صورة عامة
أرشيفهم وتاريخنا

ملف أحلام الوحدة والاتحاد ج4

يواصل البرنامج حديثه عن ملف الوحدة العربية. الجلاء ووحدة وادي النيل مطلبان لسعد زغلول، لكن الاستعمار يتقن عادة التفرقة ليسود.

– الثورة المهدية وبداية التغلغل البريطاني
– القضية المصرية السودانية المؤجلة
– مطالب الاستقلال ووحدة وادي النيل
– السودان في مهب المفاوضات


 حيدر إبراهيم
 حيدر إبراهيم
بيتر وودورد
بيتر وودورد
 سيد فليفل
 سيد فليفل
ماثيو هيوز
ماثيو هيوز
دينيس روس
دينيس روس

المعلق: من قلب وثائق الأرشيف الوطني البريطاني قرأنا تلك العبارة المغلفة بالأدب البريطاني الجم "من المرغوب فيه عند وصول الوجهاء المصريين إلى باريس أن يستقبل رئيس الوزراء والسيد بلفور بعضا منهم ليشرح لهم الأخير استحالة تلبية مطالبهم المتطرفة، ومن المرغوب فيه أيضا أن يلتقوا بوفود السلام التي أرسلتها قوى الحلفاء حتى تعيد أمامهم تأكيد حقيقة الحماية البريطانية على مصر.

ملف أحلام الوحدة والاتحاد

المعلق: الوجهاء المصريون المشار إليهم في الوثيقة السابقة هم سعد باشا زغلول ورفاقه، عبد العزيز فهمي، علي شعراوي وأحمد لطفي السيد، وكان المطلوب من بلفور ورئيس الوزراء البريطاني ديفد ليفد جورج أن يلتقيا بهم ويشرحا لهم استحالة تلبية مطالبهم المتطرفة، وكانت تلك المطالب تتلخص في أمرين، الجلاء ووحدة وادي النيل.

الجزء الرابع

وادي النيل.. التوق إلى الوحدة

الثورة المهدية وبداية التغلغل البريطاني

المعلق: تدعونا قضية الجلاء إلى العودة حتى عام 1882 عندما قامت إنجلترا باحتلال مصر وكان السودان حينئذ هو الجزء الجنوبي من وادي النيل ويقع تحت الإدارة المصرية منذ عهد محمد علي. يقول الباحث محمد عبد الحميد الحناوي إن إنجلترا ظلت تتحين الفرصة لمد نفوذها إلى قلب القارة الأفريقية للوصل ما بين مستعمراتها الجنوبية والبحر المتوسط في الشمال، قامت الثورة المهدية عام 1882 للقضاء على الحكم التركي في السودان ومصر على السواء وكانت تلك الثورة قد قلصت النفوذ المصري في السودان.

محمد علي حلة/ أستاذ التاريخ العربي الحديث – القاهرة: نظام الحكم المصري في السودان كان نظاما غير طيب، مستبد، غير مستنير بصراحة يعني، ضرائب، لم يتغلغل في المجتمع السوداني ويدرسه،لم يستقطب المجتمع تجاهه.

حيدر إبراهيم/ رئيس مركز الدراسات السودانية: هي ثورة ضد الظلم المتمثل في الضرائب وطريقة جمع الضرائب خلال النظام التركي الموجود في السودان ومحاولة لاستعادة كرامة الإنسان السوداني لأن الأساليب التي أدخلها الأتراك لجمع الضرائب كانت ضد الأخلاق وضد القيم الموجودة عند السودانيين.

بيتر وودورد/ أستاذ العلوم السياسية جامعة ريدينج: المهدي كان مصمما على إسقاط الإدارة التركية المصرية في السودان إلا أن هدفه النهائي كان أكبر، كان يحاول إحداث صحوة إسلامية على نطاق أوسع ولهذا كان يريد أن يبدأ من السودان لتمتد حركته من هناك إلى أرجاء العالم الإسلامي كافة.

سيد فليفل/ مؤرخ وباحث في تاريخ العلاقات المصرية السودانية: مثلما وقف عرابي مطالبا بحق المصريين وأيضا بإنهاء سيطرة الضباط الشراكسة على القوات المسلحة أو الجيش المصري فكذلك الثورة المهدية نبعت بالأساس من غضب من ممارسات الصفوة التركية.

محمد علي حلة: لم يكن أحد في مصر يفهم السودان، ما هو مطلوب من السودان؟


المعلق: أوعزت بريطانيا إلى خديوي مصر بمساعدته على استعادة ذلك النفوذ بحملة عسكرية قوامها الجند المصريون تحت قيادة القائد البريطاني هوراشيو هيربرت كتشينر عام 1898 وقد تصدت لها قوات المهدية في موقعة كيرلي الشهيرة التي أسفرت عن نهاية الدولة المهدية ومقتل 22 ألف شهيد من السودانيين ومثلهم من الجرحى وخمسة آلاف أسير في جانب القوات المهدية.

"
كان هدف بريطانيا إحكام السيطرة على مصر وبالتالي السيطرة على السودان
"
         بيتر وودورد

بيتر وودورد: تقدم كتشينر بقوات مصرية كان الهدف منه عمليا هو خلق ولأول مرة سيطرة بريطانية على السودان، تكون أسمية فقط بالنسبة لمصر ولكنها تؤدي إلى سيادة بريطانية مصرية مشتركة وبدون شك فإن الهدف كان إحكام السيطرة البريطانية على مصر وبالتالي السيطرة على السودان.

