اليهود ودولة إسرائيل في الإستراتيجية الغربية

بقلم/ د. عبد الوهاب المسيري

من الإشكاليات الأساسية التي يواجهها العقل العربي إشكالية تصنيف إسرائيل، فالصهيونية تعرف نفسها بأنها القومية اليهودية، وأنها الحركة التي تدعو إلى عودة اليهود إلى أرض أجدادهم لتأسيس دولة يهودية خالصة يمكن للهوية اليهودية أن تحقق ذاتها فيها، ويمكن استئناف التاريخ اليهودي فيها. فالصهاينة يضعون الصهيونية في سياق يهودي خالص، كجزء مما يسمونه "التاريخ اليهودي" الذي يعبر عن "الوحدة اليهودية".

ونحن العرب-رغم رفضنا للصهيونية- تقبلنا بشكل غير واعٍ كثيراً من نقاط انطلاقها، فكثيرون منا يضعونها في سياق يهودي ويحاولون قراءة التوراة والتلمود لفهم سلوك الصهاينة، وهو خلل منهجي قوض تماما مقدرتنا التحليلية والتفسيرية والتنبؤية وجعلنا نتعامل مع الظاهرة الصهيونية على مستوى تعميمي لا يفيد كثيرا في عملية الفهم الحقيقية.

ولكي نفهم الظاهرة الصهيونية حق الفهم لا بد أن نعود إلى وضع اليهود في الحضارة الغربية. ويمكن القول إن وضع اليهود داخل الحضارة الغربية قد تحدَّد منذ العصور الوسطى باعتبارهم وسيلة لا غاية، لا أهمية لهم في حد ذاتهم، إذ تعود أهميتهم إلى مدى نفعهم.

فالكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى رأتهم باعتبارهم الشعب الشاهد الذي تدل ضعته ومذلته على عظمة الكنيسة. ورأتهم بعض الجماعات البروتستانتية في القرن السادس عشر باعتبارهم عنصرا أساسيا في عملية الخلاص المسيحية، إذ يجب استرجاعهم إلى فلسطين وتوطينهم فيها وتنصير غالبيتهم حتى تتم عملية الخلاص.

وحينما تمت مناقشة قضية عتق اليهود في القرن الثامن عشر (أي إعطاؤهم حقوقهم السياسية والدينية والمدنية) تمت مناقشتها في إطار مدى نفعهم، فكان المعادون لليهود يبينون أنهم غير نافعين، أما المدافعون عنهم فكانوا يبينون مدى نفعهم. ولذا لم يكن من الغريب أن تتحول الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، وهي جماعات يجلبها المجتمع من خارجه أو يجندها من داخله ويوكل إليها وظيفة محددة (التجارة – الربا) بحيث يعرف أعضاء هذه الجماعات في ضوء وظيفتهم النافعة البسيطة وليس في ضوء إنسانيتهم الشاملة المركبة.


إن وضع اليهود داخل الحضارة الغربية قد تحدَّد منذ العصور الوسطى باعتبارهم وسيلة لا غاية، لا أهمية لهم في حد ذاتهم، إذ تعود أهميتهم إلى مدى نفعهم

وبالفعل قام أعضاء الجماعات اليهودية في معظم أوروبا بوظيفة التاجر والمرابي على أكمل وجه، وأثبتوا مدى نفعهم للمجتمعات الغربية الإقطاعية. ولكن مع ظهور الدول المركزية القومية والنظام المصرفي الحديث وشبكات التجارة العالمية والبورجوازيات المحلية بدأت الجماعات الوظيفية اليهودية تفقد وظيفتها وأصبح يشار لليهود باعتبارهم شعبا عضويا منبوذا، أي أنه شعب يرتبط أعضاؤه برباط عضوي فيما بينهم، كما يرتبطون بشكل عضوي بفلسطين، فهم يقيمون في العالم الغربي ولكنهم ليسوا منه، ولذا كان لا بد من البحث لهذا الشعب العضو عن وظيفة جديدة.

وفي إطار وظيفة أعضاء الجماعات اليهودية ونفعهم بدأ يظهر الفكر الصهيوني في صفوف الأوساط الاستعمارية الغربية التي طرحت حلا إمبرياليا وظيفيا يتلخص في إخراج اليهود من الغرب وتوظيفهم في خدمته (فالعالم بأسره مادة استعمالية توظف لصالح الغرب)، وقد تم ذلك عن طريق ربط المسألة اليهودية بالمسألة الشرقية (أي وضع الإمبراطورية العثمانية المتردي [رجل أوروبا المريض ورغبة الغرب في أن يرثها])، فيقوم الغرب بنقل الفائض البشري اليهودي الذي لا وظيفة له في الغرب إلى منطقة إستراتيجية في آسيا وأفريقيا (هي فلسطين) تطل على البحرين الأبيض والأحمر وتقع في قلب العالم العربي والإسلامي والدولة العثمانية، حيث يؤسس دولة استيطانية تضم هذا الفائض البشري وتقوم بوظيفة حيوية وهي الدفاع عن المصالح الغربية في المنطقة، نظير أن يقوم الغرب بالدفاع عن سكانها وضمان رفاهيتهم وبقائهم واستمرارهم.

ولأن العنصر البشري المستورد غريب فإنه سيظل في حال احتكاك مع سكان المنطقة وسيضمن الغرب ولاءه الدائم له، وبذلك يتم تحويل جماعة وظيفية كانت تعمل بالتجارة والربا وأصبحت من دون وظيفة داخل الحضارة الغربية إلى جماعة وظيفية تعمل بالاستيطان والقتال في خدمة الحضارة الغربية خارج حدودها.

وقد ظهر فكر صهيوني في العالم الغربي (غير اليهودي)، وظل هذا الفكر عائما غائما ولم تكن أبعاده الإستراتيجية واضحة. ولكن التطورات السياسية أدت إلى بلورته إلى أن أصبحت الصهيونية قضية حقيقية مطروحة على الأجندة السياسية الغربية.

