الشريعة و الحياة - الرفق.. ثقافة وممارسة
الشريعة والحياة

الرفق.. ثقافة وممارسة

تناقش الحلقة موضوع الرفق.. ثقافة وممارسة، فلماذا نُجهد حياتنا بالعنف اللفظي أو السلوكي؟ وكيف نحوّل مجتمعنا إلى مجتمع الأخوة الإيمانية والصداقة والمحبة والرفق.

– معنى الرفق وموضعه في بناء الإسلام
– تجلي الرفق في أخلاق الرسول ومعاملاته
– الرفق في الحياة الاجتماعية والعائلية
– مجالات الرفق المتعددة
– تفعيل الرفق في حياة المسلم
– الإيغال في الدين برفق

undefinedعثمان عثمان: السلام عليكم مشاهدينا الكرام ورحمة الله تعالى وبركاته، مرحباً بكم إلى هذه الحلقة من برنامج الشريعة والحياة. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن..}[الإسراء:53]، وفي الحديث "إن الله رفيق يحب الرفق، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ". من المقرر في خصائص الشريعة الإسلامية أنها شريعة سمحاء ميسرة، وأن اليسر ورفع الحرج أحد مقاصدها الكبرى. لكن الواقع غير ذلك، فتكاد تشيع ثقافة العنف ويكون العنف سيد الأحكام وسيد المواقف كذلك، سواء باللفظ أو بالكلمة أو بالسلوك ونحوه. إننا نجهد حياتنا بالعنف، سواء في حياتنا الاجتماعية أو العائلية أو السياسية أو الدينية. فكيف نحول مجتمعنا إلى مجتمع الأخوة الإيمانية والصداقة والمحبة والرفق؟ سؤال كبير سنحاول الإجابة عليه في هذه الحلقة من برنامج الشريعة والحياة مع الداعية الإسلامي البارز الدكتور عائض القرني. مرحباً بكم فضيلة الدكتور.

عايض القرني: حياكم الله أستاذ عثمان، وحيا الله الإخوة المشاهدين.

معنى الرفق وموضعه في بناء الإسلام

عثمان عثمان: ورد معنى الرفق في القرآن الكريم في مواضع متعددة وبألفاظ مختلفة، ورد بمعنى اللين، بخفض الجناح، الصبر الجميل، باللتي هي أحسن، ألفاظ متعددة، ما مغزى كل ذلك؟

عايض القرني: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. كما تفضلتم في في المقدمة المباركة في أول الحلقة أن الدين أو الشريعة شريعة سمحاء، من طبيعتها اليسر والسماحة، كما قال عليه الصلاة والسلام "بعثت بالحنيفية السمحة". إن هذه الشريعة جاءت لإنقاذ ورحمة بالإنسان، ومن طبيعتها أنها تحرر الإنسان، حتى يقول سبحانه وتعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم {..ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم..}[الأعراف:157]، فمهمته التيسير على الأمة، الرفق بالأمة، اللين في كل شؤون حياته، حتى يقول له سبحانه وتعالى {ونيسرك لليسرى}[الأعلى:8]، فهو ميسر أينما كان. حتى تقول عائشة رضي الله عنها عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم " ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما " فتجد اليسر في لباسه، في طعامه، في كلامه، في خطبه صلى الله عليه وسلم، في سياسته، في تعامله مع أصدقائه ومع خصومه، مع محبيه، ومع المناوئين له. فلا بد أن نفهم كدعاة وكطلبة علم وكمسلمين نفهم طبيعة الشريعة المحمدية والتي من مقاصدها الكبرى التيسير على الإنسان وأن تكون رحمة للعالم، لأنه صلى الله عليه وسلم هو المرشح أصلاً لأن يهدي الله به بطريق الرحمة، يقول {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107]. فمهمتنا جميعاً أن نفسر للناس هذه الرحمة من سلوكه صلى الله عليه وسلم، من كلماته، من أحاديثه، حتى نصل إلى مجتمع التراحم. لأن الجفوة التي تشاهدها الآن أو العنف أو التشاد أو التجاذب أو الغلظة والفظاظة سببها الجهل بالدين وبطبيعة هذا الإسلام الذي أتى رحمة للإنسان.

عثمان عثمان: فضيلة الدكتور يعني هل هناك من فرق بين العفو، بين اللين، بين الرفق؟

عايض القرني: نعم، ما من كلمة شرعية إلا لها مدلول خاص وإلا كانت أغنت عنها أختها. وفي فقه اللغة للثعالبي يأتي بهذه الكلمات، ثم يبين لك كلها. الرفق يكون في الأقوال والأفعال وفي التصرفات، فإن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، في كل الأمور. اللين في الغالب في القول، {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى..}[طه:44]. العفو يكون بعد الإساءة وبعد الخطأ، {..فاعف عنهم واستغفر لهم ..}[آل عمران:159]، يعني إذا أساؤوا.

عثمان عثمان: أين تضعون موضوع الرفق في بناء الإسلام؟

عايض القرني: أرى أنه من مقاصد الشريعة الكبرى أو أنه وسيلة كبرى إلى إيصال الفكرة الإسلامية وإلى تصحيح معتقدات الناس وأخلاقهم، يعني أنه الوسيلة الكبرى التصحيحية. وأجعله أيضاً من المقاصد، فإن من مقاصد الإسلام أن يرفق بالناس وأن يعيشوا حياة سعيدة، حياة طيبة كما قال الله سبحانه وتعالى {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون..}[النحل:97]، بشرط أن يتبنى دعاة وحملة الرفق الذي فعله عليه الصلاة والسلام بهم.

عثمان عثمان: إذا كان الرفق بهذه المنزلة الكبرى من الإسلام، فلماذا يُشاع في بعض المجتمعات عن المتدين أو عن علماء الدين بأنهم يعني عبوسين، متشددين وغير ذلك؟

عايض القرني: هو الحكم العام دائماً يعتبر خطأ. مشكلة العامة، مشكلة البسطاء والدهماء عموماً أنهم يطلقون أحكاماً عامة، حتى يقولون مثلاً الحكام كلهم ظلمة والتجار غشاشون والكتاب زنادقة والدعاة متشددون غليظون، وهذا ليس بالصحيح، حتى الواحد الأحد لما حكم على أهل الكتاب قال {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة..}[آل عمران:113]، لا بد من الإنصاف. لكن وجد نماذج في الصف الإسلامي من حملة الدين عندهم غلظة وفظاظة بجهل من الدين، الآن الخوارج كانوا يعتنقون الدين لكن اعتناق الدين الخطأ، لم يفهموا النصوص، حتى يقول صلى الله عليه وسلم "تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم " الحديث، مع العلم أنهم يظنون أنهم أحسن سبيلاً وأحسن صنعاً، وهم جهلة بالدين، فمثلوه تمثيلاً خاطئاً. فوجد الآن من جيلنا من فهم العامة أن الإسلام هو هذا الوجه العبوس، هو هذه الكلمة الغليظة وهذا الجفو وهذا الانقطاع مع المجتمع، حتى تجد بعضهم الآن من شدته على نفسه، وبالمناسبة يقول بعض علماء الإسلام قد يكون لتربية خاصة عند الشخص فأضفاها على الإسلام ثم هو مثّل الإسلام تمثيلاً فاشلاً في تصرفاته، وكأنه يقول هذا الإسلام الذي بين جنبي أو بين بردي هذا هو الدين، وهو خطأ. فإذا صلى طوّل على الناس وشق عليهم، هذا من الغلظة، وإذا خطبهم سار فظيعاً طويلاً، حتى يتهددهم في الخطابة وكأن مفاتيح الجنة بيده، وإذا جلس معهم في المجلس حشرهم….

