مفهوم الحزب الديمقراطي.. ملاحظات أولية

* د. علي خليفة الكواري


undefinedلا بد لنا في سياق مناقشة "الديمقراطية داخل الأحزاب في البلاد العربية" من أن نقوم بمحاولة مشتركة لضبط "مفهوم الحزب الديمقراطي" مقارنة بغيره من الأحزاب السياسية. ومن المفيد أن تأتي هذه المحاولة في بداية اللقاء السنوي الثالث عشر لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية وربما قبله، وذلك من أجل التوصل إلى فهم مشترك أفضل لمفهوم الحزب الديمقراطي حتى يتمكن اللقاء من ضبط ذلك المفهوم ومن ثم النظر في مدى وجود الديمقراطية داخل الأحزاب في البلاد العربية من عدمه وفق معيار موضوعي يساعد أيضا على تحري الشروط اللازم توفرها في أي حزب حتى يكتسب صفة الديمقراطية هذه. ومن أجل المساهمة في ذلك فإنني سوف أحاول من أجل استهلال المناقشة وإثارة التساؤلات وتحفيز الحوار، طرح الملاحظات الأولية التالية:

1- صفة الديمقراطية: يمكننا القول إن صفة الديمقراطية لا يمكن اكتسابها بمجرد إضافة اللفظ والتشدق بالشعارات، وإنما هناك شروط موضوعية لاكتسابها. فهناك دولة وهناك دولة ديمقراطية، وهناك حزب وهناك حزب ديمقراطي، وهناك انتخابات وهناك انتخابات ديمقراطية، وهناك دستور وهناك دستور ديمقراطي، ولا بد لنا من فحص المضمون والتأكد من المنهج قبل أن نطلق صفة الديمقراطية أو نحجبها.

2- اكتساب صفة الديمقراطية: وابتداء يمكننا القول إن صفة الديمقراطية يكتسبها الحزب مثلما تكتسبها الدولة عندما يطبق نظام حكم ديمقراطي في أي منهما. ونظام الحكم الديمقراطي نظام محدد المعالم يتطلب وجود منظومة كاملة ومتكاملة بعضها مع بعض تتضمن مبادئ ومؤسسات وآليات تضبط عملية تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة وتداول السلطة دوريا، وتؤكد على حق وواجب الملزمين بتنفيذ تلك القرارات في المشاركة السياسية الفعالة في عملية اتخاذها.

3- القرابة بين الحزب والدولة: الحزب هو أقرب المنظمات الطوعية وغير الحكومية إلى الدولة، والحزب في الدولة الديمقراطية إما أنه حكومة الدولة أو حكومة الظل فيها، فهو وسيلة الوصول إلى السلطة وأداة تداولها سلميا أو بالعنف وهو الحكومة أو المعارضة. ومهما اختلفت مسميات العصبية التي تجمع أعضاء الحزب الواحد من أفراد وجماعات واتسع أو ضاق شمول عضويتها مختلف أفراد وجماعات المواطنين فإن الأحزاب جميعها تسعى للوصول إلى السلطة. لذلك فإن ممارسة الديمقراطية داخل الحزب واتساع نطاق عضويته وشمولها المواطنين دون تمييز لسبب العرق أو الدين أو المذهب، إضافة إلى نظرته غير الإقصائية إلى غيره من الأحزاب أيضا هي كبرى الضمانات للممارسة الديمقراطية داخل الدولة عندما يصل ذلك الحزب إلى سدة الحكم فيها. والحزب الذي لا يؤسس على مبدأ المساواة بين المواطنين أو لا يمارس الديمقراطية داخله وفي علاقاته ببقية الأحزاب قبل الوصول إلى الحكم، يصعب إن لم يكن مستحيلا عليه ممارسة الديمقراطية في الدولة التي يصل إلى الحكم فيها سلميا أو عن طريق العنف.