ويعود هذا التحول إلى ظهور محمد علي المفاجئ في مصر الذي غير الأوضاع تماما، إذ أنه قلب موازين القوى وهدد المشروع الاستعماري الغربي الذي كان يفترض أن العالم كله ما هو إلا ساحة لنشاطه وسوق لسلعه. وكان محمد علي على وشك أن يضع حدا لآمال الدول الغربية التي كانت تترقب اللحظة المواتية لاقتسام تركة الرجل المريض المحتضر، ولذا تحالفت الدول الغربية كلها، وضمنها فرنسا "حليفة" محمد علي، وأجهضت مشروعه التحديثي، وعقد مؤتمر لندن عام 1840 ثم اضطرته إلى التوقيع على "معاهدة لندن لتهدئة المشرق".

وتمثل هذه النقطة، كما يقول ناحوم سوكولوف (رئيس المنظمة الصهيونية ومؤلف كتاب تاريخ الصهيونية) نقطة تحول في تاريخ فلسطين، إذ تبلورت الفكرة الصهيونية بسرعة، بحيث خرجت من نطاق الأفكار السياسية ودخلت حيز المشاريع السياسية. فطرحت فكرة تحييد سوريا، بمعنى فصلها عن كل من محمد علي وتركيا، ويضيف سوكولوف "في هذه اللحظة كان من الممكن أن يستعيد اليهود أرضهم القديمة لو كان عندهم منظمة لتنفيذ الخطة".

وإن أردنا ترجمة هذا الكلام إلى مصطلح سياسي أكثر دقة لقلنا إن "المسألة الشرقية" قد اندمجت مع مسألة أوروبا اليهودية تمام الاندماج، وتم التوصل إلى إمكانية حل المسألة اليهودية عن طريق ربطها بالمسألة الشرقية. ويأخذ الحل الشكل التالي:

  1. تتفق الدول العظمى على تسوية المسألة الشرقية على أساس استقلال سوريا.
  2. يتم إدخال "مادة جديدة" في نسيج سوريا الاجتماعي.
  3. هذه المادة هي اليهود الذين سيتم استرجاعهم إلى فلسطين حاملين معهم عُدة الحضارة وأجهزتها، بحيث يكونون نواة لخلق مؤسسات أوروبية تحت رعاية القوى الأوروبية الخمس.
  4. ستجد إنجلترا حليفا جديدا سيثبت أن الصداقة معه في نهاية الأمر ذات نفع لها في التعامل مع المسألة الشرقية.


يرى اللورد شافتسبري اليهود باعتبارهم شعبا مستقلا وجنسا عبريا يتمتع باستمرارية لم تنقطع، فيهود العهد القديم هم أنفسهم يهود إنجلترا وفرنسا وبولندا

عند هذه النقطة تبلورت الفكرة الصهيونية، ويمكن القول إن عملية بلورة منظومة الفكر الصهيوني بشكل كامل تمت على يد كل من اللورد شافتسبري (1801-1885) والسير لورانس أوليفانت (1829-1889)، وكان أولهما يرى اليهود باعتبارهم شعبا مستقلا وجنسا عبريا يتمتع باستمرارية لم تنقطع، فيهود العهد القديم (الخارجون من مصر، الصاعدون إلى كنعان) هم أنفسهم يهود إنجلترا وفرنسا وبولندا (الخارجون من المنفى الصاعدون إلى فلسطين العربية). وقد بين شافتسبري أن هذا الشعب يمكن توظيفه في خدمة الإمبراطورية الإنجليزية لأنهم جنس معروف بمهارته ومثابرته الفائقة، ويستطيع أعضاؤه العيش في غبطة وسعادة على أقل شيء، فهم قد ألفوا العذاب عبر العصور الطويلة. وهم علاوة على هذا شعب مرتبط ببقعة جغرافية محددة خارج أوروبا هي فلسطين، فبعثهم لا يمكن أن يتم إلا هناك، كما أن وجودهم في هذه البقعة يمثل عنصرا حيويا في الرؤية المسيحية للخلاص، وكما قال "إن أي شعب لا بد أن يكون له وطن، الأرض القديمة للشعب القديم". ثم طوَّر هذا الشعار ليصبح "وطن بلا شعب لشعب بلا وطن". كما لاحظ شافتسبري أهمية سوريا (وضمنها فلسطين) لإنجلترا ومدى حاجتها "لإسفين بريطاني هناك".

وعلى الرغم من أن هذه الأفكار طرحت قبل عشرين سنة من ميلاد هرتزل فإن كل ملامح المشروع الصهيوني موجودة فيها، ولا سيما فكرة توظيف وضع اليهود الشاذ داخل المجتمعات الغربية في خدمة هذه المجتمعات عن طريق نقلهم. وصاغ شافتسبري رؤية اليهود ككتلة مستوطنين لا تخدم دولة غربية واحدة وإنما كل دول الغرب (وهو الأمر الذي تحقق فيما بعد).

أما الشخصية الثانية المهمة فهو سير لورانس أوليفانت صديق لورد شافتسبري الذي كان يرى -مثل بعض السياسيين البريطانيين في نهاية القرن التاسع عشر- ضرورة إنقاذ الدولة العثمانية من مشاكلها المستعصية لتظل حاجزا صلبا ضد الزحف الروسي عن طريق إدخال عنصر اقتصادي نشط في جسدها المتهاوي، وقد وجد أن اليهود هم هذا العنصر. ولذلك دعا بريطانيا إلى تأييد مشروع توطين اليهود، لا في فلسطين فحسب، وإنما في الضفة الشرقية للأردن كذلك.

وكان المشروع يتلخص في إنشاء شركة استيطانية لتوطين اليهود برعاية بريطانية وبتمويل من الخارج ويكون مركزها إستنبول. وقد لاحظ بن هالبرن، وهو أحد المؤرخين المحدثين للصهيونية ومن المؤيدين لها، أوجه الشبه بين هذه الخطة واقتراحات هرتزل فيما بعد.

