لبنان ومعادلة المقاومة

undefined

شفيق شقير

حكمت لبنان لسنوات صيغة "لبنان قوي بضعفه"، وأن استمرار الكيان اللبناني منوط بقدرته على ألا يشكل تهديدا على إسرائيل، وشجعت الحرب الأهلية اللبنانية على استقرار هذه الصيغة، حيث إن الفصائل اللبنانية المقاومة أنهكتها الحروب الداخلية التي دخلتها تحت عنوان محاربة ما سمته آنذاك "القوى الانعزالية اللبنانية المدعومة من إسرائيل" مثل الكتائب ولاحقا القوات اللبنانية.

وبعد احتلال بيروت وخروج المنظمات الفلسطينية من لبنان، تمايز مشروع المقاومة اللبنانية وحقق إنجازات عدة بإجباره إسرائيل على الخروج من بيروت ومن بعض المناطق اللبنانية الأخرى، ولكن معظم الفصائل انسحبت من المقاومة تدريجيا لأسباب متعددة إلى أن انحصرت في حزب الله الشيعي.

صناعة المعادلة
ومنذ ذلك الوقت أخذت المقاومة المتمثلة في حزب الله تعزز نفوذها في الدولة اللبنانية مستفيدة من اتفاق الطائف، والرعاية السورية، لتنشأ معادلة بقيت فاعلة بقوة إلى حين.

"
صيغة الطائف سمحت للمقاومة بأن تمنع وتمرر وتشارك في سن القوانين وصياغة القرارات وجعلتها شريكا أساسيا في إدارة الدولة

"

الطائف والمقاومة
أحدث اتفاق الطائف عام 1989 تغييرا كبيرا على هيكل الدولة اللبنانية، سمح مع الوقت للمقاومة المتمثلة في حزب الله بأن توسع نفوذها في الدولة اللبنانية، فبعد اتفاق الطائف:

  • تقلصت معه صلاحيات رئيس الجمهورية الذي كان ينفرد بالحكم.
  • أصبحت السلطة التنفيذية منوطة بمجلس الوزراء مجتمعا وبالطبع فإن الشيعة يتمتعون فيه بعدد مؤثر، خاصة إذا ما اعترض الوزراء الشيعة جماعيا على قرار فإنه من الصعب في بلد طائفي في مثل لبنان أن يمرر هذا القرار بالأكثرية، برغم أن القواعد القانونية تجيزه ولكن قواعد السياسة تمنعه.
  • سلطة المجلس النيابي أصبحت أكبر من ذي قبل، ورئاسته بحسب الدستور هي حق للطائفة الشيعية، ويشغل الرئاسة نبيه بري رئيس حركة أمل، وهو من حلفاء سوريا ومن الداعمين الأساسيين لحزب الله. كما أن حزب الله وحركة أمل دائما يحظيان بأغلبية المقاعد النيابية المخصصة للطائفة الشيعية إضافة إلى حيازتهما تمثيل بعض مقاعد الطوائف الأخرى.

فصيغة الطائف سمحت للمقاومة بأن تمنع وتمرر وتشارك في سن القوانين وصياغة القرارات، وجعلتها شريكا أساسيا في إدارة الدولة هذا مع تأكيد أن نفس المثال ينطبق على بقية الطوائف، لكن الرعاية السورية جعلت المقاومة الأكثر قدرة على الاستفادة مما يتيحه هذا الاتفاق.

الرعاية السورية والمقاومة
دائما ما يردد اللبنانيون: أي صيغة نريد "هونغ كونغ" أم "هانوي"؟، وذلك في إشارة إلى لبنان الذي يريدون، هل هو لبنان السياحة والاقتصاد والاستقرار أم لبنان المقاومة والعسكر والتحرير، وكانت الرعاية السورية توازن بين الاثنين على طريقتها الخاصة، فكانت توازن ما بين المقاومة وأدائها من جهة والدولة وأجهزتها من جهة أخرى، مع كل ما لهما من فعالية سياسية ومساحة نفوذ.

وكانت نتيجة هذه المعادلة التي وفرها الطائف والرعاية السورية أن إنجاز التحرير ولاحقا حماية لبنان أنيطت بالمقاومة المتمثلة في حزب الله، مع كل ما يستتبع ذلك من وضع خاص في بنية الدولة اللبنانية الأمنية والسياسية، وتأمين قنوات خاصة للحزب سواء في التعامل مع الصديق أو العدو، وفي الداخل والخارج.