هل ظاهرة غياب الديمقراطية في أحزاب البلاد العربية جزء من استمرار غياب الديمقراطية في الدولة وغيابها في المجتمع الذي لا تنعقد في العادة الزعامة فيه إلا لصاحب غلبة أو ثروة أو مكانة اجتماعية أو مقام ديني؟

4- تأثير ديمقراطية الدولة على الحزب: وبالرغم من وجاهة الملاحظة الثالثة المشار إليها أعلاه وانطلاقها من القول المأثور فاقد الشيء لا يعطيه، فإن ممارسة الديمقراطية داخل أحزاب دولة غير ديمقراطية تسلطية تمنع قيام الأحزاب من حيث المبدأ أو تسعى إلى الهيمنة عليها أو إلحاقها بالحزب الحاكم المعلن أو المستتر في حالة وجود عائلات حاكمة ملكية أو جمهورية، يمثل مانعا يقف دون إمكانية نمو أحزاب ديمقراطية داخل نظام حكم غير ديمقراطي. فمن ناحية تميل الأحزاب السرية إلى الاعتماد على عصبية تثق فيها وتأتمنها، وتجعل من نفسها طليعة إستراتيجية تعمل للوصول إلى الحكم عن طريق العنف بعد أن تعذر عليها الوصول السلمي. ومن ناحية ثانية تفقد الأحزاب الملحقة والمحتواة من السلطة صدقيتها، كما تواجه الأحزاب التي تحاول الاستقلال عن السلطة القائمة محاربة وتعطيلا لعملها وتدخلا في شؤونها وربما التخلص منها بحجج ملفقة وأسباب واهية.

5- أحزاب العالم الثالث: ولعل ما يسمى بأحزاب العالم الثالث يشير إلى إشكالية ممارسة الديمقراطية داخل أحزاب برزت واتسعت في غياب الديمقراطية داخل الدولة التي نشأت فيها. وأول فئة من تلك الأحزاب وأهمها هي حركات التحرر الوطني التي تبوأت سدة الحكم بعد الاستقلال واحتكرت السلطة بعد ذلك. وثانيها الأحزاب التي أنشئت بعد قيام انقلابات عسكرية ضد بنى سياسية تقليدية جامدة. وثالثها أحزاب قامت على أساس زعامات دينية أو طائفية أو قبلية أو مناطقية أو إثنية، تحمل داخلها في كثير من الأحوال بذور الانفصال وتقوم على الإقصاء من حيث العضوية.

وكل هذه الفئات من الأحزاب نشأت في ظروف غياب الديمقراطية في الدولة التي برزت فيها، وقد كانت نشأتها تعبر عن حاجات وطنية أو اجتماعية أو فئوية، ولذلك حصلت على إجماع نسبي على أهدافها الأحادية البسيطة ضمن مجتمعها، مثل الاستقلال أو مقاومة الاستبداد أو الإقصاء أو الإهمال الذي يتعرض له الشعب كله أو جماعة أو فئة من فئاته.

كما أنها تعتمد في العادة على قيادات تاريخية أو زعامات اجتماعية ودينية دون أن تمارس الديمقراطية داخلها. وعندما تتحقق جزئيا تلك الأهداف الأحادية البسيطة وتتغير مشكلات المجتمع يصعب حصول تلك الأحزاب على ما كانت تصل إليه من إجماع. ولذلك تتحول بالتالي إلى أحزاب أفراد وزعامات، يتقلص الولاء الطوعي لها وتعتمد على الغلبة إذا كانت حاكمة، ويكثر الانشقاق فيها كلما اختلفت آراء الزعامات وتوجهاتهم أو تعارضت مصالح المنتسبين إليها إذا كانت خارج الحكم.

6- غياب الديمقراطية حتمي أم انتقالي: وإذا كانت البلاد العربية جزءا من العالم الثالث فهل ظاهرة غياب الديمقراطية داخل أحزاب البلاد العربية بشكل عام يمكن تفسيرها في ضوء ظاهرة أحزاب العالم الثالث؟ وهل ما سمي أحزاب العالم الثالث هو ظاهرة انتقالية يمكن تجاوزها إلى بناء أحزاب ديمقراطية؟ ما الخبرات التاريخية في دول العالم الثالث وكيف نجحت بعضها في بناء أحزاب ديمقراطية؟ أم أن ظاهرة غياب الديمقراطية في أحزاب البلاد العربية هي جزء من استمرار غياب الديمقراطية في الدولة من ناحية ومن ناحية أخرى غيابها في المجتمع الذي لا تنعقد في العادة الزعامة فيه إلا لصاحب غلبة وثروة أو مكانة اجتماعية أو مقام ديني، الذي لا تعدو فيه أغلب أحزاب اليوم أن تكون امتدادا لتشكيلات وراثية من قبلية أو طائفية أو إثنية.