سيد فليفل: الخديوي فوجئ بقرار خروج المصريين من السودان في 1884 مثلما فوجئ بقرار دخول الجيش المصري إلى السودان.

حيدر إبراهيم: كان في تردد القرارات نفسها، هل يمشوا لأبعد حد أم يتفقوا أن يشوفوا لهم حاكم جديد للسودان، ففكروا في زبير باشا، كان موجود هنا في مصر في حلوان، أن يكون كبديل للمهدي ولذلك السياسة المصرية البريطانية كانت مرتبكة مما أعطى المهدية فرصة للانتصار على أي شكل من أشكال القرارات المصرية البريطانية.


المعلق: هكذا منحت بريطانيا لنفسها أحقية في حكم السودان حكما مشتركا مع مصر قننته باتفاقية التاسع عشر من يناير عام 1899المعدلة بعض بنودها في العاشر من يوليو من العام نفسه، بموجب هذه الاتفاقية أصبح السودان يحكم عن طريق حاكم عام يتم تعيينه بمرسوم ملكي مصري ومرشح من الحكومة البريطانية ولأن هذا الحاكم كان إنجليزيا على الدوام تمكنت بريطانيا من توطيد نفوذها في السودان على حساب الجانب المصري.

حيدر إبراهيم: هذه التسمية، تسمية الحكم الثنائي البريطاني المصري تبرز شكلا شاذا جدا في الحكم، أن واحد من الشريكين هو نفسه مستعمَر.

بيتر وودورد: قالوا إنه سيكون هناك دور واضح لمصر لكنها في الواقع حرمت من أي دور وهو ما كان محبطا للمصريين أما السودانيون فلم يتبينوا من سيحكمهم، المصريون والأتراك أم البريطانيون.

سيد فليفل: بريطانيا أرادت أن تسكت القوى الأوروبية المتعددة وأن لا تبدو مفتئتة أمام المجتمع الدولي على الحقوق المصرية فجعلت مصر شريكا، فرفع العلم لهذا الغرض ولغرض آخر أسرّه المعتمد البريطاني اللورد كرومر في نفسه وهو تحميل الخزانة المصرية كل تبعات العمل الاستعماري البريطاني في السودان.

محمد علي حلة: الحاكم العام له صلاحيات كبيرة قانونية وتشريعية ودستورية ومالية واقتصادية، يتحكم بكل صغيرة وكبيرة.


المعلق: ومنذ أوائل القرن العشرين تأكد للحركة الوطنية المصرية أن لا مفاوضات مع بريطانيا إلا بعد الجلاء التام عن البلاد، وتبنى الزعيم مصطفى كامل هذه الدعوة بل إن الحزب الوطني الذي أسسه كان يطلق عليه حزب الجلاء الذي استمر في دعوته حتى انتهاء أحداث الحرب العالمية الأولى.

سيد فليفل: مصطفى كامل كان مؤمنا بفكرة الجامعة الإسلامية وبالتالي هو يرى أن مصر يعني كولاية من ولايات الدولة العثمانية يجب أن تكون القوات البريطانية خارج هذه الولاية، ويعني جمع في نوع من المواءمة السياسية بين الوطنية المصرية والمواطنة العثمانية.


المعلق: هذه المطالب التي تبناها الوفد المصري إلى مؤتمر صلح باريس برئاسة سعد زغلول هي المطالب التي وصفها الجنرال اللينبي بأنها متطرفة، أما أعضاء الوفد أو الوجهاء المصريون حسب تعبيره فقد قال عنهم في الوثيقة نفسها "لا يمكن وصف هؤلاء الوجهاء المصريين بالدقة بأنهم وطنيون حيث إن مطالبهم تقل عن مطالب الحزب الوطني الحقيقي الذي يطلب جلاء البريطانيين التام عن مصر والسودان، كما أوضح، أعتقد أنه من الضروري أن يسمح لهم بالحديث".

بيتر وودورد: أعتقد أنني قادر على الفهم بشكل عام لماذا اعتبر اللينبي المطالب بأنها متطرفة واعتقد أنها متطرفة من ناحيتين، لأن بريطانيا أولا كانت غير قادرة على الانسحاب من مصر لأنها لم تقرر بعد ما يجب أن تفعله بالنسبة للوصاية، بالتأكيد أيضا لا تريد بريطانيا أن تكون هناك سيطرة مصرية فعالة في السودان ومن هنا يمكن أن نفهم موقف اللينبي.

ماثيو هيوز/ أستاذ في السياسة البريطانية-لندن: اللينبي عمل في البداية كمتحدث باسم المندوب السامي في القاهرة قبل أن يصبح في خريف عام 1919مندوبا ساميا بكامل الصلاحيات حتى عام 1925 وفترته في مصر لم تكن مرضية بسبب تعامله مع الوطنيين المصريين إذ كان يفاوضهم أحيانا وأحيانا أخرى كان يقوم بنفيهم إلى مالطا.

محمد علي حلة: سعد زغلول يدخل إلى باريس وهو يحمل توكيلات من معظم أفراد الشعب المصري ويتكلم بصراحة وبقوة ويطالب بالاستقلال ورحيل كل الجنود البريطانيين من مصر والسودان وله كلمة مشهورة "تقطع يدي ولا تقطع السودان عن مصر".


