الشخصية الحقيقية لذلك المفهوم أو الأنموذج، وما لم تلتزم بترجمة خصائصه الماهوية بشكل فعلي على أرض الواقع. وخلاف ذلك يعني التورط في تجسيد أنموذج شائه ممسوخ ليس له من سمات الأنموذج المزعوم تشخيصه إلا المظاهر السطحية الشكلية، التي لا تنفذ إلى حقيقته أو تعبر بصدق عن جوهره.

غير أن من المهـم الاستدراك بالقـول، إن النماذج والمفاهيم، ومن بينها مفهوم الديموقراطية، تظل تعبر في آخر المطاف عن أفكار ذهنية وبناءات نظرية مجردة لاوجود لها على أرض الواقع، ومن هنا تأتي استحالة تجسيدها بحذافيرها على أرض الواقع. الأمر الذي يجبرنا على تبني النظرة النسبية عند تعاطينا مع مسألة تطبيق تلك المفاهيم، بحيث لا يمكننا إلا أن نسلم بوجود هامش من الاختلاف بين مقومات المفهوم النظري من جانب، وتطبيقاته العملية المتبلورة من جانب آخر.

ولما كانت الورقة الراهنة تتناول قضية ممارسة الديموقراطية الداخلية في واحد من التنظيمات الحزبية في الأردن ( حزب جبهة العمل الإسلامي )؛ فإن علينا أن ننبه إلى أن هناك هامشا محتملا من الاختلاف، قد يضيق أو يتسـع، يمكـن أن ينشـأ بين أولئـك الذين قد يتصدون للبحث في القضية ذاتها، وذلك فيما يتعلق بطبيعة المقومات والأركان والعناصر التي ينبغي أن تتوافر، ولو بالحد الأدنى، لدى ذلك التنظيم، حتى يكون بالإمكان الخلوص إلى حكم صائب، أو أقرب إلى الصواب، حول مدى التزامه بممارسة الديموقراطية داخل أجنحته. بيد أن ذلك لا يتعارض مع القول إن هناك عددا من المقومات الرئيسة ـ التي لا نظنها موضع اختلاف أحد من المعنيين ـ التي لا بد من تلمسها لدى أي تنظيم حزبي حتى يمكن القول إنه يجعل من مبادئ الديموقراطية القاعدة التي ينطلق منها في توجيه تفاعلاته الداخلية.

وتتمثل تلك المقومات فيما يلي(2):
أولاـ وجود دستور أو نظام أساسي للتنظيم، ينص على مختلف القواعد التي تضمن ممارسة الديموقراطية الداخلية في التنظيم. ومن المفترض أن يتمتع دستور التنظيم أو نظامه الأساسي بجملة من العناصر التي تضمن له قدرا معقولا من التوازن والفعالية والجدية، كالشمولية والوضوح والإلزام. ما يعني ضرورة اشتماله، وبتفصيل واضح لا لبس فيه، على سائر الجوانب والأبعـاد الملزمة المتعلقـة بوجوب ممارسة الديموقراطية الداخلية فيه، بحيث لا يترك الأمر نهبا للتقديرات والاجتهادات الذاتية التي قد يجانبها الصواب، وقد تطبعها التحيزات الذاتية بطابعها في كثير من الأحيان. من جانب آخر، ينبغي أن يتمتع دستور التنظيم أو نظامه الأساسي بالمرونة وقابلية التعديل والتطوير، وذلك بصورة ديموقراطية تتناسب مع آراء أعضاء التنظيم وقناعاتهم.

ثانياـ ممارسة مبادئ حرية الرأي والتعبير الفردي والجماعي، إضافة إلى الإقرار بالتعددية الحزبية المعبرة عن حرية التعبير، بحيث لا تصدر القرارات في التنظيم إلا بناء على رأي الأغلبية، وبعد مناقشات صريحة مستفيضة يشارك فيها سائر المستويات التنظيمية المختلفة، ويسمح خلالها للأصوات المعارضة بالتعبير عن ذاتها. ويشكل هذا الأسلوب المنهج "الوحيد لإنضاج الفكر السياسي للحزب وتطوير برامجه، ولا يتأتى ذلك إلا إذا ارتقى مستوى المناقشة عن تبادل الاتهامات وإلصاق مختلف النعوت بهذا الرأي أو ذاك، وإلا إذا انتفى من الجدل كل إرهاب فكري وكل محاولة لقمع اتجاه أو إقصاء أصحابه من مواقع المسؤولية"(3).

ثالثاـ تفعيل مبدأ تداول السلطة، واعتماد نظام تمثيلي حقيقي يكفل لسائر الأعضاء الحق في المشاركة في صنع القرار. ويقتضي هذا التشديد على وجوب احتكام عملية تشكيل جميع المستويات القيادية في التنظيم إلى قواعد الانتخاب السري، وتأكيد ضرورة إجراء الانتخابات لاختيار الكوادر القيادية على شتى المستويات بصورة دورية منتظمة، ما يضمن إثراء المواقع القيادية بكوادر أكثر قدرة على خدمة التنظيم وأكثر تعبيرا عن توجهات منتسبيه، وما يضمن أيضا ضخ عروق التجدد والتطور في التنظيـم بدماء جديـدة بشكل مستمـر، الأمر الذي يكفيه خطر الوقوع تحت هيمنة قيادات "تاريخيـة أبديـة ملهمـة" قد تقـف عقبة كأداء في طريق تقدمه وتفعيل دوره.

تأسيسا على ما تقدم، يمكن القول إن ما يجعل بالإمكان إدراج تنظيم حزبي ما ضمن قائمة التنظيمات الديموقراطية بحق هو استدخاله لتلك المقومات التي لا تقوم لمفهوم الديموقراطية ـ فيما نزعم ـ قائمة بدونها، والتعبير عنها عيانيا في تفاعلاته العملية المشاهدة. ومن ثم، فإن الورقة ستحاول التحقق من مستوى حضور تلك المقومات في التفاعلات الداخلية التي يشهدها البيت الداخلي لحزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن، غير أن ذلك لن يكون قبل أن نوجه بعض عنايتنا للقضية ذاتها فيما يتعلق بالتنظيمات الحزبية العربية والأردنية بوجه عام.

إشكالية ممارسة الديموقراطية الداخلية في الأحزاب العربية
دونت معظم الأحزاب العربية، مذ عرفت الساحة السياسية العربية الظاهرة الحزبية، سجلا تتسم معظم صفحاته بالقتامة فيما يتعلق بممارستها للديموقراطية الداخلية. ونزعم إن هذه الوضعية المختلة لا تشكل ـ على الرغم من مرارة الإقرار بوجودها ـ إلا إفرازا طبيعيا للواقع القائم الذي تخلقت تلك الأحزاب بين أحشائه وترعرعت بين أحضانه. فما كان لتلك الأحزاب ـ فيما نقدَر ـ أن تأتي متحررة من جينات التعسف والتسلط الجاثمة في رحم المجتمعات العربية التي ولدت بين ثناياها، وما كان لها أن تنجح كثيرا في اكتساب خصائص وراثية ديموقراطية مغايرة لتلك التي وسمت الحياة العربية بميسمها منذ قرون، التي شاءت الأقدار أن تكون خصائص استبدادية الطابع. إلا أن هذا لا يعني بالضرورة خضوع تلك الأحزاب إلى التخلق الحتمي بما يمكن تسميتها بثقافة الاستبداد، بدعوى تولدها في بيئة مستبدة؛ إذ يزخر التاريخ ـ حتى على مستوى الأفراد ـ بالأمثلة التي تؤكد إمكان انبعاث أكثر النماذج إيجابية وصلاحا من أكثرها سلبية وفسادا، الأمر الذي يبعث الأمل في قدرة الأحزاب العربية على تجاوز واقعها المتردي وتطهيره من سوس التسلط المعشش في أساساته.

ويستطيع المتتبع لسجل أحوال الأحزاب السياسية التي عرفتها الساحة العربية على امتداد رقعتها، منذ بواكير نشأة تلك الأحزاب وحتى الآونة الراهنة، أن يضع أصابعه على الكثير من الوقائع والشـواهد التي تؤكد إن هناك شرخـا واضحـا يتعلـق بممارسـة تلك الأحزاب لقواعد الديموقراطية داخلها. وقد يكون مفيدا في هذا السياق إيراد بعض التحليلات التي خلص إليها عدد من الباحثين العرب الذين تصـدوا للبحث في الظاهرة الحزبيـة، ووقفوا على شؤونهـا وأحوالهـا في هذا القطر العربي أو ذاك، أو حتى على المستوى القومي. وتبدو تلك التحليلات، في معظمها، مباشرة الطرح صارخة الدلالة، ما يجعلها تستغني عن التعليق والتوضيح.

فعلى سبيل المثال، يرى (إسماعيل صبري عبد الله) إن أهم قصور اعترى مسيرة الأحزاب والقوى التقدمية والوطنية العربية في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية قد تمثل في "تدني المحتوى الديموقراطي لتوجهات مجمل حركة التحرر العربي في هذه الفترة، وافتقاد الممارسة الديموقراطية"(4). وفي معرض مناقشته لواقع الأحزاب السياسية في السودان يتساءل الباحث السوداني ( حيدر إبراهيم علي ) فيما إذا كانت الأحزاب السياسيـة السودانيـة تستحـق اسمها، وذلك انطـلاقا من افتراضه بأنها لا تعدو كونها "مجرد جمعيات سياسية أو تكتلات انتخابية موسمية. فهي تفتقد مقومات الأحزاب السياسية أي غياب إيديولوجية معينة، وتغيب عنها البرامج السياسية والاجتماعية المفصلة. كما أنها من ناحية تنظيمية لا تحصر العضوية، ولا تعقد مؤتمرات دورية، ولا يتم تصعيد القيادة وتوزيع الاختصاصات عن طريق الانتخاب المباشر، مما يؤدي إلى انعدام الديموقراطية الداخلية"(5).
أما الباحث الجزائري ( آيت مقران العربي ) فيعبر عن افتقار الحياة الحزبية في الجزائر إبان فترة طويلة من تاريخها المعاصر إلى ممارسة الديموقراطية الخارجية والداخلية بقوله : "لم يكن حزب جبهة التحرير الوطني الذي حكم البلاد معنيا بالتعددية السياسية، رغم أنه في الأصل مجموعة تيارات وأحزاب متحالفة، حيث أخذ بالنظرية السياسية التي كانت شائعة في الستينات في بعض الدول العربية ودول العالم الثالث اتكالا على تجربة الاتحاد السوفييتي، تلك النظرية التي فصلت فصلا تعسفيا بين الديموقراطية ومظهرها التعددي من جهة، والاشتراكيـة ومظهرها الاجتماعـي من جهـة أخرى، ونتج عن هذا المفهوم المشـوه للاشتراكيـة أن منعـت في الجزائـر التعدديـة السيـاسيـة والإعلاميـة"(6)، ويتابع الباحـث ( العربي ) تحليله للوضع ـ الكارثـي ـ الذي انتهى إليه بعض الأحزاب السياسيـة الجزائرية في السنوات الأخيرة ـ الذي لا يمكـن أن يمت لمفهـوم الديموقراطيـة من قريب أو بعيد بصلة ـ فيقول : "أما المليشيات التي ألفتها بعض الأحزاب، وخاصة حزب ( سعيد سعدي ) داعية البربرية، فإنها قتلت معارضيها في القرى وهم نيام في بيوتهم"(7) !.

وفي سياق تناوله لتجربة الأحزاب السياسيـة في المغرب، يشيـر الباحث المغربي ( محمد طريف ) إلى أن العجز عن إدارة الاختلاف الداخلي هو أحد المقومات الأساسية للأزمة التي تعاني منها تلك الأحزاب بوجه عام، وهو الأمر الذي قاد إلى عدم اعتراف تلك الأحزاب بوجود تيارات معارضة داخلها، وإلى سعيها في الوقت ذاته لإقصاء تلك التيارات. ويتابع الباحث ( طريف) مشيرا إلى أن من أبرز الأسباب التي تقف خلف تلك الحالة "غياب آليات ديموقراطية لتصريف الاختلاف، وفي مقدمتها الاستخدام السيئ لمبدأ المركزية الديموقراطية"(8).

وعلى ما يظهر، لم تسلم الأحزاب والحركات السياسية الفلسطينية من عدوى الإصابة بفقر الديموقراطية الداخلية، فأبت إلا أن تشارك أخواتها العربيات في اقتسام هذه التركة الثقيلة، وهذا ما تؤكده وثيقة هامة نشرت في العدد الأول من مجلة ( راية الاستقلال ) الذي صدر عن الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين عام (1991). نطالع في الوثيقة التي جاءت محاولةً لتحليل أبعاد الأزمة التي تكابدها الحركة الوطنية الفلسطينية : "لقد شكل غياب الديموقراطية الداخلية وسيادة العلاقات المركزية، أبرز العوامل التي دفعت إلى تفاقم أزمتنا الداخلية، بل إننا نعتقد بأنه لو توفرت الديموقراطية الداخلية لما برزت هذه الأزمة، أو لكانت وجدت طريقها الطبيعي إلى الحل عبر الحوار الديموقراطي النزيه، بدل سلوك قيادي ينطلق من تحريم الخلاف وعدم شرعية تعايش وجهات النظر وتعددية الآراء داخل الحزب. وبدلا من تحويل الخلاف إلى عملية احترابية وخندقة وقتل للغة الحوار والعقل، ومن ترسيخ لتسلط المكتب السياسي على عموم الحزب وتشريع دور القائد"(9).

وفيما يبدو، لا تشذ الأحزاب السياسية المصرية، حسب ما تؤكده التحليلات المتداولة، عن مثيلاتها العربية فيما يتعلق بالزهد في تبني القيم الديموقراطية وتفعيلها، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. إذ إن "القيم الديموقراطية لا تمثل محددا لصياغة العلاقات داخل الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية الموجودة على الساحة السياسية من ناحية، ولا العلاقات ما بين تلك الأحزاب والتيارات من ناحية أخرى، حيث تنتشر فيما بينها نزعات التخندق السياسي والفكري، فضلا عن تجاهل أسس وأخلاقيات الحوار السياسي"(10).

ويذهب السياسي والباحث الأردني ( جمال الشاعر ) في شهادة قدمها بشأن تجربته الحزبية الطويلة في العمل مع واحد من أعرق الأحزاب العربية القومية وأكثرها نفوذا وتأثيرا على الساحة العربية، يذهب إلى القول بأن "الديموقراطية داخل صفوف الحزب انعدمت بالتدريج وتركزت بأيدي مجموعة قليلة"(11)، وذلك بعد أن قيض للحزب الاستئثار بالسلطة والانفراد بها.

