دولة الجوار الفلسطينية مصلحة إسرائيلية عليا

 
undefined

وديع عواودة

جذور الدعوة لدولة الجوار الفلسطينية
الديمغرافيا الفلسطينية ودولة الجوار
وظيفة دولة الجوار والمفاوضات 
دولة الجوار الشارونية

جذور الدعوة لدولة الجوار

"
إن حالة الحرج الكبير الناجمة عن الانتفاضة الأولى بالنسبة لإسرائيل في المحافل الدولية قد دفعت قوى اليسار الصهيوني إلى جانب بعض شخصيات حزب "العمل" بالتجمع حول طرح دولة الجوار الفلسطيني الذي ولدت اتفاقات أوسلو من رحمه في العام التالي

"

عقب النكبة وقيام الدولة العبرية كان الحزب الشيوعي الإسرائيلي الحزب الوحيد في المشهد السياسي المحلي الذي دعا إلى إقامة دولة فلسطينية مجاورة لإسرائيل في حدود قرار التقسيم، وبعد النكسة غير هذا الحزب مرجعيته معتمدا حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967 كإطار للدولة الفلسطينية.

وعقب الاحتلال الثاني غردت الأحزاب الصهيونية في سرب واحد متساوقة بالدعوة لبناء المستوطنات في أراضي الضفة وغزة، في ما حذرت قلة قليلة من نشطاء السلام الإسرائيليين من مغبة ذلك على مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية داعين إلى إقامة دولة فلسطينية على هذه الأراضي كتسوية للصراع.

في تلك الحقبة نشطت بعض الشخصيات أبرزها الأستاذ الجامعي المعروف موشيه ليفوفيتش الذي حذر من أن السيطرة على الفلسطينيين ستدمر المجتمع الإسرائيلي أخلاقيا وتحوله إلى نظام أبرتهايد (الفصل العنصري).

وتلاه الصحافي أوري أفنيري صديق الرئيس عرفات الذي أسس لاحقا حركة "السلام الآن" عقب اجتياح لبنان، وإيبي نتان داعية السلام وغيرهم.

ولم يشهد اليسار الإسرائيلي الممثل بالكنيست تغييرا في هذا المضمار إلا في العام 1973 عندما تشكلت حركة "راتس" بقيادة الوزيرة السابقة شولميت ألوني التي بدأت تناضل ضد الاحتلال بدوافع  حماية حقوق الإنسان.

وفي العام 1992 اتسعت صفوف "راتس" وتحولت إلى حركة "ميرتس" بعد دمجها مع "مبام" و"شينوي" وأخذت تنشط ضد المشروع الاستيطاني المتفاقم، وتدعو إلى حل الصراع بإقامة الدولة الفلسطينية المجاورة على الأراضي المحتلة عام 1967، وإيجاد تسوية لقضية القدس تضمن إعادة القدس الشرقية للفلسطينيين وتبقي "حائط المبكى" (البراق) ضمن السيادة الإسرائيلية.

الديمغرافيا الفلسطينية ودولة الجوار

ولا شك أن حالة الحرج الكبير الناجمة عن الانتفاضة الأولى بالنسبة لإسرائيل في المحافل الدولية قد دفعت قوى اليسار الصهيوني هذه إلى جانب بعض شخصيات حزب "العمل" بالتجمع حول الطرح المذكور الذي ولدت اتفاقات أوسلو من رحمه في العام التالي.

وبالتأكيد تركت الممارسات القمعية الوحشية للاحتلال أثناء الانتفاضة الأولى بظلالها الثقيلة على صورة الإسرائيليين كمجتمع ديمقراطي ما استفز قوى اليسار الصهيوني للنهوض أكثر من أجل وقف النزاع الدامي وحماية الطابع الديمقراطي المرتجى للنظام السياسي بإقامة دولة الجوار.

بموازاة ذلك بدأت هذه الرؤية رويدا رويدا تنفذ إلى أوساط قيادية داخل حزب "العمل" بعد تبخر "الخيار الأردني" ما مهد الطريق أمام إجراء الاتصالات السرية مع منظمة التحرير الفلسطينية وولادة اتفاقات أوسلو التي تبنت فكرة دولة الجوار استنادا للمفهوم آنف الذكر لإنهاء الصراع.

