الدستور ومستقبل الوجود الأجنبي في العراق

 

undefined

 



ما أن يجري الحديث عن عملية سياسية، أياً كان نوعها وشكلها في العراق، حتى يقفز إلى الواجهة موضوع الوجود الأميركي فيه، الذي يختلف السياسيون العراقيون في النظر إليه ووصفه.
 
 
ينظر العراقيون إلى الوجود العسكري الأميركي والبريطاني وسائر القوات الأجنبية الأخرى من زاويتين مختلفتين، فبينما تسميه الأحزاب التي تمسك بالسلطة (القوات الصديقة)، يصر المناوئون والمعارضون والمقاومون على إطلاق تسمية (قوات الاحتلال) عليه. ومن الطبيعي أن تنعكس هذه القناعات على النشاط السياسي لكلا الطرفين، انطلاقاً من الرؤى التي ينطلق منها كل منهما.

"
حتى الآن لا وجود للصورة الوردية التي تتضمن دستورا متفقا عليه بين الجميع وعملية سياسية مستقرة وبرلمانا قادرا على اتخاذ قرار بشأن مصير الوجود العسكري الأجنبي

"

من هذه الزاوية تمكن مناقشة الدستور المقترح والمستقبل السياسي في العراق، فإذا أردنا أن نضع المسارات التقليدية، فإنها ستنحصر في مسالتين أساسيتين هما:

 
الأولى: تتحدد في خروج دستور يتفق عليه جميع العراقيين، ومن ثم تجري انتخابات دستورية شاملة وعامة، وينتقل العراقيون إلى مرحلة أكثر وضوحاً واستقراراً، عند ذاك، يقرر أعضاء البرلمان العراقي الطريقة، التي يرونها مناسبة، في التعامل مع القوات الأميركية.
 
الثانية: يتخذ أعضاء البرلمان قراراً يتضمن واحداً من خيارين:
 
  1. إما أن يتم عقد اتفاقات أمنية لسنوات معدودة أو بعيدة الأمد، تنظم طبيعة وحدود وصلاحيات الوجود الأجنبي في العراق.
  2. أو يلجأ إلى الخيار الثاني، الذي يطلب من هذه القوات مغادرة العراق وفق آلية واضحة ودقيقة، يتم الاتفاق عليها وبمعرفة تفصيلية من جميع العراقيين.


هذه الصورة الوردية، التي تبدأ من الأجواء البرلمانية، لتنتهي إلى الاستقلال التام، وعودة السيادة إلى العراق، ليس لها أي معلم واضح في الوقت الحاضر، وهذا الأمر، يجعل حالة من الغموض تسيطر على مستقبل العراق السياسي. أما الإجابة على السؤال، الذي يطرح في ضوء ذلك، ويقول متى يصل العراق إلى الصورة الوردية؟ فإنها ترتبط بمسائل عديدة، لا بد من مناقشتها بدقة، قبل إعطاء التصور النهائي لقضية مستقبل الوجود الأميركي في العراق.
 
انعكاسات الدستور المقترح
في ضوء ما تحدثنا به، ومن خلال متابعة الأجواء السياسية العراقية، التي ازدادت احتقاناً بعد طرح الدستور المقترح، يمكن القول، إن الإمساك بملامح دقيقة للمستقبل السياسي العراقي، ليس بالأمر السهل، هذا إذا افترضنا، أن الطريق الوحيد الذي يريد العراقيون سلوكه في إخراج القوات الأميركية (الصديقة) حسب قناعات البعض، يتم وفق آلية تحددها تصريحات الأميركيين والمسؤولين العراقيين، يقولون فيها إن الانسحاب سيتم بعد اكتمال ونضج العملية السياسية وهذا يؤدي إلى فضاء مفتوح، لا يمكن التأكد من مدياته، لأنه لا توجد مقاسات نهائية، لما يسمى بنضج العملية السياسية.
 

