فلسطين تحت المجهر

مقطع الأوصال

أعطت حلقة (7/6/2015) من برنامج “فلسطين تحت المجهر” الكلمة لضحايا الوطن المقطعة أوصاله في الضفة الغربية وقطاع غزة، كي يشرحوا مأساتهم ومعاناتهم في التواصل مع عائلاتهم ومعارفهم وأصدقائهم.

قصتي مع حلقة " مقطع الأوصال" شخصية جدا وخاصة جدا. بعد رحلة طويلة وشاقة ومتواصلة من قطاع غزة مروراً بمعبر رفح إلى مطار القاهرة، ومنها الى دبي، رحلة استغرقت أكثر من 50 ساعة متواصلة، وبمجرد وصولي إلى دبي لم أهتم بأخذ قسط من الراحة بقدر اهتمامي بتجهيز نفسي والتوجه فورا إلى عشاء عمل يضم بعض العاملين في حقل الإنتاج الإعلامي، كنت حريصا جدا على حضور هذا اللقاء لهدف مختلف تماما عن الآخرين. فلأول مرة سألتقي زميلا أعمل معه بشكل يومي منذ عشر سنوات!

بمجرد وصولي عانقني صديقي طارق بقوة، وقال: أخيراً التقينا، كنت أظنك أقصر قامة مما أنت عليه، ثم التفت إلى الحضور الذي جمع جنسيات متعددة وخاطبهم بالإنجليزية، أشرف من قطاع غزة وأنا من الضفة الغربية ونعمل معا منذ أكثر من عشر سنوات وهذه المرة الأولى التي نلتقي بها وجها لوجه!

لا شك أن كلماته أعقبها سيل من النقاش والاستغراب؛ كيف لا يستطيع اثنان من نفس البلد أن يزورا بعضهما البعض أو يلتقيا ولو لمرة واحدة! بل زاد استغرابهم أن طارق الذي يسكن رام الله لم يستطع زيارة غزة فحسب، بل لم يستطع كذلك زيارة أهل زوجته في مدينة القدس التي تبعد عنه أقل من ربع ساعة بسبب حرمان الاحتلال له من الحصول على تصريح تنقل!.

بعد ثلاثة أيام ودعت طارق بحرارة في المطار ليعود هو إلى عمان ومنها إلى الضفة الغربية في فلسطين، وأعود أنا إلى القاهرة ومنها الى قطاع غزة في فلسطين، وكلنا أمل أن نستطيع مرة أخرى اللقاء في أحد مدن هذا العالم خارج فلسطين، لأنه من المستحيل أن نرى بعضنا داخل الوطن الممزق.

لا أتذكر مرة سافرت بها دون أن أخوض هذا الشرح الطويل، كيف أن من يسكن غزة لا يستطيع الوصول إلى الضفة الغربية رغم أن كلا المنطقتين جزء من فلسطين التاريخية، وكيف أن الطريقة الوحيدة لأن نرى بعضنا البعض هو اللقاء خارج فلسطين.

قررت أن أصنع فيلما يحكي هذه المأساة، وأن يصبح أداتي في الشرح عن هذا الموضوع الذي يثير الاستغراب، فمن اليوم، بعد "فلسطين تحت المجهر" – مقطع الأوصال- كل من سيأسلني سأطلب منه مشاهدة الفيلم، فربما وفر هذا علي بعض عناء تكرار القصة، ويساعد "من هم مثلي" من ضحايا الوطن المقطع في شرح مأساتهم عن طريق هذا الفيلم.

لا شك أن ضحايا الوطن المقطع أوصاله مئات الآلاف، والفكرة لأي صانع أفلام هي مغرية لأن قصصها كثيرة، لكن الصدمة أنه لا أحد يرغب في التصوير خوفاً من بطش المحتل وملاحقته أو منعه من السفر، ليس هذا فحسب؛ بل زاد من الطين بلة أني أنهيت مبكرا تصويري في غزة، و كما هو متوقع، لم توافق سلطات الاحتلال على منحنا تصاريح للانتقال إلى الضفة الغربية التي تبعد أقل من ساعة بالسيارة من مكان سكني في غزة، فاستعنت بزملاء لي لإنجاز تصوير الضفة، وبقي العائق كيف يرسلون المواد المصورة من الضفة الى غزة، و استغرق الأمر أكثر من ثلاثة أشهر لترتيب ذلك! فأصبح الفيلم أيضا ضحية من ضحايا تقطيع أوصال الوطن.

ربما قصتي مع صديقي طارق من الضفة الغربية قصة بسيطة أمام تلك القصص الصعبة نتيجة واقع الفصل بين المنطقتين، فهناك أسر ممزقة، وأمهات لم تستطع رؤية أبنائها لسنوات طوال، وطلاب فقدوا حقهم في الدراسة في جامعات وطنهم، والكثير من القصص التي تفجع القلوب، فسياسة الفصل التي وثقناها خلال هذا الفيلم، سياسة إسرائيلية مدروسة جيداً منذ اللحظات الأولى للتفكير في إنشاء دولة إسرائيل، وهو ما يغيب عن كثيرين.

 فمن خلال الفيلم ستشاهد كيف تلاعبت إسرائيل حتى في خريطة التقسيم التي صدرت عن الأمم المتحدة لتصنع خريطة جديدة مختلفة تماما عن تلك التي صدرت، لتصنع منطقتين مختلفتين وتفصلهما، فلا يكون هناك أمل في قيام كيان فلسطيني واحد، وعندما احتلت المنطقتين بعد 19 عام من إنشاء إسرائيل (في احتلال عام 1967)، قاموا بمزيد من الاجراءات التي صنعت من غزة والضفة كيانين مختلفين سياسيا واجتماعياً و ثقافياً و تعليميا، حتى السجون لم تسلم من ذلك، فجعلت أسرى غزة مفصولين عن أسرى الضفة الغربية، مما فاقم مآسي الفصل وعُقده.

بعد ذلك نشاهد كيف كرست إسرائيل فصلها لقطاع غزة وجعله سجنا كبيرا محاصرا ومفصولا، ونجحت إلى حد كبير، وبدأت الآن في تطبيق نفس النموذج في الضفة الغربية، فعمدت إلى تقسيم الضفة الغربية إلى " كنتونات" ومناطق منفصلة لتصنع من كل منطقة نموذج يحاكي واقع غزة لكن مع وقف التنفيذ، ولتصبح الخارطة وطنا ممزقا لا يستطيع أبناؤه التنقل داخله من جزء الى آخر.

يكشف الفيلم صورة واقع أليم ومستقبل قاسي إذا ما استمر المشروع الصهيوني الممنهج في سياسته العنصرية تجاه هذه المنطقة.

المخرج الفلسطيني أشرف مشهراوي