غير أن الجديد في الرؤية هذه كان إدخال العنصر الديمغرافي كواحد من مسوغاتها، وقد قاد شمعون بيريز حملة ترويج فكرة "دولة الجوار" لدى الإسرائيليين باعتبارها الملاذ ألأجدى بل عجل النجاة لإسرائيل كدولة يهودية محذرا من تزايد أعداد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية ومن استمرار السيطرة عليهم في الضفة والقطاع.

ويرى بيريز وغيره من أصحاب هذه الرؤية أن استمرار الاحتلال سيخلق واقعا ثنائي القومية في الدولة العبرية استنادا إلى الإحصاءات الخاصة بالزيادة الطبيعية لدى الشعبين.

ورسمت هذه الرؤية حدود دولة الجوار جغرافيا وسياسيا بما يتلاءم مع الاحتياجات الإستراتيجية الإسرائيلية، فهي تعيد أغلبية الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967(نسبة 22% من فلسطين التاريخية) وتضمن التواصل الجغرافي الآمن بين الضفة وغزة، لكنها تحتفظ بالسيادة الإسرائيلية على الحي اليهودي وحائط البراق في القدس المحتلة وبمصادر المياه الباطنية وبالكتل الاستيطانية الكبيرة مقابل تعويض الفلسطينيين بأراض في النقب.

واقتضت هذه الرؤية قيام الدولة خلال عدة مراحل آخرها كان من المفروض أن ينتهي عام 1998 على أن تبقى منزوعة السلاح ومنقوصة السيادة من ناحية أجوائها حفاظا على أمن إسرائيل.

وبموجب هذا المفهوم الأمني كما انعكس في "أوسلو" أيضا حظر على دولة الجوار العتيدة تشكيل أي تحالف عسكري أو توقيع اتفاق دفاع

مشترك مع دولة عربية أخرى بعكس ما جاء في ملحق الدفاع المشترك في ميثاق الجامعة العربية.

وظيفة دولة الجوار والمفاوضات

"
أصحاب رؤية "دولة الجوار" يرون بها نهاية لقضية اللاجئين من خلال قيامها بإصدار جوازات السفر للاجئين الفلسطينيين في بلدان الطوق ما يشجعهم على الهجرة إلى دول العالم لا إلى دولة الجوار وحسب
"

ورغم الاستناد إلى إنهاء الاحتلال حددت هذه الرؤية مكانة ووظيفة الدولة الفلسطينية بشكل واضح بحيث تصبح دولة مجاورة مرتبطة بحياتها واقتصادها بإسرائيل كضمانة أمنية إستراتيجية أخرى تكفل عدم دخولها في مسار معاد لها أو تحولها إلى رأس جسر يشكل تهديدا لها مستقبلا.

وإضافة إلى إقفال فصل الصراع وحماية الأمن الإسرائيلي رأى أنصار هذه الطروحات بالدولة الفلسطينية المجاورة ذات النفوذ الإسرائيلي المكثف من نواح عديدة بوابة واسعة نحو العالم العربي وبناء شبكة علاقات سياسية واقتصادية تصب في خدمة مصالحها الإستراتيجية.

هذا إضافة إلى أن أصحاب رؤية "دولة الجوار" يرون بها نهاية لقضية اللاجئين، أشد القضايا حساسية وأكثرها سخونة، من خلال قيامها بإصدار جوازات السفر للاجئين الفلسطينيين في بلدان الطوق ما يشجعهم على الهجرة إلى دول العالم لا إلى دولة الجوار وحسب معولين بذلك على أن تخدم هذه الدولة مصلحة إستراتيجية عليا لإسرائيل.

وتكاد تتطابق مواقف اليسار الصهيوني المتمثلة بحزب "العمل" وحزب "ميرتس-ياحد" وحركة "السلام الآن" و"كتلة السلام" المنشقة عنها حيال هذه الرؤية، عدا أن الأخيرة تدعو لتفكيك المستوطنات ومنح الفلسطينيين كامل السيادة على الأراضي المحتلة وأجوائها وسواحلها بما في ذلك القدس الشرقية برمتها، ما يجعلها محصورة في قلة من المناصرين في الشارع الإسرائيلي.

ولا تختلف بالجوهر تصورات صاحب "وثيقة جنيف" د.يوسي بيلين عن مفهوم اليسار الصهيوني بشكل عام لدولة الجوار اللهم في قضية الكتل الاستيطانية حيث يدعو إلى تفكيك ما يمكن منها ومقايضتها بأرض داخل الخط الأخضر.

