العلاقات العربية الهندية.. من التقارب إلى الحياد


undefined

* د. محمد نعمان جلال

تطورت العلاقات الهندية العربية عبر سنوات طويلة منذ فجر التاريخ، وقد قامت تلك العلاقات على التبادل الثقافي، والهجرات وحركة السكان، فضلا عن التبادل التجاري. وتشير العديد من المؤلفات والمراجع التاريخية إلى اتصالات واسعة قامت بين منطقة الخليج العربي واليمن ومصر من ناحية، والهند من ناحية أخرى. واستمرت تلك الصلات في العصر الإسلامي، وفي ظل الاستعمار البريطاني الذي كانت طرق مواصلاته للهند من أبرز القضايا التي أصبحت قاسما مشتركا لحركات التحرر الوطني في الهند والعالم العربي. ونتناول في هذه الدراسة الموضوعات التالية:

– خلفية العلاقات والسمات المشتركة
– الهند والعرب وعدم الانحياز
– الموقف الهندي من القضايا العربية
– التحولات في الموقف الهندي: الأسباب والمظاهر
الواقع الراهن للعلاقات العربية الهندية
– كيفية تعزيز العلاقات العربية الهندية

الخلفية والسمات المشتركة

تتميز العلاقات العربية الهندية بعدد من السمات يمكن تلخيصها في ثلاث على النحو التالي:

الأولى:
اقتراب المسافة الحضارية بين المنطقتين، بحيث أصبح كل منها يمثل عمقا حضاريا للآخر. فتأثر العرب منذ قديم الزمان بالحضارة الهندية حيث تاجروا معها، ومن خلال التجارة جاءت الثقافة. وبالمثل فقد تأثرت الهند بالحضارة الإسلامية التي أقامت دولا عدة، وأثناء ذلك أقامت آثارا أصبحت خالدة وأشهرها تاج محل وقطب منار، كما أنشأت المدارس والجامعات وأشهرها جامعة عليكرة. وأصبحت الثقافة الهندية مختلطة اختلاطا وثيقا بالثقافة العربية الإسلامية، في تجلياتها الأوردوية، التي كانت لغة البلاط والمفكرين والأدباء والمثقفين، زهاء أكثر من أربعة قرون.

الثانية:
أن عدم التجاور الجغرافي المباشر بين العرب والهند جعل العلاقات بين الطرفين خالية من المشاكل الجغرافية ومنازعات الحدود وحساسياتها.

الثالثة:
أن العصر الحديث، أي القرن التاسع عشر والقرن العشرين، شهد وحدة نضالية عربية هندية، إذ سيطر على الطرفين الاستعمار الأوروبي، وبخاصة الاستعمار البريطاني.

وترتب على ذلك أن المشاعر الوطنية تشابهت بين المنطقتين، ولذلك عبر الأدباء والشعراء، وهم طليعة الحركة الوطنية -في تلك الفترة– عن المساندة المتبادلة.

الهند والعرب وعدم الانحياز

عندما تحرك نهرو في النصف الأول من القرن العشرين لتجميع الدول الآسيوية، في إطار من التنسيق النضالي، صدرت تعبيرات عن تلك المؤتمرات الآسيوية، تؤيد نضال الشعوب العربية، وتطلعها نحو الاستقلال. وكانت هي أكثر الاتصالات تأثيرا في النصف الثاني من القرن العشرين، عندما تلاقت الحركة الوطنية المصرية العربية بزعامة جمال عبد الناصر مع نظيرتها الهندية بزعامة نهرو، في إطار التجمع الأفروآسيوي في باندونغ في أبريل/ نيسان 1955، وأدى التعاون والتفاهم الفكري بين الطرفين لبلورة سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وهي السياسة التي عبرت عن رغبة الدول حديثة الاستقلال في الحفاظ على استقلالها وحريتها، وحرصها على العمل من أجل السلام الدولي، ورفض سياسة الأحلاف والتكتلات، التي كانت تهدد العالم بكارثة نووية في أواخر الخمسينيات والستينيات، أي في ذروة الحرب الباردة آنذاك. ولا شك أن حركة عدم الانحياز أوجدت رابطة قوية في العلاقات الهندية العربية. ونشير فقط إلى ثلاثة أمور تتصل بعلاقة الهند بالعالم العربي في هذا السياق وهي:

