الكتاب خير جليس

رأيت رام الله

المعاني الكامنة وراء كتاب (رأيت رام الله)، انطباعات ومغزى الجسر عند المؤلف، (هنا رام الله) ومشاعر المؤلف عند رؤيته للأشياء، لغة الكتاب بين الرومانسية والواقعية المحضة، (الإقامة في الوقت) وحياة المؤلف في المنفى، موقع ناجي العلي في الكتاب وتأثيره على المؤلف.

مقدم الحلقة:

خالد الحروب

ضيوف الحلقة:

مريد البرغوثي: مؤلف الكتاب
أهداف سويف: كاتبة وروائية

تاريخ الحلقة:

27/05/2003

– المعاني الكامنة وراء كتاب "رأيت رام الله"
– انطباعات ومغزى الجسر عند المؤلف

– "هنا رام الله" ومشاعر المؤلف عند رؤيته للأشياء

– لغة الكتاب بين الرومانسية والواقعية المحضة

– "الإقامة في الوقت" وحياة المؤلف في المنفى

– موقع ناجي العلي في الكتاب وتأثيره على المؤلف

– الكتاب وتوصيف علاقة الفلسطيني بالهاتف


undefinedخالد الحروب: أعزائي المشاهدين، أهلاً وسهلاً بكم إلى هذه الحلقة من برنامج (الكتاب خير جليس) نقدمها لكم من لندن.

"رأيت رام الله" هو عنوان جليسنا لهذا اليوم، سردية ذاتية عن النفي والمنفيين، سطرها مريد البرغوثي ( الشاعر والروائي الفلسطيني) مُسجِّلاً انطباعاته إثر العودة إلى وطنه فلسطين بعد غياب قسري طال ثلاثة عقود.

النص الذي نقدمه اليوم ترجم إلى الإنجليزية مؤخراً، وكان قد تُرجم إلى الهولندية والأسبانية في وقت سابق، وحاز على جائزة نجيب محفوظ للأدب.

أهميته تكمن في أنه يقدم لقراء غربيين صورة.. صورة إنسانية نادرة للفلسطيني الذي أطاح الإعلام المتوحش إنسانيته.

حروف هذه السردية متوهجة بالبساطة والحرارة والتوقف عند التفاصيل الصغيرة.

بعد ثلاثين خريفاً وتسعة دواوين شعر وعدة هزائم يعود الشاعر إلى قريته إلى دير غسانة، كان قد غادرها قبيل حرب 67، ليتابع دراسته في القاهرة، قامت الحرب، واندرج اسمه في قوائم اللاجئين، وصارت العودة هي الحلم، في المنفى نقرأ أسماء شخوص ومدن وأشياء وحوادث عادية تنهش سنيَّه تجرها جرا إلى عقد الخمسين من العمر، تنشر الشيب في رأسه، وتزيد من سماكة نظارته الطبية، بين القاهرة وبودابست وباريس ومنافٍ أخرى ينسج الالتياع الفلسطيني قصص المنفيين، نقرأ عنهم ونذوب فيهم، ناس عاديون، عاديتهم هي سر روعتهم، أبٌ حنون، أمٌ قلقة، شقيق تغتال يفاعته حكمته المبكرة، أصدقاء كُثر بين شهيد قضى وسجين نُسي، ومغترب فُقد، وآخرون مازالوا على قيد التواصل أو الغياب، يموتون واحداً إثر واحد، وفي حلقهم مرارة عدم العودة، وصديقنا المنفي لا يملك تأشيرة دخول لهذا البلد أو ذاك ليسير في جنازة أو يمرر وردة على قبر.

مريد البرغوثي مؤلف الكتاب وصاحب هذه السردية الشاعر والروائي الفلسطيني هو ضيفنا اليوم في لندن، فأهلاً وسهلاً مريد.

مريد البرغوثي: أهلاً بك.

خالد الحروب: أهداف سويف (الروائية المصرية صاحبة القلم الرهيف والتي ترجمت كتاب مريد إلى الإنجليزية) هي أيضاً معنا اليوم فأهلاً وسهلاً أهداف.

أهداف سويف: أهلاً خالد.

المعاني الكامنة وراء كتاب "رأيت رام الله"

خالد الحروب: مُريد أولاً ما هو هذا النص؟ وما الذي فاض في دواخلك حتى تنتجه؟

مريد البرغوثي: كثير من الذين قرأوا هذا الكتاب، وبعض الذين كتبوا عنه، تعاملوا معه بصفته كتاباً عن العودة إلى وطن تُرك لـ 30 سنة، في تصوري أنا لهذا الكتاب أنه يكتب غيابي لمدة 30 سنة عن المكان، يعني هو ليس من كتب العودة التي شاعت تسميتها إنه يعني ليس الكتاب رام الله بعد العودة إليها، هو رام الله طوال الغياب عنها، فهو يستعرض 30 عاماً من العيش خارج مكان أصلي، خارج مكان الولادة، خارج المكان المألوف، خارج المكان الذي لك الحق في أن يكون مكانك، وتُسلب هذا الحق، فهو في تقديري ليس من الكتابات التي تتناول رام الله بعد العودة إليها بهذا المعني الذي شاع في الكتابات حول "رأيت رام الله"، وهو العمر الاضطراري، الطوارئ الدائمة، الأوقات التي مرت وأنت مكسور الإرادة، فلا تستطيع أن تفعل ما تشاء، ولا تذهب حيث تشاء، ولا تغادر أماكن تريد أن تغادرها، بمعنى هو يستعرض عمراً من الإجبار والاختيارات القائمة على الإكراه، رغم ما فيه تناقض في هذا المعنى.