المعلق: لكن اللورد كريزول الذي كان قد عين وزيرا للخارجية عام 1919 كان له في وفد سعد زغلول ومطالبه رأي آخر أوضحه في برقية بعث بها إلى بلفور وزير الدول للشؤون الخارجية والكومنولث الموجود في مؤتمر الصلح في باريس حيث ينصحه قائلا "بخلاف الخطر الداهم الذي يبدو جليا بما يكفي فمن المرجح أن نصل في مصر إلى وضع لا نملك فيه سوى اختيار الوزراء من صفوف حزب زغلول مما يجعل إدارة البلاد على نحو مرض مهمة شبه مستحيلة، إنني مقتنع بأن تلك المخاطر لا يمكن تجنبها إلا بتبني سياسة حازمة وصارمة، في المقام الأول لا يلزم فقط أن نمنع حصول زغلول وحزبه في باريس على أي تشجيع من أي جهة مسؤولة بل يجب أن نعمل على نبذه العلني وأنا واثق من أن استقبالكم لزغلول سيهتدي بهذا الاعتبار لكننا سنرحب بالأخص بأن يتلقى صدا حاسما من حلفائنا خاصة الوفد الأميركي وأرجو أن يتسنى لك ترتيب هذا".

دينيس روس/ المبعوث الخاص السابق للشرق الأوسط-واشنطن: كنا نحاول القول إننا لسنا كالقوى الاستعمارية الأخرى فها هي القوى الاستعمارية وأنتم ترون من هم ونحن غيرهم، نحن اعترفنا بالقومية هنا ونريد أن نعرف بذلك ونحن لدينا حركتنا الخاصة للاستقلال من الاستعمار، نحن يمكننا تفهم مشاعركم.


المعلق: كان اعتقال الزعيم سعد زغلول ورفاقه ومن ثم نفيهم إلى جزيرة مالطة هو المحرك لما عرف في التاريخ الحديث بثورة عام 1919، وترصد الوثائق البريطانية صدى هذه الحركة وأثرها في السودان كما جاء في الوثيقة التي تقول "لقد بذل بعض الجهد في تحسس نبض أهالي السودان من حيث إمكانية طلب اشتراكهم في المناداة بانسحاب الإنجليز من مصر والسودان معا على  أساس ديني، لكن قادة الفكر المصري في السودان حذروا من هذا الإجراء بدعوى أن وجهاء السودان وخاصة الشخصيات الدينية ليسوا أهلا للثقة وقد اشتراهم الإنجليز بالمال. كان من رأي هؤلاء الأشخاص أن الجيل السوداني الجديد الذي بدأ يدرس أساليب الحكم البريطاني وسوء نيته المضمرة تجاه الإسلام يمكن أن ينضج بما يؤهله لتلك المطالب في خلال تسعة أو عشرة أعوام، أعقبت هذا أنباء المظاهرات والفوضى في أرجاء مصر مما أحدث في السودانيين أثرا يختلف عن أثره في العناصر المصرية، لقد بقي الأوائل دون اكتراث حيث شعروا بأن الأمر لا يزيد عن ثأر شخصي بين المصريين والبريطانيين ناتج عن تشكيلة من الأسباب المحلية التي لا تستهويهم، وكان أكثر ما أثار اهتمامهم هو فكرة قدرة المصريين الذين ينظرون إليهم باحتقار على محاربة الإنجليز فقد شاقهم أن يتجرؤوا على هذا. إن لا مبالاة أهالي السودان تعود أساسا إلى انعدم ثقتهم المتأصل في أي شيء مصري بسبب عداوتهم القديمة قبل ثورة المهدي وأيضا إلى العلاقات غير الودية التي سادت منذ الاحتلال بسبب فساد المسؤولين المصريين وظلمهم أيا وأينما كانوا مقارنة بمعاملة البريطانيين المنصفة".

سيد فليفل: هذا دجل استعماري يعني ليس له أساس إطلاقا لكنه نابع من الإجراءات التي كانت تمارسها بريطانيا بحنكة فيما يتعلق بالقيادات المصرية في السودان فكانت القاعدة أن يكون لكل قسم شرطة مأمور بريطاني ونائبه مصري، يكلف المأمور البريطاني النائب المصري بالإجراءات غير المحبوبة للمواطنين ويأتي بعد ذلك لكي يعتذر للمواطنين ويقوم بإلغائه.

القضية المصرية السودانية المؤجلة

المعلق: تواصل الوثيقة البريطانية عرض وجهة النظر البريطانية فيما يحدث بين القطرين "أما المصريون فقد استخف بهم الطرب عند تلقي الأنباء المصرية ورفعت الأنخاب في صحة المتظاهرين إلا أن الأنباء قد أخذتهم فيما يبدو على غرة حيث كانت معلوماتهم السابقة تفيد بالاتفاق على قيام المظاهرات فقط في حالة فشل الوفود المصرية في الخروج بصوت مسموع في مؤتمر السلام أو فشلها في التوجه إليه أصلا وقيامها بعد انسحاب الحامية البريطانية الكبيرة من مصر وفي غياب المسؤولين البريطانيين في إجازاتهم في يوليو أو بعده على الأرجح، لكن يبدو أن استماتة الباشوات الأربعة عجلت بالأمر، إن المصريين الأكبر سنا من ضباط وموظفين وتجار رغم رضاهم عن مسار الأحداث في مصر ينتظرون التطورات ولا يريدون التصرف قبل وصول أخبار مؤكدة من مصر أما العناصر الأصغر سنا وأكثر حماسا فيؤيدون القيام بشيء ما ولو لمجرد إبداء التضامن مع أخوتهم في مصر والموافقة على مطالبهم السياسية".