أولها:
أن عدم الانحياز الهندي خدم القضايا العربية في التحرر من الاستعمار، كما أنه أفاد الهند في العديد من القضايا. ورغم الخلافات على الساحة العربية في الخمسينيات والستينيات، فإن ذلك لم يمس تطور علاقة العرب بالهند ومواقفهم تجاهها، بعكس الأمر بالنسبة لعلاقة العرب مع باكستان التي أصبحت موضع نقد من القوى العربية الثورية، لانضمامها لسياسة الأحلاف العسكرية.

ثانيها:
موقف العرب من قضية كشمير، وفي هذا الإطار يمكن التفرقة بين ثلاثة أنواع من المواقف:

  1. موقف عربي أكثر تعاطفا مع وجهة النظر الباكستانية، وكان ذلك هو موقف المملكة العربية السعودية وإلى حد ما اليمن ودول الخليج والأردن، وهو يدعو إلى تنفيذ قرار الأمم المتحدة بخصوص كشمير، وهذا معناه بصوره ضمنية المطالبة بإجراء استفتاء.
  2. موقف عربي أكثر حيادا، وتمثل في موقف دول مثل مصر وسوريا والعراق تمشيا مع دعوة تلك الدول لاحترام سيادة الدول الأخرى ومع مواقف عدم الانحياز والفكر العلماني الرافض لمفهوم الربط بين الدولة والدين.
  3. موقف عربي متوازن كما تجلى في حالتين:

– الحالة الأولى: ردا على تدمير بعض المساجد مثل مسجد بابري عام 1992 في أيودا ومسجد شرار شريف عام 1995 في كشمير. وقد شجبت بعض الدول العربية ومنها مصر والسعودية هذا التصرف وطالبت الهند بحماية المقدسات والمساجد والآثار الإسلامية ودعت لتسوية المشاكل بين الهند وباكستان سلميا.

– الحالة الثانية: قرارات منظمة المؤتمر الإسلامى وهذه قرارات جمعت المتناقضات، فطالبت بتسوية المشاكل بين الهند وباكستان سلميا بما في ذلك مشكلة كشمير وفقا لقرارات الأمم المتحدة واتفاقية سملا، فقرارات الأمم المتحدة تنص على الاستفتاء أي التدويل، أما سملا فترى حل المشاكل ثنائيا.

ثالثها:
أخذت الهند موقفا يشبه الحياد في الصراع العربي العربي، إثر توقيع مصر على اتفاقية كامب ديفد ومعاهدة السلام، وهو حياد يقترب من الموقف العربي المعارض لمصر، ولذلك فترت العلاقات بين البلدين، وكانت دوافع الهند لذلك تنبع من الحرص على علاقاتها المتنامية مع الدول العربية البترولية، سواء في مجال الحصول على البترول أو الاستثمارات أو العمالة أو التجارة، فضلا عن تأثير الاتحاد السوفياتي في مرحلة كانت ماتزال الحرب الباردة قائمة.

ولا شك أن من جمع هذه العوامل والسمات تشكلت سياسات ومواقف كل من الطرفين، العربي والهندي، تجاه الطرف الآخر، فأصبح التأييد متبادلا، وأضحت المصالح والمنافع متبادلة أيضا.

الموقف الهندي من القضايا العربية

سيتم التركيز على أبرز القضايا وأهمها قضية فلسطين. فحين طلبت بريطانيا إدراج قضية فلسطين على جدول أعمال الأمم المتحدة في 2 أبريل/ نيسان 1947، وقررت الجمعية العامة للأمم المتحدة تشكيل لجنة خاصة من 11 دولة من بينها الهند، لدراسة الموقف واستقصاء جميع جوانب المشكلة في فلسطين، أكد الوفد الهندي في اللجنة برئاسة السيد عاصف على موقف بلاده، في أن اليهود لم يتعرضوا لأي إضطهاد في الهند عبر تاريخها، وأن مشكلة فلسطين يجب حلها بين العرب واليهود بطريقة ودية، وأن الدين ليس أساسا لبناء دولة. وهذا البيان الهندي واضح الدلالة في تحليله، فمن ناحية أن المندوب الهندي اختير ليكون مسلما هنديا، ومن ناحية ثانية ليؤكد على أن الصراع في فلسطين ليس صراعا دينيا، وينبغي حله بين العرب واليهود وديا، ومن ناحية ثالثة أن الدين لا يمكن أن يكون أساسا متينا لقيام دولة.