ومن أبرز تداعيات هذه الرؤية على المفاوضات المحتملة مع الفلسطينيين تكريس الفجوة بين المتفاوضين تماما كما شهدته جولات التفاوض السابقة نتيجة ترسيم ملامح دولة الجوار بموجب هذه الرؤية الإسرائيلية الضيقة وليس وفقا للحد الأدنى من الحل العادل القادر على إنهاء حالة الصراع.

كما بالأمس يواصل الساسة الإسرائيليون التعامل مع فكرة دولة الجوار من خلال احتياجات إسرائيل الإستراتيجية فقط، ما يعني أن الدولة الفلسطينية باتت بالنسبة لهم أداة لحل مشاكل الدولة العبرية بالدرجة الأولى بعد أن كانت ترفض جملة وتفصيلا في ما مضى.

وقد تبنت حكومة إيهود باراك العمالية في قمة كامب ديفد عام 2000 هذا التصور لدولة الجوار الفلسطينية ما أدى إلى تحطم المفاوضات جراء الإصرار الفلسطيني على التمسك بالسيادة الكاملة على القدس الشرقية وبالتشبث بحل لا يفرط بحق العودة وغيرها من المواقف الرافضة لهيمنة المصالح الإسرائيلية في دولة الجوار المقترحة.

هذه الفجوة كانت ولا تزال حقل ألغام تفجرت فيه المفاوضات بين

الجانبين أكثر من مرة في العقد الأخير، بل إنها تزداد اتساعا منذ سيطرة اليمين بزعامة الليكود على سدة الحكم في إسرائيل عام 2001.

دولة الجوار الشارونية

"
خطة فك الارتباط من غزة تتطلع إلى إفراغ دولة الجوار من المقومات الحقيقية للدولة وتجعلها سلسلة من الكانتونات المحاطة بالجدران والأسلاك والمستوطنات، إضافة إلى امتصاص النقمة الدولية
"

منذ تسلمه مقاليد الحكم في إسرائيل أبدى أرييل شارون المعروف تاريخيا بمواقفه اليمينية ومعارضته للدولة الفلسطينية كما دللت عليه بعض ألقابه (أبو المستوطنات) (البلدوزر) عن تأييده فكرة الدولة الفلسطينية.

وبذلك تبنى أرييل شارون ذو الأصول العمالية، في واقع الحال جوهر رؤية دولة "الجوار" التي استحدثها اليسار الصهيوني بعد أن أدرك قلة الحيلة حيال المضي في مجابهة العالم بهذا الخصوص مع احتفاظه بتعديلات تفرغ الدولة من محتواها وتجعلها اسما بلا مسمى.

وقد كشف شارون عن حقيقة موقفه حينما رد على خصومه في اليمين ممن لاموا انضمامه لفكرة دولة الجوار قائلا إنه يريد لها أن تكون كيانا منقوص السيادة ومجزأ ومنزوع السلاح وأنه لا يهمه أن يدعو الفلسطينيون هذا الكيان "دولة" أو "إمبراطورية".

وخلافا للمواقف المتشددة لرئيس الحكومة الليكودي الأسبق إسحق شامير بدل شارون موقفه من فكرة الدولة الفلسطينية انطلاقا من قناعته بعدم القدرة على قضم القضية الفلسطينية وعلى الاستمرار بالتنكر للشعب الفلسطيني.

كذلك أخذ شارون بالحسبان أنه أمام تزايد التعاطف الدولي مع فكرة إحقاق حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإقامة دولة خاصة به إلى جانب إسرائيل لا بد من اعتماد موقف أكثر مرونة وذكاء يوفر على دولته مجابهة العالم وتجنيبها العزلة الدولية.

وخلافا لقادة اليسار الصهيوني لم ينتظر شارون موافقة الفلسطينيين على طروحاته، فشرع في تطبيقها عملا بسياسة الأمر الواقع التقليدية فواصل تسمين الكتل الاستيطانية وبدأ بتشييد الحائط ليس بدوافع أمنية بقدر ما هي سياسية سيما أنه قضم مساحات واسعة من أرض الضفة الغربية تبلغ نحو 15% من مجمل مساحتها.

وخلال مدة حكمه لم تتوقف للحظة عمليات توسيع المستوطنات المحيطة بالقدس الرامية إلى خنق القدس الشرقية وقتل فكرة جعلها عاصمة محتملة للدولة الفلسطينية من خلال جعلها جزيرة معزولة في بحر استيطاني واسع.

