الانتفاضة والانتخابات الإسرائيلية

undefined

*بقلم/ د. يونس عمرو

لا شك في أن الانتفاضة كانت سببا رئيسا لانهيار حكومة شارون الائتلافية، حيث اضطر حزب العمل إلى الانسحاب من الحكومة التي فشلت على جميع الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية، حين تكررت وعود شارون وطلب المهلة تلو المهلة للقضاء على الانتفاضة وتحقيق الأمن للإسرائيليين من غير جدوى. مما دفع به إلى استخدام كل ما يخطر ببال من أساليب القمع والبطش للقضاء على الانتفاضة، حتى تحول الصراع إلى مستوى شخصي بين شارون وبين الرئيس ياسر عرفات، بل غدا كل فرد من أفراد الشعب الفلسطيني مطلوبا لشارون وحكومته، سواء كان من أفراد المقاومة أم من غيرهم. وهذا ما يفسر حدة القتل وهدم البيوت والحصار والاعتقال، بإجراءات قاسية وحشية، لم يسلم منها لا بشر ولا شجر ولا حجر. مما دفع بالشعب الفلسطيني إلى رفع وتيرة المقاومة وتنويع مناهج الانتفاضة بكل الأساليب القتالية، وفي أولها العمليات الاستشهادية التي أصبحت ظاهرة ملحوظة في أوساط الشباب الفلسطيني من الذكور والإناث على حد سواء، وأضحت مقاومة الاحتلال لونا من الدفاع عن النفس في مفهوم كل فلسطيني، فضلا عن أن هذه المقاومة نهج مشروع إلى التحرر ونيل الاستقلال.

الانتفاضة والحكومة الإسرائيلية
تأثيرات الانتفاضة
السلام خيار إستراتيجي
مستقبل الانتفاضة

الانتفاضة والحكومة الإسرائيلية

إن الانتفاضة التي كانت سببا في انهيار حكومة الائتلاف الإسرائيلية، كانت وما زالت عائقا في سبيل استمرار حكومة شارون بحكومة ضيقة، حين استمات في جهود من الترقيع ليستمر في هذه الحكومة، حتى فشلت جهوده تلك، وأُرغم على الدعوة إلى الانتخابات المبكرة. ولأول مرة في تاريخ الديمقراطية الإسرائيلية التي يباهون بها، لم يسلم أحد من القادة الحزبيين الإسرائيليين من التعرض للتحقيق والمساءلة القانونية، لمخالفات ارتكبها في حملته الانتخابية. وكأنهم فقدوا التوازن واحترام الذات في العمل السياسي، سعيا إلى البقاء في الحكم كهدف، دون اعتبار الأساليب، والسبب في كل ذلك هو الانتفاضة، وحضورها في الذهنية الإسرائيلية في الحقيقة والخيال. بحيث طالعتنا دعايات الإسرائيليين الانتخابية من الصقور والحمائم على حد سواء، بجوهر من التعامل مع الانتفاضة، بين من يسعى إلى قمعها على أنها إرهاب كالذي حدث في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، وبين من يسعى إلى التعامل معها على أنها تخريب وإجرام واعتداء يجب القضاء عليه. وفي كل الأحوال تتحمل القيادة الفلسطينية كامل المسؤولية عن كل ذلك، فتتعرض للانتقام كسائر أفراد الشعب، في حين أنها جُردت من كل الإمكانات المطلوبة لسلطة مسؤولة.

تأثيرات الانتفاضة

التأثير على الأحزاب وقياداتها


أدت الانتفاضة إلى تصدع الأحزاب الإسرائيلية وتناقض مواقف أعضاء الحزب الواحد، وإلى وصف هذه الفترة بأنها أسوأ فترة في حياة الدولة العبرية منذ نشأتها، حسب الإسرائيليين أنفسهم

يمكن القول إن تأثيرات الانتفاضة في الانتخابات الإسرائيلية، تظهر في مجالات مهمة في حياة المجتمع الإسرائيلي، بحيث أدت هذه الانتفاضة إلى عدد من الصدوع والفوارق المتناقضة بين الساسة الإسرائيليين، حتى من الحزب الواحد. إذ نرى تناقضا كبيرا بين موقف شارون ووزير خارجيته نتنياهو، مع أنهما من حزب ليكود. كما نرى الفرق الواضح بين قيادات من حزب العمل، في موقف إليعازر المتناقض مع موقف شمعون بيريز، وموقف متسناع زعيم الحزب الجديد المتناقض مع موقف كل من السابقين. بل نرى زعامات من هذا الحزب نفسه تغادره كليا، مثل يوسي بيلين وياعيل دايان اللذين انضما إلى حزب ميريتس. ثم نرى صورا من هذا التناقض يحدث بين حزب وآخر، في صور من الخلخلة وتأرجح المواقف، وبخاصة الأحزاب المتدينة، لتنشأ فترة سياسية وأمنية لم يشهد لها المجتمع الإسرائيلي مثيلا منذ قيام دولة إسرائيل. مما أدى إلى وصف هذه الفترة بأنها أسوأ فترة في حياة الدولة العبرية منذ نشأتها، وعلى لسان الإسرائيليين أنفسهم.