والتساؤل هو: هل كان الوفد الهندي يعبر عن مشكلة فلسطين، أم عن مشكلة الهند؟ الواقع يمكن أن نقول إنه كان يعبر عن المشكلتين معا، ويقدم رسالة فلسفية وسياسية عميقة المغزى في الرد على الفلسفة الاستعمارية في الهند وفلسطين في نفس الوقت. ولكن السياسة الدولية المستندة إلى القوة لم تستمع للحكمة الهندية، وأعدت اللجنة الخاصة تقريرا تضمن توصية بأحد اختيارين، الأول: تقسيم فلسطين إلى دولتين مع اتحاد اقتصادي بينهما، وعرف هذا الاختيار بأنه يعبر عن رأي الأغلبية. والثاني: إقامة دولة فدرالية في فلسطين، وعرف هذا الخيار بأنه يعبر عن رأي الأقلية والتي ضمت الهند وإيران ويوغسلافيا. في حين أن خيار الأغلبية ضم الدول الأوروبية وأميركا اللاتينية أعضاء اللجنة المكونة من 11 دولة آنذاك.

وفي مرحلة لاحقة ترأست الوفد الهندي السيدة فيجايا لاكشمي بانديت، وأكدت موقف الهند من قضية فلسطين في اللجنة الخاصة Ad hoc Committee، في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 1947، حيث أوضحت "أن السلام في فلسطين والشرق الأوسط يمثل أهمية حيوية للهند، نتيجة الجوار الجيوسياسي، وأن المشكلة الأساسية هي إنهاء الانتداب، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وأن فلسطين هو بلد ذو أغلبية عربية، وإن هذا يجب ألا يتغير ضد مصلحة العرب، وأنه عندما تصبح فلسطين دولة مستقلة، يمكن أن يحصل اليهود على استقلال ذاتي كبير في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية. وأن الهند نفسها عانت من الوعود المتضاربة للقوة الاستعمارية التي كانت تحكمها، ومن هنا فلا يمكنها إلا أن تتعاطف مع الموقف العربي.

مرة أخرى نقول إن تحليل هذا الموقف يظهر عدة حقائق واضحة تمام الوضوح في الموقف الهندي، أولاها أن هذا الموقف يعكس التجربة التاريخية الهندية مع الاستعمار، وثانيها أنه يعبر عن حقائق واضحة على أرض فلسطين ذات الأغلبية العربية، وثالثها أنه يقدم حلا مثاليا، وهو الاستقلال الذاتي لليهود في مناطق أغلبيتهم، مع الحفاظ على وحدة الدولة.

ومرة أخرى لم تستمع اللجنة أو بالأحرى لم تأخذ اللجنة بمنطق الحكمة الهندية، ولا شك أن تحليل هذا الموقف الهندي في بداية نشأة الدولة الهندية يزودنا بمفاتيح هامة، ليس فقط لفهم مشكلة فلسطين، بل لفهم مشكلة الهند وعلاقاتها مع باكستان، وعلاقاتها مع العالم العربي، ويهمنا الإشارة هنا لعدة نقاط ذات مغزى:

  • الأولى: أن موقف الهند من قضية فلسطين كما برز منذ البداية وتطور عبر ما يقرب من نصف قرن، أي حتى إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل عام 1992، استند لرفض مفهوم الدين كأساس للدولة، كما استند لفلسفة الهند وتجربتها، وللتعبير عن مصالحها مع العالم العربي بنظرة ثاقبة وعقلانية.
  • الثانية: أن ما عبرت عنه الهند من مقولات في تلك المداولات بالأمم المتحدة، كانت تمثل الحكمة البليغة للحضارة الهندية، وتعبر عن فلسفة حزب المؤتمر الهندي وسياسته، وهي سياسة استهدفت التآلف بين مختلف الأديان في الهند، وشكلت نظرة الهند للدول الأخرى من هذا المنطلق.

