إسرائيل وأفريقيا في عالم متغير


undefined

*بقلم/د. حمدي عبد الرحمن

محددات السياسة الإسرائيلية في أفريقيا
مراحل تطور العلاقات الإسرائيلية الأفريقية
السياسة الإسرائيلية والبحث عن الهيمنة

تحاول هذه الدراسة تحليل أهم محددات السياسة الإسرائيلية تجاه أفريقيا وذلك لبيان حقيقة الوجود الإسرائيلي في أفريقيا عبر فترات زمنية مختلفة وذلك في محور أول. أما المحور الثاني فإنه يركز على تطور العلاقات الإسرائيلية الأفريقية منذ بداية التغلغل في الخمسينيات والستينيات ومروراً بالقطيعة الأفريقية لإسرائيل في السبعينيات وانتهاء بالعودة الثانية لإسرائيل في أفريقيا وما لحق بها من تغيرات وتحولات على مستوى الأهداف والسياسات. وأخيراً يتناول المحور الثالث ركائز السياسة الإسرائيلية في كسب الهيمنة والنفوذ في أفريقيا وانعكاس ذلك على العلاقات العربية الأفريقية.

محددات السياسة الإسرائيلية في أفريقيا

الصراع العربي الإسرائيلي(1)
حقيق على أي دارس لتطور العلاقات الإسرائيلية الأفريقية أن يعترف بأهمية ومحورية الصراع العربي الإسرائيلي في تحديد مسار هذه العلاقات وذلك من مناح مختلفة:

  • انعكاسات الحرب الباردة على كل من النظامين الإقليميين العربي والأفريقي بدرجة أدت إلى استفادة إسرائيل بدرجة أكبر من غيرها من الأطراف الإقليمية.
  • إدراك إسرائيل المتزايد لأهمية أفريقيا بحسبانها ساحة من ساحات إدارة الصراع العربي الإسرائيلي نظراً لثقل الصوت الأفريقي في الأمم المتحدة.
  • أن حركة المد والجزر في العلاقات الإسرائيلية الأفريقية ارتبطت بتطور الصراع العربي الإسرائيلي، فالمقاطعة الدبلوماسية الأفريقية لإسرائيل في السبعينيات ومعظم سنوات الثمانينيات ثم العودة الكاسحة لهذه العلاقات منذ بداية التسعينيات ارتبطت بحدثين هامين في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أولهما حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، والثاني هو انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط عام 1991.
  • أن حالة الضعف الإستراتيجي للقارة الأفريقية من حيث عدم وجود نظام قوي للأمن قد نظر إليها من جانب طرفي الصراع في الشرق الأوسط على أن أفريقيا ساحة للاستقطاب وتحقيق مكاسب على حساب الطرف الآخر.


نظرت إسرائيل ومنذ البداية -بغض النظر عن أهدافها ومراميها الأيدولوجية والتوراتية والبراغماتية- إلى أفريقيا بوصفها قادرة على القيام بدور محوري في تسوية محتملة للصراع العربي الإسرائيلي

ومن الجلي أن نشير هنا إلى أن إسرائيل نظرت ومنذ البداية -وبغض النظر عن أهدافها ومراميها الأيدولوجية والتوراتية والبراغماتية- إلى أفريقيا بوصفها قادرة على القيام بدور محوري في تسوية محتملة للصراع العربي الإسرائيلي، وذلك استنادا إلى عدد من الحقائق (وفقاً للرؤية الإسرائيلية) لعل من أبرزها:(2)
1- الصداقة المتبادلة بينها وبين كل من العرب والإسرائيليين.
2- تحررها من الأبعاد النفسية والأخلاقية الخاصة بطبيعة الصراع في الشرق الأوسط.
وبالفعل طرحت عدة مقترحات أفريقية للوساطة بين العرب وإسرائيل، وكان من بينها مبادرة الرئيس كوامي نكروما، غير أنها باءت جميعاً بالفشل.
أثر حرب 1967 في العلاقات الإسرائيلية الأفريقية
على أن حرب 1967 مثلت تطوراً مهماً في تاريخ التنافس الإسرائيلي العربي في أفريقيا حيث نظر الأفارقة إلى إسرائيل بوصفها قوة احتلال تحتل أراضي دولة أفريقية. ومع تصاعد الدعم العربي لحركات التحرر الوطني في الجنوب الأفريقي وخيبة أمل القادة الأفارقة من الدول الغربية لعدم مساعدتها في تنفيذ الخطة الأفريقية الرامية إلى عزل جنوب أفريقيا والبرتغال وروديسيا ازدادت حدة الانتقاد الأفريقي للعدوان الإسرائيلي حتى وصل الأمر قبل نشوب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 حد قطع العلاقات الدبلوماسية. ففي عام 1972 قامت أوغندا بقطع علاقاتها مع إسرائيل، ثم تبعتها سبع دول أخرى هي تشاد ومالي والنيجر والكونغو برازافيل وبوروندي وزائير وتوغو(3).
وإذا كانت حروب الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل قد أحدثت مزيداً من التعقيدات في مركب العلاقات الإسرائيلية الأفريقية فكذلك فعلت مبادرات التسوية السلمية في المنطقة.