انعدام البرامج السياسية
ومن تأثيرات الانتفاضة على المجتمع الإسرائيلي وفي هذه الفترة بالذات فترة الانتخابات، أنها كشفت عن حقيقة عدم وجود برنامج سياسي على الإطلاق، يتعاطى مع العملية السلمية، ليس لدى شارون وأركان حكومته فحسب، بل لدى سائر الأوساط والزعامات الحزبية الإسرائيلية، تكرست بمظاهر من التفسخ في فهم الواقع الإسرائيلي في هذه المرحلة من اشتداد الصراع، في غياب برنامج سياسي للسلام، فضلا عن عدم الاستعداد لفهم أهداف الانتفاضة الفلسطينية الحقيقية والتي على رأسها زوال الاحتلال. مما أدى إلى التخبط في التعاطي مع الانتفاضة، الناشئ عن عدم فهم أهدافها وعدم وجود برنامج سياسي، وموقف موحد منها في الأوساط الإسرائيلية قيادة وأفرادا. وكل ذلك أفشل جهود الحكومات الإسرائيلية ومن مختلف الأطياف، بدءا بحكومة باراك من العمل ومرورا بحكومة شارون الائتلافية، وانتهاءً بحكومة شارون الليكودية اليمينية الضيقة، في السيطرة على الانتفاضة والقضاء عليها، مع تجاهلهم جميعا لهدفها الحقيقي. مما أدى بهم إلى العجز الكامل عن تحقيق رؤية موحدة، حول مفهومها الإنساني كحركة شعبية للتحرر من الاحتلال. ثم إن تفكك هذه الرؤية الإسرائيلية في مفهوم الأمن الإسرائيلي المنشود، بين من يرى من الإسرائيليين أن الأمن يتحقق بالقضاء على الانتفاضة بكل الوسائل، وهذا يفسر العنف الوحشي في ضرب الفلسطينيين. وبين من يري أن الأمن يكمن في قهر الفلسطينيين وإذلالهم أو حتى تهجيرهم، بل تدمير أركان وجودهم وبنى حياتهم التحتية وتقويض سلطتهم الشرعية. بل خرج البعض من الإسرائيليين عن نطاق الواقع الأمني كليا، بدعم الاستيطان كأفضلية على الأمن، مع إهمال قسري للكثير من مناحي الحياة داخل المجتمع الإسرائيلي. مما أدى إلى الانهيار الاقتصادي في مختلف جوانبه، وعدم الالتفات إلى هذا الاقتصاد الذي يمر بأسوأ حال منذ قيام إسرائيل، حتى أنه لم يجد له مكانا في الدعاية الانتخابية الإسرائيلية إلا قليلا أمام الانتفاضة ومؤثراتها، بل إن هذه الحال قد أبرزت مسألة خطيرة في المجتمع الإسرائيلي، لطالما جاهد الزعماء الإسرائيليون في إخفائها وعدم السماح لها بالظهور على السطح، ألا وهي ظاهرة فسيفساء المجتمع الإسرائيلي التي ظهرت الآن، بصورة من الصراع الطبقي بين فئات وطوائف شعب إسرائيل القادم من بيئات ومجتمعات مختلفة.