خالد الحروب: أي نعم.

مريد البرغوثي: آه، وبالتالي لا أراه كتاباً عن رام الله، ربما يحتاج المسألة.. تحتاج المسألة إلى كتاب آخر عن رام الله.

خالد الحروب: أي نعم، طيب أهداف وما الذي فاض بك بعد أن قرأتِ الكتاب في نصه العربي إلى أن تترجميه إلى الإنجليزية؟

أهداف سويف: هو الحقيقة أكثر من عامل، طبعا عامل أساسي هو النص نفسه، إنه يعني وجدته النص قد كده قوي، و.. ويعني.. يعني من المهم جداً إنه صوت.. إن هذا الصوت بالتحديد -في رأيي- كان إنه يخرج إلى العالم الذي لا يتحدث العربية، فيعني وطبعاً يعني القضية والقصة التي يرويها وبعدين الصداقة القديمة اللي بيني وبين مريد ورضوى فيعني كلها عوامل خَلِت.. خَلِت إنه يعني مهم…

خالد الحروب[مقاطعاً]: يعني ما هو.. أنت ذكرت إنه يعني هذا الصوت المميز، ما هو تميز هذا الصوت؟ ما هو تميز هذا النص -في رأيك- بحيث نستطيع أن نقدم لقراء غربيين يدركون الفلسطيني أنه معتمر الكوفيه ومزنَّراً بالسلاح، وإما يعني مفجراً نفسه، يعني فيه صورة للفلسطيني نمطية، هل.. ما الذي يقدمه هذا النص بخلاف هذه الصورة؟

أهداف سويف: النص.. النص باختصار نقدر.. يعني أقدر أقول عليه أنه يعني نص غاية في.. في التحضر، يعني هو مريد كان بيقول إنه 30 سنة من الإجبار، ده.. النص ده رد على هذا الإجبار، ولكنه رد من خلال خلق عمل فني، فالنص فيه إصرار على الآدمية، إصرار على أهمية التفاصيل اللي هي التفاصيل اللي بتكوِّن الحياة، تداخل الشخصي مع العام في بعض الأحيان النص النثري تدخل فيه قطع شعرية، يعني في مجمله هو نص إنساني إلى أبعد حد، وبالتالي يعني سياسياً من ناحية الصورة اللي أنت كنت بتتكلم عنها صورة الفلسطيني ودلوقتي العربي على وجه العموم، يعني أنا شوفت إنه النص ده يعمل توازن كبير جداً قصادها للي يقرأه.

انطباعات ومغزى الجسر عند المؤلف

خالد الحروب: أي نعم، مريد في.. يعني في الفصل الأول وإن كان يعني لا نريد أن نقول فصل أول، فصل ثاني، نظلم الكتاب إذا.. إذا قسمناه بهذا الشكل، فلنقل العنوان الأول، في.. في الكتاب أو في هذه السردية هو الجسر، وأنت الجسر.. جسر الأردن طبعاً قطعت هذا الجسر سنة 66 مغادراً إلى القاهرة لتتابع دراستك، ثم قطعت ذات الجسر عائداً إلى.. إلى رام الله سنة 96 بعد مُضي 30 عاماً، ما هي انطباعاتك؟ كيف رأيت الجسر في المرتين؟ أهو ذات الجسر؟

مريد البرغوثي: يعني للإجابة على هذا السؤال أنا كتبت هذا الكتاب بأكمله من الغلاف إلى الغلاف، فمرة أخرى.. نعم..

خالد الحروب[مقاطعاً]: لحظة الجسر أنا يعني سحرتني يعني مخاطبتك للجسر، أنت كأنك أصبحت تتحدث مع الجسر في لحظة من اللحظات، إلى أخشابه، إلى حتى مساميره، إلى اندياح الماء من تحته، ذلك الصمت أحياناً الصمت العالي.. عالي.. الصاخب.