عثمان عثمان (مقاطعاً): يعني هذا يرجع إلى التربية التي ترباها، أو يعود إلى قلة العلم الشرعي لديه ربما؟

عايض القرني: هي وسائل اجتمعت، منها فهم النص خطأ، كمن يفهم بدون علماء. الآن مثل الفئة الغلاة هؤلاء وقد حاورت كثيراً منهم، يفهمون النصوص بأنفسهم دون واسطة من العلماء، يقول ما الداعي أني أتعلم من عالم، الشافعي، أحمد، أو العلماء المعاصرين. ثانياً أنه يكون رُبّي تربية قاسية من خلال والد مثلاً جاف غليظ، أو كان في قطيعة رحم في البيت أو كان في مجتمع مثل انفصال الأم والأب أو كان في مأساة داخل الأسرة. أيضاً ربما أتاه موقف مصادم، يعني من طرف إما مثلاً سجن سجناً طولاً أو عذّب، فعاد هذا بحقد وبانتقام المجتمع، فأتى هو يخرج هذه الأمراض والأدواء في خطاباته، في تصرفاته، حتى يكرّه غير المتدينين يكرّههم في الإسلام، فهو يتخطبهم بالتهديد والويل والوعيد.

تجلي الرفق في أخلاق الرسول ومعاملاته

عثمان عثمان: ومن المعروف أن العلماء ورثة الأنبياء. النبي عليه الصلاة والسلام كان القدوة الحسنة، والله تعالى قال له {..بالمؤمنين رؤوف رحيم}[التوبة:128]، وقال أيضاً {..ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك..}[آل عمران:159]. كيف يتجلى الرفق في حياته عليه الصلاة والسلام؟ وكيف يمكن لنا أن نتأسى به عليه الصلاة والسلام في هذا الخلق وفي أخلاق أخرى؟

عايض القرني: أحسنت. إذا ذكرت الرسول صلى الله عليه وسلم تذكر قمة الخلق والسيرة الحميدة والمنهج الأسمى والأجلى، ولذلك الله عز وجل لم يعلقنا بعالم ولا بحاكم ولا بفيلسوف ولا بأديب، قال {..لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا..}[الأحزاب:21]. يكفي شهادة لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم أن الواحد الأحد في عليائه يقول {وإنك لعلى خلق عظيم..}[القلم:4]. فنبغي علينا أن ندرس هذا الرفق. ولكن أنا سوف أذكر يعني شيء ينقصنا في العالم الإسلامي والعرب بالخصوص، وهو الرفق السياسي، أو مثلاً المنهج السياسي له صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس، فلذلك وقفات سريعة مع خلقه صلى الله عليه وسلم الأسمى في رفقه حتى مع أعدائه فضلاً عن أصدقائه وأحبابه وأتباعه صلى الله عليه وسلم.

عثمان عثمان(مقاطعاً): طبعاً الرفق كان في الجانب السياسي وفي الجانب الاجتماعي أيضاً مع…

عايض القرني (متابعاً): هو صلى الله عليه وسلم كان رفيق في كل شيء. هو في نفسه صلى الله عليه وسلم فهو ميسر على نفسه، يوم تقرأ حياته تقول "ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما "، في طعامه، في شرابه، لم يكن يفعل مثل ما يفعل بعض، يعني أتباع الجماعات التي انحرفت وشذت، حتى يقول سبحانه {.. ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ..}[الحديد:27]. رفيق في الحديث والخطب وفي التخفيف من الصلاة، حتى ينكر على معاذ يوم طوّل على الناس، قال " أفتّان أنت يا معاذ؟ من صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف والكبير وذا الحاجة"، حتى يدخل في الصلاة صلى الله عليه وسلم فيخفف. لكن لأن خطاب السياسة خطاب عام، لعل الحكام والعلماء يسمعون لهذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم له ثلاث وقفات من الوقفات الكثيرة في الحكم.

عثمان عثمان: نريد واحدة فضيلة الدكتور، حتى يتاح الوقت لكثير من الأسئلة والإجابات إن شاء الله.

عايض القرني: أبشر. واحدة مثلاً، أحد الخصوم الكبار الذين قادوا النفاق ضده وشوهوا صورة الدين وثرّبوا وأساؤوا، عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين. أتى بعض الصحابة قال يا رسول الله ألا نقتله؟ قال "لا يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه"، وتركه وصحبه خيراً وتلطف معه حتى مات وهو عدو للإسلام. لأنها رسالة يريد الرسول صلى الله عليه وسلم يقدمها أن الإسلام فيه رفق وفيه سماحة وأنه يمكن يدخل الإنسان فيه ويضمن على نفسه، فإذا قتله قالوا أجل يقتل أصحابه، كيف ندخل إذاً في هذا الدين؟

عثمان عثمان: طبعاً الآن فضيلة الدكتور أنت ذكرت مثل ومثل ظاهر للعيان لمن أراد أن يرى بالطبع. كيف يمكن لنا أن نتأسى بالنبي عليه الصلاة والسلام في هذا الموضوع بالذات؟

"
ينبغي على كثير من الدعاة الذين يتعاملون بالسلاح، تصفية حساباتهم دون النظر إلى مشروع الإسلام ومقاصد الشريعة والمصلحة المترتبة على ذلك
"

عايض القرني: يعني أسوتنا الآن في هذا الموضوع لأمرين. يستفيد منه الحكام في الرفق بشعوبهم، هذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم مع خصومه وأعدائه الذين يحملون العداء للدين وللرسالة التي يحملها، فنقول للحكام اتقوا الله وارفقوا بشعوبكم، كما قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به". يعني حرية التعبير في حدود المعتقد وفي حدود الرسالة، إعطاء الناس حقوقهم، العدل والإنصاف بينهم، عدم ممارسة الإيذاء على هذه الشعوب. الأمر الثاني يحمله الدعاة في مسألة الرحمة والألفة والرفق، الآن كثير من الدعاة يتعاملون بالسلاح، وهم يدعون أنفسهم أنهم دعاة يعني، أنهم يمثلون الدين، ويتأولون في الدماء ويرون خصومهم عرضة للقتل، ينبغي أن يصفوا حسابهم دون النظر إلى مشروع الإسلام وطبيعة الدين ومقاصد الشريعة والمصلحة المترتبة على ذلك. يعني شباب الآن يحملون المتفجرات وكلاشينكوف والسلاح ويفجرون علشان، يقولون، يثبتون الدين ويقتلون أعداء الملة، فهذا مخالف لمنهجه صلى الله عليه وسلم. الآن لما، في مكة كما تعرف، عفا عنهم صلى الله عليه وسلم لما الفتح، أسرى بدر عفا عنهم صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن مصلحة العفو هذا سوف تقدم رسالة واضحة للناس، بعد ما عفا صلى الله عليه وسلم دخل الناس في دين الله أفواجاً. هذه العمليات يا أخي تكرّه الناس وتشوه الإسلام، وتجعل من عنده نية يدخل، يعتنق الدين يبطّل خلص، يهوّل.