يتطلب استقرار العمل بنظام الحكم الديمقراطي وجود قناعات لدى التيارات والقوى الفاعلة إلى جانب المواطن بإمكانية تطبيقه وإيمانا بأهمية ذلك

7- الدولة الديمقراطية: كما سبقت الإشارة فإن أقرب مؤسسة إلى مؤسسة الحزب –مع الفارق– هي الدولة. والحد الأدنى لاكتساب الدولة المعاصرة صفة الديمقراطية يتمثل في وجود المبادئ والمؤسسات والآليات التالية:

أ- ألا يكون في الدولة الديمقراطية من حيث النص وعلى أرض الواقع سيادة لفرد أو لقلة من الناس على الشعب.
ب- الأخذ بمبدأ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات السياسية والقانونية على الأقل.
ج- التوافق على شرعية دستور ديمقراطي. والدستور الديمقراطي هو تعاقد مجتمعي متجدد وليس منحة أو مكرمة أو ما هو أقرب إليهما. ولذلك فالدستور الديمقراطي لا بد أن يكون عقد تتم مناقشته وإقراره بحرية من قبل جمعية تأسيسية منتخبة، سواء تم عرضه على استفتاء شعبي أو لم يتم. كما لا بد للدستور الديمقراطي أن يرتكز على أركان عامة مشتركة من حيث النص والتطبيق على أرض الواقع. أولها: الشعب مصدر السلطات، ثانيها: سيطرة أحكام القانون والمساواة أمامه، ثالثها: عدم الجمع بين السلطات الثلاث في يد شخص أو مؤسسة واحدة، رابعها: ضمان ممارسة الحريات العامة، خامسها: تداول السلطة وفق آلية انتخابات دورية حرة ونزيهة.

وجدير بالتأكيد أن تلك المبادئ والمؤسسات والآليات هي ضوابط رسمية وقانونية على الممارسة الديمقراطية، تتوقف أهميتها وفاعليتها على حقيقة تطبيقها على أرض الواقع، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يتطلب استقرار العمل بنظام الحكم الديمقراطي وجود قناعات لدى التيارات والقوى الفاعلة إلى جانب المواطن، بإمكانية تطبيقه وإيمانا بأهمية ذلك.

ولا بد لتلك القناعات وذلك الإيمان من النمو، وأن يترسخا في النفوس إلى جانب النصوص تدريجياً. هذا حتى تصبح الممارسة الديمقراطية خلقا حميدا والديمقراطية قيمة اجتماعية يضبطها وعي اجتماعي ومجتمع مدني فاعل ورأي عام مستنير، تستطيع جميعها أن ترتقي بالممارسة الديمقراطية عبر عملية التحول الديمقراطي الطويلة والشاقة، من الشكل إلى المضمون الذي يكرس أسلوب الشفافية والصدقية ويعوّد جميع أطراف العملية الديمقراطية على تداول الرأي بتأن وأخذ مصالح الآخرين بإنصاف قبل التصويت على القرارات وتحديد الخيارات العامة من قبل المفوضين بذلك.


تحول اتجاه الأحزاب في الغرب تاريخيا من أحزاب النخبة إلى أحزاب الجماهير إلى أحزاب الفرصة إلى أحزاب الانتخابات أخيرا، الأمر الذي أدى إلى تناقص عضوية الأحزاب السياسية وتراجع دورها

8- الحزب الديمقراطي: وفي ضوء التشابه بين مقومات وضوابط نظام الحكم في الدولة والضوابط الحاكمة لإدارة الأحزاب –مع وجود فوارق- يمكننا القول إن المبادئ والمؤسسات والآليات التي يلزم وجود حد أدنى منها في الحزب حتى يكتسب صفة الديمقراطية يمكن إجمالها في ما يلي:

أ- ألا يكون في الحزب سيادة على أعضائه، من قبل زعيم أو عائلة أو صاحب صفة دينية أو طائفية أو قبلية لها حق أو عرف ثابت يكرس موقعها في القيادة.
ب- أن تكون العضوية بضوابطها الديمقراطية هي وحدها مناط الواجبات ومصدر الحقوق الحزبية.
ج- أن تكون العضوية في الحزب –من حيث المبدأ– مفتوحة لجميع المواطنين دون إقصاء أو تميز من حيث العرق والدين والمذهب، وأن يكون اكتساب العضوية -متاحا من حيث المبدأ- حقا لكل من اكتسب صفة المواطن في الدولة. وهذا المبدأ قد يثير إشكالية لدى الأحزاب الدينية والطائفية والإثنية والمناطقية والطبقية. وهذه الإشكالية لا بد من مقاربتها حتى يمكن للأحزاب أن تتداول السلطة سلميا. وذلك عندما يكون انتقالها من الشبيه إلى الشبيه، حيث يتعذر انتقال السلطة سلميا من النقيض إلى النقيض عندما يكون هدف أحد الأحزاب هو إقصاء الحزب الآخر وليس تداول السلطة معه سلميا.