ولم يكن شافتسبري وأوليفانت إلا تعبيرا عن رؤية الحضارة الغربية لليهود باعتبارهم شعبا منبوذا. وقد عبرت هذه الرؤية عن نفسها فيما نسميه "الوعود البلفورية" (نسبة إلى وعد بلفور)، وهي التصريحات التي أصدرها الساسة الغربيون، والتي يربطون فيها بين اليهود وفلسطين ويدعونهم إلى الاستيطان فيها. ومن أهمها تصريح نابليون في أوائل القرن التاسع عشر حين دعا اليهود للاستيطان في "بلاد أجدادهم". وقد صدرت وعود بلفورية من ألمانيا كان أهمها خطابا من دوق إيلونبرج باسم حكومة القيصر إلى هرتزل مؤرخا في سبتمبر/ أيلول 1898، وجاء فيه أن جلالته على استعداد لأن يأخذ على عاتقه محمية يهودية في حالة تأسيسها.

كما أصدرت حكومة روسيا القيصرية وعدا بلفوريا أخذ شكل رسالة وجهها فون بليفيه وزير داخلية روسيا إلى تيودور هرتزل يعبر فيها عن تأييد روسيا المعنوي والمادي للحركة الصهيونية. ويمكن النظر إلى مشروع توطين الفائض البشري اليهودي في شرق أفريقيا -الذي تبنته إنجلترا عام 1905- باعتباره وعدا بلفوريا آخر.


يرى سير لورانس أوليفانت صديق لورد شافتسبري -مثل بعض السياسيين البريطانيين في نهاية القرن التاسع عشر- ضرورة إنقاذ الدولة العثمانية من مشاكلها المستعصية لتظل حاجزا صلبا ضد الزحف الروسي عن طريق إدخال عنصر اقتصادي نشط في جسدها المتهاوي، وقد وجد أن اليهود هم هذا العنصر.

ومما تجدر ملاحظته أن كل الشخصيات التي كانت وراء إصدار الوعود البلفورية كانت معادية لليهود تود ترحيلهم من أوطانهم إلى أي مكان آخر. فبلفور -على سبيل المثال- لم يكن يضمر كثيرا من الحب والاحترام لليهود، وقد اعترف هو نفسه لوايزمان بدوافعه المعادية لليهود. وفي المقدمة التي كتبها لتاريخ الصهيونية الذي ألفه سولوكوف يتحدث بلفور عن اليهود باعتبارهم عبئا على الحضارة الغربية. ونفس القول ينطبق على الآخرين ابتداء بنابليون وانتهاء بقيصر ألمانيا.

من الواضح إذن أن الدافع وراء صدور الوعود البلفورية ليس حب اليهود وإنما الرغبة في التخلص منهم باعتبارهم شعبا عضويا منبوذا. ولكن أوروبا -كما قلنا- كانت حضارة نفعية مادية تتجاوز الحب والكره وتلتزم بأمر واحد وهو تحويل العالم إلى مادة استعمالية لا قداسة لها، وكما يقول بالمرستون "ليس لنا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، بل مصالح دائمة". وكان معظم الذين يصدرون الوعود البلفورية يهدفون إلى توظيف اليهود في خدمة مشاريعهم وإلى تحويلهم إلى عملاء لهم.

أصبح الحل الصهيوني إذن جزءا من الإستراتيجية الغربية بخصوص الجماعات اليهودية في الغرب والتحرك الغربي في الشرق الإسلامي، ولكنه حل يطل على اليهود من الخارج باعتبارهم المادة البشرية المستهدفة للترحيل والتوظيف والتوطين. لذا كان لا بد أن يظهر من صفوف أعضاء هذه المادة من يتقبل الحل الغربي الإمبريالي ويستبطنه ثم يطرحه باعتباره حلا يهوديا خالصا.

وقد تولى هذه المهمة بعض أنصاف المثقفين اليهود من شرق أوروبا الذين أغلق تعثر التحديث في بلادهم باب الحراك الاجتماعي. فبدؤوا يفكرون في الحل الإمبريالي للمسألة اليهودية، أي نقل اليهود إلى إحدى المناطق خارج أوروبا في أحد الأماكن في آسيا وأفريقيا ليوطنوا هناك، ولينشؤوا وطنا قوميا لهم، وبذلك يريحون أوروبا منهم، ويستريحون هم بدورهم منها، فهي التي نبذتهم وحولتهم إلى فائض بشري، فيحققون داخل التشكيل الإمبريالي الغربي ما فشلوا في تحقيقه داخل التشكيل الحضاري الغربي.

ولهذا تبنى هؤلاء المثقفون مفهوم الشعب العضوي، فمن منظور غربي، مثل هذا الشعب هو وحده الذي له الحق في أرض وفي وطن. ولكن كان عليهم الخروج من أوروبا، وكان مفهوم الشعب العضوي المنبوذ هو المخرج، فهو يوفر لهم حق الشعوب العضوية في أرضٍ وفي وطن، وفي الوقت نفسه يرضي أوروبا لأن هذا الوطن يوجد خارجها، مما يعني خروج الشعب العضوي المنبوذ من أوروبا. ومن هنا ظهر تعريف الصهيونية بأنها القومية اليهودية التي تتحقق هناك في فلسطين، وليس هنا في أوروبا، ثم طور الصهاينة خطابا صهيونيا مراوغا اسفنجيا قادرا على التلون والتغير حسب الجمهور الذي يتم التوجه له. ففلسطين بالنسبة للمتدينين هي أرض المعاد، وهي البقعة التي ستؤسس فيها حكومة العمال والفلاحين اليهودية بالنسبة للماركسيين، وهي دولة ديمقراطية ليبرالية بالنسبة لليبراليين… وهكذا.

