الصراع بين فتح وحماس.. فتش عن إسرائيل


undefined
أنطوان شلحت

فور التوقيع على اتفاق مكة بين حركتي فتح وحماس بدا واضحًا أنّ إسرائيل حولته إلى ذريعة رئيسة لجعل "مركز الثقل" في موقفها بشأن ما يحدث في فلسطين في الآونة الأخيرة يتمحور حتى إشعار آخر حول ردّات الفعل على ذلك الاتفاق لا أكثر، في سبيل "تزيين" التهرّب من الاستحقاقات الأخرى بشأن الملف الفلسطينيّ، ومن النتائج الكئيبة للحرب على لبنان في صيف 2006 وتداعياتها الداخلية.

ويمكن القول إنّ الموقف الإسرائيلي من هذا الاتفاق كان عاملاً من عوامل الفشل في وضعه موضع التطبيق.

وغداة الاتفاق ظلت إسرائيل كما كانت عليه منذ انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في يناير/كانون الثاني 2006 تحرّض على الحرب الأهلية تحت شعار "الحاجة إلى الفرز السياسي" بين "المتطرفين والمعتدلين".

يتناول هذا المقال الدور الإسرائيلي في إذكاء نار الفتنة الفلسطينية على خلفية اتفاق مكة وفي أعقاب الوضع الناشئ في غزة.

الموقف الإسرائيلي من اتفاق مكة
ما بعد الوضع الناشئ في غزة

الموقف الإسرائيلي من اتفاق مكة

"
الرهان الإسرائيلي هو أن الجمهور الفلسطيني الذي سيشاهد الأداء المختلف للحكومتين (حكومة حماس في غزة وحكومة فتح في الضفة الغربية) سيبتعد عن حركة حماس ليعود إلى دعم وتأييد حركة فتح

"

إنّ من شأن متابعة التصريحات التي صدرت تباعًا عن مختلف المسؤولين الإسرائيليين، أن توجز الموقف الإسرائيلي الرسمي بشأن اتفاق مكة في الأفكار الرئيسة التالية:

  • يعبّر الاتفاق للمرّة الأولى عن رغبة فتح وحماس في منع استمرار التصعيد في المواجهات العنيفة بينهما. ومن الناحية العملية فقد حسم الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) وحركة فتح الموضوع لمصلحة "السلم الداخلي" الفلسطيني من خلال التنازل لحماس وإدارة الظهر لطلبات الولايات المتحدة الأميركية و"اللجنة الرباعية".
  • تظهر حركة حماس في صورة من جنت معظم الأرباح من اتفاق مكة لأنها نجحت في الاحتفاظ بأهم مرتكزات الحكم، دون تقديم تنازلات أيديولوجية فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل ودون قبول شروط "الرباعية" والمجتمع الدولي.
  • إن إشراك فتح في حكومة الوحدة، ودعوة محمود عباس من خلال كتاب التكليف إلى احترام اتفاقيات الماضي التي وقعت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، يهدفان إلى تمكين محمود عباس وحماس من الظهور بمظهر ليّن أمام المجتمع الدولي بهدف إعادة المساعدات الاقتصادية ورفع الحصار الدولي.

ومع هذا فإن اتفاق مكة لا يتطرق إلى مبدأين أساسيين في اتفاقيات الماضي تطالب بهما الولايات المتحدة الأميركية واللجنة الرباعية: "الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود، ونبذ طريق الإرهاب والعنف وسيلة لحل النزاع".

وقد حرص المتحدثون باسم حماس على توضيح هذا من خلال التصريح عبر وسائل الإعلام بأن البرنامج السياسي لحكومة الوحدة التي سيتم تشكيلها لا يتضمن الاعتراف بإسرائيل.

أمّا الحصيلة المباشرة لهذا الاتفاق، والمحدّدة في إقامة حكومة وحدة فلسطينية، فإنّ الرهان الإسرائيلي عليها انطلق أكثر شيء من وجود "رغبة دفينة مزدوجة" في إبداء التحفظ على العمل والتعاون مع الحكومة الفلسطينية الجديدة من جهة، ومن جهة أخرى من رغبة في أن لا تقوم هذه الحكومة أصلاً، ليفضي ذلك إلى القضاء على الاتفاق في مهده، وهو ما يعني انحصار المسؤولية عن الجمود الحالي في الجانب الفلسطيني وحده.