ونستطيع أن نذهب بعيدا في تتبع التحليلات التي تبرز عدم اندراج مفاهيم الديموقراطية ضمن قواميس الممارسات الداخلية للأحزاب العربية بوجه عام، بيد أننا نكتفي بهذا القدر من الإشارات والتنبيهات، التي أوقفتنا على ملامح الصورة العامة لمشهد الممارسة الديموقراطية داخل ردهات التنظيمات الحزبية العربية، ميممين أبصارنا باتجاه الأحزاب السياسية الأردنية، التي يتمحور اهتمام الدراسة الراهنة على البحث في تجربة واحد منها.

الممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب الأردنية
لا نجد مسوغا يدعو للافتراض بأن الأحزاب السياسية الأردنية كانت اكثر حظا من شقيقاتها العربيات على صعيد مزاولـة قواعد الديموقراطيـة داخل هياكلهـا، فكلنا ـ على ما يتراءى لنا ـ في الهم شرق. إذ إن هناك من الباحثين من يذهب إلى تأكيد افتقار الأحزاب الأردنية، على وجه العموم، إلى ممارسة الديموقراطية داخل تنظيماتها، فيقول : "وفي الحقيقة إن مرض غياب الديموقراطية الداخلية إلى حد كبير، يكاد ينطبق على جميع الأحزاب السياسية المتواجدة في الساحة الأردنية، بل إنه مرض تشترك فيه الأحزاب العربية بمجملها، سواء كانت في السلطة، أو المعارضة، مع وجود تباين في ذلك بين حزب وآخر"(12).

ويحلل باحث آخر الظاهرة ذاتها متوقفا عند أبرز مظاهرها وبعض تداعياتها، فيذهب إلى القـول بأن من العناوين البارزة للأزمـة التي يتخبط فيها العمل الوطني المنظم في الأردن "تغييب الديموقراطية عن الحياة الداخلية لأحزاب الحركة الوطنية، وفي العلاقة فيما بينها ومع الجماهير… وإن من أبرز عوامل أزمة الديموقراطية الداخلية في أحزاب الحركة الوطنية وقواها التقدمية تتمثل في واقع تآكل واضمحلال شرعية هيئاتها القيادية، بفعل غياب حرية تداول المواقع القيادية، أي بفعل تغييب مبدأ الانتخاب الحر والسري، تارة بحجة عدم توفر ظروف ملائمة لإجراء الانتخاب، أو بفعل وضع الحزب أمام قوائم معدة سلفا للتصويت عليها، واستخدام آليات غير ديموقراطية لفرضها من خلال انتخابات شكلية معلنة أو سرية… إن أزمة الديموقراطية على صعيد الحياة الداخلية لأحزاب الحركة الوطنية، وفي العلاقة فيما بينها، باتت عنصرا هاما من عناصر انفضاض قطاعات هامة من الجماهير عن الحركة الوطنية، وتنامي نزعات الانعزال والاستنكاف عن النضال الوطني الديموقراطي، وحتى النقابي والمطلبي"(13).

ولا يخرج أحد الناشطين في العمل السياسي الأردني عن أجواء الطرح ذاته، متوقفا عند ما يراه سببا رئيسا في الحيلولة دون تمكن الأحزاب السياسية من ممارسـة الديموقراطية داخلها، فيقول : "… فتعدد الأحزاب بالأعداد التي نراها في الأردن يضع الكثير من المشكلات أمام الممارسة الديموقراطية التي يفترض أن تسود داخل الأحزاب، فغالبية الأحزاب تضم بين أعضائها ما لا يتجاوز ( 750 ) عضوا، والعاملون من بينهم معدودون بالآحاد أو العشرات القليلة، وكونهم كذلك يجعل هذا النفر يفوز بالمواقع القيادية دون منافسة ودون وجود مبرر لإظهار القدرات القيادية في المجالات المختلفة: الفكرية، والسياسية، والإدارية، والاقتصادية، والاتصالية، وهذا يجعل هذه القيادات وكأنها هي وحدها الحزب، مما ينفي الأسس الديموقراطية في التعامل الداخلي…"(14).

وينحو سياسي أردني متمرس، في سياق تعقيبه على ورقة بحثية تناولت أداء الأحزاب السياسية الأردنية إبان فترة الانفتاح السياسي في عقد التسعينيات من القرن المنصرم، ينحو المنحى ذاته، فيقول : "لقد اعتدنا على أن نتهم النظام في كل شيء. ينبغي أن نقول الحق ولو على أنفسنا. إذا كانت المصالحة الوطنية ستفشل، فإن الأحزاب هي التي ستفشلها، لأن أحزابنا بحاجة إلى مصالحة وطنية داخل أروقتها. ما من حزب في هذا البلد إلا وحدثت فيه انشقاقات وحدثت فيه انقسامات. وهناك أمور كثيرة تؤكد وجود خلافات داخل أروقتها، فلا أعتقد أنها ستحقق مصالحة فيما بينها"(15).

والواقع إن ظاهرة الانشقاقات والانقسامات العديدة التي خبرها كثير من الأحزاب الأردنية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، التي أتى الاستشهاد الآنف على التعريض بها، الواقع إنها قد لا تدع لنا مجالا للشك بأن هناك صدعا يطال ما يمكن تسميته بممارسة الديموقراطية داخل تلك الأحزاب. إذ قد تعبر ظاهرة الانقسامات الحزبية، بشكل صارخ ومباشر أحيانا، عن ضيق الهامش الديموقراطي الذي توفره تلك الأحزاب لأعضائها، ما يجعلهم مجبرين إما على الخضوع المطلق لإملاءات قياداتهم ـ التاريخية الملهمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها ـ وإما على التعرض لاتهامهم، في حال اختلاف وجهات نظرهم حيال شأن من الشؤون، بخيانة مبادئ الحزب، وربما العمالة لجهات أجنبية معادية، والسعي، من ثم إلى تهميشهم أو طردهم من الجنة الحزبية !. وما يزال صدى الانشقاق المدوي الذي شهده الحزب الشيوعي الأردني العريق عام (1998) يتردد في جنبات المسرح السيـاسي الأردني، ذلك الانشقـاق الذي رافقه لجوء قيادات الحزب المتصارعة إلى مقاضـاة رفاق الدرب الطويل بدعوى الفساد وإساءة استغـلال السلطة وخيانة مبادئ الحزب(16) !.

ويبدو أن ظاهرة الانشقاقات والانقسامات الحزبية قد أضحت سمة أساسية تصبغ بصبغتها الحياة الحزبية في الأردن(17)، بل يمكن عدها من العوامل الرئيسة التي أسهمت في تشكيل الخريطة الحزبية الحالية في البلاد. حيث نقرأ في إحدى المراجع المعنية إن من السمات الأساسية التي حكمت تشكل معالم تلك الخريطة: "انسلاخ تشكيلات ومجموعات حزبية مختلفة عن أحزابها الأصلية، واندماج بعضها في أحزاب جديدة. ويعد حزب اليسار الديموقراطي مثالا بارزا لاندماج أربعة تشكيلات حزبية تعود بجذورها إلى عدة أحزاب يسارية وقومية، بينما يمثل حزب التجمع الوطني الأردني مثالا على حزب خضع لعدة عمليات اندماج وانسلاخ منتهيا إلى شكله الحالي تحت عنوان حزب النهضة …"(18).

وللحقيقة، لا بد من القول إن حداثة عهد التجربة الحزبية الأردنية عقب الانفراج السياسي من شأنها الإسهام في تنشيط ظاهرة الانشقاقات والاندماجات الحزبية، التي قد تسير باتجاه الانكماش مع مضي الوقت، إلا أن ذلك قد لا ينفي عن التنظيمات الحزبية، من وجهة نظر معينة، تهمة الافتقار إلى ممارسة الديموقراطية داخلها، الأمر الذي ينعكس في تلك الظاهرة التي قد لا تعبر عن وضع صحي سليم يخدم مسيرة الانفتاح السياسي في البلاد. غير أن من المهم الاستدراك والتعقيب على كل ما تقدم بالقول: إنه قد يكون من غير الإنصاف ومن التبسيط المخل القطع باتهام سائر التنظيمات الحزبية التي شهدت نوعا من الانشقاق بالافتقار التام إلى ممارسة الديموقراطية داخلها، إذ قد تعبر يعض حالات الانشقاق عن ضيق بعض الكوادر الحزبية ببعض التوجهات التي خلصت إليها الأغلبية، ما يجعل من أولئك الكوادر يرفضون الاستمرار في التحليق داخل سرب الجماعة، مؤثرين الانشقاق والخروج على شرعية الأغلبية. ويبدو هذا الطرح قريبا من المنطقية في ظل سيطرة مناخ عام تضعف فيه قيم الوفاق والمؤسسية والاختلاف، لتنتعش فيه، في المقابل، قيم الشقاق والشخصنة والخلاف(19).

من كل ما تقدم، نخلص ـ مع الأسف الشديد ـ إلى أن هناك من المؤشرات والتحليلات ما قد يصب في تيار القول بوجود نوع من القطيعة بين تنظيمات العمل الحزبي في الأردن، والوطن العربي على وجه العموم، وبين مفردات الخطاب الديموقراطي، بشقيه الداخلي أو الخارجي. وذلك على الرغم من اشتمال دساتير تلك التنظيمات أو أنظمتها الأساسية على ما يؤكد حرصها على دعم قواعد الديموقراطية وتفعيلها !(20).

وعقب أن انتهينا إلى التقاط تلك الصورة لواقع الممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب السياسية العربية والأردنية ـ التي لا تبعث على التفاؤل مع الأسف الشديد ـ يحسن بنا التوقف، ولو سريعا، عند أبرز العوامل التي أفضت إلى تشكيل معالم ذلك الواقع، وجعلته يجثم فوق كاهل الحياة الحزبية في وطننا العربي. بعبارات أخرى، يجدر بنا العمل على تفهم أبرز العوائق التي قد تقف حائلا دون ممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب السياسية العربية، فهذا يشكل ـ فيما نزعم ـ خطوة ضرورية على طريق تخطي تلك العوائق وتذليلها.

عوائق ممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب السياسية
انطلاقا من عوامل متباينة متعددة؛ غدت الأحزاب السياسية العربية عاجزة، بوجه عام، عن بلوغ الحد الأدنى من المستويات المتوخاة من ممارسة القواعد الديموقراطية داخلها. والحق إن التداخل والتشابك الحميم بين تلك العوامل يجعل من الصعوبة بمكان فصم عرى ارتباطها، غير أن عملية الفصل التحكمي التي ستواكب استعراضنا لتلك العوامل، تأتي فارضة نفسها لأغراض التحليل والتوضيح، دون أن تغيب عن أذهاننا حقيقة العلاقة الجدلية الوثيقة القائمة بينها. ونستدرك فنقول، إن إدراجنا تلك العوامل في خندق المعوقات التي لعبت دورا سلبيا فيما يتعلق بدعم الممارسة الديموقراطية داخل التنظيمات الحزبية العربية لا ينفي إمكان إسهامها، تحت ظروف مختلفة، وضمن معطيات ومناخات مغايرة، في تعزيز نزوع تلك التنظيمات إلى تفعيل الممارسة الديموقراطية داخل أبنيتها.

ونقدَر أن بالإمكان فصل تلك العوامل إلى عوامل تاريخية، وإيديولوجية، وسياسية قانونية، وثقافية، وتنظيمية، وعوامل تتعلق بالشخصية، فيما يلي بعض التفصيل فيها :
1- العامل التاريخي
لم يكن التاريخ رفيقا بأحزابنا السياسية العربية، فعلى امتداد تاريخنا المعاصر كله، بما يتضمن تاريخ الظاهرة الحزبية العربية، لا يكاد يخلو خطاب حزبي واحد من تلك اللازمة الشهيرة المثيرة للسخرية المرة، التي تؤكـد مرور أمتنا العربية بمنعطف تاريخي خطير وحاسم !. لقد وجدت الأحزاب العربية نفسها، وعلى امتداد رقعة الأرض العربية، في مواجهة دائمة مع واقع مثقل بالتحديات والمنعطفات الخطيرة الحاسمة، التي لم تبدأ بالنزوع الطوراني إلى طمس الهوية العربية، ولم تنته عند كارثة "سايكس بيكو"، أو مصيبة استعمار معظم بلداننا العربية، أو فجائع احتراباتنا الأهلية، أو فضائح هزائمنا القومية …الخ. أقول ـ من باب التفسير وليس التبرير ـ إن أحزابنا العربية وجدت نفسها دائما في مجابهة مسلسل لا ينتهي من تلقي الصفعات القاسية، الأمر الذي ألقاها في خندق رد الفعل لا في معسكر الفعل، وحرمها من فرصة التقاط أنفاسها والاهتمام بترتيب محتويات بيتها الداخلي. ومن ثم فقد باتت ممارسة الديموقراطية الداخلية في تلك الأحزاب أمراً ثانوياً كمالياً لا يعتد به أمام خطورة التحديات الجسيمة التي كان عليها التصدي لها. وما يثير الأسى هو أن تلك الأحزاب قد خانها التوفيق على المستويين. إذ أثبتت، في معظمها، فشلا ذريعا في التعاطي مع الشأن الخارجي، لا يدانيه إلا الإخفاق الذي سجلته على المستوى التنظيمي الداخلي، فلا هي تمكنت من قطف العنب، ولا هي أفلحت في مقارعة الناطور !.

2- العامل الإيديولوجي
مع أن هذا لم يشكل قاعدة ثابتة يمكن التسليم بها فيما يتعلق بحال الأحزاب السياسية العربية، إلا أن من الأرجح أن تبدي الأحزاب ذات التوجهات الليبرالية نزوعا أكثر قوة نحو ممارسة قواعد الديموقراطية بين أعضائها، مقارنة بنظيراتها التي تتبنى توجهات أخرى، يسارية أو قومية أو دينية. نقول ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار إمكان وجود مثل تلك التوجهات الليبرالية في أحزاب أخرى متعددة المشارب، ومع مراعاة إمكان تداخل التوجهات الإيديولوجية المختلفة وتقاطعها لدى كثير من الأحزاب. فعلى سبيل المثال، لم يكن بمقدور الأحزاب اليسارية إلا أن تستحضر التجربة السوفيتية في سياق ممارستها للعمل الحزبي، تلك التجربة التي أثر عنها عدم احتفائها الكبير بممارسة الديموقراطية الداخلية. والأمر ذاته قد ينسحب، إلى قدر ما، على الأحزاب ذات الميول القومية، التي أثبتت ممارسات العديد منها أنها كانت تسترشد بنماذج تعيد إلى الأذهان تجربة الحزبين النازي والفاشي، ونحن نعرف إن أيا من ذينك الحزبين لم يكن يكترث، على الإطلاق، بما يمكن تسميته بالديموقراطية، بأي شكل من أشكالها. أما الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية فلها شأن آخر، إذ قد يسول لها انطلاقها من منطلقات دينية يغلب على كثير منها طابع الإطلاق أن ترى إلى نفسها بوصفها تمتلك الحقيقة المطلقة، وأن تجد، من ثم، في ممارسـة الديموقراطيـة الداخليـة تهديدا لقدسية تلك الحقيقة ومساسا بها(21). الأمر الذي قد يحدو بتلك الأحزاب، بالاستناد إلى فهم خاطئ مشوه لقاعدة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح" إلى إغلاق ذلك الباب الذي قد يأتي برياح عاتية لا تحمد عقباها !.