والمادة البشرية ذاتها التي ستنقل وتوظف تصبح بالنسبة للدينيين الشعب المختار أو الشعب المقدس، وبالنسبة للماركسيين هي جماهير العمال والفلاحين اليهود، وبالنسبة لليبراليين هم شعب مثل الشعوب، شعب عائد إلى أرض أجداده. تتغير الديباجات ولكن الفعل الاستيطاني الإحلالي واحد، نقل كتلة بشرية من أوروبا إلى بقعة تقع خارجها، حتى يتم توظيفها لصالح العالم الغربي في إطار الدولة الاستيطانية الوظيفية.

وقد تنبه أصدقاء الصهيونية وأعداؤها على السواء إلى طبيعة العلاقة النفعية بين العالم الغربي والكتلة البشرية اليهودية التي ستنقل إلى فلسطين، وأدركوا تماما طبيعة الوظيفة التي كان عليهم الاضطلاع بها، فتم الدفاع عن المشروع الصهيوني والترويج له من هذا المنظور، كما تم الهجوم عليه وشجبه من هذا المنطلق.

فعلى سبيل المثال، صرح ماكس نوردو في خطاب له في لندن (في 16 يونيو/ حزيران 1920) أنه يرى أن الدولة الصهيونية ستكون بلداً تحت وصاية بريطانيا العظمى وأن اليهود سيقفون حراساً على طول الطريق الذي تحف به المخاطر ويمتد عبر الشرقين الأدنى والأوسط حتى حدود الهند. وكان حاييم وايزمان كثير الإلحاح في تأكيد أهمية الجيب الاستيطاني الصهيوني الإستراتيجية (لا الاقتصادية)، فهذا الجيب سيشكل -حسب رأيه- "بلجيكا آسيوية"، أي خط دفاع أول لإنجلترا ولا سيما فيما يتعلق بقناة السويس. وفي خطاب كتبه إسرائيل زانجويل (في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 1914) بين أن من البدهي أن إنجلترا بحاجة إلى فلسطين لحماية مصالحها.

وأما حنه أرنت فقد أكدت أن الصهيونية بطرحها نفسها "حركة قومية" باعت نفسها منذ البداية للقيام بالوظيفة القتالية الاستيطانية، فشعار الدولة اليهودية كان يعني في واقع الأمر أن اليهود ينوون التستر وراء القومية وأنهم سيقدمون أنفسهم باعتبار أنهم "مجال نفوذ" إستراتيجي لأي قوة كبرى تدفع الثمن.

وقد عرض ناحوم غولدمان القضية بشكل دقيق جدا عام 1947 في خطاب له ألقاه في مونتريال بكندا قال فيه "إن الدولة الصهيونية سوف تؤسس في فلسطين، لا لاعتبارات دينية أو اقتصادية بل لأن فلسطين هي ملتقى الطرق بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، ولأنها مركز القوة السياسية العالمية الحقيقي والمركز العسكري الإستراتيجي للسيطرة على العالم".

ومعنى هذا أن الدولة الصهيونية لن تنتج سلعا بعينها ولن تقدم فرصا للاستثمار أو سوقا لتصريف السلع ولن تكون مصدرا للمواد الخام والمحاصيل الزراعية، وإنما سيتم تأسيسها لأنها ستقدم شيئا مختلفا ومغايرا وثمينا، دورا إستراتيجيا يؤمن سيطرة الغرب على العالم، وهو دور سيكون له دون شك مردود اقتصادي، ولكنه غير مباشر.

والدولة الوظيفية هي دولة تتم حوسلتها لصالح الدول الراعية الإمبريالية، ولكن يبدو أن الحوسلة في حالة الحركة الصهيونية لن تتوقف عند الدولة الوظيفية، بل ستمتد لتشمل كل المادة البشرية اليهودية أينما كانت. وفي اجتماع بين هرتزل وملك إيطاليا آنذاك فيكتور عمانوئيل الثالث ، أشار الزعيم الصهيوني إلى أن نابليون دعا إلى عودة اليهود إلى فلسطين ليؤسسوا وطناً قوميا، ولكن ملك إيطاليا بين له أن ما كان يريده في الواقع هو أن يجعل اليهود المشتتين في جميع أنحاء العالم عملاء له.

وقد اضطر هرتزل إلى الموافقة على ما يقول، وقد اعترف بأن وزير الخارجية البريطاني تشامبرلين كانت لديه أيضا أفكار مماثلة. وكان هرتزل يرى أنه إذا وافقت إنجلترا على مشروعه الصهيوني فإنها ستحصل -"في ضربة واحدة"-على عشرة ملايين تابع (عميل) سري في جميع أنحاء العالم يتسمون بالإخلاص والنشاط، وبإشارة واحدة سيضع كل واحد منهم نفسه في خدمة الدولة التي تقدم لهم العون. "إن إنجلترا ستحصل على عشرة ملايين عميل يضعون أنفسهم في خدمة جلالتها ونفوذها".

ثم أضاف هرتزل -مستخدماً الصورة المجازية التجارية التعاقدية الشائعة في الأدبيات الصهيونية- "ثمة أشياء ذات قيمة عالية تكون من نصيب الشخص الذي يحصل عليها في وقت لم تكن قد عُرفت قيمتها الحقيقية العالية بعد".

وأعرب الزعيم الصهيوني عن أمله بأن تدرك إنجلترا مدى القيمة والفائدة التي ستعود عليها من وراء كسبها الشعب اليهودي، أي أن هرتزل مدرك تماما لوظيفة الدولة اليهودية والشعب اليهودي ومدى نفعه وإمكانية حوسلته.

والخطة الصهيونية الخاصة بتسخير الشعب اليهودي جزء أساسي من العقيدة الصهيونية، ففي عام 1920 عبر ماكس نوردو عن تفهمه العميق للدوافع التي حركت رجال السياسة البريطانية الذين كانت تواجههم مشكلة التوازنات الدولية. وبعد القيام بحساباتهم توصل هؤلاء الساسة إلى أن اليهود يعتبرون في الحقيقة "مصدر قوة" وربما "مصدر نفع" أيضا لبريطانيا وحلفائها، ومن ثم عرضت عليهم فلسطين.