حيدر إبراهيم: ثورة 1919 كان لها تأثير قوي جدا في السودان، يعني ثورة 1924 التي قامت في السودان متأثرة تأثرا واضحا جدا بما حصل في ثورة 1919 وكانوا بيعتبروا ما حصل في ثورة 1919 وكل ما دار في مصر، سعد زغلول، الوفد غيره، الأشياء الموجودة دي كلها، كانت بتعتبر وكأنها امتداد لما هو موجود في السودان.


المعلق: في ختام الوثيقة البريطانية تقرر "أن ما زاد خوف الجميع مدنيين وعسكريين هو تشككهم العميق في موقف أهالي السودان بصفة عامة والفرق السودانية بالأخص ومن الشائق أن نرى قلقهم معكوسا في خطاب غفل من الاسم موجه إلى السير سيد علي المرغني يطلب منه رفع علم التمرد في السودان لكنه يرجوه أن يحذر أتباعه أن لا يؤذي المصريين أخوتهم في الديانة والمعاناة. هناك خطاب آخر مجهول المصدر يناشد السيد عبد الرحمن بن المهدي أن يثور على السطات البريطانية، لقد قام الزعيمان على الفور بتسليم الخطابين للسلطات البريطانية وعاملا الأمر باستخفاف".

حيدر إبراهيم: ما كانوا بيمثلوا شيء سياسي، كان بيمثلوا زعامات دينية لها شكل من أشكال النفوذ.

بيتر وودورد: آنذاك لم تكن هناك مجموعة سودانية يمكن الاعتماد عليها من وجهة النظر المصرية، كما أنه كان من الصعب على المصريين أنفسهم التوجه إلى باريس من أجل محادثات السلام، فما بالك بفرصة لدعم القضية السودانية هناك.

سيد فليفل: طبعا كانت هناك كتابات كثيرة من هذه الكتابات مجهولة الاسم كانت ترسل من مصريين وسودانيين إلى السيدين لدعوتهما إلى الثورة. أما وقد حمل لقب السير البريطاني فالنتيجة هي أنهما أسلما نفسيهما إلى السلطة البريطانية وكانوا مع الشريف المهدي يعني ينسقون مع السلطة البريطانية لمنع قيام ثورة عامة وللمحافظة على الوضع الراهن وبالذات أنه كانت توجد لديهما أسئلة، ماذا سيكون الوضع لو أن البريطانيون خرجوا؟ وكيف ستكون مصالحهما في المستقبل في ظل حكم مصري منفرد؟

محمد علي حلة: السيد علي المرغني ده زعيم الختمية وزعيم ما عرف فيما بعد بالأحزاب الاتحادية، ده توجهه مصري، عبد الرحمن المهدي توجهه بريطاني والدليل على ذلك أنه حضر احتفال ملك بريطانيا بتتويجه بإعادة.. يعني العيد السنوي لتتويجه يعني، وخرج من كده.. أهداه سيف جده، لأن هو يبقى حفيد محمد أحمد المهدي الذي قام بالثورة المهدية في عام 1982، فقال له الملك البريطاني خذ هذا ودعه معك لكي تحارب به أعداء بريطانيا في المنطقة وطبعا بيقصد به المصريين.


المعلق: في كتابها "باريس عام 1919، ستة أشهر غيرت العالم" تقول الكاتبة البريطانية مارغريت ماكملان "إن صناع السلام في هذا المؤتمر كانوا يمثلون دولهم التي كانت دول ديمقراطية لذا كان عليهم أن يأخذوا بعين الاعتبار مزاج الرأي العام في بلدانهم وانعكاس قراراتهم على الانتخابات القادمة، لذا فلم يكونوا محايدين أو موضوعيين تماما في قراراتهم وتسوياتهم. إنجازات باريس لم تكن كاملة فقد بقيت الكثير من الملفات مفتوحة ومؤجلة". كان الملف المصري من بين الملفات المؤجلة وهكذا بدأت مباحثات سعد زغلول مع اللورد ألفرد ميلنر وزير المستعمرات البريطاني والتي جرت أوائل عام 1920 في القاهرة وانتهت ليتأكد أمر واحد وهو التأجيل.

ماثيو هيوز: بدءا من عام 1919 دخلت بريطانيا في مجابهة مع الوطنيين المصريين، مشكلتها كانت محاولة السيطرة على مصر بسبب قناة السويس ولهذا كان يصعب عليها إيجاد صيغة تجمع بين مصالحها والمطالبة الوطنية بالاستقلال وكان أقصى ما يمكنها منحه هو نوع من الاستقلال المحدود جدا.


المعلق: هكذا وفي السابع عشر من فبراير عام 1920 بعث ميلنر قبل أن يغادر القاهرة برسالة مطولة إلى وزير الخارجية في لندن تكشف تفاصيل ما جاء فيها حول مباحثاته مع سعد عن أسباب تأجيل القضية المصرية السودانية حيث يصف زغلول ورفاقه بالتشدد ويراهن على الانتظار حتى مجيء زعيم جديد يمكن أن يلاقي بمطالبه الخطط البريطانية في منتصف الطريق ومن ثم يراهن على إمكانية قمع أية ثورة قد تنشأ من جراء هذا التسويف.