مريد البرغوثي: تصور يعني.. أحياناً يبحث الكاتب عن مجاز.. يبحث عن مجاز من الخيال، لكي يتحدث عن صورة، في حالتي هذه صورة انتقال العمر من معنى إلى معنى، ومن جغرافيا إلى جغرافيا، ومن وعي إلى وعي، ومن خيال إلى خيال، الجسر الخيالي، الجسر المجازي اللي كنت محتاجه ككاتب وفرته ترابية الجسر، وحقيقة الجسر، وجغرافية الجسر، ووجوده كجسر منذ يعني بُني إلى يومنا هذا، يعني هو جسر من خشب، جسر مادي ملموس، قصير وضيق وأخشابه تطقطق تحت الأقدام، وتكاد تشعر إنه قد يسقط بك في أي لحظة فيما تبقى من النهر، لأن النهر نفسه أنا وصفته كأنه سيارة تقف في مرآب، نهر بلا ماء، فالجسر تعبان ومتعب، والنهر يكاد يكون بيخسر صفاته المائية، وبالتالي عندما يخسر نهر ماءه ما الذي يبقى منه؟ لحظة مرهقة للعين وللذاكرة، ولكن هو يعني عندما تخطيت إلى الضفة الأخرى اللي أصبح فيها التراب فلسطيني، فجأة لمع في ذهني إن أنا عم بأتخطى حاجز في الجغرافيا، حاجز في المشاعر، حاجز في الوجدان، وكما وصفت إنه كان خلفي العالم وأمامي عالمي، أصبحت أشعر إنه في اللحظة التي انتقلت فيها من منتصف الجسر إلى الضفة الفلسطينية منه أنني انتقلت إلى عمر آخر يبدأ بعد خطوة أو بعد خطوتين، وكل ما سأراه بعد هذه الخطوة سأشعر به للمرة الأولى، وفعلاً يمكن ما فيه صورة طازجة في الكتاب، أو مدهشة، أو جديدة كُتبت لأسباب التأدب ولأسباب الأدبية والأسباب الشعرية، لأ، كُتبت لأنه أنا فعلاً شعرت بذلك للمرة الأولى، كأني أرى الجبال والتلال للمرة الأولى، أرى ألوانها، أرى الأشجار، أرى.. رأيت الجندي الإسرائيلي اللي قلت إنه بندقيته أطول منه للمرة الأولى، قبل ذلك أنا لم أرَ جندياً إسرائيلياً، لأول مرة رأيت وسمعت المفردات الجديدة التي ترتبت على اتفاقيات أوسلو الرديئة، و.. والتي يعني نتائجها نراها الآن، إنه المستوطنات والأعلام الإسرائيلية في أرضك، إنه بطلوا يقولوا إسرائيلي، بطلوا يقولوا العدو، صرت تسمع كلمة الجانب الآخر، لأول مرة بأسمع.. يعني كل ما سمعته وما رأيته وما شممته وما لاحظته كان يحدث للمرة الأولى، فأعتقد أن طزاجة اللغة ليس سببها الرغبة في -الكلمة اللي ما بأحبهاش- الإبداع أو الخلق، سببها إنه أنا فعلاً بشكل تلقائي جداً كنت بأشعر مشاعر لم تكن متوفرة قبل ربع ساعة، قبل أن أتخطى هذا الجسر، فالجسر تحول من.. من.. من ماديته إلى مجاز، ومن مجازه في عقلي رأيته للمرة الأولى كمادة وكخشب وكمسامير وكأسفلت، فبالتالي تحول خيالي إلى شيء ملموس، والملموس الذي رأيته تحول إلى خيال، ليس لإدعاء الكتابة، وليس لإتقان الكتابة، لأني شعرت ورأيت للمرة الأولى كل ما كتبته في هذا الكتاب عن الجسر وما تلاه من لحظات ومشاهد.

خالد الحروب: أهداف، يعني كروائية أيضاً يعني معنى الجسر ومغزى الجسر في هذه الحالة طبعاً الخاصة بالحالة الفلسطينية، لكن نستطيع أن نسحبها على.. على كل البلدان العربية، هناك جسور، هناك مغتربون، هناك من قضوا عقوداً من حيواتهم في.. في الخارج و.. و العودة تمثل لهم جسراً ما من الجسور، الآن عودة العراقيين مثلاً، الأدباء العراقيين والمثقفين العراقيين نفس هذا المغزى بخصوصية مختلفة طبعاً، الآن كروائية هذا.. هذا.. هذا المفصل الجغرافي الذي أيضاً هو مفصل في المعنى، ما الذي يعنيه إليك لما قرأت نص مريد وترجمتيه أيضاً؟

أهداف سويف: هو طبعاً الجسر كصورة بلاغية كـ (Motive) يعني موجود ومش بش عند العرب، يعني موجود في.. في الآداب كلها، لكن في أثناء يعني مريد كان بيتكلم بيقول إنه هو يعني ما اختارش أي لفظ أو ما اختارش أي صورة من باب التأدب، ودا واضح جداً في الكتاب، إنه.. إنه الكتاب يبدو تلقائي.. يبدو تلقائياً تماماً، بس ما هي دي خصوصية الأديب، إنه يعني مريد شاف.. راح وشاف الجسر، ومر في تجربة الجسر، فانصهرت عنده بحيث إنها تطلع أدب يتكتب في "رأيت رام الله"، ويخلي كل واحد.. كل قارئ يقرأ الكتاب يشعر بتجربة الجسر، فهي التجربة نفسها مش فريدة، الفريد هو العملية اللي بتتم داخل الأديب عشان تطلع في صورة تبدو تلقائية، وتُشعر كل قارئ بأن هو يمر بنفس التجربة، وأعتقد إنه يعني زي ما حضرتك شايف إنه الكتاب افتتاحيته في الجسر، يعني أول صورة في الجسر، أول مرة بنشوف مريد، بنشوف الكاتب وهو عائد بتكون على الجسر، وبصورة يعني حسية للغاية اللي بتشعر بالحرارة وبتشعر.. بتشعر بخشب الجسر تحت رجليك، و.. و بتشعر بالعرق، نقطة عرق نازلة على القورة [الجبهة]، وتلتحم بالنظارة وهكذا، وهي صورة يعني.. يعني مباشرة جداً جداً جداً تُشعر القارئ بإحساس العبور، ونقطة أخيرة عنها إنها يعني مكتوبة في.. في الزمن الحاضر، يعني في.. في المضارع، أجزاء تانية كثيرة من الكتاب مكتوبة في الماضي، لكن بتفتح الكتاب بتبقى في زمن المضارع، وعلى الجسر هذه الصورة الحسية المباشرة جداً وطبعاً دا الـ.. يعني العبور و..