إن كل الشخصيات التي كانت وراء إصدار الوعود البلفورية كانت معادية لليهود تود ترحيلهم من أوطانهم إلى أي مكان آخر. فبلفور -على سبيل المثال- لم يكن يضمر كثيرا من الحب والاحترام لليهود

وفي هذا الإطار ظهر ما أسميه "العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية" وهو تفاهم ضمني بينهما تتعهد الحركة الصهيونية بمقتضاه بإخلاء أوروبا من يهودها (أو على الأقل من الفائض البشري اليهودي) وتوطينهم في منطقة خارج هذا العالم الغربي (داخل دولة وظيفية، أي أنها دولة لا تختلف كثيرا عن الجماعة الوظيفية)، ويتحقق نتيجة لذلك أن يؤسس المستوطنون في موقعهم الجديد قاعدة للاستعمار الغربي, وتتعهد الصهيونية بتحقيق مطالب الغرب ذات الطابع الإستراتيجي وضمنها الحفاظ على تفتت المنطقة العربية.

هذا فضلا عن أهداف أخرى تمكن الصهيونية من التحكم باليهود وتخلص العالم الغربي من نسبة كبيرة منهم. ولم يلتفت هذا العقد لمشكلة شعب الأرض المستهدفة وكيفية حلها، بل عمدت الحركة الصهيونية إلى الزعم بأن "فلسطين أرض بلا شعب" منكرة وجود شعب تمتد جذوره في وطنه إلى فجر التاريخ الإنساني. وقد جاء استهداف طرفي العقد فلسطين لعدة أسباب في مقدمتها: موقع فلسطين في قلب دائرة الوطن العربي وفي موقع إستراتيجي من دائرة العالم الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية.

والعقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية هو الإطار الذي تمت من خلاله عملية الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الصهيوني في فلسطين. وقد مارست دول أوروبا الاستعمارية ضغوطا على الدولة العثمانية لتمكن الصهيونية من التسلل إلى فلسطين في مطلع القرن، وعملت الحركة الصهيونية طابورا خامسا لهذه الدول إبان الحرب العالمية الأولى (1914-1918). ثم قامت بريطانيا يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 بإصدار وعد بلفور الذي مثل اعترافا رسميا بريطانيا بالهدف الصهيوني الخاص بتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود والتزاما بريطانيا رسميا بالتعاون مع المنظمة الصهيونية العالمية لتحقيق هذا الهدف. وكان هدف بريطانيا منه استعمار فلسطين واغتصابها وإيجاد قاعدة استعمارية استيطانية فيها تفصل مشرق الوطن العربي عن مغربه, وتمكن بريطانيا من الهيمنة على المنطقة.

وحتى الحرب العالمية الثانية كانت أوروبا القاعدة المركزية للنشاط الصهيوني، وكانت بريطانيا هي الدولة العظمى التي تقود عملية إنشاء الدولة الصهيونية في فلسطين.

أما بعد التحولات التي أخذت تتبلور مع الحرب العالمية الثانية، فإن النشاط الصهيوني سارع في الانتقال إلى الولايات المتحدة الأميركية مركز القوة الجديد في الغرب، فكانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بإسرائيل بعد دقائق من إعلان قيامها في 15 مايو/ أيار 1948. وقد أيدت الإدارات الأميركية المتعاقبة موقف إسرائيل من الصراع العربي الإسرائيلي، باستثناء فترة العدوان الثلاثي سنة 1956.

ولكن الدعم العسكري والاقتصادي ظل متواضعا حتى منتصف الستينيات، حيث كانت إسرائيل تعتمد على التعويضات الألمانية من الناحية الاقتصادية وعلى السلاح الفرنسي من الناحية العسكرية. وبدأ التبدل النوعي في العلاقة بين الطرفين مع تولي ليندون جونسون رئاسة الولايات المتحدة في وقت أصبح من الواضح فيه أنها وريثة الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة وزعيمة العالم الغربي في عالم ما بعد الاستعمار. وبذلك انطوت حقبة كاملة من السياسة التي تميزت بالتوازن النسبي أحيانا أو الانحياز المحدود.

وفي عهد الرئيس رونالد ريغان قطعت العلاقة بين الولايات المتحدة والدولة الصهيونية مسافة أخرى على طريق التنسيق الإستراتيجي المتكامل، حيث تم توقيع اتفاقية التعاون الإستراتيجي لسنة 1981. وبعد أسابيع من توقيعها أعلنت إسرائيل ضم مرتفعات الجولان السورية. وبعد عام -على وجه التحديد- في يونيو/ حزيران 1982 قامت إسرائيل باجتياح جنوب لبنان ثم انضمت عام 1983 إلى مبادرة الدفاع الإستراتيجي الأميركية بتوقيع اتفاقية إستراتيجية أخرى بين الولايات المتحدة وإسرائيل، حصلت إسرائيل بموجبها على مكاسب جديدة وفتحت أمامها آفاق جديدة من التعاون والمساعدات الأميركية.

وفي يناير/ كانون الثاني 1986 أعلن عن قيام حلف دفاعي بين إسرائيل والولايات المتحدة يستند إلى مجموعة متنوعة من الخدمات المميزة التي يمكن أن توفرها إسرائيل للولايات المتحدة باعتبارها رصيدا إستراتيجيا، وتتمثل في:

1- الموقع الجغرافي:
إسرائيل قاعدة انطلاق مثالية للقوات الأميركية إذا هددت مصالح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وهي منطقة مهمة من الناحية الجيوبوليتيكية بسبب ما تحويه من نفط ورؤوس أموال وأسواق. ومن المعروف أن نقل قوة لها شأنها إلى هذه المنطقة يستغرق عدة أشهر، أما مع وجود إسرائيل حليفا فإنه لا يحتاج إلا إلى بضعة أيام.