محمد علي حلة: سعد زغلول في مباحثاته مع ميلنر في باريس لم يوافق على أي صورة من صور المفاوضات إلا عندما يكون عنوانها خروج الحامية البريطانية واستقلال مصر والسودان.

بيتر وودورد: الوفد المصري لم يكن وفدا مفاوضا، كان ممثلا فقط لأنه لم يحصل على الصفة التفاوضية وهذا على ما أعتقد كان إلى حد كبير بسبب قرار الولايات المتحدة الأميركية الاعتراف بالوصاية البريطانية على مصر، وبعد أن تأكدت بريطانيا من دعم أميركا لوصايتها على مصر فقدت مصر ورقة تفاوضية كبيرة.


المعلق: بالفعل غادر ميلنر القاهرة دون أن تسفر مباحثاته مع سعد عام 1920 عن شيء ولم تكن مفاوضات عدلي يكن عام 1921 رئيس الحكومة المصرية وقتها مع اللورد كريزول أفضل حالا، إذ يذكر الدكتور الحناوي في دراسته أن موقفه لم يختلف عن موقف سعد باشا وأبدى تحفظا على لفظ أن السودان ملك مشترك بين مصر وبريطانيا قائلا إن السودان أرض مصر وحق مصر في السيادة عليه لا نزاع فيه. وظلت قضية الجلاء ووحدة وادي النيل دون التوصل إلى حل أو اتفاق بين مصر وبريطانيا، ظلت بريطانيا متمسكة بموقفها الذي يرى أن المطالب المصرية متطرفة ويستحيل تلبيتها وظلت الحكومات المصرية المتعاقبة على موقفها أيضا سواء كانت حكومات أغلبية شعبية أو حكومات أحزاب أقلية إلى أن أصبح العالم على أعتاب حرب عالمية ثانية.

ماثيو هيوز: في الحرب العالمية الثانية وبسبب أهمية مصر وموقعها بالنسبة للجهود الحربية أجبرت بريطانيا مصر على العمل وفقا لمصالحها خلال الحرب.

سيد فليفل: الحكومة البريطانية كانت بصدد وضع مأزوم في أوروبا واحتاطت لنفسها بعقد مجموعة أو سلسلة من المعاهدات مع كثير من الدول والأقاليم التي كانت تخشى أن تصل إليها ألمانيا وأن تؤثر عليها أثناء الحرب العالمية الثانية التي حدثت بعد ذلك، وتوقعاتها كانت بمحلها يعني معاهدة 1936 مع مصر ليست المعاهدة الوحيدة التي وقعتها بريطانيا هناك معاهدة أيضا مع العراق في نفس السنة وهناك معاهدة مع جنوب أفريقيا في نفس السنة.

[فاصل إعلاني]

مطالب الاستقلال ووحدة وادي النيل

المعلق: ظلت مصر كعادة سائر العرب تساند بريطانيا والحلفاء ضد قوات المحور طيلة سنوات القتال، وبنهاية الحرب تلهف الساسة المصريون على أخذ المكافأة وعادت المناداة بالاستقلال ووحدة وادي النيل تطل برأسها من جديد. في العاشر من ديسمبر من عام 1945 بعث آرنست بيفن وزير الشؤون الخارجية والكومنولث البريطاني بالبرقية التالي إلى ميلز لامبسون المفوض العام وسفير بريطانيا في القاهرة قائلا "زارني السفير المصري في مقر الخارجية اليوم العاشر من ديسمبر عقب عودته من مصر ونقل لي أطيب تمنيات ملك مصر ورئيس الوزراء وأبلغني بانتهاء الأزمة السياسية في مصر ثم تساءل جنابه عن إمكانية قيام حكومة جلالته بلفتة تجاه مراجعة المعاهدة فأجبت بأني لا أرغب بالإجابة عن هذا السؤال إلا بعد عودتي من موسكو وأرجو في تلك الأثناء أن يظل الإلحاح على هذا الأمر في أضيق الحدود".

"
البريطانيون حاولوا التخلص من الحركة القومية المصرية بالتلاعب عليها ومنحها نوعا من الحكم الذاتي أو الاستقلال المنقوص، وذلك لأن بريطانيا لم يكن لديها نية لترك مصر تفلت من سيطرتها
"
         ماثيو هيوز

ماثيو هيوز: حاول البريطانيون التخلص من الحركة القومية المصرية بالتلاعب عليها ومنحها نوعا من الحكم الذاتي أو الاستقلال المنقوص إذ لم يكن لدى بريطانيا أية نية لترك مصر وشأنها لتفلت من سيطرتها.


المعلق: كان تعديل معاهدة عام 1936 وخاصة البنود المتعلقة بإدارة السودان طبقا لاتفاقية عام 1899 هو هدف المساعي المصرية في تلك المرحلة، وكانت مصر قد تقدمت في ديسمبر من عام 1945 برسالة إلى الحكومة البريطانية حددت فيها مطالبها قائلة "كانت المعاهدة حلقة في سلسلة إجراءات دولية تستهدف منع الحرب من النشوب وصد العدوان لو نشبت، قبلت مصر المعاهدة بقيودها على استقلالها علما منها بطبيعتها المؤقتة وترقبا لاختفاء تلك القيود بزوال أسبابها، لقد اختفت مع الحرب أهداف المعاهدة الرئيسة ومهد الطريق لنظام جديد انتصار الحلفاء والاتفاقيات المعقودة بعده لضمان السلم، تغير الوضع الدولي جذريا وزالت مبررات الكثير من أحكام المعاهدة لذا لزم الآن مراجعة المعاهدة لتلائم الوضع الدولي فلم تعد شروطها التي تحد من كرامة واستقلال مصر تناسب الظروف الحالية".