"هنا رام الله" ومشاعر المؤلف عند رؤيته للأشياء

خالد الحروب: أي نعم، مريد في العنوان الثاني اللي هو " هنا رام الله"، الآن قطعت الجسر، ووصلت إلى رام الله، ثم دخلتها بعد غياب طويل، وصلت إلى عمارة اللفتاوي، وبدأت الآن تستكشف الشخوص القديمة من.. يعني، ويرد فيها.. تحت هذا العنوان يعني كل خالك أبو فخري والحاجة أم إسماعيل وحتى بائع الصحف أبو الحبايب، الآن بشكل حسي كيف رأيت رام الله بعد.. بعد كل ذلك الغياب؟ قال شاعر ما: الطريق إلى الوطن أجمل من الوطن، هل..هل كانت رام الله هي.. هي ما رسمتها في المخيلة؟ كيف كانت مشاعرك وأنت ترى الأشياء للمرة الأولى، للوهلة الأولى، تُعيد اكتشافها؟

مريد البرغوثي: رام الله الجغرافية كان أهلها الذين التقيت بهم، وقد غبت عنهم 30 عاماً، بيشتكوا من بنايات عالية طلعت، شوف الأسمنت خرب المدينة، طول عمر رام الله بيوت وفيلل وحواكير وجنائن وبيوت قرميد، خربت البلد، أنا عمري ما تشبثت يعني برومانسية الأماكن، أنا الرومانسية والحنين و.. ورخاوة هذه مشاعر التوق و.. والاشتياق غريبة عن شخصيتي، يعني شوية يعني زي ما قلت الحياة بترنخنا بالواقعية، يعني تعلمنا ما نكونش حالمين إلى هذا الحد، فأنا كنت بأستكثر الشكوى من إنه رام الله عم تتسع، أو رام الله عم.. مبانيها عم بتعلى، أو إنه عم بتختلف في طابعها، أنا أحب للمدن أن تنمو، وأحب للعمائر أن تعلو، وأحب لـ.. وليرافق ذلك ما يرافقه من.. من بعض يعني المآخذ، فلن يصدمني إنه رام الله الخيال تغيرت، وبالعكس أنا لما رحت على دير غسانة وجدتها كما هي، يعني رام الله تغير فيها بعض الأشياء، لما رحت على القرية على دير غسانة وجدتها فعلاً كما تُركت قبل 30 عاماً وأكثر، فحسيت أنا طب يعني أنت لماذا تكره الاحتلال في النهاية؟ الاحتلال مش بس بيكسر إرادتك، الاحتلال يعيق نمو مدينتك في المدينة، ويحول دون تحويل قريتك إلى أي شيء من ملامح التمدين أو ملامح التحسين أو ملامح التقدم..

خالد الحروب: يوقف الزمن.

مريد البرغوثي: يا ريت يوقفه، هو عندما.. أنا قلت هو يعني كان المستقبل كأنه مش موجود، كأنه بس ماضي موجود في دير غسانة، وماضي يعني صوَّرته إنه.. كأنه كلب يتشمس أمام بيت أهله و.. ويعني أو ربما دمية كلب ومستقر حيث ترك منذ ثلاثين سنة، فكنت بدي أمسك عصاية وأضربه وأقول له أركض يعني امشِ شوية، الشوارع هي هي، البيوت هي هي، فقط الناس يموتون، والسجون تتسع بالمعتقلين، والجرحى ماشيين بعكاكيز ويعني كراسي للمقعدين، وهذا فاقد عينه، وهذا فاقد أيده، يعني فقط فيه تآكل، فقط فيه شيء بيخس، شيء بينقص، فكان على الأقل إنه رام الله عم.. عم تنمو قليلاً آه علامة إيجابية وأن نضحي شوية يعني بمشهد، بمشمشية القرميد و.. وجمال ما تراه العين بشكل رومانسي، ما كانش خوفي على رام الله من هذا، كان خوفي على رام الله إنه قُدِّمت لها وعود، وكنت أرى أنها لن تتحقق، كانت المسألة سياسية في رأيي يعني، أنا كنت بأمشي في الشوارع وأقول: طيب هؤلاء الناس قُدمت لهم وعود ولذلك هم هاديين يعني وقابلانيين السلطة وماشي الحال وصاروا بدهم يتكيفوا مع وضعهم الجديد، بس كنت أرى دون أن يحدثني أحد أن هذا لن.. لن.. لن يتم، لأنه لما أنت بتؤجل اللاجئين، بتؤجل مصير كل اللاجئين، وكل النازحين، والقدس، والمستوطنات، وحق العودة، كل هذا مؤجل، طب شو العاجل؟ شو المُلِح إذن؟ ما كانشي شيء مُلح؟

خالد الحروب: طيب أسأل.. أسأل..

مريد البرغوثي: إلا.. إلا ترتيبات إجرائية في عودة القيادة الفلسطينية ويعني المحيطين بها، والناس قبلت حتى ذلك، فسكوتهم كان شخص قدمت له وعود وبيقول: طيب هنشوف ولما ما شافوش انتهينا بهذا العنف.

خالد الحروب: مريد.. مريد إذا سمحت أتوقف عند يعني.. يعني ما ذكرته من موقفك من.. من الماضي أو ما وصفته بالرومانسية، وأنك لست.. يعني ليس هناك رومانسية مع المكان، إلى حد ما مفاجِئة قد تكون للقارئ، لأنه القارئ يتوقع خاصة من الروائي أو الشاعر أو الأديب حنين أحياناً زائد، و.. ونوع من.. من.. من الالتصاق بالمكان والأشياء والأشياء الصغيرة، الواقعية كانت في.. في إلى حد ما مدهشة أو مفاجئة قد تكون للقارئ، ما أعرف ما تعليق أهداف يعني؟ يعني أحياناً التحلل من.. من الرومانسية كأنها مثلاً تهمة.