كما تواصلت أعمال تقطيع أوصال الضفة الغربية وتحويلها إلى كانتونات غير متصلة مثلما يتجلى بوضوح في توسيع مستوطنة "معاليه أدوميم" وربطها بالقدس ما يقطع الاتصال بين شمال ووسط الضفة وجنوبها.

وجاءت خطة فك الارتباط من غزة انسجاما مع هذه الرؤية التي تتطلع إلى إفراغ دولة الجوار من المقومات الحقيقية للدولة على أرض الواقع وتجعلها سلسلة من الكانتونات المحاطة بالجدران والأسلاك والمستوطنات، إضافة إلى امتصاص النقمة الدولية.

هذه هي المنطلقات الشارونية التي ترى بفكرة الدولة فرصة لتصفية القضية الفلسطينية لا حلها استنادا إلى الشرعية الدولية وخدمة الأهداف الإسرائيلية بالاحتفاظ بأكبر مساحة ممكنة من الأراضي في الضفة الغربية دون التصادم الجبهي مع العالم.

فكرة دولة الجوار بشقها الأول -فك الارتباط من غزة- قدمت شارون إلى العالم رجل سلام بدلا من "البلدوزر" الذي لم يتوقف يوما عن هدم مشاريع وأحلام الفلسطينيين وقائد الحروب التي شنتها إسرائيل ضدهم.

ولذا لا يدخر رئيس الحكومة الإسرائيلية اليوم أي جهد في ابتكار الأعذار الأمنية من أجل التهرب من الالتزام بخريطة الطريق واستحقاقاتها كما فعل أيام الرئيس الفلسطيني الراحل.

ولا شك أن غياب المعارضة الحقيقية لليكود ومشاركة "العمل" بالائتلاف الحكومي بحجة المحافظة على "فك الارتباط" وضمان تنفيذها يشجع شارون للمضي في مخططه للحيلولة دون قيام دولة جوار فلسطينية حقيقية.

وخدمة لهذا المخطط يصرح شارون صباح مساء بأنه يؤيد حل الدولة "المؤقتة" ويعارض بشدة فكرة الدخول في المفاوضات النهائية متبعا تكتيك تجزئة ما هو مجزأ وإضاعة الوقت في بحث قضايا غير مصيرية خلال المفاوضات كما تجلى خلال المداولات التي سبقت ورافقت تسليم بعض المدن الفلسطينية للسلطة الوطنية.

وفي أعقاب رحيل الرئيس عرفات عن المشهد العام وبدء خلافة محمود عباس له بما يمثله من مواقف سلامية تكون رؤية "دولة الجوار" الإسرائيلية الراهنة قد بدأت تسير نحو الصدام المحتوم مع الرؤية الفلسطينية لـ"دولة الجوار" كدولة مكتملة السيادة والأوصاف على كامل الأرض المحتلة عام 1967 كحد أدنى للسلام المرجو.

وتشير دلائل كثيرة بالمستويين العملي والسياسي منها تصريح مدير ديوان أرييل شارون في حينه دوف فايسغلاس حول كنه خطة فك الارتباط (احتسابها خطة لتجميد الصراع) بأن الليكود ماض في اعتماد "دولة الجوار" وسيلة لحل مشاكل إسرائيل وخدمة أغراضها الإستراتيجية والسياسية لا كطرح معقول يمكن الفلسطينيين من قبوله.

وعلى يمين الليكود هناك أحزاب باتت تؤيد فكرة دولة الجوار مثل حزب "الاتحاد القومي" الذي يقوده المتطرف أفيغدور ليبرمان الذي يضيف على تصور شارون لدولة الجوار اقتراح التبادل السكاني مع الفلسطينيين للتخلص من أعداد كبيرة من فلسطينيي 48 الذين يرى بهم "خطرا ديموغرافيا" أو "طابورا خامسا".

هذا المسار من شأنه أن يضع التهدئة الحالية بين الجانبين على كف عفريت تمهيدا لاستئناف المواجهة العنيفة بالمنظور القريب على الأقل وإعادة العلاقات بين الشعبين إلى المربع الأول وسط ازدياد احتمالات

الفكرة النقيضة لدولة الجوار، المتمثلة بدولة ثنائية القومية إذا لم يكن اليوم فغدا، وليس بالتفاهم إنما بأمر من واقع الحال.
_______________
كاتب عربي من إسرائيل

المصدر : الجزيرة