التحولات في الموقف الهندي

لقد شهد عقد التسعينيات تحولا هاما في المواقف الهندية من القضايا العربية، وبخاصة قضية فلسطين وقضية جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.

ولا شك أن التعاون الكبير الذي تطور بين الهند وإسرائيل منذ إقامة الدبلوماسية رسميا بينهما عام 1992، كان هو الدافع الرئيسي وراء هذا التحول الذي تنفي الهند حدوثه، ولكنه حقيقة ملموسة يدركها كل من يتابع التطورات في الشرق الأوسط ومواقف الهند منها. ونسوق مثالين للدلالة على هذا التغير وهما مثالان يرتبطان بمواقف الهند من التصويت على القرارات الخاصة بفلسطين في الأمم المتحدة:

الأول يتمثل في تأييد إلغاء قرار اعتبار الصهيونية صورة من صور العنصرية، وهو القرار الذي أيدته الهند عام 1975 عند صدوره، في حين أيدت إلغاءه عام 1992، تمشيا مع تيار السياسة الدولية ورمالها المتحركة. والمثال الثاني هو تصويت الهند عام 2000، بالاعتراض على الفقرة السادسة من قرار جعل الشرق الأوسط منطقة منزوعة السلاح النووي، وخالية من أسلحة الدمار الشامل. والفقرة السادسة تطالب إسرائيل بالانضمام لمعاهدة منع الانتشار النووي بصفتها الدولة الوحيدة في المنطقة غير المنضمة للاتفاقية، وإن هذا في إطار تأكيد مفهوم العالمية للمعاهدة المذكورة. وكانت الهند قبل عام 2000 تصوت بالامتناع على تلك الفقرة لاعتبارات خاصة بتسلحها النووي. هذا ناهيك عن خفوت صوت الاعتراض الهندي، أو النقد الهندي لسياسات إسرائيل القمعية في الأراضي الفلسطينية، وهي سياسات بلغت أوجها في حصار ياسر عرفات في رام الله وتدمير القرى والمدن والقيام بمذابح في جنين ونابلس وطولكرم وغيرها.

والآن يمكننا أن نتساءل عن أسباب هذا التحول أو التغير في الموقف الهندي، وقبل أن نحلل هذه الدوافع لا بد أن نشير إلى حقيقة يتجاهلها البعض، أو يتصور عكسها، وهي أن البعض يتصور أن الهند كانت حليفا للدول العربية، وأن هذا التحالف تغير الآن، وهذا غير صحيح، فالحقيقة أن الهند -كغيرها من الدول- تبحث عن مصالحها ولم يكن لديها أي مصلحة في التحالف مع أي دولة عربية، وإنما كان هناك تضامن نضالي وتنسيق وتعاون في الأمم المتحدة، وتأييد متبادل للترشيحات في المناصب الدولية المختلفة ونحو ذلك.

ويمكن إرجاع التغير في الموقف الهندي إلى اعتبارات خمسة رئيسية تتمثل في ما يلي:

  1. إقامة علاقات مفيدة وهامة مع إسرائيل، ويكفي الإشارة إلى حجم التبادل التجاري بين البلدين الذي يزيد عن مليار دولار عام 2000، وكان 202 مليون دولار عام 1992، أي عندما لم تكن هناك علاقات دبلوماسية رسمية. ومقارنة ذلك بحجم التبادل التجاري الهندي مع دولة ذات علاقات قديمة مع الهند، مثل مصر نجده لا يزيد عن 400 مليون دولار عام 2000، ومع سوريا زاد قليلا عن مائة مليون دولار، ومع المغرب وصل إلى 360 مليون دولار نتيجة استيراد الهند فوسفات من المغرب، ومع ليبيا حوالي 30 مليون دولار، ومع الجزائر حوالي 40 مليون دولار. أما العلاقات التجارية الهامة، فهي مع دول الخليج، والتي تصل أعلاها مع المملكة العربية السعودية حوالي ثلاثة مليارات دولار، ويلي ذلك الإمارات حيث تزيد عن ملياري دولار، ثم الكويت. باختصار أصبح حجم التبادل التجاري الهندي مع إسرائيل يتزايد بصورة كبيرة، ويمكن في غضون سنوات قلائل أن يزيد عن حجم التبادل مع جميع الدول العربية، إذا استثنينا البترول والغاز.
  2. التعامل الهندي مع إسرائيل دخل قطاعات هامة في التكنولوجيا المتقدمة والمجالات العسكرية ومجال الفضاء والذرة، حتى إن بعض التقارير الصحفية أشارت إلى أن تجربتين من التجارب النووية الخمس التي أجرتها الهند عام 1998 كانت لحساب إسرائيل.
  3. تأثير العلاقات الأميركية الهندية المتزايدة، ليس فقط في المجال الاقتصادي أو السياسي بل في المجال العسكري، ومعروف دور اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة في هذا الصدد.
  4. إن العلاقات التجارية والسياسية والثقافية بين الهند والدول العربية أصبحت ثابتة، ولا يتوقع أن تتعرض لأي مساس نتيجة تطور وتحسن العلاقات الهندية الإسرائيلية، وهذا ليس غريبا، فالعالم كله يطور علاقته بإسرائيل، ومع ذلك لا تتعرض علاقاته مع الدول العربية لأي أذى، فلماذا تكون الهند استثناء من هذه الممارسات.
  5. إن ثقل المسلمين في الهند، وهم الذين كانوا عامل ضغط في التأثير على مواقف السياسة الهندية في عهد نهرو وحزب المؤتمر الهندي، نقول عن ثقلهم في السياسة يواجه الضعف، وهم أنفسهم يتعرضون لضغوط في ظل سياسة حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي المتشدد، كما أظهرت أحداث كوجرات في النصف الأول من عام 2002.

الواقع الراهن للعلاقات العربية الهندية

لا شك أن إلقاء نظرة على الواقع الراهن للعلاقات الهندية العربية، يمكن أن يقدم لنا مؤشرا حول مستقبل تلك العلاقات. فالنظرة الواقعية لهذه العلاقات تؤكد لنا ما يلي:

  • أن الهند بينما كانت سياستها في الشرق الأوسط على مدى أكثر من أربعين عاماً مؤيدة تماماً للقضايا العربية، وبخاصة قضية فلسطين، اتجهت إلى إقامة علاقات متوازنة بين العرب وإسرائيل. وهذا التوازن الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من السياسة الدولية ككل، يحقق مصالح تلك الدول، فضلا عن مصالح إسرائيل لأنه أخرجها من عزلتها من ناحية، وجعلها تطمئن إلى عدم انتقاد أو إدانة سياسة القمع التي تمارسها بعنف ووحشية غير مسبوقة، ضد الفلسطينيين من ناحية أخرى، أي أنه توازن يحمل في طياته ضعف التأييد للقضية الفلسطينية وللموقف العربي تجاهها.
  • إن الهند تعد شريكا تجاريا هاما للعالم العربي، فبعض الإحصاءات تشير إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي بلغ حجم تجارتها مع الهند 12 مليار دولار عام 2000، وهو ما يمثل 15% من حجم تجارة الهند الخارجية كلها.
  • تمثل العمالة الهندية في منطقة الخليج العربي عنصرا هاما داعما للعلاقات بين الطرفين، حيث يوجد حوالي أربعة ملايين عامل هندي في المنطقة العربية، منهم 2.5 مليون في دول مجلس التعاون الخليجى، هذا وفقا للإحصاءات الهندية في الكتاب السنوي لوزارة الخارجية، أما تقديرات الدول الخليجية فإن عدد العمالة الوافدة تصل إلى عشرة ملايين نسمة من 38 مليون نسمة إجمالي السكان، أي حوالي 36% من سكان دول مجلس التعاون، منهم 70% من الهند، مما يعني أن العمالة الهندية في دول مجلس التعاون لا تقل عن ستة ملايين عامل. ويزيد من أهمية العمالة الآسيوية التي معظمها عمالة هندية، أنها تتركز في القطاع الخاص والمجالات الاقتصادية، هذا بالإضافة لوجود استثمارات عربية في الهند، واستثمارات هندية في بعض الدول العربية، مما يعزز الروابط بين الطرفين. أما العمالة الهندية في الدول العربية الأخرى فهي محدودة ولا تزيد عن مائة ألف في المشرق العربي وشمال أفريقيا، والجالية الهندية ذات الوزن في الدول العربية غير الخليجية فهي في اليمن، والتي بدورها في طريقها للانضمام لمجلس التعاون الخليجي.