ونستطيع القول، بوجه عام، إن معظم أحزابنا العربية قد أخطأ في اختيار النماذج الحزبية الإيجابية التي يحسن محاكاة تجاربها المضيئة، ووقع اختيارها، بالمقابل، على نماذج حزبية أقرب إلى التسلط والاستبداد. وينسجم هذا ـ مع الأسف الشديد ـ مع ما نلمسه جليا في مجتمعنا العربي، الذي دأب منذ احتكاكه بالغرب على استيراد كثير من البضائع الفكرية والمادية دون التحقق من صلاحيتها وجدوى استخدامها عندنا. ويبدو هذا طبيعيا للغاية في ضوء الفوضى العارمة التي تعصف بكل ركن من أركان مجتمعنا العربي، وذلك في ظل افتقاره إلى مرجعية واضحة محكمة، ومسطرة ثابتة دقيقة يستخدمها معيارا لما يمكن قبوله وما ينبغي رفضه على شتى المستويات والأصعدة، بما يتلاءم، بالطبع، مع ثوابته الحضارية، وبما يضمن، في الوقت نفسه، عدم انغلاقه على الذات، وتفاعله المثمر المتكافئ مع بقية مجتمعات الأرض.

3- عوامل سياسية وتشريعية
ربما كان بالإمكان القول إن السياسة في الوطن العربي قد شكلت، في كثير من الأحيان، ما يمكن تسميته بالمتغير المستقل الذي مارس تأثيرا عميقا على سائر أنساق المجتمع العربي. ومما يؤسف له، إن ذلك التأثير قد اصطبغ بالصبغة السلبية الضارة في معظم الحالات. فكان أن انتقلت الفيروسات الكثيرة التي اعترت الحياة السياسية العربية، بما تعكسه من علل الفساد والتسلط والشخصانية والفردانية وسوء الإدارة…الخ، لتغزو أوصال المجتمع برمته، ليقع هذا الأخير المشدود ـ كثور الساقية ـ إلى مدار السياسة في دوامة إنتاج وإعادة إنتاج تلك الفيروسات !.

أما فيما يتعلق بالبعد التشريعي المتصل بممارسة الديموقراطية ـ ودعونا لا نسقط من اعتبارنا التلاحم العضوي بين سائر أشكال الديموقراطية وجميع مستويات ممارستها ـ فلا يؤذن هو الآخر بخير، إذ "يتخذ المشرع العربي موقفا معاديا للتعددية السياسية وحق تكوين الأحزاب، فهو ينظر بحذر شديد لمبدأ التعددية السياسية. فعلى حين يحظر صراحة في عدد من الدساتير فإنه يتغافل عنه عمدا في دساتير أخرى، في حين يفرغه من كل مضمون إما بواسطة قيود دستورية واضحة في قلب الدستور نفسه، وإما بقيود تشريعية لاحقة تجعل من ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الدستور أمرا ضيقا للغاية ومحاطا بمخاطر شديدة" (22).

ونجد إن من المفيد في هذا السياق أن نعمد إلى المرور، ولو مر الكرام، على تجربة الدستور الأردني ـ وهو بالمناسبة من أكثر الدساتير العربية انفتاحا واشتمالا على الحقوق والحريات السياسية العامة ـ لعلنا نتخذ من تلك التجربة أنموذجا قد يساعدنا على تلمس مستوى اهتمام الأنظمة العربية بدعم ممارسة الديموقراطية وتحويلها إلى ممارسة حية فاعلة، وذلك عن طريق تتبع النصوص التي يوردها الدستور بشأن تكوين التنظيمات السياسية، التي لا يختلف أحد على ضرورة وجودها لإيجاد حياة ديموقراطية حقيقية.

وللإنصاف، لا بد من القول إن الدستور الأردني قد ضمن للمواطنين الحق في التمتع بالحياة الحزبية، إذ أشار في المادة (16) إلى ما يلي من بنود :
للأردنيين حق الاجتماع ضمن حدود القانون.
للأردنيين الحق في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية، على أن تكون غايتها مشروعة ووسائلها سلمية وذات نظم لا تخالف أحكام الدستور.
ينظم القانون طريقة تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية ومراقبة مواردها.
يحفل الدستور الأردني كما يبدو واضحا، ربما بحكم طابعه العمومي الشمولي، بالتفصيل في الأبعاد المختلفة لمسألة تأليف التنظيمات الحزبية، تاركا هذه المهمة للقانون الأردني، كيما يدلي هذا الأخير بدلوه في تلك المسألة. وكعادة القوانين العربية من المحيط إلى الخليج، لم يأل القانون الأردني، ممثلا بقانون الأحزاب السياسية رقم (32) لسنة (1992)، جهدا في وضع الضوابط التنظيمية والإدارية والمالية التي تضمن دوران التنظيمات الحزبية داخل فلك السلطة، وتحول دون تمكنها من إحداث تغييرات جوهرية في بنية موازين القوى السياسية في البلاد(23).

في المقابل، يسجل للقانون توقفه عند مسألة ممارسة الديموقراطية داخل التنظيمات الحزبية، إذ أشارت المادة (6) من القانون في الفقرة (هاء)، إلى ضرورة أن يشتمل النظام الأساسي للحزب السياسي على"إجراءات تكوين تشكيلات الحزب واختيار قياداته وتنظيم علاقته بأعضائه ومباشرته لنشاطاته وتحديد الاختصاصات السياسية والتنظيمية والمالية والإدارية لأي من هذه التشكيلات، على أن يكون ذلك على أساس ديموقراطي". كما جاءت المادة (21) من القانون لتنص على ما يلي : "يتعين على الـحزب التقيد بالمبادئ والقواعـد الآتيـة في ممارسـة أعمالـه، وأن ينـص على ذلك بشكـل واضـح في نظامه الأساسـي". ومن تلك المبـادئ والقواعـد المشـار إليهـا في الفقرة (ب) من المادة المنوه إليها : "الالتزام بمبدأ التعددية السياسية في الفكر والرأي والتنظيم". غير أن حماسنا لهاتين المادتين اللتين أتينا على إيرادهما سرعان ما يخبو إذا ما تذكرنا البون الشاسع بين نصوص القانون وبين ما تشهده وقائع التطبيق. إذ لم نسمع على امتداد ما يزيد على اثنتي عشرة سنة، هي الفترة التي مرت على صدور قانون الأحزاب، لم نسمع بأن السلطة قد أقدمت على مجرد فتح تحقيق، ولو شكلـي، فيما يتعلق بإقدام أحد الأحزاب السياسية ـ على كثرتها ـ على خرق قواعـد ممارسـة الديموقراطيـة داخلـه، وكـأن الأداء الديموقراطـي الداخلي لأي من تلك الأحزاب لم تخدشه مثلبة خلال كل تلك الفترة !. والحق إننا نكون قد دخلنا في طور المغالاة إذا ما توقعنا من الحكومة أن تبادر إلى فعل ذلك، وهي التي ينوء سجلها بثقل مخالفاتها الصارخة لكثير من قواعد الديموقراطية وأعرافها !.

وجاء الميثاق الوطني الأردني لينضاف إلى قائمة المدونات، شبه التشريعية، التي تشدد على أهمية الممارسة الديموقراطية داخل تنظيمات العمل الحزبي(24)، إذ أشار الميثاق في الفصل الثاني منه إلى ضرورة التزام الأحزاب السياسية الأردنية في تنظيماتها الداخلية، وبرامجها، وتوجهاتها، وممارساتها، وأنشطتها العامة والحزبية بعدد من المبادئ، منها:
اعتماد الأساليب الديموقراطية في التنظيم الداخلي للحزب، وفي اختيار قياداته، وممارسة نشاطاته، في إطار الحوار الديموقراطي، والتنافس الحر بين الأحزاب السياسية. ويطبق ذلك على علاقات الحزب، وتعامله مع الأحزاب، والتنظيمات السياسية الأخرى، ومع المؤسسات الشعبية، والدستورية، في إطار احترام الرأي والرأي الآخر.

إلا أن هذا الملمح الديموقراطي الطموح لـتأكيد أهميـة الممارسـة الديموقراطيـة داخل الأحزاب لـم يقيض له أن يرى النور، إذ ظـل الميثاق الوطنـي نفسـه حبرا على ورق، ويمكن القول -بكل الأسى والتحسر- إن النسيان أو التناسي قد طويا صفحاته للأبد!.

4- عوامل ثقافية
عقب قرون طويلـة من طغيان مناخات التسلـط والاستبداد وإهدار الحريات الإنسانيـة وقمعها في مدارات مجتمعنا العربي؛ لم يعد بإمكــان المحـلل لطبيعـة الثقافـة العربيـة المهيمنة، إلا أن يخلـص إلى القـول إن ثقافتنـا العربية، بمـا تتضمنـه مـن قيـم واتجاهـات ومـيول ونزعـات … الخ، باتـت تختـزن وتروج الكثير مـن الـمفردات الثقافيـة التي لا يمكن أن تنسجـم، نصـا وروحا، مع مفهوم الديموقراطية وذيوله. وبمـا أن الممارسة الديموقراطيـة الحقيقيـة تستدعي الاستناد، نظريا على الأقل، إلى خلفيـة ثقافيـة ذات طابـع ديموقراطي؛ فإن من الطبيعي أن نشهد تواضعا شديدا في نسبة حضور مثل تلك الممارسات في سائر أنساق حياتنا، بصورة تتناسب مع تواضع نسبة حضور مفردات تلك الثقافة في واقعنا العربي(25).

5- عوامل تنظيمية
عقب الانتهاء من دراسته الشهيرة التي استهدفت البحث في البنية الداخلية للحزب الاشتراكي الألماني، الذي كان من أكثر الأحزاب الألمانية قربا إلى المبادئ الديموقراطية في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، خلص عالم الاجتماع الإيطالي ( روبرت ميشيلز ) إلى استنتاج يفيد بأن كل التنظيمات الكبيرة الحجم تشهد نموا كبيرا في جهازها الإداري، الأمر الذي يستبعد إمكان النجاح في تحقيق ممارسة ديموقراطية داخلية حقيقية، على الرغم مما تعتنقه هذه التنظيمات من إيديولوجيات تؤكد المساواة وتكافؤ الفرص والديموقراطية. وقد استرسل ( ميشيلز ) في تدعيم استنتاجه فاعتبر أن الديموقراطية الحقيقية مطلب صعب المنال في التنظيمات ذات الحجم الكبير، وبخاصة إذا ما كانت هذه الديموقراطية تعني في إحدى جوانبها اشتراك كل أعضاء التنظيم في عمليات صنع القرار. إذ إن هناك استحالة فنية في الإسهام الفعلي لكل أولئك الأعضاء في تلك العمليات، وذلك لانطواء كثير من مشكلات التنظيم على تعقيدات جدية يتطلب التعامل معها توافر معارف متخصصة وخبرات فنية وتدريبية متقدمة لا يتمتع بها كثير من أولئك الأعضاء. في مقابل ذلك، نجد ـ وفقا لميشيلز ـ إن قادة التنظيم يتحكمون، بحكم مواقعهم القيادية، في قنوات الاتصال وما يتصل بها من سلطة وقوة، ما يدعم، في المحصلة النهائية، أوضاعهم ويزيدها استقرارا وتجذرا. وسرعان ما يكتسب هؤلاء القادة عن طريق اضطلاعهم بمهامهم الكثير من المعارف المتخصصة والمهارات السياسية، وهذا ما قد ينجم عنه ابتعادهم التدريجي عن المشكلات الحقيقية لتنظيماتهم، والميل بهم إلى السعي لتحقيق أهدافهم الخاصة، وفي مقدمتها المحافظة على المكانات التي يتقلدونها. كما أورد (ميشيلز ) أسباب أخرى في سياق دفاعه عن فكرته القائلة بصعوبة تحقيق الممارسة الديموقراطية في التنظيمات السياسية الكبيرة، منها إخفاق التنظيم في ابتكار آليات ناجعة لضمان تمثيل الآراء المعبرة عن سائر أعضائه، إضافة إلى احتياجه في حال صراعه مع تنظيمات أخرى إلى وجود قيادة حازمة تفرض اتباع الأوامر وتنفيذ الأوامر والتعليمات بدقة متناهية(26).

إذا كنا نتفق مع ( ميشيلز ) في ما ذهب إليه من إسهام بعض العوامل التنظيمية في تعويق ممارسة التنظيمات الحزبية للديموقراطية الداخلية، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل مسألة التباين في درجة إسهام مثل تلك العوامل ما بين تنظيم وآخر. إذ نرجح أن يكون لإيديولوجية التنظيم نفسها دورا كبيرا في الحد من مدى تأثير تلك العوامل أو تضخيمها، فالتنظيم الذي يتبنى إيديولوجية منسوجة بالقيم الأخلاقية والدينية والروحية، سيحرص، على الأغلب، على اتخاذ الإجراءات التي من شأنها تقليص مستوى تدخل مثل تلك العوامل إلى حدودها الدنيا، أما التنظيم الذي ينطلق من إيديولوجية مادية نفعية فإنه سيواجه، على الأغلب، بشيوع روح الانتهازية وتغليب المصلحة الذاتية بين صفوف قياداته وكوادره.

6- عوامل تتعلق بالشخصية
قد يكون من بين العوائق التي تحط من إمكانات ممارسة الديموقراطية داخل التنظيمات الحزبية ما يتعلق بعوامل ذاتية ترتبط بطبائع الأعضاء أنفسهم، وخصائصهم الشخصية، التي تتباين من عضو لآخر، والتي تلعب دورا، قد يضيق أو يعظم، في تحديد وتائر تفاعلاتهم واتجاهاتهم وتفضيلاتهم وميولهم. هذه العوامل التي تعد البيئة مسؤولة إلى حد بعيد عن تشكيل معالمها وترسيم مساراتها، فلا يمكن، على سبيل المثال، إنكار الدور الذي لعبته الخصائص الشخصية للزعيم الألماني ( أدولف هتلر)، وهو الذي وصل إلى قيادة الحزب عبر قنوات ديموقراطية، في توجيه الحزب النازي الألماني، وتعيين النهج الاستبدادي الذي اختطه الحزب لنفسه على امتداد سنوات طويلة !.