عثمان عثمان: حتى فضيلة الدكتور، على مستوى الجماعات والحركات نجد هناك تباعداً ونجد تنابذاً، وربما ينقلب مفهوم الآية {..أشداء على الكفار رحماء بينهم..}[الفتح:29]. برأيكم هل الرفق كفيل بإزالة هذه الاحتقانات أم أن هناك أسباباً أخرى؟

عايض القرني: هو من أعظم الأسباب التي تؤلف بين القلوب سواء في الجماعات الإسلامية والدعاة وغيرهم هو الرفق. وأنا أرى أن الرفق قائم في الجماعات الإسلامية. المشكلة عند الجماعات الإسلامية أنها لم تدرس الملفات الماضية التي وقعت من أخطاء وإنما أغلقتها في دواليب النسيان وفي ملفات النسيان والإهمال. لماذا ما ندرس تجربتنا لأربعين سنة، لخمسين سنة؟ ونرى أن من الأخطاء التي وقعنا فيها التنابز بالألقاب والتناحر والتطاحن فيما بيننا. الآن مثلاً، أعداء الإسلام الغرب أو غيره أو من يحمل مخالفة للإسلام، متحدون، متفقون في الجملة وإن اختلفوا، فتجد المسائل المصيرية والقرارات بالإجماع، بينما نحن حضرنا مجتمع. حتى في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم أمام الرسول تجد أصوات منهم من يقول قاطعوا ومنهم لا تقطاعوا، ثم أخذنا نكتب أعمدة في الصحف وفي القنوات وبعضنا يرد على بعض. مثل ما يقول أول

أسد عليّ وفي الحروب نعامة

فالخلق تنفر من صفير الصافر

أما آن لنا نحن الصف الإسلامي أن نتناسى الخلافات وأن نجتمع على كلمة سواء ونوحد جهودنا وأن نعلم أن كل جماعة لها جانب من الإصلاح وأن نحاول أن ننصح المخطئ بالتي هي أحسن، بالرفق؟ أما آن لنا أن نستفيق ونستفيد من تجارب الغير الذين اتفقوا، بعضهم على غير الدين وبعضهم على غير لسان، وبعضهم على غير لغة؟ الآن أوروبا يا أخي تعرف ديانات متعددة وألوان متعددة ولهجات متعددة ومتفقون في قضايا مصيرية، ونحن فشلنا أن نوحد خطابنا، الآن لو تطلب عريضة توقعها تجد من يعترض عليك من الصف الإسلامي، لأن الرفق غاب والتناصح غاب.

عثمان عثمان: فضيلة الدكتور، يعني حديث مشهور عن النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاء الأعرابي من البادية وبال في المسجد، وكيف تعامل معه الصحابة وكيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام بالرفق والرحمة واللين. لو أردنا أن نصور هذ الواقع الآن في مجتمعاتنا، كيف تتصور ردة فعل الناس حول هذا الموضوع؟

عايض القرني: كلام جميل. وهذا لا بد أن أقدم وأن أشرحه باختصار للناس. أقول أن الأعرابي لما أتى من البادية وهو في تلك الفترة حديث عهد بالإسلام وللتو دخل في الدين، فلما سلم.. صلى مع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في التحيات قبل السلام اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، سلم الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله قال "قد تحجرت واسعاً، رحمة الله وسعت كل شيء"، ولو كان عند بعضنا من الدعاة وبعض طلبة العلم كان أغلظ عليه وأنكر عليه، وقال له أنت جاهل ولا بد أن تعلم وتؤدب في مثل هذه الأدعية. ثم ما كفاه هذا، في المسجد مكان الطهر ومكان نزول الوحي ومكان الصلاة فقام في طرف المسجد فبال، وقام الصحابة يريدون تأديبه، قال دعوه، فلما انتهى بهدوء، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه وقال علي بدلو من ماء فصبه على البول، وقال "إن هذه المساجد لا تصلح لأذى ولا للقذر ولا للبول إنما هي لذكر الله وإقامة الصلاة"…

عثمان عثمان(مقاطعاً): ولكن الفرق دكتور، أنه هناك كان المسجد من الحصى والتراب، أما الآن فالمسجد من السجاد والبلاط وغير ذلك.

عايض القرني: فرضاً صح هذا غير، صدقت، أنا معك في الفرق. لكنه لو كان عندنا مسجد فيه حصى وفيه تراب وفعل أحد الناس من المواطنين الآن تجد من يغلظ عليه حتى ربما يضرب ويبطح أحداً. لكن المقصد الآن في القصة هي كيف تعامل هذا النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم مع القصة، كيف أرسل رسالة للعالم بهذا الحديث، حتى ذكروها الآن في الجامعات والمنتديات وفي المحاضرات والمساجد، نقرأ القصة بشيء من العجب وبشيء من الأريحية ومن الحب لهذا الإمام صلى الله عليه وسلم الذي يعني استوعب أخلاق الناس. الآن الرجل نفسه الذي فعل رجع إلى قومه داعياً وأسلم قومه على يديه. افرض أنه آذاه الرسول صلى الله عليه وسلم أو ترك الصحابة أن يؤذوه كان رجع يعني بدعوة مخالفة للدين الذي يحمله.

عثمان عثمان: وفي قصة الرجل من بني إسرائيل الذي تاب إلى الله عز وجل وفرح النبي عليه الصلاة والسلام يعني قال "لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم كان على راحلته" عندما قال الرجل وأخطأ من شدة الفرح "اللهم أنت عبدي وأنا ربك"، كيف كان رد فعل النبي عليه الصلاة والسلام على هذا القول؟

عايض القرني: هو الحديث في الصحيحين ولم يذكر إسرائيلي في قصة أخرى. لكن يقول صلى الله عليه وسلم "لله أفرح بتوبة أحدكم من رجل كان في فلاة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فضاعت منه فنام، أيس منها، فلما قام، يعني أيس من الحياة وأنه سوف ينتهي، قام وجدها عند رأسه عليها طعامه وشرابه، ومن شدة الفرح أخطأ فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك". فانظر أولاً رحمة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى أنه رحم الخطأ الذي حصل من الناس، وانظر إليه صلى الله عليه وسلم يخبر الناس برحمة الله وعفو الله، وهذا يدلك على أنه ينبغي أن نتعافى نحن فيما بيننا ونتراحم، يعني الرسول صلى الله عليه وسلم يقول "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" و"الراحمون يرحمهم الرحمن"، ولذلك بقدر ما تعامل الناس ترى الجزاء من جنس العمل، حتى صحح الألباني حديث "اغفر يُغفر لك، سامح تُسامح" أو نحو ذلك. والرجل الذي كان يعامل الناس ويتجاوز عنهم كما تعرف من بني إسرائيل، وهذا يمكن مقصودكم في القصة، قال سبحانه وتعالى "تجاوزوا عنه كما تجاوز عن عبادنا فنحن أولى بالكرم منه، فأدخله الجنة". ينبغي علينا يا إخوان، يا أخي أن نستخدم المسامحة، أن نتجاوز عن الأخطاء. يقول الإمام أحمد "تسعة أعشار الخلق الحسن التغافل"، حتى يقول أبو تمام:

ليس الغبي بسيد في قومه

لكن سيد قومه المتغابي

ينبغي يكون عندنا يعني بعض التغابي عن أخطاء الآخرين، لكن المشكلة أننا نتغابى عن أخطائنا ونتركها ونبررها وأما أخطاء الآخرين فنكشفها ولو كانت صغيرة.