واستباقًا لمجرّد النجاح في تشكيل حكومة الوحدة أشار الباحث الإسرائيلي في الشؤون الفلسطينية شلومو بروم، من "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، إلى أن اتفاق مكة في حد ذاته يعتبر هشًّا، "فحكومة الوحدة لم تتشكل بعد، كما أن الطريق المؤدية إلى قيامها مرصوفة بالعراقيل والصعاب، كالجدل حول الشخصيات التي سيتم اختيارها لشغل حقائب وزارية مركزية، وخاصة حقيبة الداخلية".

كذلك توقع هذا الباحث أن يصطدم تنفيذ الاتفاق المتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية بصعوبات جمّة نظرًا لعدم رغبة القوى والمنظمات المشاركة حاليًا في عضوية منظمة التحرير في التخلي عن مراكز قوة تسيطر عليها وإعطاء حماس مواقع هامة ورئيسة تمكنها من السيطرة مستقبلاً على منظمة التحرير الفلسطينية أيضًا. إلى ذلك فإن الوضع الميداني ما زال قابلاً للانفجار وبالتالي يمكن أن تؤدي أحداث خارجة عن السيطرة إلى انهيار الاتفاق.

وأضاف أنه حتى إذا طبق اتفاق مكة فإن الحكومة (الفلسطينية) الجديدة ربما لا تتمكن من مزاولة عملها بانتظام بسبب خلافات بين مكوناتها المختلفة بما يؤدي إلى حلها أو تفككها في مرحلة لاحقة!

تجدر الملاحظة إلى أنه قبل اتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الفلسطينية أعلنت "وثيقة جديدة" صادرة في 13 مارس/آذار 2007 عن وزارة الخارجية الإسرائيلية أنّ إسرائيل في خضم "إعادة تقييم فرضيات معينة سائدة عن المنطقة". وتطرقت هذه الوثيقة التي حملت عنوان "الوضع في الشرق الأوسط.. نظرة شاملة على السياسة الإسرائيلية الحالية"، إلى الوضع في المنطقة والتطورات في فلسطين ولبنان وإيران وسوريا.

وهي في رأيي وثيقة بليغة في توضيح بعض مفاصل السياسة الإسرائيلية الحالية.


القضاء على المتعصبين هو الحل

"
هذه المنطقة لم تعد مقسمة بين الإسرائيليين والعرب بقدر ما هي مقسمة بين أولئك الذين يؤمنون بالتسامح والتعايش -أيا كانت هويتهم الوطنية والدينية- وأولئك الذين يرفضون شرعية أية أيديولوجية أو مصلحة غير أيديولوجيتهم

"

الخارجية الإسرائيلية في 13 مارس/آذار 2007

"

إنّ النتيجة الابتدائية التي تتوصل إليها الوثيقة وتحاول تسويقها باعتبارها جديدة كل الجدة، هي أنّ "هذه المنطقة لم تعد مقسمة بين الإسرائيليين والعرب بقدر ما هي مقسمة بين أولئك الذين يؤمنون بالتسامح والتعايش-أيا كانت هويتهم الوطنية والدينية- وأولئك الذين يرفضون شرعية أية أيديولوجية أو مصلحة غير أيديولوجيتهم أو مصلحتهم ولذا فهم على استعداد للجوء إلى ممارسة العنف العشوائي من أجل المضي قدمًا بقضيتهم".

غير أن هذا التقسيم أكثر ما يراد منه هو أن تلقي إسرائيل بوزر "حالة المواجهة" على كاهل تلك القوى التي تصفها بـ"المتطرفة" وتذكر بعضها بالاسم مثل إيران وحزب الله وحماس، لكي تصل إلى نتيجة أخرى أشد وأدهى مؤداها ما يلي:

"يسود الاعتقاد أحيانا بأن الصراع الإسرائيلي العربي هو السبب وراء هذا التطرّف. لكن الأقرب إلى الصواب والصحة هو القول بأن الإخفاق في مواجهة هذه القوى المتطرفة وهزيمتها هو الذي أبقى هذا الصراع حيًّا قائمًا".