نزعم إننا قد مهدنا، فيما تقدم، لنوع من الأرضية النظرية التي قد تمكننا من الولوج إلى رحاب موضوع تركيز هذه الدراسة، الذي يتمحور بدوره حول قضية ممارسة الديموقراطية في حزب جبهة العمل الإسلامي، وهذا ما سيستغرق اهتمام ما يأتي من صفحات الدراسة.

التنظيمات الحزبية الإسلامية في الأردن
جبهة العمل الإسلامي أنموذجا
يتزاحم على الساحة السياسية الأردنية عدد وافر من التنظيمات الحزبية التي تتباين فيما بينها في الحجم والدور والمكانة والنفوذ. وتختلف، بطبيعة الحال، الأسس التي يمكن اعتمادها في تصنيف تلك التنظيمات، إذ يمكن إدراج بعضها ضمن حظيرة ما يعرف بأحزاب اليمين، فيما يمكن إلحاق بعضها الآخر بعائلة أحزاب اليسار، كما يمكن اعتبار بعضها أحزاب ذات طابع قومي، وأخرى ذات صبغة قطرية، وثالثة ذات نزعة أممية، ورابعة ذات توجه إسلامي…الخ. و يتبوأ حزب جبهة العمل الإسلامي -موضع تركيز هذه الدراسة- وفقا لما يؤكده المراقبون للتجربة الحزبية الأردنية كافة، موقعا متميزا على الخريطة الحزبية الأردنية، بل يمكن القول إنه يتصدر موقع الصدارة من بين قائمة التنظيمات الحزبية القائمة على اختلاف توجهاتها، سواء على صعيد الإمكانات أو الحجم أو الشعبية الجماهيرية(27).

وبحكم علاقته العضوية بجماعة الإخوان المسلمين، حيث تشكل هذه الأخيرة العامود الفقري له(28)؛ تفيأ حزب جبهة العمل الإسلامي منذ قيامه تحت ظلال المكانة المعتبرة التي تحتلها الجماعة، فحظي بشعبية واسعة جعلته يجسد ـ كما أشرنا آنفا ـ التعبير الأمثل عن التطلعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لنسبة مرتفعة من المواطنين الأردنيين(29).

وخلافا لحزب جبهة العمل الإسلامي فإن هناك عددا من التنظيمات الحزبية الأخرى المرخصة التي تتبنى التوجه الإسلامي، من مثل : حزب الوسط الإسلامي، والحركة العربية الإسلامية الديموقراطية (دعاء)، غير أن تلك التنظيمات لا تشغل في واقع الأمر تلك المكانة التي يعتد بها على المسرح السياسي الأردني، سواء على صعيد الحجم أو التأثير، الأمر الذي يجعلنا نزهد في إرهاق صفحات الدراسة بالتوقف عندها، مكتفين بإحالة القارئ المهتم إلى عدد من المراجـع التي أولـت بعـض عنايتها للتعريف بتلك التنظيمـات وإبراز تجربتها(30).

وفي المقابل، سنولي بعـض عنايتنا لإلقـاء الضـوء على حزب جبهـة العمـل الإسلامي -محط تركيز هذه الدراسة- متوقفين عند الملابسات العامة التي رافقت نشأته وعلاقته بجماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى التوقف عند القسمات الرئيسة لهيكله التنظيمي.

حزب جبهة العمل الإسلامي
جاء إعلان وزير الداخلية الأردني في الثامن من كانون الأول لعام (1992) عن التسجيل الرسمي لحزب جبهة العمل الإسلامي(31) تتويجا للجهود الكبيرة التي استنفذتها المرحلة التحضيرية لإنشاء الحزب، والتي امتدت قرابة العامين(32). وثمة من يذهب إلى القول إن حزب جبهة العمل الإسلامي، الذي عقد مؤتمره التنظيمي لهيأته التأسيسية في كانون الثاني من عام (1992)، قد جاء ليعبر عن عملية توسيع للإطار السياسي والنشاطي لجماعة الإخوان المسلمين(33). ففي أعقاب السماح باستئناف الحياة الحزبية في البلاد بإصدار قانون الأحزاب عام (1991) كان من الحكمة أن تعمد جماعة الإخوان ـ التي مارست العمل السياسي منذ تأسيسها أواسط أربعينيات القرن المنصرم كجمعية خيرية ـ إلى تأطير نشاطها السياسي وتقنينه وتوسيعه ضمن إطار المؤسسة الحزبية، دون أن يعني ذلك إلغاءً لجماعة الإخوان المسلميـن، التي ظـلت متواجـدة على الساحة إلى جانب ربيبها حزب جبهة العمل الإسلامي. وعلى الرغم من ذهاب الأمين العام السابق للحزب، الدكتور (إسحق الفرحان) إلى نفي "وجود علاقة بين حزب جبهة العمل الإسلامي وجماعة الإخوان المسلمين، حيث أن حزب الجبهة مستقل ماليا وإداريا وخاضع لقانون الأحـزاب السياسية "(34)، الأمر الذي قد يمكن عزوه إلى عوامـل تكتيكيـة ارتبطـت ببدايـات تأسـيس الحزب، الذي جاء بدوره محاولة لاحتـواء مختلف التنظيمـات الإسلاميـة تحت جناحه، على الرغم من ذلك، إلا أن الأوساط السياسية الأردنية قد دأبت، لأسـباب لا تنقصهـا الوجاهـة(35)، على النظر إلى الحزب بوصفه الـذراع السيـاسي للجماعـة(36). وأيا تكن حقيقة العلاقة بين الجانبين، فإننا نميل في هذه الدراسة إلى التعامل مع حزب الجبهة بوصفه الصيغة الأكثر تسييسا لجماعة الإخوان المسلمين، إذ كانت العلاقة بينهما وما انفكت "علاقة إيمان بالفكرة، ودعم لإخراجها إلى حيز الوجود، وفق المعطيات السياسية، هذا في المراحل التحضيرية، وفي المراحل التي تلت إنشاء الحزب، علاقة تكامل وتعاضد لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للعمل الإسلامي، وعلاقة تنسيق وتعاون في البرامج والآليات، وذلك يتم عن طريقين الأول: الالتزام بنفس الثوابت الإيديولوجية، والثاني السماح للراغبين من الإخوان بدخول الحزب والإسهام في تحقيق الأهداف المشتركة"(37). الأمر الذي سيجعلنا نتحدث عن الجبهة ونحن نضع الجماعة في خلفية الصورة، إذ نرى صعوبة فهم كثير من المسائل المتعلقة بالجبهة إذا ما تم تناولها بمعزل عن سياق علاقتها الحميمة بالجماعة.

الديموقراطية الداخلية في حزب جبهة العمل الإسلامي
كنا قد أشرنا فيما مضى إلى وجود عدد من المقومات الأساسية التي لا بد من توافرها في أي تنظيم سياسي حزبي حتى يمكن القول إن ذلك التنظيم ينحو منحى ديموقراطيا في توجيه تفاعلاته الداخلية.

ويمكن، كما سبقت الإشارة، اختزال تلك المقومات في ثلاثة مقومات أساسية، تتمثل فيما يلي:
1ـ وجود نظام أساسي ديموقراطي السمات للتنظيم، ينص صراحة وتفصيلا على الأسس التي تحدد حقوق الأعضاء وواجباتهم، وتضمن تفيؤ جميع كوادر التنظيم تحت مظلة قواعد الديموقراطية ومقتضياتها.
2ـ تفعيل مبادئ التعددية والحوار وإمكان اختلاف الآراء داخل التنظيم.
3ـ التطبيق العملي لمبدأ تداول السلطة بصورة سلمية ومنتظمة، بما يعبر عن وجود نظام تمثيلي حقيقي.

وسنشرع فيما يلي بمناقشة الكيفية التي تحضر بها تلك المقومات في خطاب وممارسة حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن؛ علنا نتمكن في نهاية المطاف من الخروج بحكم سليم بشأن الدرجة التي يحرزها الحزب على صعيد الالتزام بممارسة الديموقراطية داخل معاقله.

أولا: ملامح من النظام الأساسي لحزب جبهة العمل الإسلامي
يضع حزب جبهة العمل نصب عينيه تحقيق غايات وأهداف عامة كبرى، متمايزة عن أهدافه الخاصة التي يطمح إلى تحقيقها في سياق سعيه لبناء المجتمع الأردني والنهوض به. ويبدو اعتناء الأهداف الاستراتيجية العامة للحزب بالشأن الديموقراطي ممثلا في نص واحد فقط في النظام الأساسي، الذي يشير لسعي الحزب إلى "ترسيخ الوحدة الوطنية، وترسيخ المنهج الشوري والديموقراطي، والدفاع عن كرامة الإنسان وحقوقه وعن الحريات بصورة عامة". أما الأهداف الخاصة للحزب فتفرد عناية أكبر وأكثر تفصيلا للشأن الديموقراطي، فنجدها تؤكد ضرورة "تحقيق مبدأ الحرية المسؤولـة للجميع، وترسيخ أركان الشـورى وضمـان التعدديـة السياسيـة وحماية الإنسـان، كما يؤكدها الإسلام"، كما تؤكد أهميـة "ضمـان حرية الرأي والتعبير لكافة المواطنين"، إضافة إلى وجوب "احترام كيان المرأة وحقوقها المشروعة ودورها في تطوير المجتمع في إطار الفضائل الإسلامية، وإفساح المجال أمامها للمشاركة في الحياة العامة، وإتاحة الفرص لبروز القيادات النسائية في العمل السياسي".

ويقف النظام الأساسي للحزب عند الوسائل والأساليب التي يعتمدها في ممارسة أنشطته وتحقيق أهدافه، فيشير إلى ما يلي من وسائل وأساليب:
ـ تنظيم العمل الجماهيري، في شتى قضايا الأمة، في إطار إسلامي، بهدف تعميق المشاركة الشعبية الواعية، في بناء الوطن والدفاع عنه أمام الأخطار.
ـ إلقاء المحاضرات وعقد الندوات والمؤتمرات واللقاءات العامة والمهرجانات.
ـ إصدار الكتب والنشرات والصحف والمجلات، وإنشاء المؤسسات والكوادر اللازمة لذلك.
ـ إنشاء مراكز الأبحاث العلمية المتخصصة لإعداد الأبحاث والدراسات اللازمة لتنفيذ أهداف الجبهة.
ـ الاهتمام بأندية الشباب، والمراكز الثقافية، والتجمعات الرياضية، والكشفية، التي تعنى بتربية الشباب.
ـ الاهتمام بالنقابات والاتحادات والهيئات الشعبية والتعاون معها لخدمة الوطن، والارتقاء بمستواها، وخدمة المنتسبين إليها في كافة المجالات.
ـ إعداد مشاريع قوانين لتعديل التشريعات الحالية عبر القنوات الديموقراطية بما يتلاءم مع أهداف الجبهة.
ـ التعامل مع الحكومات في ضوء أهداف الحزب، واتخاذ المواقف التي تحقق هذه الأهداف، سواء من موقع المعارضة أو المشاركة، بما يخدم مصلحة الوطن واستقراره.
ـ دخول الحزب إلى جميع مجالات العمل العام على المستويين المحلي والوطني، والعمل على تزويد مؤسسات العمل العام بالروح الإسلامية الواعية، لتصبح قادرة على أداء مهامها على أكمل وجه، وذلك من خلال المشاركة في الانتخابات البلدية والبرلمانية والنقابية وغيرها، والعمل على المشاركة في بناء الأجهزة التنفيذية.

تبدو تلك الوسائل والأساليب التي يعلن الحزب، عبر نظامه الأساسي، عن انتهاجها لتحقيق أهدافه وغاياته متناغمة مع التوجهات الديموقراطية إلى حد بعيد، بل يمكن القول إن تنفيذ معظمها يرتهن بالضرورة بامتثال الحزب إلى قواعد الديموقراطية وأشراطها. والواقع إن الحزب لا يملك، في واقع الحال، إلا أن يلتزم بمثل تلك الوسائل الديموقراطية، إذ تعي قياداته ـ وهي المتمرسة في العمل السياسي ـ إنها لن تتمكن من الاستمرار الفاعل في الحياة السياسية مع تجنب الصدام مع الحكومة واتقاء بطشها في الوقت نفسه ما لم تظهر التزاما جادا باحترام تلك القواعد. إذ تدرك إن في التزامها بقواعد الديموقراطية تقليصا من حجم الذرائع التي يمكن للحكومة أن تستغلها للنيل من الحزب، وهي التي لن تتورع عن استغلال أي شيء للتقليص من نفوذه وطيه تحت جناحها. كما تدرك أيضا إن في التزامها بتلك القواعد سحبا للبساط من تحت أقدام الحكومة وإحراجا لموقفها أمام الرأي العام الداخلي والخارجي إذا ما تورطت هذه الأخيرة في انتهاك تلك القواعد. وقد أبرزت الوقائع صحة هذا الطرح أكثر من مرة، فعلى سبيل المثال، وجدت الحكومة الأردنية نفسها محرجة للغاية أمام إقدام الحزب على ممارسة حقه الديموقراطي ومقاطعة الانتخابات النيابية عام (1997) احتجاجا على انتهاكاتها المستمرة تجاه التوجهات الديموقراطية في البلاد (38). وبطبيعة الحال، لنا أن نرجح أن التزام الحزب بالديموقراطية في تعاملاته الخارجية من شأنه أن ينعكس إيجابا على مستوى التزامه بالديموقراطية الداخلية، وذلك بحكم الترابط المتين الذي لا يمكن حل عقده بين الممارسة الديموقراطية بشقيها؛ الداخلي والخارجي.

ويأتي الشعار الذي اتخذه حزب جبهة العمل الإسلامـي لنفسه، والمتمثل في الآية القرآنيـة الكريمـة ( وأمرهم شورى بينهم )، يأتي ليصـب في سياق تدعيم القول بوجود توجه لدى الحزب لتبنـي مفاهيم تتناغـم مع المفاهيم الديموقراطية، وإشاعتها ضمن مدار التفاعل الحزبي.

وتنبري التصريحات التي تدلي بها الكوادر القيادية للحزب لتقديم بينات إضافية تدعم ما جاء في النظام الأساسي من ميول ديموقراطية، وترجح القول بنزوع الحزب إلى الانضمام تحت مظلة التنظيمات التي تؤمن بالديموقراطية وتتخذ من مفردات قاموسها إطارا مرجعيا يوجه تفاعلاتها الداخلية والخارجية. إذ يؤكد الأمين العام الأسـبق لـحزب جبهة العمل الإسلامـي الدكتـور ( إسحق الفرحان ) في محاضرة عامة ألقاها "عدم الحساسية من استخدام مصطلح الديموقراطية في أدبياتنا السياسية المعاصرة، ما دمنا نعني به جوهر الشورى، واستنبـات ديموقراطيتنـا الأردنيـة في ضوء قيمنا العربية الإسلامية، مع الانفتاح على التجارب الإنسانية في هذا المجال"(39). ويضيف الأمين العام للحزب فيؤكد "الحرص على ترسيخ مسيرة الشورى والديموقراطية في الأردن، والتعاون مع جميع القوى السياسية في هذا المجال، وهو من أولوياتنا السياسية، ومبدأنا في هذا الحرية لجميع المواطنين، وحق جميع المواطنين في المشاركة السياسية"(40).