الرفق في الحياة الاجتماعية والعائلية

عثمان عثمان: يعني مجالات الرفق، فضيلة الدكتور، واسعة جداً باعتبار أنه خلق عام. الآن الوضع الاقتصادي يتدهور، المستوى المعيشي يتدنى، وربما بعض الناس يسعى للحصول على المال من أي طريق جاء هذا المال من حلال أم من حرام، ربما يدفع ذلك إلى التوحش، إلى الجشع. برأيكم كيف يمكن أن يتجلى الرفق هنا؟

"
الإسلام حل لأي مسألة اجتماعية أو أزمة تمر بالناس، فهو دين عظيم جاء للإنسان وللدولة
"

عايض القرني: الرفق، ما من مسألة اجتماعية أو أزمة تمر بالناس إلا في الإسلام حلها، لأن هذا الدين دين عظيم، دين جاء للإنسان وجاء للدولة الإسلامية وجاء للأفراد والشعوب. مثلاً يا أخي الأزمة التي تقع مثل أزمة الأسعار، أزمة الأمراض، أزمة المصائب، أزمة الفقر والديون، أزمة الأسقام التي تمر بالناس، هناك مسألة الصبر ومسألة انتظار الفرج. يقول ابن الجوزي "أمام أهل المصائب ثلاثة فنون، الفن الأول الصبر، الفن الثاني الاستغفار والتوبة، والفن الثالث انتظار الفرج". يعني الله وعدنا {..إن مع العسر يسرا..}[الشرح:6]، هذه قاعدة مضطردة، حتى يفهمها غير المسلم، معروف أنه إذا اشتد الحبل انقطع. الثاني أنه أمِرنا في الإسلام بالصبر وسعة البال قليلاً وأنه يمكن اختبار من الله لنا. ثالثاً وبذنوبنا نحن وخطايانا نؤدب بالسياط هذه، يعني غلاء الأسعار أيضاً ينبغي أن يكون رسالة من الله لعباده، أمام.. يا أخي البطر الذي حصل في المجتمع الآن، تجد الثراء الفاحش والإسراف من أناس يعني من أثرياء ورجال الأعمال الذين يبددون الثروات صباح مساء، بينما بجانبهم أناس يسكنون في بيوت الصفيح وينامون على الأرصفة، فالآن ينالون عقوبات ما يفعلون في خسائر مالية كبرى، في انهيار الأسهم، الشركات… لأن الله يؤدب يقول {..فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}[الشورى:30]. لماذا ما نراجع حسابنا، حكاماً وأغنياء وعلماء ومجتمع؟ ونعود إلى الله سبحانه وتعالى بالاستغفار والتوبة ونعرف أنه الذي يملك الضر والنفع والذي سوف يصحح لنا واقعنا متى ما صدقنا في العودة.

عثمان عثمان: طبعاً عندما نتحدث عن الرفق، فضيلة الدكتور، لا بد أن يكون الحديث أيضاً عن الزوجات اللواتي أمرنا الله تعالى بالإحسان إليهن ومعاشرتهن بالمعروف أو تسريحن أيضاً بالمعروف. كيف يتجلى الرفق مع الزوجات؟ أسمع الإجابة منك بإذن الله تعالى بعد هذه الوقفة القصيرة. فاصل قصير مشاهدينا الكرام ثم نعود إلى متابعة هذه الحلقة فابقوا معنا.

[فاصل إعلاني]

عثمان عثمان: مرحباً بكم مشاهدينا الكرام من جديد إلى حلقة اليوم من برنامج الشريعة والحياة والتي نتحدث فيها عن الرفق مع فضيلة الدكتور الداعية عائض القرني. فضيلة الدكتور، النساء {..وعاشروهن بالمعروف..}[النساء:19]. كيف يكون الرفق مع الزوجات؟

عايض القرني: هذا خطاب الله سبحانه وتعالى لعباده، والذي مثل هذا الخطاب في حياته هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، لأنه لا بد أن يكون معنا دائماً في رفقه. وللحقيقة أننا قصرنا كمجتمع مسلم لأنه شملنا القسوة التي نعيشها، سواء بين حاكم ومحكوم، سواء بين طلبة العلم والجماعات الإسلامية، دخلت المشقة والقسوة إلى الزوجات في البيوت وإلى الزملاء وإلى الأبناء، لأن الذي يتعامل بقسوة لا بد أن تصل هذه القسوة.. وهذا معروف أن المجتمع التصحري، المجتمع البدوي، المجتمع العشائري تغلب عليه القسوة لأنه مثلما يقول بعض المؤرخين الحضارة تركك. فلما كان بأخلاقنا نحن التي اكتسبناها ربما من مجتمعاتنا أو من بيئاتنا أو نحو ذلك، نقلناها إلى هذا، منها عدم الرفق بالزوجات في الغالب، تجد الشجار، تجد عدم الرحمة واللطف بالمرأة، حتى أنك تجد القضايا الاجتماعية، يعني بعض القضاة في منطقة الخليج، يقول شهدت أنا في محكمتي آلاف القضايا من الطلاق لأسباب تافهة لا تذكر. فتجد الحيف والظلم الذي يقع على المرأة بسبب عدم فهم هذا الرجل للدين الإسلامي الحنيف فلا يعطيهم الوقت الكافي، ولا يتجاوز عن الخطأ، ويريد أن يأخذ حقوقه كاملة بلا نقصان، أما حقوق المرأة فيهدرها، يغفل يعني مثلاً بيته، يغفل حتى النفقة. لما دخلنا المجتمعات والندوات والأسئلة وجدنا أن بعضهم لا يملك أدنى مقومات الرجل المؤمن الرحيم الذي في قلبه قطرة من رحمة، فينبغي لهؤلاء أن نعيدهم إلى الرفق، ونقول أين أنتم من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؟..

عثمان عثمان (مقاطعاً): وربما ما يعانيه من مشكلات أو خلافات خارج البيت ينعكس داخل البيت في علاقته مع زوجته وأولاده.

عايض القرني: نعم. ثم تزيد الفظاظة إلى أنه لا يطلقها، فهي معلقة ليست متزوجة ولا مطلقة، يحرمها من زواج آخر حلال ويحرمها أن تعيش زواجاً. ثم منهم أيضاً من إذا أراد أن يطلق يأخذ يعني الخلع، فيأخذ المال وهي مكثت معه سنوات وله منها أبناء ونحو ذلك. لكن هذه الفظاظة تدلك على الجهل بالدين الذي نعيشه، وكل المصائب أننا جهلنا نحن الرسالة التي حملناها للعالم وكانت رحمة للناس، فلما جهل مثل هؤلاء الأزواج صارت هناك مآسي في البيوت صراحة، وتحتاج هذه المسألة حلقة منفصلة لنثبت الصور والوقائع التي حصلت وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف في بيوتهم…

عثمان عثمان(مقاطعاً): هل بالإمكان إعطاء صورة واحدة فضيلة الدكتور حول هذا الموضوع؟

عايض القرني(متابعاً): منها النصوص، باختصار، يقول صلى الله عليه وسلم "الله الله في النساء فإنهن عوان عندكم" أسيرات يعني، ما تملك المرأة حيلة إلا البكاء، وهذا حديث صحيح. ويقول صلى الله عليه وسلم "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، تقول عائشة يسألونها رضي الله عنها كيف كان صلى الله عليه وسلم؟ قالت "كان يدخل بساماً ضحاكاً". فكان صلى الله عليه وسلم قريباً مع أهله يعني رحيماً بهم عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان يكره صلى الله عليه وسلم الفظاظة والغلظة، ويندد صلى الله عليه وسلم بمن يراه يعني يقوم بالصور هذه، وحتى هو يقف صلى الله عليه وسلم مع المرأة المظلومة، إلى درجة أنه صلى الله عليه وسلم قال لأحد الصحابة "ردي الحديقة وطلقها تطليقة"، لما رأى أن الحياة ما تستطيع تواصل قال ردي الحديقة عليه التي دفعها وطلقها تطليقة، وفصل بينهما صلى الله عليه وسلم، صار حل يعني.