د- أن يحتكم أعضاء الحزب في علاقاتهم الداخلية إلى شرعية دستورية متجددة يتوافقون عليها ابتداء، في ضوء ارتكازها على الأركان التي سبق الإشارة إلى أنها تكسب الدستور صفة الديمقراطية، وهذه يمكن تلخيصها في التالي:


هناك إجماع على مركزية دور الأحزاب في نظم الحكم الديمقراطية نتيجة لعدم وجود بديل لها يستطيع أن يؤدي دورها ووظائفها

أولا: أن يكون أعضاء الحزب هم مصدر السلطة في الحزب ولا وصاية لفرد أو قلة من أعضاء الحزب أو غيرهم على قرار الحزب.
ثانيا: سيطرة نظم الحزب ولوائحه والمساواة أمامها بين أعضاء الحزب في ضوء قانون الأحزاب ودستور الدولة.
ثالثا: عدم الجمع بين السلطة التنفيذية في الحزب والسلطة التشريعية التي يملكها مؤتمره العام المنتخب انتخابا دوريا حرا ونزيها، هذا مع وجود شكل من أشكال المحكمة الحزبية الدستورية المستقلة يعود لها الفصل في الشؤون الحزبية بين أعضاء الحزب وأطيافه الداخلية قبل اللجوء إلى القضاء في الدولة.
رابعا: ضمان حرية التعبير في الحزب وإتاحة الفرصة لنمو التيارات والأطياف داخل الحزب وأخذها أشكالا معترفا بها داخليا من أجل نمو الأحزاب وبلوغها مستوى الكتلة المؤثرة عندما تسمح بالتعدد داخل الوحدة، وتقضي على أسباب التفتت والانشقاقات.
خامسا: تداول السلطة في الحزب وفق آلية انتخابات دورية حرة ونزيهة من القاعدة إلى القمة.
سادسا: قبول الحزب لوجود غيره من الأحزاب وضبط فكره ومنهجه وبرنامجه في ضوء حق الرأي والمصلحة الأخرى في التمثيل دون إقصاء أو احتواء بالترهيب أو التغييب والإنكار، بما في ذلك حق التنافس للوصول إلى السلطة وتداولها سلمياً بين الأحزاب، وواجب الدفاع عن حق الأحزاب الأخرى في الوجود والتعبير.

وجدير بالتأكيد في حالة الحزب أيضا أن تلك المبادئ والمؤسسات والآليات هي ضوابط رسمية وقانونية من أجل الممارسة الديمقراطية تتوقف أهميتها على تطبيقها على أرض الواقع كما تم تأكيد ذلك في حالة الدولة أعلاه.


رغم بروز عدد من تنظيمات المجتمع المدني المنافسة للأحزاب في القيام ببعض وظائفها، فإن الأحزاب تبقى وحدها المؤهلة للوصول إلى السلطة وتداولها دون غيرها من المنظمات غير الحكومية

وجدير بالذكر والتأكيد أيضا أن الممارسة الديمقراطية في الأحزاب كما هي في الدول مسألة نسبية، هناك حد أدنى من المبادئ والمؤسسات والآليات يجب وجودها في الممارسة حتى تتصف بالديمقراطية، وبعد التأكد من وجود هذا الحد يبقى الفرق واردا وأحيانا كبيرا بين الممارسات الديمقراطية في الحزب وفي الدولة من حيث درجة النضج والاستقرار ونوعية الديمقراطية وفرص الارتقاء بها.