كيفية تعزيز العلاقات العربية الهندية

إنه من المنطقي في نهاية هذه الدراسة أن يطرح التساؤل التالي نفسه: هل يمكن إصلاح ما يصفه البعض بالخلل في العلاقات العربية الهندية في المستقبل؟

لا شك أن الإجابة على هذا السؤال هي نعم متحفظة وبشروط، ويرجع التحفظ إلى أن العلاقات الهندية الإسرائيلية وصلت نقطة اللاعودة في نموها وتنوع مجالاتها، وخاصة في المجالات الأمنية والعسكرية والتكنولوجيا العالية وصناعة السلاح، فإسرائيل هي المورد الثاني للسلاح للهند منذ عام 1998، والعرب ليس لديهم بديل يقدمونه في هذا الصدد، بل ربما العكس، إنه يمكن أن يكون العالم العربي سوقا للسلاح الهندي، ومن ثم يكون سوقا غير مباشر للسلاح الإسرائيلي، وهنا مكمن الخطر. والتعامل مع ذلك يكون بوجود خطة إستراتيجية عربية حقيقية لصناعة السلاح بما يحقق بعض المتطلبات الأساسية على الأقل.

أما الشروط فهي وجود موقف عربي موحد يربط المواقف السياسية بالمصالح الاقتصادية، سواء بالنسبة للهند أو غيرها من الدول. وهذا الشرط رغم صعوبة تحقيقه في العالم العربي في الظروف الراهنة، نتيجة حالة التجزئة واختلاف الأولويات في كل بلد عربي، نقول إن هذا الشرط هو المعمول به في السياسة الدولية بين جميع أطراف المجتمع الدولي التي تحدد سياساتها وفقا لمصالحها.

ويبقى في الختام أن نشير إلى أهمية تكثيف الاتصالات بين الطرفين العربي والهندي في مجالات هامة:

أولها:
المجال الثقافي، بما يحافظ على صورة كل منهما لدى الآخر، وطابعه القومي الصحيح، ويحول دون امتداد التشويه للصورة العربية إلى الهند نتيجة نشاط القوى المعادية للعرب، وخاصة في ظل موجة مناهضة الإرهاب ولصق ذلك بالإسلام.

ثانيها:
مجال الاستثمار، فإن وجود أموال عربية تبحث عن مجالات للاستثمار ووجود تكنولوجيا هندية يمكن أن تحقق نوعا من ترابط المصالح، بحيث يتم تطوير التعاون والمشروعات المشتركة في مجالات التكنولوجيا العالية، وأن تكون هذه المشروعات لدى كل من الطرفين، وليس فقط لدى طرف واحد، حتى تكون المنفعة متبادلة.

ثالثها:
مجال العمل الإسلامي، فرغم أن الهند ليست دولة عضوا في منظمة المؤتمر الإسلامي إلا أن بها أكبر عدد من المسلمين في العالم، بعد أندونيسيا، وهذا يمثل رصيدا للعمل المشترك، إذا أحسن التعامل معه، ومن الضروري التأكيد في العلاقات العربية الهندية على احترام المسلمين وتراثهم ودورهم في حركة تحرر الهند، والحفاظ على الطابع العلماني الديمقراطي في الهند كدولة متعددة الأديان والأعراق، وهذا يقتضي تأكيد خطر الأصولية الهندوسية المتصاعد، والتي تشوه دور المسلمين، وتعمل على تدمير المساجد وتتشابه في ذلك مع سياسة إسرائيل ومواقفها، خاصة في ظل حساسية الهند تجاه باكستان واستمرار مشكلة كشمير بلا حل.

رابعها:
في مجال العمل السياسي العربي المشترك، فمن الضروري أن تتحاور الدول العربية مع الهند، حول المخاطر التي تنتج عن علاقاتها مع إسرائيل، ليس بهدف وقف تلك العلاقات، وإنما كي تكون الهند مدركة للمصالح العربية، وعلى بينة من أن أي مساس بهذه المصالح سيكون له أثر سلبي على العلاقات العربية الهندية.