وبوجه عام، تتردد في أحاديث قادة حزب جبهة العمل الإسلامي ونشراته، مقولات تعلن "تمسك الحزب بالشورى والديموقراطية في عمله والتأكيد على مشاركة أعضائه مشاركة فعالة في رسم نهجه السياسي. وحتى يكون الحزب فاعلا في ترسيخ الديموقراطية في المجتمع، لا بد أن تكون جبهة العمل الإسلامي ذاتها نموذجا شوريا وديموقراطيا في طريقة رسم سياساتها بنفسها واتخاذ القرارات الصادرة عنها"(41).

وفي سياق تناولنا للنظام الأساسي لحزب جبهة العمل الإسلامي، يبدو مهما الوقوف عند الهيكل التنظيمي للحزب، والتعرف إلى الهيئات المشكلة له، وطبيعة الصلاحيات المنوطة بكل من تلك الهيئات، التي تتكون مما يلي:

1- الهيئة التأسيسية
تألفت الهيئة التأسيسية للحزب من (353) عضوا التأم شملهم للعمل على إقرار النظام الأساسي للحزب ومتابعة إجراءات تسجيله الرسمي وإبرازه إلى حيز الوجود. وفور الإعلان عن التسجيل الرسمي للحزب انعقد المؤتمر التنظيمي الأول في نهاية كانون الثاني من عام (1992)، حيث عمدت الهيئة التأسيسية إلى انتخاب مجلس مؤقت للشورى قوامه (120) عضوا لمدة عام واحد، ليعمل هذا الأخير بدوره على انتخاب مكتب تنفيذي مؤقت من بين أعضائه، تعداده (16) عضوا، لمدة عام واحد أيضا(42).

2- الهيئة العامة
وتضم، بالإضافة إلى الهيئة التأسيسية المشار إليها، سائر الأعضاء الذين يتم قبول عضويتهم الحزبية حسب النظام الداخلي. وللهيئة العامة اجتماع يعقد مرة في السنة، أو بقرار من المكتب التنفيذي، أو بدعوة من الأغلبية المطلقة لمجلس الشورى(43). ويكون اجتماع الهيئة العامة قانونيا بحضور الأغلبية المطلقة للأعضاء، وإذا لم يكتمل النصاب القانوني في الجلسة الأولى، يؤجل الاجتماع لمدة أسبوعين ويعد قانونيا عند انعقاده الثاني مهما بلغ عدد الحضور، هذا ويعلن عن موعد اجتماعات الهيئة في صحيفتين محليتين على الأقل. وتتمثل صلاحيات الهيئة العامة في مناقشة السياسة العامة للحزب وإقرارها، التي يتم تقديمها من جانب مجلس الشورى(44).

3- المؤتمر العام
إذا زاد عدد أعضاء الهيئة العامة عن ألف عضو يقوم المؤتمر العام بمهام الهيئة العامة، ويتشكل على النحو التالي:
أ ـ جميع أعضاء مجلس الشورى.
ب ـ جميع أعضاء الهيئات الإدارية الممثلة لفروع الحزب.
ج ـ نسبة عددية من مجموع أعضاء الهيئة العامة لكل فرع من فروع الحزب، حسب ما تحدده اللائحة الداخلية، ويتم انتخابهم سنويا.

4- مجلس الشورى
يتكون من (120) عضوا من ممثلي المناطق المنتخبين حسب التمثيل النسبي، على أن يكون رئيس الفرع عضوا في مجلس الشورى. والمجلس يجتمع دوريا كل ستة أشهر، أو بقرار من المكتب التنفيذي، أو بدعوة من ثلث أعضائه. ويكون الاجتماع قانونيا بحضور الأغلبية المطلقة للأعضاء، وتصدر القرارات بالأغلبية المطلقة للحضور، إلا ما قيد منها بنص في هذه اللائحة "النظام". وإذا لم يتوافر النصـاب في الاجتماع الأول يدعى المجلس إلى اجتمـاع ثان بعد أسـبوع، وإذا لم يكتمـل النصـاب يدعـى إلى اجتمـاع ثالث بعد أسبوع آخر، فإذا لم يكتمـل النصـاب في الأسـبوع الثالـث يعتبر المجلــس منحلا، وعلى المكتـب التنفيـذي إجراء انتخاب لمجـلس الــشورى، خـلال شهـرين من تاريـخ موعد الاجتماع الثالث. ويفقد العضو عضويته في مجلس الشورى إذا تغيب، بدون عذر مقبول عن حضور جلسات المجلس لثلاث مرات متتالية، وفي هذه الحالة ينتخب بديل له من منطقته(45).

5- المكتب التنفيذي
يتكون المكتب التنفيذي من (13) عضوا، بما فيهم الأمين العام وينتخب مجلس الشورى الأمين العام أولا، وعلى حدة، ثم ينتخب (12) عضوا آخر للمكتب التنفيذي. ويقوم المكتب التنفيذي بانتخاب مراكز أخرى من بين أعضائه: نائب الأمين العام، ومساعدوه، كما يشكل اللجان المختصة لمختلف أنشطة الحزب(46).

يتراءى لنا ـ بوجه عام ـ إن هناك قدرا من الالتزام بقواعد الديموقراطية فيما يتعلق بتشكيل المستويات التنظيمية المختلفة للحزب، وآليات انعقادها وصلاحيات أعضائها، إذ نلمس توافر المقومات الأساسية الضرورية، لضمان ممارسة مستوى مقبول من الديموقراطية داخل التنظيم. حيث يتم اعتماد مبدأ الانتخاب السري أساسا لاختيار الكوادر القيادية على شتى المستويات، كما يتم اتخاذ القرارات الحزبية ضمن قنوات رسمية ديموقراطية وبموافقة الأغلبية المطلقة (50%+1)، دون أن تحرم أصوات الأقلية المعارضة من التعبير عن رأيها.

كما يسجل للهيئة التأسيسية للحزب إقدامها، عند تشكيل الحزب، على انتخاب مجلس الشورى والمكتب التنفيذي لفترة انتقالية مؤقتة مدتها عام واحد، ومسارعتها عقب انتهاء تلك الفترة إلى إجراء انتخابات جديدة للهيئتين المشار إليهما، الأمر الذي يعد بادرة ديموقراطية طيبة وفرت الإمكان لتداول السلطة وعدم احتكارها في يد الكوادر المؤسسة، كما نلمس في كثير من التنظيمات السياسية الحزبية.غير أننا، في المقابل، نجد إن من المفيد أن نتوقف عند بعض النقاط في النظام الأساسي للحزب، التي يحسن بهذا الأخير العمل على توضيحها بصورة أكبر، تجاوزا لإساءات الفهم ـ البريئة أو المغرضة ـ التي يمكن أن توجه لنصوص ذلك النظام.

فهناك ذلك النص المتعلق بصدور القرارات في مجلس الشورى، والذي يفيد بأن القرارات تصدر بالأغلبية المطلقة للحضور، إلا ما قيد منها بنص في هذه اللائحة "النظام". وفضلا عن أنه يذكرنا بذلك الاستدراك ـ البغيض ـ الذي يصفع أنظارنا في معظم دساتيرنا العربية، الذي يقيَد ممارسة كثير من الحقوق المشروعة بأحكام هذا القانون أو ذاك، فإن ذلك النص قد يوحي، إذا لم يقترن بالتوضيح، إن هناك نصوصا في النظام الأساسي للحزب ـ وهو محض نظام تنظيمي ـ تحمل من القداسة ما يجعلها عصية على التعديل أو التبديل(47). من جانب آخر، لا يوضح النظام الأساسي للحزب فيما إذا كانت آلية الاقتراع السري هي الآلية الرسمية الواجب اعتمادها لانتخاب سائر المستويات القيادية في التنظيم(48).

على صعيد آخر، وفي سياق تعداده للوسائل والأساليب التي يعتمدها في نشاطه، لا يؤكد النظام الأساسي صراحة احتكام سائر تلك الوسائل والأساليب إلى قواعد الديموقراطية. وهو الأمر الذي يحسن التنويه إليه، ما دام الحديث يتناول السبل والآليات التي ينتهجها الحزب في تحقيق غاياته.

ثانيا: حزب جبهة العمل الإسلامي والتعددية السياسية
كثيرة هي النصوص والتصريحات التي يمكن تتبعها لدى حزب جبهة العمل الإسلامي، التي تؤكد التزام الحزب بقضية احترام الرأي الآخر وعنايته بتيسير سبل الحوار الديموقراطي المنفتح، ليس فقط على المستوى الداخلي للحزب، وإنما على المستوى الوطني برمته أيضا، وكنا قد أوردنا عددا من تلك النصوص والتصريحات في سياق آخر من الدراسة. بيد إن علينا التحقق فيما إذا كان الخطاب النظري للحزب، والمفعم بتأكيدات امتثاله لمبادئ تفعيل الحوار الديموقراطي وتعميمه قد ظل خطابا شكليا يزين سطور البيانات الحزبية و يؤمن مادة رتيبة لصفحات الصحف والمجلات، أم إنه تبلور على شكل ممارسات عملية ذات طابع مؤسساتي منتظم ومنظم.

نبدأ بإطلالة عاجلة تسعى إلى استقصاء مدى التزام الحزب بتطبيق مبدأ احترام التعددية والحوار على مستوى تفاعلاته الخارجية، لنجد أن عددا من قيادات الحزب، حتى قبل إنشائه، قد انتظموا إلى جانب أقرانهم من نشطاء العمل السياسي على اختلاف تياراته، للعمل على إصدار ما عرف بالميثاق الوطني الأردني عام (1992)، الذي جاء وثيقة تعاقدية توافقية تعبر عن ائتلاف سائر أطياف العمل السياسي الوطني حول جملة من الثوابت والمرتكزات(49). كما سبق للحزب أن بادر إلى إطلاق عدد من الدعوات للحوار مع الحكومة، إلا أن هذه الدعوات لم تجد التجاوب المطلوب، بل أدارت الحكومة ظهرها، كما يؤكد الأمين العام للحزب الأستاذ (حمزة منصور)، الذي يشير بأن الحوار الذي يدعو إليه حزبه هو "حوار من خلال مؤسسات دستورية، ولا تصنع بدائل بعد أن تقتل الأصل… الحكومة قتلت مجلس النواب الذي كان نموذجا يحتذى به في المنطقة العربية بعد أن استؤنفت المسيرة النيابية عام (89)"(50).

ضمن حيز آخر، يدور ضمن فلك الإقرار العملي بمبادئ التعددية والحوار، لعب حزب جبهة العمل الإسلامي دورا بارزا في تشكيل ما عرفت بلجنة (تنسيق أحزاب المعارضة)، التي ضمت، بالإضافة إلى الحزب، عددا من الأحزاب اليسارية والقومية، التي جمع بينها الموقف المشترك من بعض القضايا الوطنية المهمة، كحماية الهوية الوطنية، ومقاومة التطبيع، والدفاع عن العراق. ويؤكد الأمين العام الحالي للحزب، الأستاذ (حمزة منصور) إن هناك درجة عالية من التنسيق والتعاون بين الأحزاب المشكلة للجنة، التي تلتقي لمدة ثلاث ساعات أسبوعيا. ويضيف الأمين العام للحزب بقوله: إن "درجة التنسيق بين الأحزاب عالية وهي غير مسبوقة في تاريخ الأردن والوطن العربي.. صحيح أنها تحتاج إلى تطوير، لأن كل حزب أصلا بحاجة إلى تطوير، بل كل شخص يحتاج إلى تطوير، لأن من لا يؤمن بالتطوير يبقى جامدا. أما قصة الهيمنة ـ أي هيمنة حزب الجبهة وفق ما يشيع البعض على بقية الأحزاب المنخرطة في لجنة تنسيق أحزاب المعارضة ـ فأعتقد إن علينا أن نتجاوز مثل هذا الكلام .. فحزب جبهة العمل الإسلامي تقبَل بالتناوب على رئاسة اللجنة.. ولو كنا نريد الهيمنة لرفضنا إلا أن تكون رئاسة اللجنة لنا على الدوام.. لكن نحن لا نبحث عن مغانم، إنما نؤمن بالعمل المشترك، وأن لكل منا دور، وأن هذه الأدوار تتكامل أو تتصادم"(51).

ويتفق هذا التوجه لدعم التنسيق والتعاون الديموقراطي مع سائر القوى والتنظيمات السياسية، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، مع ما أعلنه الأمين العام السابق للحزب، الدكتور (عبد اللطيف عربيات) من تقديره واحترامه وتأييده، من حيث المبدأ، لفكرة خوض الانتخابات النيابية ضمن قائمة موحدة تضم القوى اليسارية والقومية، شريطة أن تخضع تلك الفكرة للتدارس العميق والتوافق الديموقراطي(52). وفي لفتة ذات دلالة ديموقراطية واضحة، أعلن الحزب، ممثلا بأمينه العام الدكتور (عبد اللطيف عربيات) عن فتح الباب لانتساب المسيحيين للحزب، وذلك انطلاقا من النظر إلى المسيحي بوصفه "مواطنا له حقوق مثل أي مواطن آخر، والمسيحي العربي هو مسلم بفكره وحضارته، وهذا لا ضير فيه، ونحن نعتز بوجود هذه الفئة من الناس، ونرحب بأي أخ مسيحي ينتسب لدينا"(53).