2- البنى التحتية والمواصلات والاتصالات:
تستطيع القوات الأميركية استخدام القواعد الجوية والبحرية والبرية الإسرائيلية إما لهدف عسكري مباشر أو عمليات الإسناد أو كقواعد وسيطة.

3- البحث والتطوير والاستخبارات:
يمكن أن تستفيد القوات الأميركية من الخبرات الحية للتجربة العسكرية الإسرائيلية ومن المعلومات التي تجمعها إسرائيل في المنطقة.

4- القدرة الدفاعية:
يمكن استخدام القدرات العسكرية الإسرائيلية لحماية قوة تدخل أميركية في الشرق الأوسط، وخصوصا أن سلاح الجو الإسرائيلي يسيطر على المجال الجوي.

وأنشطة البحث والتطوير الإسرائيلية نفسها مفيدة للولايات المتحدة الأميركية بسبب التكامل الوثيق بين المخترعين الإسرائيليين والشركات الأميركية (وكما قال رئيس استخبارات سلاح الجو الأميركي سابقا جورج كيجان، إن مساهمة إسرائيل تساوي ألف دولار لكل دولار معونة قدمناه لها).

وقد عبر العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية عن نفسه من خلال العون المادي الذي حصلت عليه الحركة الصهيونية. فحتى قبل أن تتحول إلى منظمة لها شبكتها الضخمة الممتدة التي تمارس الضغط السياسي وتجمع التبرعات من الحكومات والأفراد، كانت المعونات قد بدأت تصب بالفعل في فلسطين لتمويل جماعات المستوطنين اليهود التابعين لمنظمات شبه صهيونية كانت بمنزلة الإرهاصات الأولى للحركة الصهيونية.


عبر العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية عن نفسه من خلال العون المادي الذي حصلت عليه الحركة الصهيونية حتى قبل أن تتحول إلى منظمة لها شبكتها الضخمة الممتدة التي تمارس الضغط السياسي وتجمع التبرعات من الحكومات والأفراد

والتمويل الخارجي جزء أساسي من تكوين الحركة الصهيونية، ويمكن القول إن الأثرياء اليهود ومن بعدهم الدول الغربية (التي احتضنت المشروع الصهيوني بعد أن تحول من مجرد جمعيات وإرهاصات إلى منظمة عالمية) لا ينظرون إلى المُستوطّن الصهيوني باعتباره استثمارا اقتصاديا، وإنما باعتباره استثمارا سياسيا له أهمية إستراتيجية قصوى. ولذا اتسمت تدفقات المعونات على الحركة الصهيونية وعلى الدولة الصهيونية بدرجة عالية من التسييس والارتباط بطبيعة المشروع الصهيوني.

والواقع أن أي باحث في الاقتصاد الإسرائيلي لا بد أن يلاحظ محورية الدور الذي تلعبه المعونات الخارجية وتدفقات البشر ورؤوس الأموال على إسرائيل بشكل لا مثيل له في أي دولة من دول العالم، سواء من حيث حجمها ودرجة اعتماد الاقتصاد الإسرائيلي عليها، أو من حيث درجة تسييسها وارتباطها بطبيعة المشروع الصهيوني.

وقد ساهمت المعونات ولا شك في حل مشاكل التجمع الصهيوني الاقتصادية ورحمته طيلة هذه الفترة من جميع الهزات. والأكثر من هذا أن هذه المعونات غطت تكاليف الحروب الإسرائيلية الكثيرة والغارات التي لا تنتهي. وبالتالي قدر للعقيدة الصهيونية أن تستمر لأن الإسرائيليين لا يدفعون بتاتا ثمن العدوانية أو التوسعية الصهيونية. كما مولت هذه المعونات عملية الاستيطان باهظة التكاليف، وحققت للإسرائيليين مستوى معيشيا مرتفعا كان له أكبر الأثر في تشجيع الهجرة من الخارج وبخاصة من الاتحاد السوفياتي.

وحينما يتحدث الدارسون عن "المعونات الخارجية" فهم يتحدثون عن معونات من مختلف الدول الغربية ومن يهود العالم الغربي. ولكن الدعم الحقيقي جاء من الولايات المتحدة، وهو ما يجعلها صاحب لقب "الراعي الإمبريالي" بامتياز. فبعد أسابيع من إعلان قيام الدولة الصهيونية قامت الولايات المتحدة بمنحها قرضا قيمته 100 مليون دولار. وكان الدعم العسكري والدعم الاقتصادي منذ الخمسينيات حتى منتصف الستينيات متواضعين، ذلك أن إسرائيل كانت من الناحية الاقتصادية تعتمد على التعويضات الألمانية كما أسلفنا، وبدأ التبدل النوعي في العلاقات الأميركية الإسرائيلية بعد حرب 1967 مباشرة في عهد الرئيس ليندون جونسون.
وقد تطورت المساعدات الأميركية لإسرائيل وتصاعدت خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، وحدثت القفزة الكبيرة بعد حرب 1973 حتى وصلت إلى ثلاثة مليارات دولار تقريبا سنويا طبقا للإحصاءات الأميركية الرسمية منها 1.8 مساعدات عسكرية و 1.2 مساعدات اقتصادية. وقد أخذ طابع المساعدات منذ الثمانينات يتحول إلى المنح بدلا من القروض.