undefinedكما أن المسألة ترتبط بالأجندة الأميركية في العراق، التي نعتقد أنها تحاول عمل كل ما بوسعها لتثبيت ركائزها في هذا البلد، وتبذل المستحيل لإخماد أي قوة مناهضة لوجودها، كما أنها تشجع أي توجه سياسي يسهم في إطالة أمد الشقاقات والخلافات بين العراقيين، وهذا ما يحصل بالنسبة للدستور، الذي تم وضعه بطريقة تفرض على الكثيرين الاعتراض عليه، لأنه يتضمن بعض الجوانب، التي لا يقبل بها قطاع واسع من العراقيين.
 
ونذهب إلى هذه القناعة، لأن الإدارة الأميركية ومن خلال خبرائها ومعرفتها بتوجهات العراقيين ومطالبهم، تدرك تماماً، أن أي صياغة في الدستور تحاول عزل العراق عن الأمة العربية، وصياغات أخرى ترمي إلى تقسيم العراق، لا يمكن قبولها، وبالتالي، فإنه لن يحصل على اتفاق عراقي شامل على دستور يؤسس لانتخابات شاملة، تفضي إلى تشكيل برلمان عراقي، يتمكن من تقرير مصير الوجود الأميركي في العراق.
 
ويرى خبراء عراقيون، أن سياسة وضع العثرات أمام أي عمل سياسي عراقي في الوقت الحاضر، تنبع من التوجه الأميركي، الذي يحاول أن يعمل باتجاهين:
  1. الأول يتمثل بإعطاء مساحة محدودة للعمل السياسي، شريطة أن لا يخرج عن الإطار الأميركي المرسوم.
  2. والثاني يركز على توسيع العمليات العسكرية التي تشنها القوات الأميركية في مناطق مختلفة من العراق، بهدف القضاء على رجال المقاومة العراقية، الذين تمكنوا حسب اعترافات الساسة والعسكريين الأميركيين، من إرباك الخطط الأميركية في العراق. ووضع الإستراتيجية الأميركية الكونية داخل مستنقع، يرون أن

    ه أقسى وأصعب من المستنقع الفيتنامي الشهير.


 
من هذه النقطة، تمكن قراءة طبيعة الانعكاسات، التي ستؤثر بقوة في الوضع السياسي في العراق، على أساس ما نشب من خلافات شديدة بين العديد من الأطراف العراقية، حول الدستور المقترح. هذه الخلافات تعرقل أي محاولة عراقية شاملة، ترمي إلى الوصول للأجواء البرلمانية، التي من شأنها تمثيل جميع العراقيين، ومن ثم قول الكلمة الفصل بمسألة الوجود الأجنبي في العراق، الذي قلنا، إن العراقيين يختلفون في وصف طبيعته، فهناك طرف يسميه (القوات الصديقة) وهذه التسمية لها مدلولاتها وأبعادها السياسية، التي تمهد بصورة أو بأخرى لإقناع الرأي العام في العراق، بقبول استمرار هذا الوجود على أراضيها، وإلى أمد غير محدد، لكن الطرف الآخر، يصف هذا الوجود، بما هو مناقض تماماً لذلك، ويطلق عليه تسمية (قوات الاحتلال)، مما يعني بالدقة، أن المسؤولية الوطنية تفرض مقاومة هذا الوجود بجميع أشكاله وأنواعه ومسمياته، وفي مقدمة ذلك المقاومة المسلحة، التي تهدف إلى طرد المحتل، وعودة السيادة والاستقلال إلى البلاد، بعد أن سلبت ذلك قوات الاحتلال.
 