أهداف سويف: أنا الحقيقة يعني فعلا كان.. يعني استغربت لما.. لما قريت هذا الجزء، لكن يعني تفهمته ولقيت إن هي فعلاً طريقة مختلفة، وطريقة قد تكون يعني أكثر.. يعني أكثر إيجابية وأكثر فاعلية للتعامل مع الأمور، إنه.. إن الواحد يعني يرجع قريته بعد 30 سنة، فيلاقيها بالضبط بالضبط زي ما هي، إلا للدمار والتآكل والكذا، وبحيث إنه يرى الاحتلال على أنه شيء يُجمِّد الأمور تماماً، يعني أنا.. أنا لقيت إنه دي فعلاً نظرة لها يعني.. يعني تعاطفت معاها تماماً بعد ما قرأتها، ويمكن من.. يعني يمكن من.. من أقسى وأقوى الصور اللي في الكتاب أو اللحظات اللي مر بها الكاتب ووصفها في الكتاب وهو متجه نحو رام الله من الجسر بالأتوبيس أو بالتاكسي وبيشوف المستوطنات، يعني أول مرة يشوف المستوطنات كل تل فوقه مستوطنة، كل تل فوقه مستوطنة، ومشاعره تجاه ده، و.. ويعني الدهشة والذهول و.. والفزع من وجود هذه البنايات بهذا الشكل يعني المنتشر جداً والراسخ يعني في المكان، ودي يعني…

لغة الكتاب بين الرومانسية والواقعية المحضة

خالد الحروب: طيب نرجع بنفس هذه النقطة مريد يعني معلش حتى إنه نحاول نحشرك فيها شوية، طبعاً من المفهوم أن تنحاز للمستقبل عندما ترى قريتك دير غسانة قد توقف عندها الوقت والزمن كما كان 30 عاماً خَلَوْن، انحيازك للمستقبل مفهوم، لكن في أحيان أخرى من الكتاب عندما تقول إنه يعني الآن كما عبرت عنه إنه يعني ترنَّخنا بالواقعية إلى درجة أنه هبطت يعني رومانسيتنا وأحلامنا وأصبحنا نواجه الواقع بكل صلفه و.. وأحياناً جلافته، سيدي الشاعر فلتترك لهذه الواقعية أن تلوث السياسة وأن تلوث الأشياء الأخرى، لكن دع وهج الحروف في.. في الشعر وفي الروايات، دعه.. دعه يُحلِّق في.. في.. في.. في الحُلم، الناس يحتاجون إلى ذلك.

مريد البرغوثي: والله طرقت موضوع كثير يعني يمكن شاغلني جداً، وبأحاول ألا أسهب فيه كثيراً، في زعمي ومن ملاحظاتي للحياة العربية.. الحياة السياسية العربية، اللغة الإنشادية الصادحة الرنانة اللي فيه محاولة إنها تكون محلاة أو جميلة أو.. أو حتى رومانسية أو كذا أصبحت لغة الطغاة، خذ برنامج أي واحد بده يعمل حزب، خد خطاب رئيس دولة، خد يعني أي وعود انتخابية، أي واحد مترشح لبرلمان، أي واحد بيروِّج لسلعة، هو الذي يصدح، وهو الذي يُنشد، وهو الذي يُجمِّل اللغة، وهو الذي يعني بيركب هيك على حصان وبيخيِّل في اللغة و.. و.. وأصبحت لغتهم خايفة من الإيجاز، خايفة من الاختصار، لاحظ الحاكم العربي المهزوم لما بيخطب بيحكي لك وبيعمل خطبة 3 ساعات وبيملي لك إياها من موقع الاقتدار ومن موقع اللى مش عارف أيش، و.. وبيقترض من المقدس لغته، وبيقترض من التراث لغته، وبيقترض من الأحلام الشائعة بين الناس لغتهم، ليقول إنه المسائل خربانة، بينما المنتصرين كما تعلم يعني الولايات المتحدة رؤسائها بيعمل خطبة من 4 أسطر، الحرب انتهت دخلنا الكويت، بوش الأب، التاني الحرب انتهت دخلنا بغداد، يعني هذا..

خالد الحروب [مقاطعاً]: يعني مريد هل.. هل أصبح هناك تبادل مواقع السياسي اختطف لغة الشاعر الرهيفة و.. والراقية، والسياسي تراجع وأصبح واقعياً في.. في لغته؟

مريد البرغوثي: آه نعم.. نعم.. نعم هذا، نعم خالد.. هذا أحد الآراء اللي أنا علمتني إياها الدنيا، اللغة سُرقت، فيه تلويث للغة، فيه اغتيال للغة، اللغة التي يحلم الشاعر أن تكون لغته والروائي إنها تكون لغته، اللي هي -على الأقل- يمكن يعني تجاور واقعية الدنيا ببعض ذهب الخيال و.. و يعني وألقه سرقت منه، أنا ما بأشوف يعني الشيء اللي.. اللي إله رنة وإله ألوان وإله تزويق إلا عند قاهرينا وساجنينا وقاتلينا واللي بيهزمونا في المعارك.