ففي أعقاب قيام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة القدس عام 1977 وتوقيعه على اتفاقات كامب ديفد عام 1979 بذلت محاولات عربية دؤوبة لعزل مصر أفريقيا بيد أنها لم تنجح مطلقاً(4). لكن كامب ديفد كانت تعني أن الأساس الذي بمقتضاه اتخذت الدول الأفريقية قرار المقاطعة لإسرائيل قد انهار بعد تبادل السفراء بين كل من القاهرة وتل أبيب.(5)

المكانة الأفريقية في المنظومة الدولية
على الرغم من أن أفريقيا كانت قارة مجهولة بالنسبة للعاملين في وزارة الخارجية الإسرائيلية في أعوام الخمسينيات فإنها لم تكن كذلك على مستوى التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي وذلك مقارنة بقارات العالم الأخرى. فأميركا اللاتينية مثلت دائرة نفوذ للولايات المتحدة الأميركية، كما أن إسرائيل وجدت دعما ومساعدة من القوى الغربية الرئيسية في أوروبا. وهنا كان عليها في سعيها للبحث عن الشرعية الدولية أن توجه أنظارها إلى آسيا وأفريقيا. أما بالنسبة لآسيا فقد كانت أشبه بالقارة "المغلقة" أمامها لوجود دول كبرى قطعت شوطا كبيرا في ميدان التنمية الاقتصادية، وتضاؤل فرص تسويق النموذج الإسرائيلي في التنمية، ووجود دول وجاليات إسلامية كبيرة وهو ما يجعلها أقرب لتأييد الموقف العربي. وعليه فقد كانت أفريقيا -التي تؤهلها مكانتها الجيوإستراتيجية فضلاً عن وجود عدد كبير من الدول بها والتي تتطلع للحصول على مساعدات تنموية وتقنية من الخارج- الخيار المناسب أمام صانع القرار الإسرائيلي.

إن الأهمية الأفريقية في الأمم المتحدة من حيث قدرتها العددية لم تكن خافية على إسرائيل منذ البداية. وكان هذا الإدراك الإسرائيلي يأتي دوما في سياق الوعي بحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي وإمكانية الاستفادة من الدور الأفريقي في هذا المجال. وليس أدل على هذه الأهمية من أنه عندما اجتمعت الجمعية العامة للأمم المتحدة في منتصف يونيو/حزيران 1967 في جلسة خاصة بناء على طلب الاتحاد السوفياتي تأثر الموقف الأفريقي بدور الأطراف الخارجية، ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حيث حاول كل منهما ممارسة الضغوط لصالح القرار الذي يتبناه. فقد طرح مشروع قرار باسم مجموعة عدم الانحياز قدمته يوغسلافيا ونظر إليه على أنه موال للعرب، كما طرح مشروع قرار آخر باسم مجموعة دول أميركا اللاتينية ونظر إليه بوصفه موالياً لإسرائيل.(6)

وبتحليل السلوك التصويتي للمجموعة الأفريقية نجد أن الدول الأفريقية التي ساندت الموقف الإسرائيلي سواء بشكل حاسم أو غير حاسم تصل إلى عشرين دولة. بيد أن هذا التوجه تغير تماما عند مناقشة قرار الأمم المتحدة الذي يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية حيث صوت لصالح القرار عشرون دولة أفريقية من غير الأعضاء في جامعة الدول العربية (باستثناء الصومال وموريتانيا)، كما عارض القرار خمس دول فقط وامتنع عن التصويت 12 دولة. وليس بخاف أن هذين المثالين يعكسان بجلاء الدور الأفريقي في الأمم المتحدة وهو ما ظهر مرة أخرى عند إلغاء هذا القرار عام 1991.