بيتر وودورد: أعتقد أن مصر كانت جادة في ذلك مع نهاية الحرب لكن الطريقة التي قدمت به خطتها ربما أظهرت أنها لم تكن كذلك، في تلك المرحلة كانت مصر ترغب في إيضاح أنها قادرة على الحديث باسم السودان لكن الأهم من ذلك بالنسبة لها كان هو وضع أسس علاقتها مع بريطانيا مباشرة.

سيد فليفل: تشرشل عبر عن الموقف فيما تعلق بأماني الشعب المصري وقال جملة شهيرة إن بريطانيا العظمى كانت تحب أن تفي للمصريين بما تعهدت به طبقا للمعاهدة بمنحهم يعني الجلاء، لكن الظروف الدولية تغيرت فهناك الآن اتحاد سوفياتي وقوة شيوعية كبيرة وبريطانيا تخشى على المنطقة من التسلل السوفياتي. بطبيعة الحال هذا وهم كبير لأنه أين يوجد الاتحاد السوفياتي وأين توجد منطقة الشرق الأوسط.


المعلق: الموقف البريطاني الرسمي من المطالب المصرية الجديدة القديمة جاء في مذكرة رفعها آرنست بيفن وزير الدولة للشؤون الخارجية إلى مجلس الوزراء وأرفق بها رسالة جوابية مقترحة للرد على الرسالة المصرية، قائلا "إن أهم مواد المعاهدة بالنسبة إلينا وهي مواد التحالف وتوفير التسهيلات لقواتنا في زمن الحرب تتجدد تلقائيا مع أية مراجعة وسوف نصر على تجديدها طبعا، تتعلق بقية المواد بالتسهيلات العسكرية في زمن السلم والسودان ومسائل سياسية عمومية أخرى، أرى أن تكون المعاهدة الجديدة ثنائية وأن تصاغ بحيث تندمج في نظام إقليمي للدفاع عن الشرق الأوسط ككل، أرى أيضا أن تنص على بقاء قوات برية وجوية بريطانية في مصر في زمن السلم لتوفير العون السريع الفعال. أما عن السودان الذي يشكل صعوبة كبرى فقد رفضت حكومة جلالته دائما التخلي عن مسؤولياتها تجاه الشعب السوداني والذي ظهرت لديه بالفعل ميول قومية، من المستحيل أن تقبل حكومة جلالتها الطلب الذي سيقدم إليها ألا وهو الاعتراف بسيادة مصر وحدها على السودان وعليها أن تتمسك بموقف مفاده أن مستقبل السودان ليس بيد هذا البلد ولا بيد مصر بل بيد السودانيين".

بيتر وودورد: كانت المقولة المستخدمة آنذاك أن السودان للسودانيين وطبعا هذا لم تقبله مصر التي اعتبرت السودان إقليما مصريا كما كان الحال في القرن التاسع عشر لهذا فإن اعتبار السودان قطرا مستقلا لن يكون مقبولا بالنسبة لمصر وظل هذا الموضوع نقطة خلاف رئيسية بين البلدين وحاول بيفن التلاعب على ذلك.

محمد علي حلة: نجحت بريطانيا نجاحا كبير في خلق العداء والفصل بين الحكومة المصرية وبين الشعب السوداني، نجحت في ذلك بلا جدال، استطاعت أن تربي مجموعة من المثقفين السودانيين أبعدتهم عن التيار الوطني المصري وعن التعليم المصري وأخذتهم إلى بيروت ولندن.

حيدر إبراهيم: الإنجليز أيضا في سياسة فرق تسد، كان من صالحهم أن تظهر طبقات جديدة يوازنون بها مع الطرق الصوفية مع ما نسميه بالقوى التقليدية.

السودان في مهب المفاوضات

المعلق: بعد أسبوع واحد من اطلاع مجلس الوزراء البريطاني على مذكرة وزير الدولة للشؤون الخارجية تلقى السفير البريطاني في القاهرة برقية شديدة السرية من الخارجية البريطانية "تدرك حكومة جلالته أن الحكومة المصرية وهي تناقش مستقبل السودان إنما تستند إلى مصالح وتطلعات السودانيين وموقف حكومة جلالته لا يختلف عن هذا ولا حاجة في هذا الصدد لغير الإشارة إلى ميثاق الأمم المتحدة الذي يعرف نظام الوصاية المشابه للإدارة الحالية في السودان من بعض الجوانب بأنه يستهدف الترقية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية للسكان وتنميتهم المضطردة في اتجاه الحكم الذاتي أو الاستقلال بما يتفق مع رغبة الشعوب المعنية كما تعبر عنها بملء إرادتها الحرة".

بيتر وودورد: كان يريد الأفضل من كل شيء كان يرغب في أن يحصل السودانيون على حقوقهم وأن تثبت بريطانيا مكانتها في مصر وأن تبقي على علاقات حسنة معها، المشكلة أن من الصعب تحقيق هذه الأشياء مجتمعة.