"
يختلف السياسيون العراقيون في رؤيتهم لطبيعة القوات الأحنبية، فبين من يقول إنها قوات صديقة وبين من يعتبرها قوات احتلال يمكن أن تنشأ دوامة تؤثر على الخيارات المستقبلية

"

كما أن إطلاق تسمية (قوات الاحتلال) يعني

التثقيف على التشكيك بكل عمل سياسي يجري في ظل وجود هذه القوات، وبالتالي رفضه، وبذل الجهود لإفشال المشاريع الأخرى، التي تسير في هذا الطريق، وهنا نقف عند مسألة الدستور، الذي يرى أصحاب هذا التوجه أن صياغته تجري في ظل الاحتلال، وهذا سبب رئيسي للتشكيك فيه وبالتالي رفضه، وعند ذاك نجد أن العراقيين، يدخلون في دوامة، تبدأ من فهم كل طرف لحقيقة الوجود الأميركي في العراق، وانعكاسات ذلك، على القناعات، التي تؤثر بقوة في تحديد المسارات الآنية والمستقبلية للعراقيين.
 
قلق أميركي أم عراقي
لا شك في أن حصول أي عملية سياسية في ظل وجود قوات احتلال، لن تكون ناجحة، حتى إذا أدت الغرض الإعلامي، وربما وقع الرئيس جورج دبليو بوش في هوة سياسية سحيقة، عندما قال، إن إجراء انتخابات حرة ونزيهة في لبنان، لا يمكن أن يحصل في ظل وجود القوات السورية، هذا التصريح تحول إلى قاعدة سياسية، يستخدمها السياسيون والمراقبون، في كل مرة يجري فيها الحديث عن الانتخابات في العراق وأفغانستان، ويقارن هؤلاء بين ما قاله بوش والصورة الأخرى، ورغم وضوح المسألة، فإن الرئيس الأميركي أدان سياسة بلاده بصورة قوية، ومهما حاول البعض إيجاد تفسيرات أو تأويلات، فإن المنطق يحقق الغلبة الشاملة في مثل هكذا أمور.
 
وإذا كان مثل هذا التصريح يدل على وجود قلق كبير داخل الإدارة الأميركية، بسبب إدراكها لحقيقة الأوضاع في العراق، وما يحصل من تطورات ميدانية تزيد منه، فإن هذا القلق انعكس أيضا على المسؤولين العراقيين، وهذا واضح بقوة في تصريح الرئيس العراق المؤقت جلال الطالباني، الذي قال إن مطالبتنا ببقاء القوات الأجنبية في العراق، نهدف من ورائها إلى إخافة جيراننا. كما طلب رئيس الوزراء المؤقت إبراهيم الجعفري في مؤتمره مع وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، الذي ألمح إلى إمكانية سحب القوات الأميركية، فقد قال الجعفري، إن الحكومة العراقية لا تريد أن تفاجَأ بعملية سحب القوات.
 
من الواضح، أن ما قاله الطالباني، من إخافة دول الجوار بالقوات الأجنبية، إنما يعبر عن قلق جلي، كما أن هذا القول يهدف إلى إخافة العراقيين من دول الجوار، والتلويح بأطماع هذه الدول في احتلال مناطق من العراق، وهذا الأمر، قد يدفع بالبعض من العراقيين إلى المطالبة ببقاء القوات الأميركية، ويعد هذا الكلام بمثابة تأسيس للمرحلة المقبلة، التي يصل فيها الكثير من العراقيين، إلى حالة من القلق الشامل، وهذا يتحقق إذا ما تمكنت الأطراف التي تحاول تأجيج النعرات الطائفية، من تحقيق بعض النتائج، التي ترسم لها خارطة تتضح معالمها في العراق الآن.
 
إلا أن الأمر الأهم في كل ذلك، هو أن صياغة دستور وسط هذا القلق والاختلاف، لا يمكن أن تكون مقبولة من جميع الأطراف، وعند ذاك فإن هذا القلق سينسحب على إرباك أي عمل سياسي، ويجعل من مجموع المخاوف، دافعاً لقبول بقاء القوات الأجنبية، أو على الأقل عدم المطالبة بخروجها.
 