أما فيما يتعلق بالمجال الداخلي لتفاعلات الحزب، ومكانة مبادئ التعددية وحرية الحوار واحترام الرأي والرأي الآخر في تلك التفاعلات، فيمكننا القول إن حزب جبهة العمل يمثل حالة متقدمة جديرة بالاعتبار على صعيد احترام تلك المبادئ وتكريس ممارستها. فلقد بات بحكم السنة الراسخة، كما تؤكد قيادات الحزب، عدم اتخاذ القرارات إلا بالأغلبية المطلقة، وبعد مناقشتها وإقرارها، وفق قواعد الديموقراطية، من جانب سائر المستويات التنظيمية في الحزب. ودعونا نقدم لحديثنا بمثال يوضح الإجراءات الديموقراطية التي واكبت عملية اتخاذ قرار مقاطعة الانتخابات النيابية من جانب جماعة الإخوان المسلمين لعام (1997) ـ مع تذكر العلاقة الحميمة ووضعية التطابق في المواقف بين الجماعة والحزب فيما يتعلق بمعظم القضايا، ومنها قضية الانتخابات النيابية بالطبع ـ حيث نجد إن ذلك القرار قد اتخذ، حسب ما أفاد به الأستاذ (عماد أبو دية) أحد القيادات البارزة في الجماعة والحزب، وفق السياق التالي: "يعتبر مجلس الشورى المؤسسة الأعلى في جماعة الإخوان المسلمين، ويتكون من (30) عضوا ينتخبهم أعضاء الجماعة من الشعب والمناطق، وينتخب مجلس الشورى من بين أعضائه مراقبا عاما للجماعة، والمكتب التنفيذي الذي يدير الجماعة ويتولى جميع شؤونها القيادية والمالية والتنظيمية. وقد قرر مجلس الشورى في جلسة سابقة تفويض المكتب التنفيذي للجماعة باتخاذ ما يراه مناسبا بشأن المشاركة في الانتخابات القادمة، وكانت أغلبية أعضاء المكتب التنفيذي ترى مقاطعة الانتخابات. وفضَل المكتب أن يعيد الأمر لقواعد الجماعة ولمجلس الشورى، وذلك بعد سلسلة من اللقاءات والمدارسات بشأن الانتخابات مع أهم فعاليات الحركة الإسلامية. وعقد المكتب التنفيذي سلسلة من اللقاءات والمشاورات مع المستويات الوسطى في قيادة الجماعة، ثم أجرى استفتاءً بين جميع أعضاء الجماعة، وكانت أغلبية أعضاء الجماعة تدعو إلى المقاطعة، ثم طرح الموضوع في مجلس الشورى في لقاء خاص عقد لهذا الغرض، وقرر المجلس بأغلبية أعضائه مقاطعة الانتخابات، واعتبر هذا القرار من المجلس ملزما للمكتب التنفيذي للجماعة"(54).

ويؤكد نائب العام لحزب جبهة العمل الإسلامي إن هناك تقليدا راسخا يقضي بإخضاع سائر أمور الحزب إلى مناقشة جميع أعضائه واسمتزاج آرائهم بشأنها، وقد بات هذا أمرا روتينيا أساسيا واعتياديا، وفي صميم عمل الحزب(55).

وفي سياق اعتنائه بإخضاع شؤون الحزب إلى مبضع المناقشة والتشاور المستمر؛ يبدي حزب جبهة العمل الإسلامي عناية مركزة بمسألة انتظام انعقاد هيئاته المختلفة. إذ يجتمع مجلس الشورى، وفق ما يقرره النظام الأساسي للحزب، مرتين في العام، إضافة إلى الاجتماعات الطارئة التي تقتضيها الحاجة، وذلك بدعوة يتم الاتفاق عليها بين المجلس والمكتب التنفيذي للحزب. أما هذا الأخير فيجتمع مرة على الأقل في الأسبوع، فضلا عن اجتماعين يتمان أسبوعيا لما يعرف بالمكتب المصغر، الذي يضم بدوره الأمين العام ونائبيه ومساعديه، وذلك للنظر في الأمور الروتينية والعاجلة، ومناقشة المواقف المختلفة المتعلقة بآخر الأحداث والمستجدات. وفيما يتصل بالمؤتمر العام للحزب، الذي قام مقام الهيئة العامة بعد أن تجاوز عدد أعضائها الألف عضو، وفقا للنظام الأساسي، فإنه ينعقد تبعا للنظام نفسه مرة كل أربع سنوات، أو عند الحاجة، بدعوة من مجلس الشورى والمكتب التنفيذي. ويبـدو أن الحزب لا ينظر إلى المؤتمر العام بوصفه إحدى الهيئات الأساسية فيه؛ انطلاقا من افتراض قيام مجلس الشورى في واقع الأمر مقامه، وذلك بحكم اشتمال المجلس على عدد كبير من الأعضاء (120 عضوا) تم انتخابهم بصورة ديموقراطية ليمثلوا سائر أعضاء الحزب وكل هيئاته(56).

على صعيد آخر، كنا قد أشرنا إلى أن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين قد شكلوا منذ تشكيل حزب جبهة العمل الإسلامي العمود الفقري للحزب، إذ كانت الجماعة هي المخرج الحقيقي الذي وقف خلف إخراج ذلك الحزب إلى النور. في ضوء ذلك، وفي ضوء الثقل التاريخي الكبير الذي تشغله الجماعة من بين تنظيمات الحركة الإسلامية في المملكة؛ كان من الطبيعي أن يستأثر عناصرها بنصيب الأسد من مقاعد مجلس الشورى للحزب، وهو الأمر الذي أثار حفيظة العديد من الإسلاميين المستقلين، الذين سارعوا إلى الإعلان عن استقالتهم من الحزب جراء شعورهم بالغبن من استحواذ كوادر الجماعة على ما يزيد عن (85%) من عضوية مجلس الشورى(57). ولا ندري إذا كان بالإمكان اعتبار هذا انتقادا للحزب نفسه، وهو الذي أعلن منذ بداياته عن هويته، وعلى لسان أمينه العام الأول الدكتور (إسحق الفرحان)، بوصفه جبهة مؤسسية "هي جبهة أفراد وليست جبهة جماعات أو جمعيات أو أحزاب، ولو كانت كذلك لواجهنا في المستقبل إمكانية حدوث انشقاقات إذا تم الاختلاف في الرأي بين جماعة وأخرى، أو حزب وآخر"(58).

تجدر الإشارة إلى أن مسلسل الاستقالات والإقالات من الحزب لم يكد يتوقف منذ الإعلان عن قيامه، وتبدي قيادة الحزب فهما عميقا لهذه الظاهرة، إذ يحللها نائب الأمين العام للحزب، الأستاذ (جميل أبو بكر) بقوله: "ظاهرة الاستقالة أو الخروج من التنظيمات الحزبية ظاهرة قديمة، وستستمر في كل الأحزاب، لكنها تزداد في مواسم معينة، والذي يحصل بين الفينة والأخرى هو اختلاف على موقف أو سياسة أو مصلحة. في هذا الصدد، نؤكد إن القرارات في الحزب كانت دائما وأبدا تؤخذ بالاستناد إلى قواعد الشورى والديموقراطية التامة. فعلى سبيل المثال، تم تصعيد المرشحين للانتخابات النيابية الأخيرة من القواعد، إلى اللجنة المركزية للانتخابات، إلى المكتب التنفيذي للحزب، ثم إلى اجتماع مشترك بين أعضاء المكتب التنفيذي وممثلين عن جماعة الإخوان المسلمين، حيث تم الإقرار النهائي للترشيحات وإعلام القواعد بما انتهت إليه القيادة. وننوه بأن الترشيح من جانب القواعد يتم بشكل انتخابي، وغالبا ما يتم إقرار أغلب الترشيحات التي تأتي من القواعد، إلا في حالات محدودة يتوافر فيها للقيادة من المعلومات والتقديرات ما يجعلها تتجه اتجاه آخر، إذ نؤمن بوجوب احترام رأي القواعد في ترشيح ممثليها واختيارهم، لأنها ستتولى مسئولية العمل على إيصال هذه الكوادر إلى مواقع العمل العام، فضلا عن خبرة تلك القواعد بتفاصيل الواقع الشعبي بحكم تفاعلها المباشر معه. وفي نهاية المطاف، لا بد من التزام الجميع بقرار الحزب المستند إلى الشورى والديموقراطية، غير أن ما يحدث في بعض الحالات هو إصرار بعض الأخوة، في منطقة أو دائرة انتخابية ما، على الخروج على القرار الديموقراطي للحزب أو مخالفته، وتغليب صوت الطموح الشخصي والهوى الذاتي، الأمر الذي يجبر الحزب على اللجوء إلى اتخاذ إجراء تنظيمي بحق ذلك الموقف المنفرد، وفقا للوائح الحزب وأنظمته. وعلى أية حال، وقياسا إلى حجم الحزب وعدد الأعضاء فيه فإن عدد المستقيلين منه أو المقالين يعتبر محدودا للغاية، فعلى سبيل المثال، اضطر الحزب إلى اتخاذ إجراء تنظيمي قضى بفصل ما لا يزيد عن (5) أعضاء، كانوا قد أصروا على مخالفة الإجماع الحزبي بشأن الترشيحات في مختلف الدوائر في الانتخابات النيابية الأخيرة"(59).

ترتيبا على ما تقدم؛ قد يكون من المغالاة تحميل الحزب وزر نزوع البعض إلى الخروج على قرارات الشرعية والأغلبية، وقد يكون من غير الإنصاف الانزلاق إلى وسمه بسمة التعسف ومصادرة حرية أعضائه في التعبير عن الرأي المختلف، لمجرد عجزه عن مسايرة رغبات بعض الأعضاء الذين قد تأخـذهم العزة بالإثم ويأبون إلا فرض اجتهاداتهم، أو الذين تحركهم مطامحهم الشخصية الجامحة، حتى ولو كان ذلك على حساب الحزب ومصالحه!.

المرأة والديموقراطية الداخلية في حزب جبهة العمل الإسلامي:
لا نظن إن الحديث عن الديموقراطية الداخلية في حزب جبهة العمل الإسلامي، وبخاصة فيما يتعلق باحترامه لمبدأ التعددية والقبول بالآخر، سيستقيم ما لم نتوقف عند اتجاه الحزب نحو المرأة ونظرته إلى حقوقها، إضافة إلى ممارساته العملية على صعيد تمكينها من تعزيز أدائها للأدوار التي يمكن أن تلعبها لمساعدته على تحقيق رسالته وإحراز أهدافه. إذ قد يشكل الاتجاه من الفئات المهمشة والمضطهدة في العادة، كالمرأة على سبيل المثال، معيارا أكثر دقة وصلاحية للحكم على حقيقة ذلك الاتجاه ودرجة مصداقيته.

نبدأ بالنظام الأساسي، فنجده يؤكد عبر إحدى الأهداف الخاصة للحزب السعي إلى "احترام كيان المرأة وحقوقها المشروعة، ودورها في تطوير المجتمع، في إطار الفضائل الإسلامية، وإفساح المجال أمامها، للمشاركة في الحياة العامة، وإتاحة الفرص لبروز القيادات النسائية في العمل السياسي". ونجد تفصيلا لما جاء في النظام الأساسي بخصوص المرأة ودورها في تصريح للدكتور ( إسحق الفرحان ) أول أمين عام للحزب، حدد فيه الأسس الشرعية التي ترتكز إليها نظرة الحزب إلى المرأة، التي تتمثل فيما يلي(60) :
1ـ إن المرأة مساوية للرجل على مستوى الإنسانية والكرامة، وهي نصف المجتمع الذي لا بد من اشتراكه المنسجم المتعاون مع النصف الآخر لضمان بناء المجتمع ونهضته على أسس سليمة.
2ـ إن المرأة مخاطبة بالتكليف الشرعي حالها حال الرجل، ومحاسبة ومجزية على عملها في الدنيا أسوة به.
3ـ الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع، وفضلا عن أن المرأة هي نصف المجتمع، فهي المسؤولة الأولى عن تربية نصفه الثاني، ما يعظم من محورية دورها التربوي في الأسرة، دون أن يعني هذا الانتقاص من حقوقها أو الإخلال بواجباتها المتعلقة بأدوارها على الصعيد المجتمعي.
4ـ تضطلع المرأة بأداء دورها في خدمة المجتمع وبنائه في شتى المجالات، شأنها في ذلك شأن الرجل، تحت مظلة الالتزام بقيم الإسلام وآدابه وأخلاقه.
5ـ ليس ثمة خلاف حول حقوق المرأة في التعلم والتعليم والعمل والتملك والإرث…الخ، وهي الحقوق التي أثبتتها نصوص الشريعة. وللمرأة أيضا حقوقها السياسية التي تتضمن كل عمل من شأنه التأثير في سياسة المجتمع وفي ثقافته، ويشمل ذلك: حرية التعبير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانخراط في المشاركة السياسية بأوسع معانيها، من الترشيح للمجالس التمثيلية، والاقتراع، والانخراط في تنظيمات ما يعرف بالمجتمع المدني، وتقلد المناصب العامة على اختلاف مستوياتها، باستثناء الرئاسة العليا للدولة، وما كان بمستوى ذلك من خطورة المسؤولية وجسامتها، مثل ولاية الحرب(61).

وندع النصوص جانبا الآن، ونتوقف عند الممارسات العملية لحزب الجبهة تجاه المرأة، والدور الذي تشغله بالفعل في التنظيم.
تبلغ نسبة الكوادر النسائية في حزب جبهة العمل الإسلامي حوالي (20%) من جملة الكوادر المنتمية للتنظيم(62). ويضم مجلس الشورى في عضويته (6) نساء، أي بما نسبته (5%) من النسبة الكلية لأعضاء مجلس الشورى، البالغ عددهم (120) عضوا. أما المكتب التنفيذي للحزب، الذي يتألف من (13) عضوا، فيخلو حتى الآن من العنصر النسائي. وفي ظل الوعي بتواضع تلك النسب، عبر الأستاذ (جميل أبو بكر) نائب الأمين العام للحزب، خلال المقابلة التي أجراها معه الباحث، عن الطموح الجدي للحزب لرفع تلك النسب وزيادة مستوى فعالية العضوات المؤلفات لها.

ويسجل لحزب جبهة العمل الإسلامي إنه الحزب الأردني الأول، الذي بادر في خطوة غير مسبوقة حزبيا، إلى ترشيح سيدة لخوض الانتخابات النيابية، إذ قام بترشيح الدكتورة (حياة المسيمي) لخوض الانتخابات النيابية الأخيرة التي جرت في حزيران من العام (2003)(63). وقد فازت الدكتورة (المسيمي) مرشحة الحزب في مدينة الزرقاء، ثاني مدن المملكة في عدد السكان، بالفعل، حاصلة على أعلى الأصوات من بين (54) مرشحة للانتخابات على مستوى المملكة. الأمر الذي عده نائب الأمين العام للحزب الأستاذ ( جميل أبو بكر)، في حديثه للباحث، مشجعا على ترشيح المزيد من النساء في الدورات الانتخابية المقبلة.

والواقع إن على الحزب أن يسارع بالفعل إلى تدعيم وضع المرأة فيه، وتهيئة السبل الكفيلة بزيادة أعداد اللواتي يتقلدن مواقع قيادية في هيئاته المختلفة، ورفع أعداد اللواتي يرشحهن لتبوئ المناصب العامة في مؤسسات الدولة ودوائرها المختلفة. إذ لم يعد من المنطقي، بعد النجاح الكبير الذي أحرزته مرشحة الحزب في الانتخابات النيابية الأخيرة، أن يتذرع الحزب، على وجه الخصوص، بالأسباب التقليدية نفسها(64)، التي درجت العادة بين أوساط التنظيمات السياسية المختلفة على إيرادها، في معرض تبرير نكوصها عن دعم المرأة ومنحها فرصة ترشيح نفسها والاشتراك الفاعل في مجريات العمل السياسي.