لا يمكن التقليل من أهمية متغير الجاليات اليهودية في توجيه وتخطيط العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، إذ لا يخفى أن نحو
20% من إجمالي المهاجرين اليهود إلى إسرائيل في الفترة من 1948 إلى 1995 هم من أفريقيا


الجاليات اليهودية في أفريقيا
من المعلوم أن أفريقيا تحتضن بين ظهرانيها جاليات يهودية متفاوتة الأحجام ومتباينة القوة والتأثير.(7) ففي شمال أفريقيا جماعات من اليهود السفارديم الذين قدموا بالأساس من أسبانيا والبرتغال خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر. أضف إلى ذلك جماعات من اليهود الأشكناز التي قدمت إلى أفريقيا من شمال وشرق أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وإذا كان حجم هذه الجاليات خارج جمهورية جنوب أفريقيا هو جد متواضع فإن وضعها الاقتصادي في بعض دول أفريقيا جنوب الصحراء مثل كينيا يتسم بالقوة والتأثير.

ويمكن القول إن يهود الفلاشا الإثيوبيين يمثلون واحدة من أفقر الجاليات اليهودية في العالم، وقد تم نقل معظم الفلاشا إلى إسرائيل في أواسط التسعينيات، وبالمقابل فإن الجالية اليهودية في جنوب أفريقيا تعد واحدة من أغنى الجاليات اليهودية في العالم. وطبقاً لأحد التقديرات فإن مساهمة يهود جنوب أفريقيا في خزانة الدولة العبرية تأتي في المرتبة الثانية بعد مساهمة يهود الولايات المتحدة.(8)

أيا كان الأمر فإنه لا يمكن التقليل من أهمية متغير الجاليات اليهودية في توجيه وتخطيط العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، إذ لا يخفى أن نحو 20% من إجمالي المهاجرين اليهود إلى إسرائيل خلال الفترة من 1948 إلى 1995 هم من أفريقيا.(9)

مراحل تطور العلاقات الإسرائيلية الأفريقية

يمكن التمييز بين خمس مراحل أساسية في تطور مسيرة العلاقات بين إسرائيل وأفريقيا وهي:
المرحلة الأولى 1948-1957 البحث عن شرعية الوجود وتأمين الكيان
بعد إعلان قيام الدولة العبرية عام 1948 أولى صانع القرار الإسرائيلي اهتماماً كبيراً بتأسيس علاقات قوية وراسخة مع القوى الكبرى الأساسية في العالم مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي. يعني ذلك أن إسرائيل في بحثها عن شرعية الوجود على الساحة الدولية وتأمين وجودها العضوي لم تنظر إلى المستعمرات الأفريقية بل انصب جل اهتمامها على القوى الاستعمارية الأوروبية.(10)

على أن نقطة التحول الأساسية التي دفعت إلى حدوث تحول كبير في الدبلوماسية الإسرائيلية تجاه أفريقيا تمثلت في عقد مؤتمر باندونج عام 1955، إذ لم توجه الدعوة إلى إسرائيل لحضور هذا الحدث التاريخي الهام، بل ولم يقف الأمر عند هذا الحد حيث أدان المؤتمر في بيانه الختامي احتلال إسرائيل للأراضي العربية.(11)

المرحلة الثانية 1957- 1973 سياسات التغلغل
يمكن التأريخ لبداية الانطلاقة الإسرائيلية في أفريقيا بعام 1957 حيث كانت إسرائيل أول دولة أجنبية تفتح سفارة لها في أكرا بعد أقل من شهر واحد من حصول غانا على استقلالها.(12) وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن إسرائيل كانت تقدم نفسها بوصفها دولة صغيرة الحجم مواجهة بمشكلات وتحديات جمة ومع ذلك تطرح نموذجا تنمويا يحتذى به من قبل الدول النامية الأخرى، فعندها يمكنا فهم طبيعة علاقاتها المبكرة بالدول الأفريقية.