غير أن الأرقام السابقة -على ضخامتها- لا تكشف سوى جزء من الواقع، إذ أن المبالغ الفعلية التي تحصل عليها إسرائيل أكبر من الرقم الرسمي المعلن بكثير، لتصل إلى ما يتراوح بين 5.5 مليارات دولار و6.5 مليارات دولار كما يتبين من خلال استعراض التقديرين الآتيين:

ففي تقدير (The Washington Report on Middle East Affairs) بلغ حجم المعونة عام 1993 نحو 6.321 مليارات دولار أو 17 مليون دولار يوميا، منها 2 مليار دولار سنويا منذ عام 1993 ولمدة خمس سنوات هي ضمانات قروض بقيمة عشرة مليارات دولار، وذلك لكون إسرائيل غير ملزمة بسداد القروض للولايات المتحدة سواء من خلال إمكانية تنازل الكونغرس، أو بسبب تعديل كرانستون الذي يشترط عدم خفض مستحقات الدفع السنوية لإسرائيل، ويلزم الحكومة الأميركية بألا يقل حجم المكون الاقتصادي من المعونة التي تقدمها لإسرائيل عن إجمالي أقساط وفوائد الديون المستحقة على إسرائيل للولايات المتحدة سنوياً، أي أن الولايات المتحدة قد ألزمت نفسها بسداد ما سبق أن اقترضته الحكومة الإسرائيلية أو ما يمكن أن تقترضه في المستقبل من الولايات المتحدة.
وتبين الأرقام التالية المعونة الأميركية لإسرائيل عام 1993 بالمليار دولار

  • من ميزان المساعدات الأجنبية: 3.000
  • مساعدات أخرى من الميزانية ومن خارجها: 1.271
  • فوائد قروض إسرائيلية 0.050
  • ضمانات قروض 2.000
  • المجموع 6.321

ويشير أحد التقديرات إلى أن إجمالي ما حصلت عليه إسرائيل من معونة أميركية حتى عام 1996 يبلغ 78 مليار دولار، منها ما يزيد على 55 مليار دولار منحة لا تُرد. بينما ترفع بعض التقديرات الأخرى مبلغ المعونة الفعلية إلى أعلى من هذا بكثير.
ويمكن القول -بناء على تقديرات أخرى لا تختلف كثيرا عن التقدير السابق مباشرة- إن مجموع المساعدات الأميركية لإسرائيل إضافة إلى التعويضات الألمانية والجباية اليهودية منذ عام 1949 وحتى عام 1996 يزيد على 179.4 مليار دولار، موزعة بين 79.6 مليار دولار في صورة مساعدات حكومية أميركية متنوعة 60 مليار دولار من التعويضات الألمانية و19.4 مليار دولار من الجباية اليهودية، بالإضافة إلى 23.4 مليار دولار عبارة عن أصول أجنبية في إسرائيل.

ولنختتم هذه الدراسة بالإشارة إلى الأسطورة القائلة إن الصهاينة يسيطرون على صنع القرار في الولايات المتحدة، وكأن هناك إستراتيجية صهيونية يهودية عالمية مستقلة عن الإستراتيجية الغربية، وكأن هناك مصالح يهودية صهيونية متناقضة مع المصالح الغربية (كما عرَّفها الغرب) وكأن الولايات المتحدة بالتالي ضحية مسكينة يتلاعب بها الصهاينة اليهود. وتذهب هذه الرؤية إلى تأكيد أن الهيمنة الصهيونية على القرار الغربي تتم من خلال ثلاث آليات:

  • الصوت اليهودي
  • الإعلام
  • اللوبي الصهيوني

ولكن الكثيرين ينسون أن الدولة الصهيونية استثمار إستراتيجي مهم بالنسبة للولايات المتحدة، قوة إمبريالية عظمى لها مصالحها التي تحاول تحقيقها وحمايتها بأي ثمن، وأنها لا تدخر وسعا في ضرب كل من يقف في طريقها. وتنبع إستراتيجية الولايات المتحدة من الإستراتيجية الغربية العامة التي تحددت منذ منتصف القرن التاسع عشر (قبل أن يصبح أعضاء الجماعات اليهودية لاعبين أساسيين في كواليس السياسة الغربية). وقد قررت هذه الإستراتيجية الموجهة المستمرة مع العالم الإسلامي بدلا من التصالح أو التعاون معه (وإلا لما قضت أوروبا على محمد علي ولما تم وضع اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم العالم العربي). وهو قرار قد يكون لا عقلانيا من وجهة نظرنا، ولكن من قال إن القرارات الإستراتيجية العليا "عقلانية". فعلى حسب علمنا، تستند الإستراتيجية إلى مقولات قبلية مرتبطة برؤية الذات والآخر والكون، لا يتم التساؤل بخصوصها ولا يمكن تغييرها، مثل الأسطورة النازية والأسطورة الصهيونية، إلا بجعل صاحبها يدفع ثمنا فادحا للأسطورة.

ولننظر إلى الآليات الثلاث التي يفترض أن اليهود يستخدمونها للسيطرة على الولايات المتحدة، أن نطرح سؤالا: هل هناك اختلاف جوهري في موقف المؤسسات الإعلامية التي يمتلكها يهود عن تلك التي يمتلكها غير يهود؟ وهل يمكن القول إن هذه أكثر تحيزا من تلك؟ أعتقد أن الإجابة بالنفي، فثمة موقف أميركي عام تروج له المؤسسات الإعلامية الأميركية بغض النظر عن انتماء أصحابها الديني أو الإثني أو السياسي.

أما بخصوص الصوت اليهودي، فالمسألة أكثر وضوحا، فالصوت اليهودي يختلف من رئيس جمهورية لآخر. فكلينتون حصل على عدد كبير من الصوت اليهودي على عكس نيكسون الذي لم يحصل على أكثر من 20%. ولكن منحنى التأييد الأميركي للدولة الصهيونية أخذ في التصاعد بغض النظر عن عدد الأصوات التي يحصل عليها رئيس الجمهورية المنتخب، إذ توجد سياسة إستراتيجية عامة لا تتأثر بأمور جزئية مثل عدد الأصوات الذي تمنحه أقلية دينية أو إثنية ما لرئيس الجمهورية (يلاحظ أن قرارات جورج بوش الابن لم تتأثر كثيرا بأن أعضاء الأقلية الإسلامية والعربية قد منحته صوتها).