خامسها:
في مجال العمل السياسي الدولي، لا شك أن التأييد العربي للمواقف الهندية لا بد أن يتوازن مع التأييد الهندي للقضايا العربية، فالهند تتطلع لعضوية دائمة في مجلس الأمن، وفي عدد من المحافل الدولية، والدول العربية تمثل كتلة كبيرة من الدول، ولها أيضا اتصالاتها الدولية، وهذا لا بد أن يؤخذ في الحسبان بالنسبة للهند.

سادسها:
في مجال العلاقات الثنائية بين الهند وكل دولة عربية فإنه من الملاحظ أن الزيارات الهندية رفيعة المستوى أكثر في عددها لمعظم الدول العربية من نظيراتها من الدول العربية للهند، وهذا في ذاته عامل غير إيجابي، ومن ثم لا بد من تكثيف الزيارات من الجانب العربي للهند، على المستوى الأرفع هذا من ناحية، وكذلك على مستوى الفنيين والخبراء، ذلك لأنه أيضا من الملفت للنظر أن الوفود الفنية الهندية تجوب الكثير من الدول العربية، لإقامة معارض تجارية وصناعية، والترويج لسلعها، وللسياحة في الهند، وعلى الجانب العربي لا يوجد عمل مماثل.

سابعها:
لابد أن ندرك أن المكانة الدولية للهند قد تغيرت، فقد أصبحت دولة مصدرة لرأس المال –رغم محدوديته- ولكن استثماراتها في مصر تزيد عن الـ300 مليون دولار، كما أن لها استثمارات في عدد من الدول العربية الأخرى. كما تهتم الهند بتقديم مساعدات فنية للدول العربية الفقيرة، والعلاقة هنا عكسية فيما يتعلق بالتعاون الفني بين الهند وإسرائيل، لأن الأخيرة هي التي لديها استثمارات في الهند ومشروعات تكنولوجية مشتركة. وهذه حقائق السياسة الدولية التي تدعونا إلى تعزيز البحث العلمي في بلادنا، للاعتماد ولو بقدر محدود على الذات، وأن يكون لدينا ما نقدمه للآخرين، ومن بينهم الهند، ولو في مجالات محدودة.

وثامنها:
أنه مهما كان حجم علاقاتنا الاقتصادية والتجارية مع الهند فإن الأخيرة أصبحت تنتمي للنادي الذري ولمجموعة الدول البارزة في التنمية الاقتصادية، وعلاقاتها التجارية تتجه في معظمها للدول المتقدمة، تكفي الإشارة إلى أن إحصاءات التجارة الخارجية للهند عام 2000 أظهرت ما يلي: 60% من حجم التبادل التجاري للهند مع دول منظمة التعاون الاقتصادي (منها 26% مع دول الاتحاد الأوروبي 22% من الولايات المتحدة). أما علاقاتها مع أوروبا الشرقية فقد وصلت 2,7%، ومع روسيا الاتحادية 2,1%. أما مع جميع الدول النامية، بما في ذلك الصين والدول العربية وأفريقيا وأميركا اللاتينية فإن نسبتها 24,6%، وتظهر الإحصاءات بالنسبة للدول العربية تناقضا واضحا، فبينما تشير المصادر العربية إلى أنها تصل إلى 17% منها 15% لمجلس التعاون الخليجي فقط، تشير الإحصاءات الهندية إلى أنها لا تزيد عن 10% من حجم تجارة الهند الخارجية. وأيا كان الأمر فإن هذه النسبة لا يستهان بها، خاصة أنها تتضمن سلعا حيوية هامة في مقدمتها النفط والغاز من الجانب العربي، وتعد المنطقة العربية سوقا مهما للسلع الهندية مما يجعل المصلحة متبادلة، ومن ثم ضرورة أخذها في الحسبان من قبل صانع القرار السياسي لدى الطرفين.

هذه فقط أفكار لتطوير وتحسين العلاقات العربية الهندية على أساس سليم هو المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة.
ـــــــــــــــ
* نائب مدير معهد الدراسات الدولية، جامعة البحرين.
– المصادر

المصدر : غير معروف