وقد وقف الحزب موقفا سلبيا من قضية الكوتا النسائية، التي أقرت منح (6) مقاعد للنساء في المجلس النيابي، إذ يشير الأمين العام السابق للحزب الدكتور (عبد اللطيف عربيات) إلى أن "الكوتا أولا تعكس حالة تخلف سياسي ولا تأخذ بها في العالم إلا الدول المتخلفة، وهي مخالفة دستورية، حيث أن دستورنا الحالي الذي أقر عام (1952) ألغى الكوتا عن عمد، ولكن المخالفات للدستور أبقت الكوتا كما هي. نحن نريد نائبا للوطن كله، يتحدث باسم الوطن، ونؤيد مشاركة المرأة ناخبة ومنتخبة، ونريدها نائبا للوطن…"(65). ونشير إلى أن مرشحة الحزب الدكتورة ( حياة المسيمي ) في الانتخابات النيابية الأخيرة قد وصلت إلى قبة البرلمان تحت مظلة نظام الكوتا، مع أن عدد الأصوات الكبير التي أحرزتها كان يؤهلها، بكل بساطة، لإشغال مقعد في البرلمان عن طريق نظام التنافس العادي !.

بوجه عام، يمكن القول إن حزب جبهة العمل الإسلامي يتبنى موقفا منفتحا لا تنقصه عناصر التقدمية بالرغم من نزوعه العام إلى المحافظة، وذلك بخصوص الدور الذي يمكن للمرأة أن تلعبه في مجال المشاركة السياسية. غير أن ذلك الموقف قد يحتاج إلى المزيد من التطوير والتعميق، باتجاه المزيد من الديموقراطية والانفتاح، وبما لا يتعارض مع منطلقات الحزب وثوابته الرئيسة. وعلى أية حال، لا نملك إذا ما وظفنا النظرة النسبية في تعاطينا مع المسألة، إلا أن ننحني للحزب تقديرا لموقفه التقدمي ذاك من المرأة، مقايسة بكثير من الأحزاب السياسية، التي ما تزال تقصي المرأة من حيز اعتبارها الجدي، وكأن هذه الأخيرة ليست أكثر من موضوع هامشي مجرد، يمكن استحضاره وتوظيفه لأغراض صوغ البيانات الحزبية والبرامج الانتخابية!.

ثالثا- حزب جبهة العمل الإسلامي وتداول السلطة
يعد تداول السلطة، بشكل فعلي ومنتظم وسلمي، في أي تنظيم سياسي من أقوى المعايير التي يمكن توظيفها في سياق الحكم على مستوى انفتاح ذلك التنظيم وإيمانه الجدي بمبادئ الديموقراطية ومقتضياتها. ونظن إن المفكر الفرنسي (جان بول سارتر) لم يعمد إلى القول ذات يوم إن السلطة هي شر كلها، إلا لأنه كان يرى النتائج المرعبة والتبعات المفجعة لاصطراع الناس على السلطة وتكالبهم على الظفر بها واستماتتهم للاحتفاظ بها. فالسلطة قد تستحيل، في كثير من الأحيان، إلى وحش مفترس لا يرعوي عن الفتك حتى بأقرب المقربين إليه، ما لم تتوافر الضوابط الكافية والكفيلة بلجم جماحها، وتجريدها من إمكانات التغول وشهوة الطغيان.

في تصريح له، أعلن أول أمين عام لحزب جبهة العمل الإسلامي، الدكتور ( إسحق الفرحان ) أن الحزب يرى إلى الديموقراطية بوصفها "فكرة، ومؤسسات، وممارسات، وحتى نكون ديموقراطيين بحق، ينبغي أن لا نكتفي بالتلفظ بالديموقراطية أو ادعاء الإيمان بها، بل ينبغي أن تتبدى في المؤسسات، وتمارس في الحياة العملية كسلوك"(66). ويظهر أن الحزب قد آلى على نفسه بالفعل أن لا يبقي إيمانه بالديموقراطية مجرد كلائش لفظية يتم ترديدها والتشدق بها لأغراض دعائية وانتخابية، بل سعـى جادا إلى ترجمتها على صيغة آليات عمليـة منظمـة ومقننـة وقابلـة للرصـد والمساءلـة. ويبـدو هذا المسعـى واضحـا في تعامـل الحزب مع قضيـة تداول السلطـة، إذ وضـع من القواعـد المحكـمة في نظامـه الأسـاسـي، التي تمـت بلورتهـا عمليـا من خـلال الممارسـة، ما يحول دون تجميد السلطـة وتقييدها بأيدي أي من هيئاته أكثر من المـدة المحدودة التي أقرها النظام الأساسي. فقد نص هذا الأخير على أن ولايـة مجـلس الشورى، وهو من أهم الهيئات الفاعلة في الحزب، لا تتجاوز أربع سنوات شمسيـة. وعلى الرغم من الصلاحيات الواسعة لمجلـس الشورى، إلا أنه لا يشكـل تلك الهيئـة العصيـة على المحاسبة أو التغيير، إذ إن المجلـس يعد منحلا، وفق النظـام الأساسـي، إذا لم يكتمل النصـاب لإحدى اجتماعاته ثلاث مرات متتالية، يفصـل كل منها عن الآخر مدة أسبوع واحد. كما أن قراراته تخضع للنظر من المحكمـة المركزية، ويمكن استئناف النظر فيها لدى المحكمة العليا للحزب. هذا ويتم انتخاب سائر أعضاء مجلس الشورى وما يتفرع عنه من هيئات ومواقع قيادية بالاقتراع السري(67).وفيما يتصل بالمكتب التنفيذي، وهو المعبر عن السلطة التنفيذية في الحزب إذا جاز التعبير، فإن مدته لا تزيد، بأي حال من الأحوال، عن سنتين. وعلى الرغم من أنه يتم انتخاب أعضاء المكتب التنفيذي من بين أعضاء مجلس الشورى، إلا انه لا يجوز الجمع، حسب النظام الأساسي للحزب، بين عضوية ذلك المكتب وعضوية مكتب مجلس الشورى(68). وتخضع القرارات الصادرة عن المكتب التنفيذي، شأنها شأن جميع القرارات الصادرة عن مختلف الهيئات الإدارية، إلى إمكان النظر فيها من جانب المحكمة المركزية، والمحكمة العليا للحزب.

أما الأمين العام للحزب، فإن النظام الأساسـي لا يبيـح انتخابـه لأكثر من دورتين متتاليتيـن، لا تزيد مدة كل منهما عن العامين. وقد كـرس الحزب، في واقـع الأمـر، تقـليدا راسخـا وسنـة ديموقراطيـة حميـدة عبر التزامـه بعدم التجديد أو التمديد لأمنائه العامين، كما درجت العادة وجرى العرف في كثير من الأحزاب والتنظيمات السياسية العربية. فمنذ خروج الحزب إلى النور عام (1992) تعاقب على أمانته العامة ثلاثة من أبرز قيادات الحركة الإسلامية الأردنية(69). ويسري على الأمين العام للحزب كافة اللوائح والأنظمة التي تسري على سائر أعضاء الحزب، الأمر الذي يقيه، إلى جانب التواضع النسبي لصلاحياته(70)، فضلا عن محدودية مدة ولايته، خطر التفكير في إساءة استعمال السلطة أو السعي إلى التشبث بها. وقد بات من المتعارف عليه في الحزب أن يتبوأ الأمين العام بعد انتهاء ولايته منصب رئاسة مجلس الشورى، اعترافا بفضله وجهوده في خدمة الحزب من جانب، وسعيا للإفادة من خبراته العميقة وكفاءاته الواسعة من جانب آخر، غير أن هذا لا يتم أيضا بطريقة التعيين، وإنما يتم بالرجوع إلى صناديق الاقتراع، وبطريقة سرية ديموقراطية(71) !.

وتعبيرا عن استدخاله قواعد الديموقراطية وتقيده بالتعبير عن جوهرها، وفقا لما أكده نائب الأمين العام الأستاذ (جميل أبو بكر) للباحث؛ حرص الحزب على أن يوجد ضمن هياكله ما يمثل السلطات الثلاث المنفصلة اللازمة لوجود أي نظام ديموقراطي، ونعني هنا كلا من السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية. إذ يأتي المكتب التنفيذي في الحزب وما يرتبط به من الهيئات الإدارية في الفروع ليعبر عن السلطة التنفيذية، بينما تتجسد السلطة التشريعية في مجلس الشورى، في حين يقف النظام القضائي للحزب موازيا لما يعرف بالسلطة القضائية.

ويستحق النظام القضائي للحزب بعض التأمل، نظرا لمتانة الضوابط التي تتوافر فيه، التي نرجح قدرتها على ضمان حقوق الأعضاء والحيلولة دون إساءة الكوادر القيادية لاستعمال سلطاتها. إذ يشتمل ذلك النظام على ثلاثة أنواع من المحاكم(72):
أولا- المحاكم الفرعية
تشكل المحكمة الفرعية من أربعة أعضاء تنتخبهم الهيئة العامة للفرع، وينتخب هؤلاء من بينهم رئيسا ونائبا للرئيس، شريطة أن لا يكون عناصر هذه المحكمة من أعضاء الهيئة الإدارية للفرع. وتنظر هذه المحكمة في جميع المخالفات المحالة إليها بحق أي عضو في الفرع، باستثناء المخالفات المنسوبة إلى أعضاء مجلس الشورى.

ثانيا- المحكمة المركزية
تشكل المحكمة المركزية من خمسة أعضاء ينتخبهم مجلس الشورى من بين أعضائه، وينتخب المجلس من بينهم رئيسا لها، وتنتخب من أعضائها نائبا للرئيس، شريطة أن لا يكون عناصر هذه المحكمة من أعضاء المكتب التنفيذي. وتنظر هذه المحكمة في استئناف القرارات الصادرة عن محاكم الفروع، وفي الاعتراضات المقدمة على القرارات الإدارية الصادرة عن المكتب التنفيذي والهيئات الإدارية، وفي القضايا المحالة من المكتب التنفيذي أو مكتب مجلس الشورى.

ثالثا- المحكمة العليا
تشكل المحكمة العليا من ستة أعضاء ينتخبهم مجلس الشورى من بين أعضائه، وينتخب المجلس من بينهم رئيسا، وتنتخب المحكمة من بين أعضائها نائبا للرئيس، شريطة أن لا يكون عناصر هذه المحكمة من أعضاء المكتب التنفيذي أو المحكمة المركزية. وتنظر هذه المحكمة في القرارات التي تستأنف عن المحكمة المركزية، وتعد القرارات الصادرة عنها قرارات قطعية.

وتجدر الإشارة إلى أن انتخاب أعضاء تلك المحاكم ورؤسائها يتم بطريقة الاقتراع السري، كما تتخذ جميع قراراتها بالأغلبية، وفي حالة تساوي الأصوات يرجح الجانب الذي فيه الرئيس.

وقفة ختامية
في كثير من الأحيان، تغدو بعض الصور النمطية رائجة ومهيمنة إلى الدرجة التي تصبح معها بمثابة الحقائق الثابتة التي لا يمكن النقاش بشأنها، مع أنها قد لا تكون في حقيقتها أكثر من مجرد أحكام وتعميمات جزافية سطحية، قد تنقصها البراءة في بعض من الأحيان، وقد تثقلها نوازع التعصب والتحيز الواعية وغير الواعية في أحيان أخرى. والواقع إن الكثيرين قد انزلقوا إلى مصيدة صورة نمطية مختلقة تشكك، على أضعف تقدير، إن لم تبالغ في الشطط وتقطع بعدم إمكان الالتقـاء بين التنظيمـات الإسلامية على اختلاف مشاربها من جهة، ومبادئ الديموقراطيـة وقواعـد ممارستهـا من جهـة أخرى. وتستند تلك الصورة إلى "منظور استشراقي يستلهم نظرة غربية تقليدية ترسخ صورة نمطية متخيلة عن الشرق. ووفقا لذلك المنظور، فإن المفهوم الغربي للديموقراطية مفهوم علماني حداثي يتضاد مع الطابع الديني التقليدي للتنظيمات الإسلاموية، التي يسمها بسمة الاعتقاد باحتكار الحقيقة المطلقة، ويدفعها إلى إقصاء غيرها من التنظيمات ـ حتى الإسلاموية منها ـ من دائرة المشروعية والصواب، وذلك بالرجوع إلى التضارب معها في التوجهات والرؤى. وهذا يفضي إلى القول بشمولية (توتاليتارية) التنظيمات الإسلاموية، وبوجود تناقض صارخ بين المطلق الديني الذي تدعي تمثيله، وتتوج نفسها من خلاله فوق منطق النقد العقلاني أو التاريخي؛ أي إلغاء الفكر الآخر والحجر عليه، وبين مفهوم الديموقراطية، الذي يشير في إحدى دلالاته إلى أحقية الآخر في التعبير عن أفكاره وتصوراته، بمنتهى الحرية والانفتاح، دون التعرض إلى أي شكل من أشكال القمع والترهيب"(73).

والحق إن تلك الصورة النمطية المفبركة التي تستمد ألوانها من ذلك المنظور الاستشراقي المشوه قد طالها التهشم وفقدت كثيرا من بريقها أمام معطيات الواقع العملي وشواهده الآخذة بالتراكم. فلم يعد بالإمكان اليوم وضع سائر التنظيمات الإسلامية في سلة واحدة والنظر إليها كما لو كانت وحدة واحدة لا يمكن أن تدخل الديموقراطية في عناصر تركيبتها. كما لم يعد بالإمكان أيضا توجيه أصابع الاتهام إلى سائر التنظيمات الإسلامية بوصفها تشكل الخطر الأكبر على التحولات الديموقراطية في المنطقة العربية، كما درج بعض الكتابات الكلاسيكية على القول(74). إذ إن هناك من التنظيمات الإسلامية من بات يثبت، قولا وعملا، التزاما مثيرا للإعجاب بالديموقراطية ومستلزمات تطبيقها، وذلك بالمقارنة مع العديد من تنظيمات العمل السياسي التي تنطلق من مرجعيات يسارية أو قومية أو حتى ليبرالية !. ويمكن، بالاستناد إلى البينات والوقائع المثبتة التي خلصت إليها هذه الدراسة، إدراج الحركة الإسلامية في الأردن بوجه عام، ممثلة هاهنا بحزب جبهة العمل الإسلامي، ضمن قائمة تلك التنظيمات، التي تفرد حيزا فسيحا للمفاهيم والممارسات الديموقراطية ضمن أجواء تفاعلاتها؛ الداخلية والخارجية.