9- التشابه مع الفارق بين الحزب والدولة: وبالرغم من تشابه مقومات وضوابط نظام الحكم الديمقراطي في الدولة مع المقومات والضوابط الحاكمة لإدارة الحزب الديمقراطي، فإن هناك فوارق بينهما من عدة أوجه:
أولها: أن علاقة الحزب بأعضائه علاقة طوعية اختيارية، بينما علاقة المواطن بالدولة وراثية عضوية.
ثانيها: أن الدولة تحتكر العنف وتفرض إرادتها على مواطنيها وفقا للقانون في الدولة الديمقراطية، بينما الحزب لا يحتكر العنف ولا يجوز له اللجوء إليه لتنفيذ القانون على أعضائه وإنما يخضع الحزب وأعضاؤه على قدم المساواة لقوانين الدولة عامة وقانون الأحزاب خاصة.
ثالثها: أن الحزب جزء من كل في الدولة ويمكن أن تنمو عضويته أو تتقلص حسب قناعة المواطنين بتوجهاته وبرنامجه. أما الدولة فإن حجم مواطنيها أكثر ثباتا وليس أمامهم إلا إصلاح الدولة حتى تصلح أحوالهم العامة والخاصة، بعكس الحزب الذي يجد العضو منه بدا إذا لم تتحقق من خلاله طموحاته وتراعى مصالحه.
رابعا: الدولة بحكم امتلاكها للسيادة على إقليمها هي إقصائية لسيادة غيرها من الدول على إقليمها. أما الحزب فهو جزء من كل ولا يجوز له إقصاء وجهات النظر والمصالح الأخرى، وإنما يتنافس معها فهي شريكة معه على قدم المساواة.
خامسا: يخضع الحزب لقانون الأحزاب في الدولة وتشرف أجهزة الدولة المختصة على الحزب وإدارته وأمواله ونشاطاته وفقا للقانون.


من أهم المؤهلات التي تجعل الأحزاب السياسية قادرة على الارتقاء بالديمقراطية اتساع عضويتها وتزايد قدرتها على إدماج المواطنين أفرادا وجماعات في الحياة السياسية فعلا وليس مجرد السعي للحصول على أصواتهم

ومن هنا فإن قانون الأحزاب في الدولة وكيفية الإشراف على تطبيقه يمكن أن يكون ذا تأثير إيجابي أو سلبي على ممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب. أما الدولة فإنها ذات سيادة تجاه الخارج، ولم يصل تدخل المجتمع الدولي بعد إلى حد المتابعة والإشراف الإداري على تطبيقها للمواثيق والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها. وبالتالي فإن الممارسة الديمقراطية داخلها تتوقف على عوامل داخلية بالدرجة الأولى، أما الأحزاب فإن مدى تدخل الدولة القانوني في شؤونها أكثر تأثيرا على أدائها الديمقراطي.

10 – أزمة الأحزاب في الدول الديمقراطية: وفي ختام هذه الملاحظات الأولية حول مفهوم الحزب الديمقراطي الذي ننشد وجوده ونسعى إلى التعرف على شروط ذلك، يجب ألا تغيب عن ذهننا أزمة الأحزاب في الدولة الديمقراطية أيضا ولا النقد الإيجابي والبناء في سياق الدعوة إلى إصلاح الأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية. وفي هذا الصدد هناك نوعان من النقد:

أ- النقد التاريخي الذي يقول بقانون الأولجارشية الحديدي في الأحزاب، مثلما هو موجود في الدولة أيضا، وبالتالي استحالة قيام حزب ديمقراطي. وهذا النوع من النقد مثله مثل النقد الذي شكك في قيام ديمقراطية سياسية قبل قيام ديمقراطية اقتصادية واجتماعية. وهو نقد وارد وصحيح إلى حد كبير وفي مجمله مفيد من حيث سعيه إلى التنبيه إلى خطورة السيطرة على الأحزاب من قبل قياداتها وكذلك التأكيد على ضرورة الارتقاء بالممارسة الديمقراطية في الدولة وداخل الأحزاب وفي ما بينها.

حيث يشير هذا النقد إلى أن الممارسة الديمقراطية على أرض الواقع تحتاج إلى توفير مصادر المشاركة في اتخاذ القرارات وتحديد الخيارات العامة، إلى جانب الحق السياسي والقانوني الذي ينص على مشاركة الملزمين بتلك القرارات والخيارات العامة في اتخاذها. وإيجابية هذا النقد تكون في التنبيه إلى ضرورة توفير شروط المشاركة السياسية الفعالة على مستوى الدولة ومستوى الأحزاب. وحتى يتم ذلك فإن الديمقراطية السياسية والنص القانوني على الحق فيها وكذلك الديمقراطية النسبية داخل الأحزاب وفي ما بينها، تبقى مدخلا ضروريا لتنمية الديمقراطية والارتقاء بها، فما لا يدرك كله لا يترك جله.

ب- النقد المعاصر الموجه إلى ظاهرة تزايد وقوع أحزاب الدول الديمقراطية في أيدي بيروقراطية الأحزاب التي أصبحت تعتمد على مهنة الانتخابات وصناعة الرأي العام من خلال توظيف العلاقات العامة.