مجالات الرفق المتعددة

عثمان عثمان: فضيلة الدكتور، تحدثتم عن رفق الحاكم بالمحكومين، عن رفق العلماء والدعاة مع عامة الناس. الآن حديث لا بد أن نتطرق إليه، موضوع علاقة العالم بالحاكم والحاكم بالعالم، يعني تارة نجد هناك ممالأة واستتباع، تارة نجد هناك معارضة ومنابذة. كيف يمكن أن يتجلى الرفق في هذا الموضوع؟

عايض القرني: جميل. هو دين الله وسط {..كذلك جعلناكم أمة وسطا..}[البقرة:143]. لا تجد مسألة شرعية أو اجتماعية أو فكرية إلا تجد الإسلام يأتي في الوسط. مثل هذه المسألة يا أخي وجد في التاريخ الإسلامي بالاستقراء أن العلماء ثلاثة أقسام، منهم عالم ركب مركب السلطان وأخذ يوقع له ويصحح له في كل ما يقول ويبرر أخطاءه…

عثمان عثمان(مقاطعاً): علماء السلطة.

عايض القرني(متابعاً): علماء السلطة. ويسمونه، حتى يقول كيسك مرة، أنهم هم أهل التبرير والتزوير فهو يبرر كل عمل ويحاول أن يلتمس أعذار وإذا أخطأ قال لا، لا تحملون ترى قصده كذا وكذا، وبين الله سبحانه وتعالى في هذا وذم من هذا سبيله، قال {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون}[آل عمران:187]، يقول أنتم أهل رسالة، أنتم أهل أمانة، أنتم أهل كلمة، كيف تشترون بدل رسالتكم وأمانتم هذا؟! وخالفهم طرف آخر، فقام فنابذ الحاكم ولم يقبل منه صرفاً ولا عدلاً، وحمل السيف وحرض العامة وشق الصف وهذا منهج الخوارج، فإنهم يكفّرون الوالي إذا كان فاجراً ولو كان مسلماً، يكفرونه بالمعاصي ويخرجون عليه بالكبائر، ونحن في الإسلام يقول صلى الله عليه وسلم "لا، إلا أن تروا كفراً بواحد عندكم فيه من الله برهان"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. لكن العلماء الذين أثبتوا الربانية كما قال سبحانه وتعالى {..ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}[آل عمران:79] أثبتوا الخط الوسط، الحاكم يناصَح ولا يُقر على الخطأ، ويوجه التوجيه الصحيح ويعان ويساعد في البر الذي عنده، وينظر الإيجابيات فيشاد بها ويؤكد معه ويساعد عليها، وللسلبيات فينصح وينكر عليه في هذا الأمر، وكذلك لا يخرج عليه، لا يحمل عليه السلاح. لأنه يا أخي الفوضى على الحاكم هي أساس كل شر وكل بلاء، حتى أن ابن خلدون يقول "ما قامت طائفة محتسبة على وال عادل أو جائر إلا كانت الدائرة على تلك الطائفة"، بداية من الحسين رضي الله عنه الشهيد المظلوم رضي الله عنه وأهل بيته عليهم السلام، ونهاية بما يقع الآن من تصادم بين الجماعات الإسلامية والحكام، فلم تثمر إلا الدمار والويل والتشريد والسجون ثم تذهب الدعوة جملة وتفصيلاً. أنا أرى أن تعاد العلاقة بالرفق الآن، وأخاطب العلماء والجماعات الإسلامية والدعاة أقول أعيدوا تصحيح الملف على ضوء من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير الأئمة، الزهري، سعيد بن المسيب، الحسن البصري، مالك، أبو حنيفة، الشافعي، أحمد بن حنبل، هؤلاء هم الذين فهموا الدين لأنهم أئمة مجددون مصلحون، لم يكونوا يعني في سلم الحاكم يقرون بكل ما يفعله من فساد وظلم واستبداد. حتى يذكرون عن أحد الناس في مصر قبل 400 سنة كان هناك طاغية وظالم ظلم الناس وزلزلت مصر، فخاف الناس وخاف الحاكم وأراد أن يتوب إلى الله، فقام أحد المنافقين وقال

ما زلزلت مصر من كيد ألم بها

لكنها رقصت من عدلكم طربا

فعاد إلى الظلم وعاد إلى العدوان، وتبرير الأخطاء.

عثمان عثمان: فضيلة الدكتور، الإسلام تاريخ عريق والنبي عليه الصلاة والسلام ضرب لنا الأمثلة المتعددة في الرفق مع الإنسان ومع البشر، بل تجاوز هذا الأمر إلى الحيوان، فقد كان عليه الصلاة والسلام رفيقاً بالحيوان. هل تعطونا بعض النماذج من رفقه عليه الصلاة والسلام مع الحيوان؟

عايض القرني: نعم، هو في قوله سبحانه وتعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين..}[الأنبياء:107] ملمح إلى رفقه حتى بالحيوان. في سنن أبي دواد كان صلى الله عليه وسلم جالساً تحت شجرة ومعه أصحابه فأتت طيرة الحمرة هذه الأنثى ففرفرت وطارت فوق رأسه صلى الله عليه وسلم، قال "إن هذه الطائر يشكو إلي من فجعها بأفراخها، من فجع بأفراخها؟" قال رجل أنصاري أنا يا رسول، أخذ أفراخها ودسها، قال "أعد أفراخها في عشها"، فلما عاد أتت مرة وطارت وفرفرت. حتى يقول أحد الشعراء في المشهد

جاءت إليك حمامة مشتاقة

تشكو إليك بقلب صب واجف

من أخبر الورقاء أن مكانكم

حرم وأنك ملجأ للخائف

مشهد آخر، يقول صلى الله عليه وسلم أمام الناس وأمام الملأ، في الصحيحين، "دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا سقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، الآن الناس، بعض الناس يحكمون من الظَلَمة يعني يحبسون الإنسان حتى يموت، وهو الإنسان…

عثمان عثمان(مقاطعاً): هنا السؤال، يعني بماذا تفسرون وجود جميعات للرفق بالحيوان في بلاد الغرب، بينما عندنا في بلاد العرب والمسلمين لا توجد مثل هكذا جمعيات فضلاً عن وجود جمعيات للرفق بالإنسان أيضاً؟