بعد ذلك تنتقل وثيقة الخارجية الإسرائيلية إلى الحديث التفصيلي عن كل من السلطة الفلسطينية ولبنان وإيران وسورية.

تأليب المجتمع الدولي
وفيما يتعلق بالسلطة الفلسطينية، وهو ما يهمنا في هذا المقام، فقد استبقت هذه الوثيقة تشكيل حكومة الوحدة بتأليب المجتمع الدوليّ، ومن ضمنه الاتحاد الأوروبي والرباعية الدولية، على مواصلة التمسك بضرورة التزام  أية حكومة فلسطينية سيتم تشكيلها التزاما كاملا بتطبيق مبادئ الرباعية الدولية الثلاثة وهي: "نبذ الإرهاب والعنف، الاعتراف بإسرائيل، والقبول بالاتفاقيات والالتزامات السابقة بما فيها خريطة الطريق".

ومما جاء في الوثيقة الإسرائيلية بهذا الشأن: في أعقاب الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه في مكة بين فتح وحماس حول تشكيل حكومة وحدة وطنية، أصبح ضروريًّا أن يواصل المجتمع الدولي إصراره على الاستيفاء التام والكامل لهذه المبادئ.  فهذه المطالب ليست عقبة في طريق السلام بل من المقومات الأساسية لإحلال السلام؛ ولذلك يجب ألا تكون موضع مفاوضات أو صياغة غامضة مبهمة ويجب الوفاء بها بالكامل من قبل أي حكومة فلسطينية يتم تشكيلها، لتحظى الأخيرة بالشرعية والتعاون من جانب المجتمع الدولي.

وعندما يرفض المجتمع الدولي إضفاء صبغة الشرعية على حكومة أو منظمة ترفض هذه المبادئ الأساسية من أجل التوصل إلى السلام، فإنه بذلك يعزّز مكانة المعتدلين في المجتمع الفلسطيني، ويسهل الجهود لتعاون مثمر بين إسرائيل والمعتدلين الفلسطينيين، وفي ذات الوقت يظهر بشكل جلي وواضح أن طريق التطرف لن تحقق أية نتائج على الصعيد الفلسطيني الداخلي كما لن تكون مقبولة من المجتمع الدولي.

ما بعد الوضع الناشئ في غزة

عقب الوضع الناشئ في غزة ترتبًا على سيطرة حركة حماس، يجمع المعلقون الإسرائيليون على أنه ربما تكون السياسة الأسهل والأفضل في الوقت الراهن هي عدم اتخاذ الحكومة الإسرائيلية قرارات بهذا الشأن ما عدا ما كان منها ضروريا، ومراقبة التطورات في الجانب الفلسطيني.

لكن متابعة دقيقة لعناصر الموقف الإسرائيلي تفيد إتباع السيناريو التالي: تشجيع الفصل بين المنطقتين الفلسطينيتين، وتقوية سلطة "فتح" في الضفة الغربية مقابل معاقبة سلطة "حماس" في قطاع غزة وإضعافها.

وإذا ما استعرضنا قاموس معظم التعليقات الإسرائيلية فهذه هي الطريقة المفضلة تقريبًا، ذلك لأن حركة "حماس" المسيطرة في قطاع غزة هي منظمة إسلامية مسلحة، لا تعترف بإسرائيل بل تتطلع إلى تدميرها.

في المقابل تسيطر في الضفة الغربية منظمة اعترفت بإسرائيل وترغب في التوصل إلى تسوية معها. من هنا ينبغي على إسرائيل دعم الأولى (فتح) والعمل على إضعاف الثانية (حماس).

قصة نجاح وحكاية فشل
هناك من يقول إنه يمكن بهذه الطريقة تحويل مناطق الضفة الغربية إلى "قصة نجاح" عن طريق تشجيع توسيع وتنمية النشاطات الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة، وذلك عقب رفع العقوبات الاقتصادية وتدفق أموال المساعدات الدولية وتحويل عوائد الضرائب التي تحتجزها إسرائيل، إضافة إلى ما يمكن أن تسهم به إسرائيل من خلال إزالة بعض الحواجز وتسهيل حركة التنقل وغيرها من الأعمال والخطوات التي من شأنها تعزيز مكانة حركة "فتح"، كالإفراج عن أسرى ومعتقلين فلسطينيين.