خالد الحروب: طيب نسأل.. نسأل أهداف حول هذه النقطة، أهداف.. سرقوا منا كل شيء، فهل نسمح لهم بأن يسرقوا اللغة أيضاً؟

أهداف سويف: والله يعني أنا أعتقد إنه يعني واحدة من الحاجات القاسية اللي إحنا بنمر بها دلوقتي هي مسألة سرقة اللغة، وحتى يعني لما تبص حضرتك للمفاهيم الكبيرة وللغة المتداولة كدا حالياً في الإعلام و.. و.. ومن الساسة يعني يكون يعني ok كلمة السلام مثلاً دي من زمان بوَّظوها، يعني أصبح صعب جداً إن الواحد يستعمل كلمة السلام من غير ما يبقى فيها درجة من الـ(irony) أو درجة من التهكم، أو درجة من ملاحظة النفس وهو بيستعملها يعني عملية السلام والسلام، ودلوقتي الحرية والديمقراطية، يعني مفاهيم كثير أصبحت يعني منتهكة، ومعانيها بتستعمل بمعاني مضادة وكذا، أنا يعني الحقيقة تصوري إنه بالنسبة للغة الأدب -ومريد أساساً شاعر طبعاً- يعني مفهوم إنه لغة الأدب يجب أن تكون لغة جميلة، بمعنى أن تكون جميلة المفردات، أو جميلة المشاعر، فدا يعني ما هواش ضروري أو يعني.. يعني إذا أنت عايش في حالة ليست جميلة، وبتوصف مشاعر ليست جميلة، فالقيمة الجمالية هنا هي في.. في اللفظ أو التركيب المناسب اللي ينقل للقارئ الشيء اللي أنت عاوز تنقله، في تكوين القصيدة، في.. في.. في التناسق الداخلي بتاع القصيدة، في.. يعني اللي أقصده إنه القصيدة ممكن تكون إنها غير شاعرية وغير جميلة اللغة، لكنها قصيدة جميلة و حيَّة ومعبرة عن الشيء اللي الشاعر عاوز يعبر عنه ويقدمه للناس وتبقى صادقة أكثر للأوضاع اللي إحنا فيها دلوقتي يعني.

"الإقامة في الوقت" وحياة المؤلف في المنفى

خالد الحروب: طب عنوان آخر مريد " الإقامة في الوقت" وبدأت في هذا العنوان يعني تصف.. يعني لماذا أُبعدت من مصر في.. في سنة من السنوات، وثم ذهبت إلى بودابست، وأقمت هناك منفصلاً عن عائلتك، أوجز لنا هذا الفصل من حياتك، كيف أقمت في الوقت بعيداً عن العائلة؟ ولماذا أُبعدت عن مصر آنذاك؟

مريد البرغوثي: لأ أنا بعيداً عن العائلة أقمت في مكان، بس مكان آخر، الإقامة في الوقت بأقصد فيها إنه أنا علاقتي بالأماكن انعطبت لفرط تكرر اضطراري لمغادرتها، صار عندي خشية أتشبث بأي مكان لأنه مش أنا صاحب القرار في البقاء فيه، يعني بتسكن في بيت مستأجر ييجي صاحب الملك بيقول لك تفضل، بتقيم في بلد تجي وتقول لك صار فيه قرارات متعلقة بالفلسطينيين اتفضل، بتعمل في بلد بدك ترخيص لإقامة مثلاً سمح لك بالعمل أو شغلة بيقول لك مش مسموح فتتفضل، يعني أنا أقمت في 30 بيت وكله اضطراري، لم أستطع تكوين مكتبة، لم أستطع تكوين يعني شكل للبيت اللي بأحب أعيش فيه، لأنه أي شكل سيُترك، النباتات ستُترك، اللوحات ستُترك، فخراب العلاقة بالمكان هي اللي خلتني أعيش إني أنا عايش في.. في أوقاتي يعني، بمعنى ولا مرة بأحب أسترد المكان، بأحب أسترد ما عشته فيه، وجوه، لحظات، ألوان معينة، مزاجات عشتها، لحظات من الرضا أو الأسى، يعني بأحب أتذكر أزمنتي، وعايش في تاريخ عمري يعني.. يعني بأتذكر لحظاتي في دير غسانة، لحظاتي في رام الله، لحظاتي في أوروبا، لحظاتي في القاهرة، لحظاتي في المطارات، لحظاتي في الاعتقال، لحظاتي.. اللحظات نفسها هي التي تشكل مفردات حياتي، أما الأماكن فحقيقة التشبث فيها شيء فادح، لأنك معركة خاسرة، يعني المنفي شو مشكلته يعني في.. في .. المنفي اللي باختياره يعني غادر مكان أصلي إلى أماكن مختارة، قد يشعر بالحنين، يشعر بإنه بيكفي تجربة يرجع، مادمت تمتلك قرار العودة فمساوئ المنفى بتقل كثيراً، المشكلة في حالة الفلسطيني وأنا أعتقد حالتي كتير كتير ألطف من حالة الأربع ملايين يعني اللي بيعيشوا أشكال أخرى فادحة من شقاء الحياة وصعوبتها وخرابها وتهدم الأحلام حتى بإنها تتحسن، إنه لا يملك إرادة أن يغير ما هو فيه، وبالتالي سميت أنا لما سألني مرة (إميل حبيبي) بيقول لي: يا ولد أنتَ كيف بتشوف الحنين وأنتَ يعني طول عمرك برَّه البلاد، قلت له: الحنين بالنسبة إلي شعور غير موجود، بأشعر إنه شيء رخو وهلامي وما يخطرش على بالي، أنا كل ما بأفكر في.. في ما خسرته من جغرافيا أو زمن أو مكاني أو بلدي أو وطني بأشعر بكسر الإرادة، فيه إرادتين هون: إرادة الغزاة اللي أخذوا فلسطين وحولوها إلى وطنهم، وإرادتي أنا التي مش عم تمشي.. مش عم تمشي حتى في اختيار المنفى، مش عم تمشي حتى في التكيف مع الراهن، فبالتالي هو الحنين بالنسبة إلي سميته كسر الإرادة، بأشعر بكسر الإرادة، وبالتالي أنا أشعر ما يسمونه حنيناً يتحول عندي إلى غضب، أكون زعلان من الدنيا، زعلان من الظروف وأكون يعني غضبان أكثر مني يعني مسبل عيني بأقول يا سلام لو يحصل كذا، عمري ما تمنيت هذا يعني تحقق ما هو ناجم عن التمني اللي الحياة بتكذبه يعني.