وثمة مجموعة من المتغيرات الدولية والإقليمية أسهمت في تكثيف الهجمة الإسرائيلية على أفريقيا، ومن ذلك:

  • حصول عدد من الدول الأفريقية على استقلالها في الستينيات أدى إلى زيادة المقدرة التصويتية لأفريقيا في الأمم المتحدة حيث كان الصراع العربي الإسرائيلي من أبرز القضايا التي تطرح للتصويت.
  • إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 وضع تحدياً أمام إسرائيل حيث إنها لا تتمتع بالعضوية في هذا التجمع الأفروعربي.
  • عضوية مصر المزدوجة في كل من جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية أعطاها فرصة إقامة تحالفات مع بعض القادة الأفارقة الراديكاليين من أمثال نكروما وسيكوتوري.

بحلول عام 1966 كانت إسرائيل تحظى بتمثيل دبلوماسي في كافة الدول الأفريقية جنوب الصحراء باستثناء كل من الصومال وموريتانيا. ومع ذلك فإن أفريقيا كانت بمثابة ساحة للتنافس العربي الإسرائيلي.

المرحلة الثالثة 1973- 1983 أعوام المقاطعة
قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 كانت إسرائيل تقيم علاقات دبلوماسية مع 25 دولة أفريقية. بيد أنه في الأول من يناير/كانون الثاني 1974 تقلص هذا العدد ليصل إلى خمس دول فقط هي: جنوب أفريقيا، وليسوتو، ومالاوي، وسوازيلاند، وموريشيوس.

وليس بخاف أن الدول الأفريقية التي قامت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل قد فعلت ذلك تأييدا للموقف المصري بحسبان مصر دولة أفريقية تسعى إلى استعادة أراضيها من الاحتلال الإسرائيلي.(13) بيد أن بعض الباحثين يحاول تفسير الموقف الأفريقي بأنه كان يرمي إلى الحصول على المساعدات العربية ولا سيما من الدول النفطية.(14)

ورغم أن الموقف الأفريقي كانت له دلالات سياسية ودبلوماسية واضحة من زاوية الصراع العربي الإسرائيلي فإن إسرائيل ظلت على علاقة وثيقة -ولو بشكل غير رسمي- مع معظم الدول الأفريقية التي قامت بقطع العلاقات معها. وليس أدل على ذلك من أن التجارة الإسرائيلية مع أفريقيا في الفترة من عام 1973 وحتى عام 1978 قد تضاعفت من 54.8 مليون دولار إلى 104.3 ملايين دولار. وتركزت هذه التجارة بالأساس في الزراعة والتكنولوجيا. (5)

المرحلة الرابعة 1982 – 1991 العودة الثانية
استمرت إسرائيل في سياساتها الرامية إلى العودة إلى أفريقيا وذلك عبر تدعيم وتكثيف اتصالاتها الأفريقية في المجالات كافة دون اشتراط وجود علاقات دبلوماسية. وفي عام 1982 أعلنت دولة أفريقية واحدة هي زائير عن عودة علاقاتها مع إسرائيل. على أن الدول الأفريقية الأخرى والتي حافظت على علاقات غير رسمية وثيقة مع إسرائيل لم تنهج المسلك الزائيري نفسه، وربما يعزى ذلك إلى العوامل الآتية:

  • أن قرار الرئيس موبوتو كان منفرداً ولم يتم بالتنسيق مع الدول الأخرى. وقد حاجج البعض بأن قرار قطع العلاقات مع إسرائيل كان برعاية منظمة الوحدة الأفريقية في أواخر الستينيات ومن ثم ينبغي أن يكون استئناف هذه العلاقات بقرار من المنظمة ذاتها.
  • أن الدول العربية كثفت من حملتها الدبلوماسية المضادة حيث استخدمت سلاح المساعدات الاقتصادية والتقنية كأداة للترغيب والترهيب في آن واحد.
  • أن إسرائيل قامت في الأسبوع الأول من يونيو/حزيران 1982 بغزو لبنان وهو ما يؤكد نزعتها التوسعية والعدوانية.