سيد فليفل: في الحقيقة لا توجد هذه الدرجة من التعاطف، المسألة باختصار أن بريطانيا تستبقي السودان لكي تعطل الجلاء عن قناة السويس، ليس إلا.


المعلق: تواصل الوثيقة البريطانية عرض الموقف ولكن من الإدارة في السودان هذه المرة لتقول "كما تعلم الحكومة المصرية فإن الحاكم العام في الاجتماع الأخير يوم الثامن من نوفمبر للمجلس الاستشاري لشمالي السودان أعلن أنه إذا أثيرت مسألة الوضع المستقبلي للسودان من قبل القوتين الحاكمتين في أي تعديل للمعاهدة المصرية البريطانية فإن حكومة السودان تنوي استشارة المجلس الاستشاري إلى شمالي السودان بحيث تكون آراؤه تحت تصرف حكومة السودان فتنقلها للقوى الدولية ومن وراء حكومة السودان أن يتم أخذ رأي الشعب السوداني من خلال القنوات الدستورية في مسألة بتلك الأهمية الحيوية لمستقبله، وعلى هذا فإن حكومة جلالته ترى أن أية مناقشة لمستقبل المادة الحادية عشرة من معاهدة 1936 ينبغي أن تؤجل إلى ما بعد استشارة الشعب السوداني والتعرف على رغباتهم، أما الإجراء الأنسب لإتمام تلك الاستشارة فهو قيد الدراسة من قبل الحاكم العام المستعد للتناقش فيه مع الحكومة المصرية إذا لزم، إلا أن حكومة جلالته تريد التشديد مرة أخرى على أن حقائق الموقف والاعتقاد الدولي الحديث تجعل من أية مناقشة مسبقة لمسألة السيادة على السودان بكل تعقيدها، تجعلها في رأيها شأنا أكاديميا".

حيدر إبراهيم: ما في أي ارتكاز قانوني أو دستوري اليوم هو موضوع للخيار السياسي، يعني مصر ما كان عندها أي نوع من الشرعية للمطالبة بأن السودان يكون جزء منها.

محمد علي حلة: طبعا دي مادة فيها غموض بالنسبة للموقف البريطاني من مصر، مصر عضو في الأمم المتحدة، لما منقول مصر عضو في الأمم المتحدة معناها السودان بطبيعة الحال عضو مع مصر، هي عاوزة تُفهم، بقول جماعات وفرداء معناه أنت لو اعتدت مصر كدولة عضو في الأمم المتحدة على جماعة من الجماعات وطبعا هي تقصد السودانيين إذا لا بد أن تدافع هذه الجماعة عن نفسها، شوف الخبث البريطاني.


المعلق: طالت المفاوضات، وفي السابع من يوليو من العام نفسه تلقت الخارجية البريطانية برقية من سفارتها في القاهرة تتضمن تقييما أسبوعيا عن المفاوضات الجارية المتعثرة لتذكر "سرت شائعة عن استقالة الحكومة بسبب تصريح أدلى به صدقي باشا في مجلس الشيوخ عن المفاوضات مما أغضب الجميع من أعضاء وفد المفاوضات إلى حزب الوفد إلى الحكومة، أصدر مجلس الشيوخ تقريرا عن تصريح صدقي يؤيد فيه موقف وفد التفاوض ويشاع أن السبب هو إطلاع صدقي لمجلس الشيوخ في جلسة سرية على مسودة المعاهدة بصياغتيها البريطانية والمصرية وقد امتنع الأعضاء الوفديون عن التصويت. كتب رئيس الوزراء المصري إلى الحاكم العام للسودان يعترض على اقتراح تشكيل مجلس تشريعي دون استشارة الحكومة المصرية".

سيد فليفل: الحاكم العام البريطاني هو مسؤول مفترض أنه يعبر عن سلطة الحكم الثنائي لكنه في الحقيقة لم يكن يمثل إلا السلطة البريطانية وكان الحاكم العام مسؤولا مسؤولية مباشرة على تصعيد تيارات سياسية في السودان ووضعها في بوتقة المعاداة لمصر ولوحدة وادي النيل وتأكيد الانفصال.

بيتر وودورد: كان لديهم مجلس استشاري في عام 1942 وكانوا سيحصلون أيضا على مجلس تشريعي في عام 1948 ولكن بشروط بريطانية ولهذا فقد قرر جزء كبير من القيادات السياسية السودانية عدم التعاون مع بريطانيا وفضلوا التعامل مع مصر وهم من أطلق عليهم اسم الاتحاديون.

حيدر إبراهيم: يعتبر أن هذا شكل من أشكال السياسة البريطانية لتنصيب السيد عبد الرحمن المهدي كملك قادم للسودان وبالتالي فصله عن مصر تماما.


المعلق: في تقييمه للأوضاع في القاهرة خلال الأسبوع الأول من سبتمبر من عام 1947 بعث سير آركامبل إلى وزير خارجيته آرنست بيفن يخبره بأمر مباحثات سرية دارت بين السراي الملكي في القاهرة وصدقي باشا بهدف دعم موقف الأخير في الموقف المصري للمفاوضات الذي يعترض أكثر أعضائه على وجود صدقي باشا فيه. تقول الوثيقة "في اجتماع للوفد يوم الرابع من سبتمبر قدم صدقي باشا مذكرة تتضمن حجج تفصيلية تؤيد أطروحة السيادة المصرية على السودان وكان قد أرسل تلك المذكرة سرا من قبل إلى السفير البريطاني دون إشارة إلى نية تقديمها للوفد، إن تأثير اتصال كهذا على الوفد لا يمكن إلا أن يزيد صعوبة التنازل في هذه القضية".