خالد الحروب: أي نعم، طيب أهداف، يعني يذكر مريد أنَّ هذا من معالم الإقامة في الوقت، هو التصاقه أو كذا بالوجوه والشخوص وليس بالمكان، بالأشياء، بالألوان، بالذكريات، في قراءتك وترجمتك للرواية، طبعاً هناك شخوص كثيرين جداً -للكتاب أقصد- يعني كيف رأيتِ هذه الشخوص في محيط.. في محيط الكاتب؟ هناك شخوص عديدة جداً ومُلفتة، وأحياناً المرء يتشوق للتعرف عليها يعني فعلاً يعني قد ما حصل معي هناك مُنيف الذي يوصي شقيقه الصغير بأن لا يستبدل الدولار الأميركي في مصر إلاَّ بـ.. بـ.. عن طريق البنك وليس في السوق السوداء، لأنه إذا تعود على هذه الأمور من الصِغر فمعناته سوف يكون.. تكون مآلاته سيئة، وهذا مُنيف العاقل عمره 22 سنة، هذا 22 سنة ويوصي مريد بهذه الوصية، كيف رأيت علاقة مريد بالشخوص؟ وما هو.. ما هي الشخصيات التي أسرتك؟ لفتت الانتباه؟

أهداف سويف: طبعاً العلاقة بالشخوص دافئة جداً وحنونة جداً، والشخص يعني.. يعني بيُرسَم بتحس إنك تعرفه، يعني مع إنه أنتَ بتتعرض لكل شخصية بشكل مختصر جداً، وزي ما.. ما حضرتك قلت دلوقتي يعني أنا شعوري كان إنه كتير من الشخصيات دي أحب أقرأ رواية بحالها عنه، يعني أحب أقرأ نص كامل عن كتير من الشخصيات، ويتحملوا إنه يكِّتب عنهم نص، يعني من الواضح إنه يتحملوا إنه يكِّتب عنهم، يمكن طبعاً الإخوات، طبعاً منيف، ويمكن الأم.. أم مريد يعني شخصية قوية جداً، حيَّة جداً، حبوبة جداً، ومش مرسومة برومانسية، مرسومة يعني بواقعية أو..، أو شخصية رضوى زوج.. زوجة مريد، وتميم، يعني هأقول إيه شخصيات كثيرة.

خالد الحروب: تميم الذي..

أهداف سويف: تميم ابن مريد..

خالد الحروب: الابن الذي ينادي أبوه عمو بابا في أحد عناوين الكتاب بأنه افترق عنه فترة كافية من الزمن فلم يعد يتحمل.

أهداف سويف: تميم اللي دلوقتي بيكتب شعر، يعني جميل ورائع بالعربية المصرية والفلسطينية، وهنا موجود كطفل وليد وطفل صغير في المجر..

موقع ناجي العلي في الكتاب وتأثيره على المؤلف

خالد الحروب: طيب مريد إحدى هذه الشخصيات التي تطل علينا تحت أكثر من عنوان وواضح درجة الالتصاق والحبلى هي شخصية ناجي العلي، تذكرها في أكثر من مكان، وتذكرها بـ.. بـ.. بقدر كبير من الحب والأسى، ثم أحد المشاهد المؤثرة جداً اللي هو مشهد زيارتك لقبر ناجي العلي، أين.. أين.. أين ناجي العلي في هذا الكتاب؟ وما الذي يمثله بالنسبة إليك؟

مريد البرغوثي: يعني لو تسألني أين ناجي العلي من أيامنا هذه التي نعيشها؟ لـ.. يعني لكانت الإجابة معلقة مع السؤال، يعني بِدَّكش.. بِدَّكش فعلاً أن أجيبك، ما كانش ممكن ناجي العلي يرى ما ألمَّ بنا لو ظل عايش، يعني كان طقَّ ومات، من.. من العشر سنوات الأخيرة أو الـ15 سنة منذ اغتياله ما كانش ممكن بشخصيته أن يرى هذا الذي نراه، وأنا كتبت إنه أول ما خسرنا ناجي قلت إنه.. إنه صرنا نبكي على شكل أيامنا القادمات، والقادمات قدمت، أجت يعني أنا لما قلت شكل أيامنا القادمات هذا الحكي كان في الـ87، جاءت الأيام القادمات، وانظر يعني مرة تانية لسه إمبارح بدهم يؤجلوا المستوطنات وتقرير المصير والعودة يعني شوف، وأعاد.. أعاد الغرب الاستعماري وإسرائيل تعريف فلسطين، فصارت أجزاء من الضفة وأجزاء من غزة فقط، وإحنا ماشيين على هذا التعريف الجديد، وناجي كان.. كان يعني من.. من الذين رأوا مبكراً أن النخبة الفلسطينية التي تقود الصراع لن تصل إلى تحرير البلاد، كان واضحاً، وناجي العلي شرفه الشخصي هو في شجاعة هذا الجسم النحيل الذي يرى الاغتيال قادماً منذ سنوات، ويمشي دون أن يغير إيقاع خطواته، يا حبيبي، يا صديقي اهدأ، هون شوي، خفف، ما فيه، فناجي أنا قلت إنه.. إنه أحد أشجع الأفراد الذين.. يعني هناك فيه شجاعات شعوب، فيه شجاعات يعني جماعية لبشر، بس كفرد بلا حزب، بلا سند، بلا ظهر زي ما بيقولوا، لم أرَ أشجع منه، في الكتاب..