وقد كانت دوافع الموقف الزائيري هي الحاجة الماسة للمساعدات العسكرية الإسرائيلية.(16) كما أن متغيرات البيئة الداخلية في زائير منذ أحداث إقليم شابا في جنوب البلاد -وهو الإقليم الغني بالمعادن- ومحاولته الانفصال عامي 1977 و1978 تمثل مدخلاً مهماً لتفهم التحرك الزائيري خاصة بعد إحجام حلفاء موبوتو التقليديين عن مساعدته في بداية الثمانينيات. (17)
ويمكن القول إجمالا إن الصراع العربي الإسرائيلي أضحى محدود التأثير في مجمل العلاقات الإسرائيلية الأفريقية في تلك الفترة بل إن ثلاث دول أفريقية هي أفريقيا الوسطى وكينيا وإثيوبيا أعلنت عن عودة علاقاتها مع إسرائيل ساعة وصول الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى ذروتها. وقد حاججت بعض هذه الدول أنها أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بغية الإسهام في عملية السلام الشرق أوسطية، فهل يعقل أن تقوم دولة محدودة الموارد مثل أفريقيا الوسطى بدور في عملية السلام العربية الإسرائيلية؟

المرحلة الخامسة 1991 – حتى الآن سياسات التطبيع
لقد شهدت هذه المرحلة إعادة تأسيس العلاقات بين إسرائيل وأفريقيا مرة أخرى ولا سيما خلال عامي 1991 و1992 وربما يعزى ذلك إلى:

  • التغيرات في النظام الدولي وانعكاساته الإقليمية.
  • سقوط النظم الشعبوية والماركسية اللينينية في أفريقيا.
  • الدخول في العملية التفاوضية بين العرب وإسرائيل منذ مؤتمر مدريد.


حاججت بعض هذه الدول أنها أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بغية المساهمة في عملية السلام الشرق أوسطية

وقد تسارعت عودة العلاقات الإسرائيلية الأفريقية حتى إنه في عام 1992 وحده قامت ثماني دول أفريقية بإعادة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وتسعى إسرائيل إلى تعزيز سياساتها الأفريقية بدرجة تفوق طموحاتها خلال عقد الستينيات وأوائل السبعينيات. وطبقا للبيانات الإسرائيلية فإن عدد الدول الأفريقية التي أعادت علاقاتها الدبلوماسية أو أسستها مع إسرائيل منذ مؤتمر مدريد في أكتوبر/تشرين الأول 1991 قد بلغ ثلاثين دولة.(18) وفي عام 1997 بلغ عدد الدول الأفريقية التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل 48 دولة.

وتحاول إسرائيل جاهدة الاستفادة من دروس الماضي بما يرسخ من أقدامها في القارة الأفريقية وذلك عبر التأكيد على الأدوات الثلاثة الآتية:

أولاً: المساعدات الاستخبارية والتدريبات العسكرية
من الملفت للنظر حقاً أن إسرائيل تمتلك مصداقية كبيرة لدى الدول الأفريقية في ميادين الاستخبارات والتدريبات العسكرية، فقد ركزت إسرائيل في تفاعلاتها الأفريقية منذ البداية وحتى في ظل سنوات القطيعة الدبلوماسية بينها وبين أفريقيا على المساعدات العسكرية في مجال تدريب قوات الشرطة وقوات الحرس الرئاسي لعدد من الدول الأفريقية مثل زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً) والكاميرون. كما تنشط هذه المساعدات في إثيوبيا ودول القرن الأفريقي.