وإذا ما وضعنا المقاسات التي تحدث بها الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش عن القوات السورية في لبنان، وطبقنا ذلك على الأوضاع في العراق، فسنكتشف حقيقة ما يجري، وسيتبين الجميع نوع الهوة السحيقة التي حفرها بوش لإدارته ولقواته المسلحة الموجودة في العراق وأفغانستان. عندما وضع تلك المقاسات الخاصة بأي عملية سياسية.
 
                    الدستور وقضية الشرعية
 
إن المعضلة الرئيسية في العراق، تتمثل في قضية التشكيك في الدستور


المقترح، فبعد أن تمت صياغة نسخته النهائية، بالصورة التي تحدث عنها سياسيون ومختصون بالدساتير، فإن التشكيك في هذا الدستور لم يعد صعباً، وينطلق المشككون الذين يرفضون الدستور من ثلاث زوايا:
 

"
الكثيرون يشككون في الدستور وشرعيته فهو كتب من قبل أشخاص لا يمثلون كل العراقيين وكتابته جرت في ظل الاحتلال

"

الأولى: أن الذين صاغوا الدستور، يمثلون

من فازوا في الانتخابات فقط، وهذا يعني


أن شريحة واسعة، لم يمثلها أحد في الصياغة الدستورية، ويمثل ذلك ثغرة كبيرة في هذه الصياغة.
 
الثانية: أن الدستور والانتخابات التي سبقته، جرت وتجري في ظل المحتل، وهذا لا يمنحه الشرعية.
 
الثالثة: غياب الرقابة الدولية والعربية والإسلامية على الانتخابات، ومن ثم على الاستفتاء على الدستور، في حين أن الذي سيتحكم في فرز النتائج، هو الحكومة ومن في المنطقة الخضراء، التي تسيطر عليها قوات الاحتلال الأميركي.
 
من هنا نجد أن الخلاصة في كل ذلك، لا يمكن أن تصل إلى صيغة مقبولة من جميع العراقيين، ليتخذوا قراراً شاملاً بشأن الوجود الأجنبي في العراق، وهذا الارتباك ومحاولات فرض صيغ وآليات بطريقة قسرية، تزيد من الاتجاه الآخر، الذي يرى أن الوجود الأجنبي في العراق لا يمكن التعامل معه إلا بقوة السلاح، هذا الاتجاه الذي تقوده المقاومة العراقية، التي رفضت غالبية فصائلها الاستفتاء على الدستور، عبر بيانات من خلال شبكة الإنترنت، إضافة إلى منشورات كثيرة وزعت بكثافة في العديد من المدن العراقية، داعية إلى مقاطعة الاستفتاء، ويرى أصحاب هذا التوجه أن إدارة الاحتلال، تعمل على تكريس وجودها، وتعميق هذا الوجود وتشعبه داخل المجتمع العراقي، وأن لا سبيل لإخراج قوات الاحتلال إلا بمقاتلتها بشراسة وفي كل مكان.
 
مختصر المشهد
من خلال القراءة الأولية للدستور المقترح، والاعتراضات الواسعة، التي أعلنها العديد من الجهات والأطراف، يستنتج المراقبون أن إقرار هذا الدستور بصيغته الحالية لن يغير من الواقع السياسي الحالي، خاصةً ما يتعلق بالموقف من وجود قوات الاحتلال في العراق، لأن الوصول إلى جو برلماني سليم وشامل ليس بالأمر اليسير، بل إن ما يجري الآن قد يزيد من تعقيدات العملية السياسية في العراق، ومن هنا، يبقى مستقبل الوجود الأجنبي مرهونا بأداء المقاومة المسلحة، التي تؤمن بأن طريق السلاح هو الطريق الوحيد لإخراج قوات الاحتلال، ليبدأ العراق بعد

ذلك تجربة سياسية عراقية صافية، بعيداً عن جميع المؤثرات الأجنبية.
_______________

كاتب عراقي
المصدر : الجزيرة