ثمرة المعادلة

"
سوريا لعبت دورا كبيرا في صياغة اتفاق نيسان 96، فقد كان من المتعذر على حزب الله أن يتولى التفاوض مباشرة مع الأطراف الدولية

"

وقد أحسن الحزب استثمار وضعيته في بناء أجهزته وبنيته العسكرية والسياسية والاجتماعية، مستفيدا من علاقته المميزة مع إيران التي يتبع لها أيديولوجيا من خلال منظومة ولاية الفقيه الدينية، كما أرسى علاقات مميزة مع القوى الفلسطينية ليصبح لاعبا إقليميا في أرض لبنانية.

ومما رسخ وجوده الإقليمي اتفاق أبريل/نيسان 1996 الذي عقده الحزب مع إسرائيل ونص على تحييد المدنيين في الجهتين اللبنانية والإسرائيلية، وكان هذا الاتفاق السبب الرئيس في إنجاز التحرير لاحقا، حيث شعرت المقاومة أن يدها مطلقة عسكريا لاستهداف الجيش الإسرائيلي والمتعاملين معه دون كلفة في المدنيين اللبنانيين.

والملاحظ أن سوريا لعبت دورا كبيرا في صياغة هذا الاتفاق، فقد كان من المتعذر على حزب الله أن يتولى التفاوض مباشرة مع الأطراف الدولية التي كانت تسعى لإبرام الاتفاق لأسباب تتعلق به كما تتعلق بتلك الدول التي لا تفضل التفاوض مباشرة مع "منظمة"، خاصة إذا كانت تلك المنظمة حزب الله، فقامت سوريا التي أعطاها حزب الله كل الثقة بإدارة التفاوض، وحافظ الحزب بهذا على طهارته الثورية التي يحرص دائما على صونها.

المعادلة.. إلى أين؟
بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان في ايار/مايو 2000 بدأت الأمور بالتحول تدريجيا وغدا السؤال عن جدوى وجود قوة مسلحة على الأرض اللبنانية يطل برأسه علنا، تصاعدت الوتيرة ببطء حتى صدر قرار 1559 الذيكان  من أبرز بنوده نزع سلاح المقاومة، ونشر الجيش اللبناني في الجنوب. ثم جاء اغتيال رئيس الوزراء الأسبق وزعيم تيار المستقبل رفيق الحريري وما تلاه من خروج الجيش السوري من لبنان، عندها دخل لبنان مرحلة جديدة تتجاوز اتفاق الطائف.

أبرز ما ميز هذه المرحلة سيادة مصطلح "الأكثرية" بدلا من "التوافق" الذي ضبط حراك لبنان في مرحلة الطائف، كما أصبحت المقاومة بلا سقف سوري وبالتالي أصبح التوازن الذي كانت تقيمه سوريا ما بين الدولة والمقاومة مهددا من قبل "قوى 14 آذار"، وهي القوى التي اجتمعت على شعارات الاستقلال والتحرر من الوجود السوري، في مواجهة "قوى الثامن من آذار" المتهمة بالولاء لسوريا ومن ضمنها أو على رأسها حزب الله رأس المقاومة.

وباضطراب هذه المعادلة دخلت الحياة السياسية اللبنانية مرحلة شد وجذب بين القوتين الآنفتي الذكر، وشعرت المقاومة بأنها مهددة وأن نفوذها في بنية الدولة أصبح مهددا من الأكثرية فتحالفت مع حركة أمل التي يتزعمها نبيه بري لتدارك المخاطر الناجمة عن فقدان تلك، وهو ما حمله البعض بعدا مذهبيا باعتبار أنه أصبح يطلق على وزراء ونواب هذا التحالف الكتلة الشيعية أو الوزراء الشيعة، الأمر الذي اضطر الجميع -وهي عادة لبنانية عند الخلاف الطائفي- إلى الانخراط في مؤتمر وطني تعرقل مساره ما أن وصل إلى مسألة نزع سلاح المقاومة.

وبأسر حزب الله جنديين إسرائيليين في عملية "الوعد الصادق" لمبادلتهما بأسرى في سجون إسرائيل، ظهرت معضلة أخرى بسبب غياب سوريا والمعادلة التي أنشأتها، فسوريا ليست موجودة كي تفوض من الحزب بإدارة المفاوضات كما كان الأمر سابقا.

والحكومة اللبنانية في ظل انقساماتها الحادة حول خيار المقاومة وكيفية الدفاع عن لبنان، لم تستطع أن تطرح ولو تصورات أولية للحل، وبالتالي لم يكن من الممكن للمقاومة أن تفوض الحكومة بالتفاوض عنها، الأمر الذي سيستدعي نشوء معادلة جديدة قد تكون فيها المقاومة في وضع أكثر قوة، أو أكثر ضعفا، وذلك مرهون بالأيام القادمة والأحداث الجارية. 
________________
الجزيرة نت

المصدر : الجزيرة