السلام خيار إستراتيجي

إن الشعب الإسرائيلي -في رأيي وهو يخوض معركة انتخابية في ظل ظروف سيئة لم يعهدها في أية معركة انتخابية قبلا، من أهم أسبابها بل إن سببها الرئيس هو الانتفاضة الفلسطينية- مطالب كل فرد من أفراد هذا الشعب أن يطرق السمع، وأن يمعن النظر ويركز الفكر، في حقائق ما يجري وما يدور من ممارسات زعمائه وسياساتهم تجاه الانتفاضة بخاصة، وتجاه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية بعامة، ليكتشفوا إن السلام كخيار إستراتيجي، إنما هو مصلحة مشتركة للإسرائيليين قبل الفلسطينيين والعرب، وذلك من خلال فكرة بسيطة، مفادها أن إسرائيل بقعة صغيرة في محيط عربي، جواز تحركها في هذا المحيط هو السلام العادل، وليس الأسلحة والدمار والقتل. فهناك فرق بين المآسي والمذابح، وبين السلم والعدل والرخاء. هذه المعاني التي تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، فلكل ذكرى. وفرق كبير بين ذكرى القتل التي تورث الانتقام، وذكرى السلم التي تورث الإخاء. وهذا يثير سؤالا مهما: هل يضمن الشعب الإسرائيلي دعماً أميركيا إلى الأبد ليستمر في قتل الفلسطينيين وقهرهم؟ لا أعتقد أن هذا من الصواب. فحركة الشعوب مرصودة في التاريخ منذ فجره، وتقول إن للتاريخ دورة عمودية لا تتغير والشواهد على ذلك كثيرة، وبخاصة في زماننا الذي تسارعت وتيرته التي ما أسرع أن تلقي من في القمة إلى القاع، ولتقذف من فيه إلى القمة. ولعل هذه الثوابت التاريخية قد ترسخت في ذهنية ووجدان كل فلسطيني، ليسهم ذلك في استمرارية الانتفاضة حتى تؤتي أُكلها يوما، قد يكون قريبا بعون الله تعالى. ولعل هذا الأمـر نفسـه يعتبـر دافعاً للرئيس ياسر عرفات، إلى أن يحرص على القول " يرونه بعيداً ونراه قريباً ".

إن ما سبق يعني حضورا كاملا لهذه الانتفاضة في مجريات الأحداث الانتخابية الإسرائيلية مهما صغرت، وهذا في حد ذاته يفسر التأرجح الواضح والتناقض المستمر، في نتائج دراسات استطلاع الرأي التي تجري في المجتمع الإسرائيلي. بل إن الانتفاضة كانت سببا مباشرا في تخلي الديمقراطية الإسرائيلية الفريدة في الشرق الأوسط عن اتزانها واعتدالها، حين طالبت بعض الأوساط الحزبية الإسرائيلية بمنع شخصيات بل أحزاب عربية من خوض المعركة الانتخابية.

إن الانتفاضة الفلسطينية حركة مقاومة شعبية شاملة، يخوضها الشعب الفلسطيني بكل قواه المحدودة الإمكانات والمعايير رغم جهود الدعم العربي، وما ذلك إلا من واقع التصميم الكامل غير القابل للمراجعة، مهما بلغت التضحيات حتى يزول الاحتلال. وهذه الحقيقة الراسخة لم يحاول أحد من الزعماء الإسرائيليين، ولا حتى من القوى العالمية وعلى رأسها الإدارة الأميركية، لم يحاول أحد أن يكلف خاطرَه فهمَها. بل نرى الجميع منهم منساقا وراء أفكار شارون وحكومته، بأسلوب من التأييد الأعمى دون النظر إلى الشعب الفلسطيني ومعاناته بأية نظرة من العدل والإنصاف، حتى غدا هذا الشعب وحيدا في وجه أعتى آلة حربية في الدنيا بأسرها. وقد صمت آذان العالم عن السمع وكفت أبصاره عن النظر وشلت بصائره عن التفكير، ليتوقف الحديث عن حقوق الإنسان والقوانين والشرائع الدولية، وكأن الشعب الفلسطيني لا يمت لتلك الإنسانية وحقوقها وشرائعها بصلة.

مستقبل الانتفاضة


ستستمر الانتفاضة حتى ينال الفلسطينيون حقوقهم ودولتهم المستقلة على أرضهم وعاصمتها القدس الشريف

وفي ضوء ذلك كله، أرى أن الانتفاضة الفلسطينية انطلقت استكمالا للانتفاضة الأولى، إلا أنها غير قابلة للمساومة والتراجع وأنصاف الحلول والاتفاقيات والوعود كسابقتها. بل إنها تتواصل بإصرار لتترك تأثيرا مباشرا في حياة الإسرائيليين، سواء الانتخابية أم غيرها، دون أن تعول كثيرا على هذه الانتخابات ومن ستجلب إلي سدة الحكم في إسرائيل. كما أنها لا تنتظر من أية حكومة إسرائيلية قادمة خيرا، إلا بعضاً من تكهنات أو توقعات. وذلك بحكم التجربة التي تعلمها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، من تعاقب الأطياف السياسية الإسرائيلية على الحكم في مدى عقود من الزمن. وهذا يعني ببساطة استمرار الانتفاضة وتواصلها، حتى ينال الفلسطينيون حقوقهم، ودولتهم المستقلة على أرضهم وعاصمتها القدس الشريف بإذن الله تعالى، بحيث يصبح الإسرائيليون بعد الانتخابات أمام خيارين:

  1. الخيار الأول: التعقل والفهم بطرح برنامج سياسي قادر على التعامل مع الانتفاضة، من خلال التقيد بالاتفاقات الموقعة والمشاريع المطروحة، وآخرها خطة الطريق. والتوقف عن المراوغة والتهرب من الالتزامات والاستحقاقات، كإطلاق المبادرات الجوفاء المزيفة، وكخطة شارون الأخيرة التي يحاول من خلالها الالتفاف على خطة الطريق وجهود اللجنة الرباعية الدولية.
  2. الخيار الثاني: مواصلة نسف الجهود الساعية إلى تحقيق السلام وإحياء المسيرة السلمية. وهذا سيضع إسرائيل في مواجهة الانتفاضة في صورة أكثر قوة واشتعالا، في ظل جهود التوحد الفلسطيني وتنسيق الجهود بين الفصائل الوطنية والفصائل الإسلامية الفلسطينية. وهذه الجهود لا بد أن تتمخض عن إستراتيجية فلسطينية وحدوية، ضمن ثوابت فلسطينية وعربية مؤثرة وقادرة على مواجهة التحديات القادمة بعد الانتخابات الإسرائيلية. فإن اختارت الحكومة الإسرائيلية القادمة استمرار تجاهل متطلبات السلام وأهداف الانتفاضة التحررية، فسوف تجد نفسها أمام تصاعد من مظاهر الصراع. مما سيكون له بالغ الأثر على الحكومة نفسها، وعلى المجتمع الإسرائيلي كله، وذلك على مستويين:
    • المستوى الأول: داخلي وهو أن لتواصل الانتفاضة تأثيرها على القرار الإسرائيلي الرسمي في مختلف المجالات، فضلا عن تعميق آثارها على الشعب الإسرائيلي، تواصلا مع ما سبق ذكره من تأثيرات في فترة ما قبل الانتخابات، من حيث زيادة الانقسامات والانشقاقات في أوساط الزعامات الإسرائيلية المختلفة، سواء على المستوى الحزبي أم على المستوى الشعبي. هذا كله فضلا عن ازدياد الوضع الاقتصادي الإسرائيلي سوءاً، وما يتوقع من تعمق الصراع الطبقي في المجتمع الإسرائيلي، من جراء الوضع الاقتصادي المتردي، إلى جانب زيادة انعدام المساواة بين فئات المجتمع الإسرائيلي، وبخاصة الوسط العربي.
    • المستوى الثاني: وهو المستوى الخارجي، إذ من الواضح أن كثيرا من القوى الدولية المؤثرة حتى في أوساط الإدارة الأميركية نفسها، باتت تحس بالحرج من التأييد أو السكوت على ممارسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة البعيدة عن منهج السلام، وتنتظر نتائج الانتخابات الإسرائيلية بفارغ الصبر. بحيث باتت تأمل في مجيء حكومة تتعاطى مع الانتفاضة بصورة إيجابية، وتنظر بجدية وفهم واقعي لتطلعات الشعب الفلسطيني للتخلص من الاحتلال، فتحيا المفاوضات من جديد، ويتوقف الاستيطان، وتبدأ خطوات عملية لإعادة بناء الثقة بين الشعبين، تحقيقا لقرارات الشرعية الدولية. هذا الأمر الذي إن لم يتحقق على يد الحكومة القادمة، مع استمرار الانتفاضة في منهجها الوحدوي الجديد، إلى جانب استمرار صمود الشعب الفلسطيني وقدرته الأسطورية على الاحتمال والتضحية، فسيجعل إسرائيل في موقف محرج أمام العالم كله على المستويين الإقليمي والدولي، خاصة في ضوء الإجراءات المتواصلة ضد العراق وما يعرف بمحاربة الإرهاب. فهناك أصوات كانت خافتة اعتقد أنها ستعلو في فترة ما بعد الانتخابات، إذا لم تستجب الحكومة الإسرائيلية القادمة لاستحقاقات السلام.

والخلاصة، أن الانتفاضة الفلسطينية، وأمام التضحيات الجسيمة التي بذلها الشعب الفلسطيني، لا يمكن لها أن تتوقف دون الخلاص من الاحتلال. وقد تهدأ جزئيا ولفترة محدودة، كنتيجة لتفاهم إستراتيجي بين الفصائل الفلسطينية. غير أنها لا تلبث أن تعاود التصعيد، إذا لم تتعامل الحكومة الإسرائيلية الجديدة معها بصورة إيجابية، تتحقق بعدها أهداف الشعب الفلسطيني في التخلص من الاحتلال، والتحرر والاستقلال، وإلا فهي مستمرة بلا حدود، وبإستراتيجية جديدة.
_______________
* مؤرخ فلسطيني ومحلل سياسي ورئيس جامعة القدس المفتوحة.

المصدر : غير معروف