عايض القرني: جيمل. هو الغرب يا أخي رحماء فيما بينهم، بينما هم مع العالم الإسلامي تجد الغلظة والأساطيل الحربية والحديد والنار والقتل والإبادة علينا. لكن فيما بينهم فعلوا، وفي صحيح مسلم حتى لا يقول أحد أنني أخذتها من مجلة أو من قصاصة أوراق، في صحيح مسلم في كتاب الفتن يقول المستورد بن شداد الصحابي سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول "لا تقوم الساعة إلا والروم أكثر الناس"، هم أجداد الأميركان والأوروبيين، قال عمرو بن العاص له "أأنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" قال سمعته. فعد منهم أربع خصال وقال وفيهم خصلة خامسة جميلة وهي هم أمنع الناس لظلم الملوك. فهم بلا شك أنهم أهل حوار فيما بينهم، لا شك أنهم مروا بتجارب تاريخية وزمانية، نقلتهم إلى العدل الآن والإنصاف فيما بينهم حتى أنهم أنشؤوا هذه الجمعيات. في العالم الإسلامي الآن تُنشأ جمعيات حقوق الإنسان، وتجد في بعض البلدان الإسلامية يسجن الإنسان 25 سنة لأنه قال خطبة أو شارك في موقف سياسي ولا يُرحم أبداً ولا يُسمع كلامه ويُشرد عن أهله ويختفي ولا يقدم لمحاكمة وليس له محامي أصلاً، ثم تريد هذه الشعوب أن تنتصر وتريد أن ترحم وتريد أن تترقى بالإنسان؟! فهذه بلا شك أنها مأساة، وبالمقابل أنا أرى أنه نعود نحن كطلبة علم ننقل هذه القصص يا أخي في مشاريع دعوية للناس حتى نفهمها الحاكم ونفهمها العامة ونفهمها المسؤول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في رفقه حتى بالحيوان.

عثمان عثمان: فضيلة الدكتور يعني الإسلام دين الرفق، والرفق كما تعلم يشمل كل هذه المساحة من الدين، لكن هناك بعض المسائل التي يرى فيها البعض إشكالات تتعارض مع هذا الأصل، كالعقوبات أو القصاص الذي ينفذ من رجم وقتل وقطع لليد. كيف نفهم هذا؟ وهل للرفق حدود؟

عايض القرني: أنا أرى يا أخي، ومن كتب في المقاصد الإسلامية الشرعية مثل الموافقات للشاطبي أو الطاهر بن عاشور أو غيره من الأئمة، يرون أن هذه العقوبات هي رحمة أصلاً تدخل في الرفق. والله عز وجل لما ذكر الحدود ذكر الرحمة وذكر المقصد الأسمى فيها، {..ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون..}[البقرة:179]، القتل هذا لكم أنت رحمة كمجتمع، القاتل….

عثمان عثمان(مقاطعاً): كيف ذلك دكتور؟

عايض القرني (متابعاً): القاتل الشرير إذا قتل سوف يرتدع ملايين البشر لا يقتلون. الآن الولايات المتحدة رجعت إلى مسألة القتل والإعدام، لأنهم الفجرة والمردة وهؤلاء العتاة ما استطاعت يردعهم السجن ولا… رجعوا إلى هذا ونفذوه الآن في ولاية أوكلاهوما وغيرها من الولايات. الإسلام سبقهم في ذلك، قال سبحانه {ولكم في القصاص حياة..}[البقرة:179]، يعني أنتم إذا قتلتم واحد قاتل سفاك مجرم، سوف يرتدع كل الشباب وكل الناس، وسوف يعني تؤمن حياة الناس. إذا تركنا القاتل وأخذنا عليه تعهد وأطلقناه أو سجناه عدة سنوات وأطلقناه، سوف يستهين الناس بالدماء. لكن يوم ينصب لهذا محكمة عدل إسلامية شرعية ثم يضرب رأسه ويقتل، وأنا مع إقامة القصاص والحدود، لأنه عندنا الآن ظاهرة في الخليج بدؤوا الآن يتشفعون بالملايين في العفو عن القاتل، يدفعون ستة مليون إلى عشرة مليون، الإسلام فيه قصاص أو دية أو عفو كما بين سبحانه وتعالى. فمن رحمة الله بنا أنه فرض لنا الحدود يا أخي حماية لمجتمعاتنا، ألا تعلم أن بعض البشر، وهذه معلومة في شريف علمه، بعض الناس لو لم يكن هناك حدود ولو لم يكن هناك تأديب وتعزير والله ليقتحمون المنازل وإنهم ليسفكون الدماء ويشكلون عصابات من الإجرام وإنهم يهددون مجتمع الأمة تماماً. فمن رحمة الله بهذا المجتمع العظيم. العضو الآن إذا شُل أو أصيب بالسرطان وأصبح غير صالح للحياة يبتر من الطبيب، يقول أحد الحكماء والشعراء

إن المريض إذا شكا من جسمه

مرضين مختلفين داوى الأخطرا

فهذا العضو الفاسد إذا بتر يبقى الجسم سليماً، أما أن نعطل الحدود، وانظر البلدان هذه التي عطلت فيها الحدود، الجريمة منتشرة، النهب والسلب. أنا أذكر مثلاً يعني نموذج، نحن قبل في السعودية قبل ما تنفذ الحدود أو مثلاً ما تتم الوحدة بالمملكة العربية السعودية، كان حتى قصص الأجداد السلب والنهب والقتل والسفك والسرقات وهي موجود مثبتة.

عثمان عثمان: إذاً أنتم تعتبرون فضيلة الدكتور أن إقامة الحدود وتطبيق العقوبات هو من الرفق بالمجتمعات وبالإنسانية؟

عايض القرني: نعم.

تفعيل الرفق في حياة المسلم

عثمان عثمان: سؤال مهم جداً، كيف نفعل الرفق في حياتنا فضيلة الدكتور؟

عايض القرني: نفعل الرفق، أنا أقول يا إخواني ما دمنا مسلمين نحن ورضينا بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، ماذا يمنع الحكام في البلاد الإسلامية والحكومات والمسؤولين والعلماء أن يفعلوا هذه الشريعة؟!

عثمان عثمان: كيف؟

عايض القرني: يطبقوا شرع الله عز وجل. لماذا تأخذ أنت عربي أنت في بلد محمد صلى الله عليه وسلم، البلاد العربية هي للرسول صلى الله عليه وسلم هي بلاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، هي ليست بلاد ماركس ولا لينين ولا فولتير ولا غيرهم، لماذا تأخذ القانون الفرنسي أنت تطبقه في شعبك ولا تطبق شريعة الإسلام؟ أنت تقول أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ما الذي يمنعك ويحملك على أن تأخذ قوانين من الطين، من الأرض وتترك شرع الله عز وجل؟ إذا طبقنا شرع الله الصحيح، سوف نعيش الرفق والحلم، لأن فيها كل الأخلاقيات، الآداب، السلوك، تطبيق الحدود. فمشكلتنا يا أخي في العالم العربي أنه أحياناً الدولة فقط مسلمة بالاسم، ولكن حينما تجد قال مصدر التشريع القانون الفرنسي أو الإنجليزي أو نحو ذلك، حتى أنهم يستحون يقولون الشريعة من مصادر التشريع في البلاد. لا ما دام دولة إسلامية والله لا نسعد ولا ننعم إلا بهذا الدين، وقد شهد حتى أساطين الغرب، الآن المؤرخ المشهور الفرنسي غوستاف لوبون يقول ما عرف العالم فاتحاً أعدل ولا أرحم من محمد صلى الله عليه وسلم.