أما اللوبي الصهيوني، فنحن نرى أن مصدر قوته هو تبعيته للإستراتيجية الغربية وليس العكس. ولنقارن موقفنا بموقف المتحدث الرسمي التركي، حينما كان دوكاكيس (وهو من أصل يوناني) قد رشح نفسه لرئاسة الجمهورية. فقد سئل هذا المتحدث: ألا تخشى الحكومة التركية من وجود رئيس جمهورية من أصل يوناني في البيت الأبيض وأن مثل هذا الرئيس قد يأخذ مواقف متحيزة لليونان على حساب تركيا؟ فرد المتحدث التركي بحزم قائلا "إن تركيا لا تخشى شيئا لأنه توجد ثوابت إستراتيجية تحكم سلوك وسياسات الولايات المتحدة ولا تؤثر فيها الخلفية الإثنية للرئيس الأميركي (في الوقت الذي كان فيه بعض العرب يرتعدون خوفا من أن كيتي دوكاكيس -زوجة المرشح الديمقراطي- "يهودية والسلام)". إن من يريد أن يغير موقف الولايات المتحدة من الدولة الصهيونية عليه أن يجعل العلاقة بينهما صفقة خاسرة بالنسبة للولايات المتحدة، وهذا لن يتأتى إلا بأن تدفع الولايات المتحدة ثمن تأييدها لإسرائيل.

ورغم كل ما قلناه لا بد أن نثير بعض التحفظات المهمة بخصوص أطروحتنا، فنحن نذهب إلى أن الدولة الصهيونية دولة وظيفية تخدم الإستراتيجية الغربية، ومع هذا يجب أن نشير إلى أن العلاقة بين الدولة الصهيونية الوظيفية وراعي الإمبريالي علاقة تعاقدية، تحكمها المصلحة، ومصالح الراعي الإمبريالي ذات طابع دولي بينما مصالح الجيب الاستيطاني محلية، ولذا تتعارض المصالح أحيانا كما حدث حينما ساءت العلاقة بين المستوطنين الصهاينة في الثلاثينيات من القرن الماضي وحكومة الانتداب البريطانية تحت ضغط عوامل جديدة في الموقف من بينها الضغوط التي مارستها الحكومات العربية على الحكومة البريطانية وتصاعد المقاومة الفلسطينية، إلى جانب زيادة المخاوف البريطانية من احتمال تغلغل عملاء الجستابو بين صفوف المهاجرين اليهود. وقد ساد الاعتقاد في ذلك الحين (وتأكد فيما بعد) بأن النازيين مدوا يد العون للهجرة الصهيونية (الهجرة غير الشرعية)، وأنهم قرروا استغلالها وسيلة لخلق مشاكل للبريطانيين في الشرق الأوسط. وهذه العوامل الجديدة أدت إلى خلق التناقض بين الجماعة الصهيونية الاستيطانية الوظيفية وحكومة الانتداب، ومن ثم أصدرت الحكومة البريطانية عددا من القوانين والكتب البيضاء التي تظهر تفهما لمطالب العرب، وتم إحياء بعض المفاهيم الأساسية الشاملة -التي طالما تجاهلها البريطانيون- مثل الطاقة الاستيعابية لفلسطين. وقد كان التناقض بين الحكومة البريطانية والجيب الصهيوني يأخذ أشكالا حادة ومتطرفة أحيانا كما ظهر في حالة نسف فندق الملك داود.

وقد حدث الشيء نفسه مع الولايات المتحدة خاصة في الآونة الأخيرة، ففي حرب الخليج الثانية، طلب من إسرائيل أن تنزوي حتى لا تسبب الحرج للولايات المتحدة التي شكلت تحالفا ضد العراق، وحدث الشيء نفسه بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول حينما قررت الولايات المتحدة تشكيل التحالف الدولي ضد قوات طالبان، ودعت الدول العربية والإسلامية للاشتراك فيه، مما كان يعني ضرورة عدم اشتراك إسرائيل. ولا شك في أن مصالح الولايات المتحدة العديدة والمتشعبة في العالم العربي والإسلامي يمكن أن توظف بطريقة توسع من هذا التناقض.

إن قرارات الولايات المتحدة بدعم إسرائيل تستند إلى حسابات دقيقة داخل إطار خيارها الإستراتيجي المبدئي. فالولايات المتحدة تعطي الدولة الصهيونية ما يقرب من عشرة بلايين دولار سنويا، لحماية المصالح الغربية الأميركية والأمن الأميركي، ولنتخيل الشرق الأوسط دون الدولة الصهيونية. ولنتخيل الولايات المتحدة وقد اضطرت لأن تقوم بهذه المهمة بنفسها دون اللجوء لوسيط. في مثل هذه الحالة الافتراضية، على الولايات المتحدة أن تبقي خمس حاملات طائراتها في حوض البحر الأبيض المتوسط بشكل دائم، وهي تكلف حوالي خمسين بليون دولار. إن الدولة الصهيونية صفقة إستراتيجية رابحة بالنسبة للولايات المتحدة، الأمر الذي يحرص المتحدثون الإسرائيليون على إظهاره ولا يملون من تكرار الحصول على المزيد من الدعم. وعلينا نحن أن نغير هذا الوضع إن أردنا تغيير موقف الولايات المتحدة.

ومما لا شك فيه أن اللوبي الصهيوني لوبي منظم وقوي، والنظام السياسي في الولايات المتحدة يسمى "ديمقراطية جماعات الضغط"، ولذا فهذا اللوبي يمارس دورا كبيرا في توجيه سياسات الولايات المتحدة، ولكنه مع هذا يظل يتحرك في إطار الإستراتيجية الأميركية العامة المسبقة، ويستمد نجاحه -كما أسلفت- من تحركه داخل هذه الإستراتيجية لا ضدها. ومن ثم لا يمكن الحديث عنه باعتباره السبب في اتخاذ الولايات المتحدة مواقف متحيزة بشكل فاضح للجيب الصهيوني، وإنما هو عنصر مساعد داخل إطار استراتيجي قد تحدد من قبل. والله أعلم.
_______________
* متخصص في الشؤون الإسرائيلية

المصدر : غير معروف