ثانياً: المساعدات الفنية
وقد اشتملت منذ البداية على ثلاثة مجالات أساسية وهي: نقل المهارات التقنية وغيرها عن طريق برامج تدريبية معينة، وتزويد الدول الأفريقية بخبراء إسرائيليين لمدة قصيرة أو طويلة المدى، وإنشاء شركات مشتركة أو على الأقل نقل الخبرات والمهارات الإدارية للشركات الأفريقية. وتشير الإحصاءات التي نشرها مركز التعاون الدولي التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية أن عدد الأفارقة الذين تلقوا تدريبهم في إسرائيل عام 1997 وصل إلى نحو 742 متدرباً إضافة إلى نحو 24636 أفريقيا تلقوا تدريبهم من قبل في مراكز التدريب الإسرائيلية خلال الأربعين سنة الماضية.

وقد قامت إسرائيل بإعادة تقويم أداء المراكز التدريبية الخاصة بأفريقيا ومنها مركز جبل كارمل الذي ينظم حلقات دراسية للمرأة الأفريقية في ميدان التنمية، ومركز دراسة الاستيطان الذي يوفر تدريبات في البحوث الزراعية والتخطيط الإقليمي، والمركز الزراعي الذي يوفر الخبراء والمساعدة الفنية لتعظيم استخدام الموارد المتاحة، والمعهد الأفروآسيوي للهستدروت والذي يهتم بأنشطة الاتحادات العمالية.

وتطرح إسرائيل نموذجاً مهماً بالنسبة للدول الأفريقية في ميدان محاصيل الأراضي القاحلة وشبه القاحلة، ويسعى البرنامج الدولي لمحاصيل الأراضي القاحلة في جامعة بن غوريون إلى إقامة مشروعات زراعية في أفريقيا بغرض محاربة التصحر وخلق البيئة المواتية للزراعة الدائمة. كما تقوم إسرائيل بتقديم المساعدات والتدريبات الطبية لبعض الدول الأفريقية.

ثالثاً: تجارة السلاح والألماس
طبقاً لتقارير الأمم المتحدة وبعض التقارير الأخرى فإن هناك تورطاً لشركات إسرائيلية ولتجار إسرائيليين في التجارة غير المشروعة للألماس. فمن المعروف أن مافيا هذا المعدن الثمين تقوم بتهريبه من دول مثل الكونغو وسيراليون وأنغولا عبر دول الجوار ليصل إلى هولندا ثم بعد ذلك إلى مراكز تصنيع الألماس في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة بالإضافة إلى إسرائيل والهند. على أن هذه التجارة غير المشروعة يوازيها تجارة أخرى غير مشروعة في السلاح حيث يتم عقد صفقات لشراء الأسلحة وهو ما يسهم في استمرار واقع الصراعات والحروب الأهلية في الدول الأفريقية الغنية بالألماس.

السياسة الإسرائيلية والبحث عن الهيمنة


دخول أطراف الصراع العربي الإسرائيلي مسار العملية التفاوضية أدى إلى إضفاء المشروعية المطلوبة على الكيان الصهيوني وتأمين وجوده العضوي، ومن ثم فإنه يسعى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلى تحقيق أهدافه التوسعية بحسبانه قوة إقليمية وذلك على حساب النظام الإقليمي العربي

ليس بخاف أن التغيرات الهيكلية التي شهدها النظام الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز عصر العولمة الأميركية وما صاحب ذلك من تغيرات في النظم الإقليمية ومن بينها منطقة الشرق الأوسط قد أضفى تأثيرات ملموسة على تطور العلاقات الإسرائيلية الأفريقية. فدخول أطراف الصراع العربي الإسرائيلي مسار العملية التفاوضية أدى إلى إضفاء المشروعية المطلوبة على الكيان الصهيوني وتأمين وجوده العضوي، ومن ثم فإنه يسعى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلى تحقيق أهدافه التوسعية بحسبانه قوة إقليمية وذلك على حساب النظام الإقليمي العربي.