عثمان عثمان: أنتم تتحدثون عن تفعيل الرفق في السلطة، عند الحاكم وعند النظام وعند الدستور. كيف نفعّل الرفق في حياتنا الاجتماعية بين طبقات المجتمع وبين الناس؟

عايض القرني: هنا، نحن في حديثنا تعرضنا للإمام وللزوج وللعالم وللحاكم، لكن من الرفق ومن صوره أن نكون رفقاء ببعض، يا أخي "تبسمك في وجه أخيك صدقة" حديث صحيح، أول الرفق يبدأ بالعنوان، عنوان الوجه، عندما تلقى أخاك المسلم وتتبسم تقول السلام عليكم، عندنا نحن عنوان الرفق، عندنا نحن شارة وعلم اسمها السلام عليكم. لو فعلنا كلمة السلام عليكم التي نقولها بدون فهم أو بذهول أحياناً ونسيان، ما كان بيننا التصادم والتناحر. المعنى أنني يوم ألقاك في السوق وفي الطريق وأقول السلام عليكم ورحمة الله، معناها لك الأمان مني ألا أغلظ عليك، ألا أؤذيك، أنك حرام الدم، أنك حرام العرض، أنك حرام المال، أنك مصون، أنك في رعاية الله عز وجل. أيضاً يا أخي التعامل في مسألة اللين، يعني نحاول نتغاضى عن أخطاء الآخرين وأن نصدر عفواً عاماً. أنا مرة كتبت مقالاً قلت العفو العام، ينبغي عليك قبل النوم أن تصدر عفواً عاماً عن كل من أساء إليك من البشر إذا كنت تريد أن تعيش الحياة في أسمى صورها وفي أبهى حللها حين تنعم بالسعادة الداخلية وبالأمن النفسي. يا أخي نحن نطالب حكامنا بإصدار عفو عام عن الشعوب. أول ما نبدأ نحن كمواطنين كأفراد أن نعفو عن إخواننا ونعفو عن أصدقائنا، بعض الناس ينام وفي قلبه حيات وعقارب من الحقد والشحناء والبغضاء على إخوانه، حافظ غلطة على ذاك وزلة على هذا، وهذا يقول قصر معي ما زارني في المستشفى، وهذا ما دينني وهذا ما أقرضنني، وهذا ما فعل.. يا أخي ينبغي أن نغسل قلوبنا وأن نصدر بالرفق عفواً عاماً عن كل من أساء إلينا، على منهج قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه "إن الله أمرني أن أصل من قطعني وأن أعفو عمّن ظلمني وأن أعطي من حرمني"، هؤلاء هم مخطؤون فكيف بمن أحسن إلينا؟ هذا هو.

عثمان عثمان: يعني إلام تعزون غياب الرفق وبروز العنف والشدة بين الناس فضيلة الدكتور؟

عايض القرني: نعود يا أخي، الأساس الأول بعد الاستقراء والسبر جهل الناس بالشريعة، ترى الناس يا أخي جاهل بالشريعة. الناس يفهمون الآن الجوال والموبايل وطرقه أكثر من فهم الإسلام، بعض الناس الآن. يفهم….

عثمان عثمان(مقاطعاً): من يتحمل المسؤولية هنا؟

"
ينبغي على الحكام أن يفتحوا المجال للإعلام والتعليم على مصراعيه
"

عايض القرني: يتحمل الحكام والعلماء. الحكام ينبغي أن يفتحوا المجالات للإعلام على مصراعيه والتعليم والمدارس لتفهيم الإسلام. العلماء ينبغي ألا ينزووا وينزلوا إلى الميدان ويوجهوا هذه الأمة ويقولوا كلمة الحق، كما قال الله سبحانه وتعالى {..ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}[آل عمران:79]، ينزل العالم في حلقاته، في الإذاعة في الصحف في التلفاز في كل مكان في كل منتدى يشارك، يقود الأمة يوجهها وينصح الحاكم بالتي هي أحسن، فإذا صلحت هذان الصنفان، الحاكم يفتح المجال ويؤيد الدعوة الوسطية الحق، والعالم أن يتحمل المسؤولية.. نترك السفينة لمن؟ من يقودها؟ سفهاء أو متحللون من الدين؟ يا أستاذ عثمان عندنا فئتين تهدد المجتمع الإسلامي، فئة أناس متحللين من الدين، يرون الدين جريمة، ما يتشرف أنه مسلم، يرون أنه في خيار آخر ينبغي أن نصادر الإسلام وننحي الإسلام وألا يحكم الإسلام…

عثمان عثمان(مقاطعاً): طيب هذا يعود إلى عدم الثقة بالنفس. يعني هذا عدم الثقة بالنفس من أين يأتي؟

عايض القرني (متابعاً): يعود إلى التربية، أوله التربية والتعليم والتلقي، فلما غاب دور العالم المصلح والحاكم العادل صارت الغوغاء تعمل. أنا قلت الطرف الأول متحلل من الدين، الطرف الثاني المغالي في الدين الذي يحمل السلاح الآن ويهدد أمن الناس ويدعو إلى سفك الدماء، من خالفه فهو كافر. فهاتان الطائفتان إفراط وتفريط. نريد أهل الوسط، الحاكم العادل الذي يحكم بشرع الله، العالم المصلح المجدد الذي يحمل الفكر للناس، فإذا فعلنا ذلك معناه أننا فعّلنا الإسلام في حياتنا وأصبحنا في أمن إن شاء الله.

عثمان عثمان: فضيلة الدكتور طبعاً كما يقال الإنسان ابن بيئته، يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها. إلى أي مدى يمكن تغيير الطبع الجشع لدى بعض الناس؟

عايض القرني: صدقت. هو ابن خلدون أشار في المقدمة إلى أن التضاريس والمناخ لها دور في حياة الناس، طبيعة الجبال أو الصحراء للإنسان تترك فيه شيء. والإنسان يتأثر أيضاً بجيرانه وبأهله، الوالد القاسي، الوالد العنيف ينبت ولداً قاسياً عنيفاً، لأنه ينبت أو ينشأ الابن هذا يرى أن الإسلام هو الذي يحمله والده، لأن الطفل دائماً، يقولون في التربية، يرى أن الوالد هو المثل الأسمى والأعلى فيرى أنه أشجع من خالد بن الوليد وأنه أكرم من حاتم الطائي وأنه أفصح من سحبان وائل، وهذا يعني وهم الطفل، فالأب الفظ الغليظ ينبت لنا ابناً فظاً غليظاً. ينبغي أن نعيد التربية للناس، ينبغي علينا في وسائل إعلامنا وجامعاتنا ومدارسنا أن نفهمهم التفهيم الصحيح. ترى من مآسينا في عالمنا العربي القسوة الاجتماعية والسياسية، حتى تجد الآن الأحداث الآن، وأنتم في الجزيرة في الأخبار، كل الصراع في منطقتنا، القتل، الإبادة تبدأ من الصومال في حدود أفغانستان إلى العراق إلى فلسطين، بس هذه بقية المناطق مثل أوروبا وأميركا وآسيا، شرق آسيا يصنعون وينتجون ويخترعون وشركات ومساهمات… فعلينا جميعاً أن نعود إلى ديننا نفهمه فهماً جيداً.

عثمان عثمان: فضيلة الدكتور، يعني هناك مسألة أخرى أيضاً يعني، التعامل مع الآخر المخالف. يعني نجد أن هناك الكثير من كتب الردود على الآخر المخالف فكرياً. كيف تفسرون ذلك؟ ربما يتجاوز الأمر حتى مسألة الرد المنطقي والعقلاني إلى مسألة ربما القدح والذم والشتم.