في المقابل فإن قطاع غزة الذي سيبقى خاضعاً للعقوبات الإسرائيلية والدولية، إضافة إلى ازدياد الضغوط عليه، سيتحول إلى "حكاية فشل".

والرهان هو أن الجمهور الفلسطيني الذي سيشاهد الأداء المختلف للحكومتين (حكومة حماس في غزة وحكومة فتح في الضفة الغربية) سيبتعد عن حركة حماس ليعود إلى دعم وتأييد حركة فتح.

نجاح مشكوك فيه

"
هناك عدة أسباب تدعو للشك في فرص نجاح السيناريو الإسرائيلي الحالي منها أن سلطة فتح في الضفة الغربية ستظهر للشعب الفلسطيني على أنها تعتمد على الحراب الإسرائيلية، والتقارب الزائد عن الحد بين محمود عباس وإسرائيل سوف يضر بمكانته شعبيا

"

هناك عدة أسباب تدعو للشك في فرص نجاح طريقة العمل هذه.

بادئ ذي بدء ستظهر سلطة فتح في مناطق الضفة الغربية معتمدة على حراب إسرائيل. كما أن عناقًا حارًا أكثر من اللازم لمحمود عباس من جانب إسرائيل يمكن أن يضرّ بمكانته.

علاوة عن ذلك ثمة احتمالات بأن لا يفسر الجمهور الفلسطيني الضائقة في غزة على أنها فشل وإخفاق لحركة حماس، وأن يلقي باللائمة على إسرائيل والولايات المتحدة و"عملائهما العرب وفي مقدمتهم فتح".

هناك مشكلة جوهرية أخرى تعترض طريقة العمل هذه وهي ردة الفعل المتوقعة من جانب حركة حماس.  فالحركة ستلجأ إذا ما حُشِرَت في الزاوية إلى طريقة العمل الوحيدة المتاحة من وجهة نظرها وهي تكثيف جهودها في شن هجمات مسلحة في مناطق الضفة الغربية إضافة إلى القيام بمحاولات لتنفيذ هجمات انتحارية انطلاقًا من هذه المناطق.

وما زالت حماس تمتلك قاعدة عمليات قوية في مناطق الضفة الغربية وبالتالي لا بد من الافتراض بأن عناصر الحركة ستنجح في تنفيذ عدد من الهجمات. وفي هذه الحالة ستضطر إسرائيل رغم ما تتظاهر به من نوايا حسنة، إلى إعادة نشر شبكة حواجزها العسكرية، بل وتعزيزها، بما يؤدي إلى تشديد القيود على حركة التنقل وانهيار النشاطات الاقتصادية.

يطرح كذلك السؤال: إلى أي حد يمكن لاستئناف العملية السياسية مع محمود عباس وحكومته في الضفة الغربية أن يخدم أهداف طريقة العمل المذكورة؟

ثمة شك في أن يتمكن أبو مازن من التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل حول المسائل الجوهرية كقضية اللاجئين والحدود والقدس.

كما أن ثمة ادعاء بأن الحوار معه وإمكانية التوصل إلى اتفاقيات مع إسرائيل كفيلان في حد ذاتهما بتعزيز مكانته في صفوف الجمهور الفلسطيني. لذا فإن الاستنتاج هو أن استئناف المحادثات السياسية سيكون "مجديًا إذا لم تُعَلَق عليه آمال كبيرة". وبذا يبقى المؤدى النهائي لهذه المحادثات أن يكون استئنافها هو الهدف أو الغاية لا الوسيلة.

أمّا الغاية الحقيقية من ذلك فهي تأجيج الخلاف الفلسطيني الداخلي وإبعاد الشبهة عن إسرائيل، التي أدارت ظهرها بالكامل للمفاوضات مع الشعب الفلسطينيّ منذ عام 2000 على الأقل.
_______________
كاتب فلسطيني

المصدر : الجزيرة