خالد الحروب: تفضل..

مريد البرغوثي: ناجي أحد المصائر لفلسطيني بصفاته، الكتاب بياخد مُنيف البرغوثي، يتتبع مصير لفلسطيني من طراز شريف ووديع وحنون، وفي ملعب آخر ملعب إتقان عمله، حتى لو كان العمل في الاقتصاد، بيتتبع مصير غسان كنفاني، يتتبع مصير الشاب لؤي الفلسطيني اللي تزوج من سيدة مجرية وعاش في (كامبنج) شكله يعني تدبر أمره، وما فيه فايدة أيضاً يلاقي مصير صعب، هذه المصائر متجاورة، بتظل اليوم قابلة للتكرار، يعني أنظفنا، وأفضلنا، وأكثرنا حناناً، وأكثرنا لطفاً، وأكثرنا حباً، وأكثرنا كفاءةً عم يختفوا من.. من.. إن لم يختفوا بالموت فمش هم اللي بيقرروا في حياتنا هذه الأيام، ولا هم الذين ينطقون باسمنا.

الكتاب وتوصيف علاقة الفلسطيني بالهاتف

خالد الحروب: مريد باقي معنا الحقيقة دقيقتين أو ثلاثة، أسمع من أهداف -إذا سمحت- يوصف توصيف الكتاب توصيف أيضاً بديع حول علاقة الفلسطيني مع الهاتف، وكأنه الفلسطيني كائن تليفوني -بين قوسين-، كلما رنَّ رنَّ رنين جرس الهاتف هذا في أي مكان من العالم الفلسطيني يجفل، ربما مات صديق أو مات قريب أو ما الوالدة أو الوالد أو الأخ أو الشقيق ففيه علاقة مرتبكة جداً، متوترة لأنه الهاتف نفسه قد يحمل أخبار جيدة، أخبار.. أخبار سارة، من.. كيف رأيت هذه العلاقة الملتبسة؟

أهداف سويف: طبعاً هي بتقدم بشكل حي جداً في الكتاب، وهو من المفارقات الغريبة إنه لسه اليوم الصبح كنت بأتكلم مع يعني صديق كان بيكلمني على نفس هذه النقطة، إنه شاف علاقة مسألة التليفون والتعامل بالتليفون عند الفلسطينية، إنه كل.. كل شيء بييجي لهم بالتليفون ويبقوا في.. يعني هنا في.. في الكتاب في المشهد اللي في المجر ومريد موجود في.. في بودابست ومعاه زوجته وابنه والتليفون بيرن وبيكون خبر وفاة الأب، وليس في يد.. يده أي حاجة يعملها، يعني ما يقدرش يقوم بعمل أي حاجة، ما يقدرش حتى يروح يتقبل عزاء، ليس هناك أي.. أي شيء يُفعل، يعني نقل فعلاً الصورة دي إنه أينما تكون فرنين الهاتف يا ترى أيه الخبر اللي جايبه، يا ترى أنا حأقدر أتعامل مع الخبر ده أم لأ، هأتعامل معاه إزاي، يعني من.. من.. من الحاجات الملموسة جداً اللي بتنقل مشكلة الشخص الفلسطيني خارج الديار.

خالد الحروب: مريد، بنصف دقيقة آخر سطر في الكتاب تقول فيه: ما الذي يسلب الروح من ألوانها؟

مريد البرغوثي: ما الذي يسلب الروح ألوانها؟ ما الذي غير قصف الغزاة أصاب الجسد؟ إحنا لم نُبتلَ فقط بما فعله بنا الغزاة والمستعمرون وإسرائيل والولايات المتحدة، في أدائنا أيضاً وفي تعاملنا مع محنتنا، عندنا بطولات عظيمة، وعندنا خيارات صعبة يعني قمنا فيها بحلول باهرة، ولكن لنا أخطاءنا، وإن لم نتعامل مع هذه الأخطاء فأعتقد ستظل روحنا مسلوبة الألوان.

خالد الحروب: شكراً جزيلاً مريد، شكراً أهداف، وأعزائي المشاهدين شكراً لكم أيضاً على متابعتكم معنا جليس هذا اليوم الذي كان كتاب "رأيت رام الله" من تأليف (الشاعر والروائي الفلسطيني) مريد البرغوثي والذي أشكره على مشاركته معنا، وأشكر كذلك الأستاذة أهداف سويف (الكاتبة والروائية المصرية المقيمة في بريطانيا ومترجمة الكتاب إلى الإنجليزية)، وعلى أمل أن نجالسكم في الأسبوع المقبل مع جليس جديد، هذه تحية من فريق البرنامج، ومني خالد الحروب، ودمتم بألف خير.