عايض القرني: مسألة الرد من حيث هي مطلوبة، حتى القرآن رد على المخالفين والرسول صلى الله عليه وسلم. نحن نرد بحجة وببرهان، القرآن طالبنا حتى على المخالف أن نتكلم معه بدليل يقول {..قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا..}[الأنعام:148]، وقال سبحانه {..قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}[البقرة:111]. أنا مع الرد الذي من العالم، من الحكيم يصدر بمنطق ويصدر بدليل وببرهان، أما الرد الغوغائي هذا الذي يسبهم، حتى يقول بعض الرادين يقول أنهم أشبه الناس بالكلاب والخنازير وما أدري.. هل هذا يبني حقاً؟ هل هذا يدفع شبهة؟ هل هذا يؤسس لك فهماً، يعني تلقي عند الآخر؟ يقول سبحانه وتعالى {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون..}[آل عمران:64]، يقول سبحانه {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن..}[العنكبوت:46]، حتى ولو خالفك من اليهود، من النصارى، من الشيوعيين، عليك أن تجلس معه بالتي هي أحسن وتسمع منه وتقدم له الحجة، حتى المشرك، يقول الله سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ..}[التوبة:6]، يعني أسمعه الحجة، البرهان، الدليل.. وهذا التنابز بالألقاب هذا شيء من الغوغاء يعني السفهاء.

الإيغال في الدين برفق

عثمان عثمان: حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام يقول "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق". كيف يكون الإيغال في الدين برفق فضيلة الدكتور؟

عايض القرني: هو أخذ الأمور بهدوء ورويداً رويداً، وشيء من التدرج في تطبيق هذا الدين. لأن الذي يأخذ الدين دفعة أخشى أن يضيعه مرة، مثل من يدخل في النوافل فيقوم الليل كله، أو يريد أن يصوم كل يوم، هذا يا أخي منقطع، يقول صلى الله عليه وسلم "إن المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع"، هو الذي يشد على نفسه ويريد أن يستولي على كل خصال الخير، فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر هذا المنهج التشددي حتى في العبادات. يعني الثلاثة في الصحيحين الذين أحدهم يقول لا أتزوج النساء، والثاني لا آكل اللحم، والثالث لا أفطر النهار، قال "أنا أتقاكم بالله وأعلمكم بالله، إن أتقاكم بالله وأعلمكم أنا، لكن أتزوج النساء وآكل اللحم وأصوم وأفطر وأقوم وأنام فمن رغب عن سنتي فليس مني". الإسلام دين يسر، دين وسط، دين اقتصاد في العبادة، دين يعني.. "إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً ولضيفك عليك حقاً"، المشكلة أن بعض الناس يريد يجعل الحقوق مرة واحدة دفعة ويهمل بقية الحقوق.

عثمان عثمان: يعني أنتم ذكرتم هنا عدة حقوق، لنفسك، لبدنك، لزوجك، لأهلك. كيف يكون الرفق يعني أساس مراعاة تلك الحقوق أيضاً؟

عايض القرني: الرفق هنا يا أخي التوازن، ألا يطغى جانب على جانب، يعني ألا نظلم جانب على جانب. مثلاً لنفسك عليك حقاً، أنا أريد أعطي حق الله سبحانه وتعالى وهو العبادة، فإذا أسرفت في هذا الحق وزودت على نفسي من النوافل وقمت الليل كله وصمت النهار كله، معنى ذلك أنني ما أعطيت نفسي حقها وسوف تنقطع، ومعنى ذلك سوف تظهر عندي أمراض وسوف يتغير مزاجي وسوف أكون أنا قصرت في حق نفسي التي أمرت أن أحفظ، أنا مأمور أن أحفظ نفسي، نفسي هي ملك لله ليست ملك لي لا يجوز لي أن أقتل نفسي، ومحرم في الإسلام أن تنحر نفسك أو تذبح نفسك، ومحرم أن تظمأ حتى تنقطع وتجوع حتى تنقطع. مثلاً أعطيت الله حقه في العبادة ونفسي حقها، لكن حق الأهل، الزوجة والأبناء يحتاجون إلى جلسة ويحتاجون إلى حقوق خاصة وعامة ويحتاجون إلى… الضيف، يأتي إنسان ضيف ويدخل عليه في المجلس، ولضيفك عليك حقاً، يقوم يتنفل في الغرفة الثانية ويترك الضيف؟! يحتاج إلى ترحيب وإلى قهوة وإلى ضيافة، في الحديث الصحيح "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"، هذا عموم الإسلام، شمول الإسلام، الدين العالمي الحق الصحيح الذي ينبغي أن نفهمه للناس. لكن المشكلة لما جهلنا هذا الدين صار هناك يعني إسراف أو زيادة لحقوق على حساب حقوق أخرى، فغاب الرفق.

عثمان عثمان: إذاً التوازن في إعطاء الحقوق لكل ذي حق حقه، هو من الرفق الذي جاء به الإسلام. فضيلة الدكتور، يعني سؤال قد يكون ربما الأخير، كيف نشيع ثقافة الرفق في حياتنا ونحولها من نصوص وآيات وأحاديث وتاريخ إلى ممارسة عملية؟

عايض القرني: هذه لا بد من قدوات في المجتمع، أسوة صالحة يتبناها طلبة العلم الدعاة الأخيار الأبرار الصالحين، أن يكونوا هم بممارستهم العملية أس الخير في تفهيم المجتمعات الإسلامية. إن تصرف طيب وحسن من رجل أحسن من ألف محاضرة مجردة من العمل، كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يتصرف بلا محاضرة، لكن بالرفق ينقل أصحابه، هذه أحسن من ألف محاضرة. مثلاً لما جاء صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة العصر وكان عنده طفلة زينب، أمامة بنت زينب، ابنة ابنته، هو جدها صلى الله عليه وسلم، حمل الطفلة على كتفه وهو يصلي… إمام عامة في صلاة الفريضة في العصر، فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها، لأن أمها غائبة وإذا تركها تبكي البنت، في صلاة الفريضة الناس يشاهدون هذا الرفق ويشاهدون هذا التعامل الراقي من الرسول صلى الله عليه وسلم فينقلونه. فأنا أرى أن يشاع هذا لا بأس كتابة، لا بأس ندوات ومحاضرات، لا بأس أن يفعل في الإعلام، بل هو مطلوب أن يفعل في الإعلام. أيضاً هذا الرفق أن يتبناه الحاكم يكون من دستور الحاكم أو من تعامله مع شعبه، الرفق "من رفق بهم فارفق به" كما قال صلى الله عليه وسلم. العلماء، أن يفهموا الخطباء البادئين وطلبة العلم الذين حصروا الناس وضيقوا عليهم بالفظاظة والغلظة والوعيد والتهديد وكذا، أن يفهمهم أن الدين لا، الدين يسر الدين سمح الدين لين ورفيق.

عثمان عثمان: فضيلة الدكتور، يعني باختصار شديد لو سمحتم لأن الوقت انتهى ويشير المخرج إلى انتهاء الوقت فعلاً. أشكرك فضيلة الدكتور الداعية البارز عائض القرني على هذه الإفاضة الطيبة. كما أشكركم مشاهدينا على حسن المتابعة، لكم تحية من معتز الخطيب معد البرنامج، ومن المخرج منصور الطلافيح، وهذا عثمان عثمان يستودعكم الله. دمتم بأمان الله وإلى لقاء آخر بإذن الله، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.