النقد الموجه إلى الأحزاب في الدول الديمقراطية تاريخا وحديثا هو دعوة من أجل إصلاحها على قاعدة الديمقراطية حتى يتحقق مزيد من الممارسة الديمقراطية داخلها كما ونوعا

وكذلك يوجه النقد إلى الأحزاب بسبب تزايد دور الشركات المتعدية الجنسية وإمبراطوريات المال والإعلام في دعمها والتأثير على توجهاتها.

هذا إضافة إلى تزايد العوامل الخارجية وتدخل الدول ذات النفوذ في الحياة السياسية الوطنية. الأمر الذي أدى إلى ابتعاد الأحزاب السياسية بشكل عام عن الاعتماد على أعضائها وصرف نظرها عن ضرورة توسيع عضويتها والارتقاء بالممارسة الديمقراطية داخلها.

وإلى جانب ذلك تزايد أيضا في الدول الديمقراطية -عددا وتأثيرا- دور ما يسمى أحزاب الانتخابات Electoralist parties التي ترتكز دعوتها في تولي السلطة على جاذبية شخصيات تستقطبها، أو برامج مصنوعة بعناية ومهنية إعلامية لكسب الأصوات، إلى جانب أحزاب انتخابات أخرى ينطبق عليها التعبير الشعبي المصري "بتاع كله" Catchall.

وقد أدى تحول اتجاه الأحزاب في الغرب تاريخيا من أحزاب النخبة إلى أحزاب الجماهير إلى أحزاب الفرصة إلى أحزاب الانتخابات أخيرا، إلى تناقص عضوية الأحزاب السياسية وتراجع دور الأحزاب من حيث إدماج المواطنين في الحياة السياسية كما قل حرصها على الارتقاء بالممارسة الديمقراطية وزيادة امتلاك المواطنين لمزيد من مصادر المشاركة السياسية الفعالة.

ومع صحة هذا النقد نسيبا وخطورته على الديمقراطية نفسها إلا أن هناك إجماعا على مركزية دور الأحزاب في نظم الحكم الديمقراطية نتيجة لعدم وجود بديل لها يستطيع أن يؤدي الوظائف التالية:

  • تعبئة المواطنين وتفعيل دورهم السياسي وإدماجهم في الحياة السياسية.
  • تحري المصالح المشتركة والتوفيق بينها وجمع الموطنين حولها.
  • التعرف على السياسات العامة وبلورتها في برنامج سياسي قابل للتنفيذ.
  • تجنيد القادة السياسيين وتنمية قدراتهم على حكم الدولة وإدارتها.

وبالرغم من بروز عدد من تنظيمات المجتمع المدني المنافسة للأحزاب في القيام ببعض وظائفها، إلا أن الأحزاب تبقى وحدها المؤهلة للوصول إلى السلطة وتداولها دون غيرها من المنظمات غير الحكومية. وستبقى الحاجة إليها قائمة والدعوة إلى إصلاحها وتأهيلها للقيام بدورها المركزي في نظم الحكم الديمقراطية دعوة جادة ومسؤولة وفي محلها.

ومن أهم تلك المؤهلات التي تجعل الأحزاب السياسية قادرة على الارتقاء بالديمقراطية اتساع عضوية الأحزاب وتزايد قدرتها على إدماج المواطنين أفرادا وجماعات في الحياة السياسية فعلا وليس مجرد السعي للحصول على أصواتهم.

هذا إلى جانب تعزيز مسؤوليتها الوطنية ورعايتها للمصالح العامة فضلا عن عملها الدؤوب من أجل إرساء الممارسة الديمقراطية داخلها وفي ما بينها وداخل الدولة والارتقاء بها أيضا.

وفي ذلك تتساوى حاجة الدول الديمقراطية والدول التي تنشد الديمقراطية إلى وجود أحزاب وطنية ديمقراطية فيها. وما النقد الموجه إلى الأحزاب في الدول الديمقراطية تاريخا وحديثا إلا دعوة من أجل إصلاحها على قاعدة الديمقراطية والارتقاء بها حتى يتحقق مزيد من الممارسة الديمقراطية داخلها من حيث النوع إلى جانب الكم، حتى يتم عبور الديمقراطية بسلام من حقبتها السياسية الراهنة التي تغلب عليها الإجرائية، إلى حقبة يمتلك فيها المواطنون أفرادا وجماعات مصادر المشاركة في عملية تحديد الخيارات واتخاذ القرارات التي يلزمون بتطبيقها، ويبرز دورهم في تحديد مضمون الديمقراطية إلى جانب ضبط منهجها.

للتعليق والتعقيب اضغط هنا

________________
باحث متخصص في قضايا الديمقراطية

المصدر : الجزيرة