على أن هدف تحقيق الهيمنة الإقليمية لإسرائيل في المرحلة الراهنة يقتضي إعادة تقويم واختبار عدد من القضايا الهامة ضمن منظومة العلاقات المتبادلة بين إسرائيل وأفريقيا وذلك على النحو التالي:

1-تأمين البحر الأحمر
لقد كانت خطورة البحر الأحمر ولا تزال ماثلة في ذهن القيادات الإسرائيلية المتعاقبة لأن الدولة العبرية تصبح دون هذا المنفذ البحري وقد انقطعت كل صلة بينها وبين أفريقيا واَسيا، ولعلها اكتشفت هذه الحقيقة في حرب 1973 عندما تم إغلاق باب المندب في وجهها. (19)

ونظرا لغياب قواعد عربية واضحة تحكم أمن البحر الأحمر، ومع استقلال إريتريا عام 1993 وابتعادها عن النظام العربي، فإن إسرائيل في ظل "التسوية السلمية" سوف تضمن تلبية مطالبها الأمنية الخاصة بالبحر الأحمر. وانطلاقا من ذلك سوف تحاول جاهدة الاستفادة لأقصى درجة من أجل تدعيم احتياجاتها الخاصة بالهيمنة والتوسع.

2- التركيز على دول القرن الأفريقي
وتسعى إسرائيل من جراء ذلك إلى تحقيق أكثر من هدف واحد انطلاقا من المتغيرات التالية:

  • وجود جالية يهودية كبيرة في إثيوبيا "يهود الفلاشا".
  • ارتباط القرن الأفريقي بالبحر الحمر والخليج العربي.
  • ترتيب التوازن الإقليمي في المنطقة يرتبط بالأمن القومي العربي عموما والمصري تحديدا وذلك على ضوء العلاقات الصومالية الإثيوبية والإثيوبية الإريترية.
  • والوجود الإسرائيلي في المنطقة يساعد على تحقيق متطلباتها الأمنية.

ومن الملاحظ أن إسرائيل حافظت على وجودها دائماً في إثيوبيا بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم(20)، وبدخول القرن الأفريقي في أتون الصراعات الإثنية والسياسية حيث انقسمت الصومال إلى دويلات وفقا لمنطق حرب الكل ضد الكل، وانهمكت كل من إريتريا وإثيوبيا في صراع مرير تم فتح المجال واسعاً أمام تدخل أطراف أجنبية من بينها إسرائيل.

3-التركيز على دول حوض النيل
وليس بخاف أن هدف إسرائيل الثابت من وجودها في هذه المنطقة هو الرغبة في الحصول على مياه النهر والضغط على صانع القرار المصري نظرا لحساسية وخطورة "ورقة المياه" في الإستراتيجية المصرية. وأطماع إسرائيل في مياه نهر النيل قديمة ومعروفة(21)، كما أنه من المعروف أن إسرائيل تلعب دوراً غير مباشر في صراع المياه بين دول حوض النيل استفادة من نفوذها الكبير في دول مثل إثيوبيا وكينيا ورواندا.
وتكمن الرؤية الإسرائيلية في النظر إلى المنطقة بشكل شمولي أي بامتداداتها الجغرافية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر. ولتدعيم نفوذها في المنطقة تعمل إسرائيل على:

  • تشجيع جيل من القادة الجدد الذين ينتمون إلى الأقليات في بلدانهم ويرتبطون مع الولايات المتحدة -وبالطبع إسرائيل- بعلاقات وثيقة (ملّس زيناوي في إثيوبيا، وأسياس أفورقي في إريتريا وجون قرنق في جنوب السودان، ويوري موسيفيني في أوغندا، وبول كاغامي في رواندا)
  • محاصرة الأمن القومي العربي ولا سيما في امتداده المصري والسوداني.

وفي هذا السياق يمكن تفهم الموقف الإسرائيلي من كل من ليبيا والسودان في ظل حكم الجبهة القومية الإسلامية. أضف إلى ذلك فإنها تحاول مساعدة الدول الأفريقية ضد الحركات الإسلامية. وتسعى إسرائيل من وراء ذلك إلى تحقيق أكثر من هدف واحد إذ إنها تقدم نفسها للعالم الغربي بوصفها المدافع الأول عن القيم الديمقراطية العلمانية في مواجهة الحركات الإسلامية، وهي من جهة أخرى تحاول مساعدة الدول الأفريقية في ميادين الاستخبارات والتدريبات العسكرية.
_______________
أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة ونائب رئيس الجمعية الإفريقية للعلوم السياسية.

مصادر المقالة

المصدر : غير معروف