وتأتي هذه النتيجة متسقة، إلى قدر كبير، مع ما انتهت إليه الدراسات التي اتخذت من الحركة الإسلامـية في الأردن ـ ممثلة بجماعة الإخوان المسلمين التي لا يمكن عزلها عن حزب جبهة العمـل الإسـلامي ـ موضوعـا لاهتمامهـا. إذ خلصت الدراسـة التي أجراها ( ليونارد روبنسن ) إلى القول بالتزام أغلبية المنتمين إلى الحركة الإسلامية في الأردن بعملية الانفتـاح السياسـي التي شهدتهـا البلاد عام (1989)، مع ما اقتضاه ذلك من الإقرار بمفاهيـم الخطاب الديموقراطـي والعمـل على ممارستها(75). وأيدت دراسة أخرى نفذها ( لورنس التل ) النتيجة نفسها، فأشارت، فيما أشارت، إلى أن نجاح النظام الأردني في التعامل مع التنظيمات الإسلامية المعتدلة وإشراكها في السلطتين التشريعية والتنفيذية قد انعكس إيجابا على مواقف أعضاء تلك التنظيمات من الديموقراطية ومؤشراتها(76).

وجاءت دراسة ( عزمي منصور ) لتصب في تيار الطروحات التي ترجح انضواء حزب جبهة العمل الإسلامي تحت راية التنظيمات لديموقراطية الحقيقية، بقولها: "يتضح من خلال ما يطرحه حزب جبهة العمل الإسلامـي، ومن خلال ثوابته.. ومن خلال أسلوب التفاعـل مع الجماهير بأسـلوب ديموقراطي ـ كما يقول إسحق الفرحان ـ ومن خلال التقدم بحصول على ترخـيص للحزب على قاعدة الميثاق الوطني، أن لدى حزب جبهة العمل الإسلامي توجها حقيقيا نحو الديموقراطية والقبول بالتعددية"(77). ولم تشذ النتائج التي خلصت إليها دراسة ( الطحلة ) عن ذلك السياق، التي أشارت بدورها إلى ارتفاع نسبة الرضى عن تطبيق الديموقراطية داخل حزب جبهة العمل الإسلامي، إذ عبَر ما يزيد عن (90%) من أعضاء الحزب الذين عمدت الدراسة إلى مقابلتهم عن رضاهم فيما يتعلق بتطبيق الحزب لقواعد الديموقراطية في اختيار القادة، وإتاحة المجال لحرية التعبير عن الرأي، وإتاحة الفرصة للأعضاء للمساهمة في اتخاذ القرارات السياسية(78).

ونختم استشهاداتنا المعززة لنتائج هذه الدراسة بإيراد ما توصلت إليه دراسة ( الصوا وسليمان ) من القول بأن معظم أعضاء التنظيمات الإسلامية الأردنية الذين استقصيت آراؤهم، بما يتضمن عددا من أعضاء جبهة العمل الإسلامي، قد أثبتوا، انحيازهم الواضح للتوجهات الديموقراطية التي انتعشت في البلاد منذ عام (1989)، ليس على الصعيد الخطابي الشكلي فحسب، وإنما على الصعيد العملي الجوهري أيضا(79).
والواقع إن هناك عددا من العوامل التي تضافرت فيها بينها لتعمل على تمكين حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن من الاصطباغ بتلك الصبغة الديموقراطية المثيرة للإعجاب، خلافا للكثير من الأحزاب والتنظيمات السياسية العربية، الإسلامية وغير الإسلامية، التي انزلقت إلى التورط في إنتاج وإعادة إنتاج علاقات التعسف والقمع، وربما العنف. وتجد الدراسة إن من واجبها التنويه بتلك العوامل، لعلها تسهم في تقديم فائدة أو عبرة ما لتنظيمات العمل السياسي العربي من جانب، ولأنظمة الحكم العربي من جانب آخر، هذه الأنظمة وتلك التنظيمات التي ما يزال معظمها يضرب بعيدا في بيداء الأمية الديموقراطية، مبدية عجزا فاضحا عن استيعاب أبجديات الخطاب الديموقراطي، في عالم نأمل أنه لن يصبر طويلا على أولئك الذين يأبون التعلم، ويصرون على التخبط في مجاهل الجهل والاستبداد!.

ومن أبرز تلك العوامل، التي أسهمت في اتشاح حزب جبهة العمل الإسلامي بمئزر الديموقراطية في تفاعلاته، وبخاصة الداخلية:

1ـ ورث حزب الجبهـة تجربـة جماعـة الإخوان المسلميـن في الأردن، تلك التجربة التي استطاعـت تطوير حالـة راسخـة متقدمـة من الـشورى والديموقراطيـة في عمل الجماعـة. ولطالمـا كان الإخوان، بحكم طبيعة تربيتهم، ومعاناتهم في مجتمعاتهم، وبالرجوع إلى منهجهم الإسلامـي القائـم على الإصـلاح والدعوة إلى الله بالحكمـة والموعظة الحـسنـة، لطالمـا كـانوا ينفرون بشـدة من الاستبـداد والفرديـة. وهذه القناعات الديموقراطية أصبحت راسخة في الحركة الإسلامية الأردنية، ومنظمة عبر ممارسات راشدة متقدمة(80).

2ـ تشكل قيمة العدل قضية عقيدية فيما يؤمن الحزب، وكذلك الأمر بالنسبة لقيمة الحرية، التي يعد احترامها فريضة إسلامية، وليس ثمة من يقبل التنازل عن هاتين القيمين أو الإخلال بهما تحت أي ذريعة(81).

3ـ التشديد على مبدأ فصل السلطات في الحزب، وذلك من خلال إيجاد هيئة تنفيذية، وأخرى تشريعية، وثالثة قضائية. وقد تم وضع الضوابط القانونية الكفيلة بعدم تداخل صلاحيات الهيئات الثلاث، وعدم هيمنة إحداها على الأخرى أو على مقدرات القوة والنفوذ في الحزب(82).

4ـ هيمنة الاستبداد السياسي في الوطن العربي ومعاناة الشعوب تفرض على الأحزاب الاستجابة لتطلعات الجماهير في تحكيم مبادئ الشورى والديموقراطية لطرح منهج معاكس لما هو قائم، منهج يرفض طغيان الاستبداد والتفرد بالسلطة واحتكارها، ورفض ما ينجم عن ذلك من فساد وظلم وتخلف(83).

5ـ تمتع حزب جبهة العمل الإسلامي، باعتباره "ابنا شرعيا" لجماعة الإخوان المسلمين(84)، بعلاقة تاريخية إيجابية مع نظام الحكم في الأردن، إذ مالت تلك العلاقة في معظم الفترات إلى التواؤم والانسجام، وربما التعاون في عدد من الحالات، وإن لم يخل الأمر من بعض التوترات محدودة النطاق(85). الأمر الذي جعل من الجماعة التنظيم الأردني الوحيد الذي يحظى بحرية الحركة والتنظيم العلني على امتداد سنوات طويلة، وإن كان ذلك تحت مظلة عملها كجمعية خيرية. ويبدو أن الجماعة قد تمكنت من استثمار ذلك الهامش الواسع من حرية العمل بصورة بناءة، إذ نجحت في فرض حضور كثيف ومؤثر لمؤسساتها الخدماتية في المجال العام للمجتمع، وفيما يعرف بمؤسسات العمل الأهلي، ما انعكس في إثراء الخبرات التنظيمية لأعضائها، وإغناء قدراتهم على تفهم احتياجـات الناس ومعايشـة مشكلاتهم الحقيقيـة، ومن ثم تعمَق حسـهم الإنساني بضرورة تبنـي وتطوير آليـات ديموقراطيـة شفافــة وجديـة لتأميـن استمرارية تواصلهم وتفاعلهم المثمر مع الناس.

والواقع إن في تلك العلاقة التي تميل للدفء والتوازن بين جماعة الإخوان المسلمين من صوب، والنظام السياسي الأردني من صوب آخر، التي يمكن عزوها لأسباب عديدة من أهمها حكمة الجانبين واعتدالهما وبعد نظرهما السياسي، الواقع إنها تصلح كي تكون أنموذجا جديرا بالاحتذاء لطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تقوم بين أنظمة الحكم العربي، وتنظيمات العمل السياسي العربي على اختلاف توجهاته. فالاعتدال يولد الاعتدال، والديموقراطية تثمر الديموقراطية، بينما التطرف ينجب الاقتتال، والعنف يفرخ العنف!.

6ـ كانت سنوات العقد الأخير من القرن العشرين مسرحا لسلسلة من الأحداث الكوبرنيكية الطابع على المستوى العالمي، التي جعلت صورة العالم تختلف، جذريا، عما كانت عليه قبل انطلاق مسلسل تلك الأحداث. فقد سقطت المنظومة الاشتراكية الجبارة بقضها وقضيضها سقوطا مدويا مثيرا للذهول، ليبرز المعسكر الرأسمالي إلى الساحة معلنا انتهاء التاريخ عند قيم الليبرالية والديموقراطية(86)، واندحار معسكر القيم الشمولية إلى الأبد. كما شهد الوطن العربي كارثة حرب الخليج الثانية، التي وجهت بأصابع الاستبداد وكف التعسف وقبضة التسلط ضربة موجعة إلى قلب الأمة العربية، ما زالت آثارها وتداعياتها المؤلمة تتفاقم حتى اليوم، موجهة الأنظار، بكل قسوة ومباشرة، إلى المصير المظلم الجاثم في نهايات طريق الانفراد بالسلطة وإساءة استعمالها. كما قدر لتلك السنوات أن تحضر مشهد استحالة العالم قرية صغيرة، كما يقال، بفعل الثورة المعلوماتية الهائلة التي اجتاحت الدنيا، وفتحت قنوات عريضة تتدفق منها البيانات والأخبار بكثافة وتنوع لا يصدق، وضيقت إمكانات احتكار المعلومات والتعتيم عليها. هذه التغيرات الجسيمة وغيرها حدت بالكثير من الجهات إلى التوقف وقفات مراجعة جدية وحاسمة، ويبدو إن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، ومولودها الفتي حزب جبهة العمل الإسلامي، قد كانا في مقدمة تلك الجهات التي أدركت ضرورة التوقف وإمعان النظر في تلك الأحداث المتسارعة.

ويعبر الاقتباس الطويل الذي سنورده فيما يلي، بإحاطة واختزال، عن أبرز التحولات التي اعترت جماعة الإخوان المسلين على خلفية تأثرها بتلك الأحداث، الذي نقرأ فيه: "أبدت جماعة الإخوان المسلمين تغييرا كبيرا في خطابها وبرامجها وقياداتها إلى درجة تعني أنها تراجع كثيرا من المسائل والمواقف التي استقر عليها العمل عقودا طويلة. فقد انتخبت قيادة جديدة للجماعة مختلفة عن القيادة السابقة في الأعمار والخلفيات والتوجهات، وغير المراقب العام للجماعة (محمد عبد الرحمن خليفة) الذي ظل في موقعه أكثر من أربعين سنة. وأبدت الجماعة منهجا جديدا في التعامل مع القيادات والشخصيات السياسية مختلفا عن منهجية التعامل معها طوال السنوات الأربعين الماضية. فهي تشارك في التنسيق مع كل قوى المعارضة السياسية، أو تشارك في تحالفات وتجمعات مؤقتة تكتيكية لأغراض انتخابية، وشمل هذا التعاون والتنسيق رؤساء حكومات وفريقها… وأحزاب وشخصيات قومية ويسارية ووسطية، وشخصيات ليبرالية وعامة… وينحو الجيل الجديد من الإخوان منحى أكثر ليبرالية واعتدالا من السابق، وهو أمر يمكن ملاحظته في أسلوب ومنهج عمل الاتحادات الطلابية للجامعات الأردنية التي يقودها شباب الإخوان. فيلاحظ على أنشطتهم الثقافية طابع الاختلاط والانفتاح على جميع الاتجاهات الأخرى في المجتمع، فيدعى إلى المحاضرات والندوات والدورات التي تنظمها الاتحادات شخصيات عامة غير إسلامية. وكانت مجلة (المنبر الطلابي) التي يصدرها مجلس طلبة الجامعة الأردنية مختلفة عن كل ما استقرت عليه مطبوعات ونشرات الحركة الإسلامية، كنشر إعلانات فيها صور نساء، ونشر مقالات تبدو مغرقة في الليبرالية والعلمانية. وتدل مطالعة أعداد نشرة (الصف) الداخلية للجماعة بعد (1990) على تحول كبير في مسار هذه النشرة، التي كانت عبارة عن توجيهات وأفكار وعظية وتعليمية محددة ثابتة، ولكنها أصبحت تنشر مقالات عن النقد الذاتي والديموقراطية، وتربية الأولاد والحوار والتنظيم، ومعظمها مستمد أو مترجم من مصادر غربية"(87).

نعم لقد شهدت الحركة الإسلامية في الأردن، ممثلة بجماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسي المتجسد في حزب جبهة العمل الإسلامي، تغيرات جذرية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. وباتت تمثل، في آليات عملها ووسائل تنظيمها وطرائق تفاعلها الداخلي والخارجي، أنموذجا ديموقراطيا جديرا بالاحترام والاحتذاء. ونستحضر ما قاله أحد المراقبين للمشهد السياسي الأردني من غير أصحاب التوجهات الإسلامية، فنقرأ : " شئنا أم أبينا فإن حزب جبهة العمل الإسلامي هو الحزب السياسي الوحيد الذي يشكل نواة لبناء حياة حزبية ديموقراطية. وبغض النظر عن الظروف التي السياسية المتراكمة والتي أوصلت الحزب إلى هذه المكانة فإن تجربته جديرة بالدراسة من قبل الأحزاب الوطنية الأخرى إذا أردنا تغيير تركيبة البرلمان المقبل من تركيبة عشائرية بحتة إلى تركيبة سياسية يكون للتوجه السياسي وللحزب تأثير وتوجيه واضح فيها"(88).

ونضيف من عندنا فنقول: إن دراسة تجربة حزب جبهة العمل الإسلامي في ممارسة الديموقراطية والسعي إلى الإفادة منها، وربما تنكب خطواتها، لن تفضي إلى تغيير تركيبة البرلمان الأردني المقبل أو المساعدة على إنعاش حياة حزبية ديموقراطية في البلاد فحسب فحسب، بل إن ذلك قد يسهم في رفد التوجهات والمساعي الديموقراطية في الأردن، وربما في المنطقة العربية كلها، بطاقة دفع خلاقة متوثبة، ربما كان من شأنها المساعدة على إيقاظ المشروع النهضوي العربي من قيلولته، ومده بما يفتقر إليه من وقود ديموقراطي يعينه على الانطلاق نحو غاياته القومية المنشودة، التي طال انتظارنا جميعا لتحقيقها.
فهل ثم من يسمع النداء ؟!.
__________________
* كاتب …

المصدر : غير معروف