بيتر وودورد: بالتأكيد شعر المصريون أن البريطانيين كانوا يحاولون تقليص نفوذهم في السودان وبالتحديد منذ عام 1924 وبالرغم مما يمكنهم تقديمه للسودان في حقل التعليم والتقدم الاجتماعي إلا أنهم حجبوا عن ذلك، أما الموقف البريطاني فكان على عكس ذلك إذ كانت بريطانيا قادرة على تقديم الدعم في الحقل التعليمي والاجتماعي والتطور بشكل عام وإلى حد ما مساعدة السودانيين في الوصول إلى قرار حول رغبتهم في الاستقلال أو الوحدة مع مصر.

حيدر إبراهيم: لما الشعب يكون مستعمر تقول له أنا عايز أديك الاستقلال، ده شعار براق ممكن الناس يثير فيهم الحمية الوطنية والقومية وكذا، لكن لما تقول لهم، الأحزاب الثانية كانت تطالب بالوحدة، لما تقول لهم والله نحن عايزين نقرر مصيركم بحيث أنكم تتحدوا مع مصر تحت التاج المصري، فهنا أنقصت من الاستقلال.


المعلق: كان اسماعيل صدقي يتعجل توقيع اتفاق بأي صورة قبل بدء العام الدراسي وتخوفا من خروج الطلبة في مظاهرات متوقعة لهذا عاود الاتصال بنائب السفير البريطاني في القاهرة مقترحا أن يسافر إلى لندن لاستئناف المفاوضات على أساس وحدة ولو صورية رمزية بين مصر والسودان تحت تاج واحد، وقد رحبت بريطانيا باسئناف المفاوضات فسافر صدقي إلى لندن يوم السابع عشر من أكتوبر من عام 1946 ومعه وزير خارجيته إبراهيم عبد الهادي، وبعد وصوله بيوم واحد بدأت الاجتماعات، حيث ترصد وثائق الخارجية البريطانية وقائع تلك الاجتماعات وما تم التوقيع عليه على النحو التالي "ذكر صدقي قول بيفن أن مصر لم تفكر في مسألة السودان بما يكفي لكن الحقيقة على خلاف ذلك فقد ضحت مصر من أجل السودان طيلة سنوات لا تقدر بالمئات بل بالآلاف، إن مصر كما قال هيرودوت هي هبة النيل ولا توجد بغيره لذا يستحيل عليها أن تنسى السودان وهو يعرف أن السودان لا يمثل كل وادي النيل لكن تلك العبارة صارت شعارا، لقد كانت لمصر دائما روابط مع وادي النيل ولفظ السيادة المستخدم الآن لا يعني رابطة الغازي بالمغزو فالمصريون أول من يعرف عيوب التسلط، إن السيادة بهذا المعنى تجسيد للوحدة ومصر تطلب للسودان الرفاهية والتقدم وإعداده ليوم يستطيع فيه أن يحكم نفسه، إن مصالح مصر والسودان مشتركة بحيث لا يمكن تصور فصل الاثنين والمثال الموازي هو علاقة المملكة المتحدة بكندا تحت ملك واحد، مصر امتداد للسودان ولا يصح وجود عداء بينهما، أما مسألة الإدارة فهي ثانوية، طبيعي أن يرغب السودانيون في إدارة بلدهم ومصر تقدر هذا الشعور، من مصلحة مصر أن يدار السودان جيدا، قال وزير الخارجية إنه لم يزل غير واثق من موقف صدقي باشا فهو يقول إنه يريد السودان بخير تحت حكم صالح، فهل يقصد أن الوضع الحالي غير ذلك؟ فقال صدقي باشا إن الحاكم العام موظف أنجلو مصري لا يمكنه توجيه مثل هذا الاتهام إليه".

بيتر وودورد: الحاكم العام في السودان آنذاك الجنرال هادرستون فرض موقفه على بيفن وهدده بالاستقالة إلا إذا أكد له أن للسودانيين كل الحق إذا أرادوا في اختيار الاستقلال التام وعدم الوحدة مع مصر.

حيدر إبراهيم: تقرير المصير هي كلمة محايدة، السودانيون يقررون مصيرهم ثم في تقرير المصير ده يقررون هل يريدون الاستقلال أم يريدون الاتحاد مع مصر.


المعلق: في نهاية لقاء صدقي بيفن تم الاتفاق على إعادة البريطانيين لصياغة المادتين الثانية والثالثة الخاصتين بالدفاع في المعاهدة وإعادة صدقي النظر في الموعد الذي حدده للجلاء. تواصل الوثائق كشف أسرار ما دار في الاجتماع الثاني لتذكر "أن بيفن تساءل أنه إذا اختار السودانيون الاستقلال ستضيع السيادة المصرية فهل يطلب المصريون بقاء السيادة رغم الحكم الذاتي أم يدركون أن حق الاختيار في يد السودانيين؟ فقال صدقي إن الحكم الذاتي يحتاج إلى سنوات طويلة ومصر لا تريد بلدا معاديا على حدودها الجنوبية. ذكر بيفن أن سياسة بريطانيا هي ترك حرية الانفصال لأي بلد فور حصوله على الحكم الذاتي كمثال الهند فوافقه صدقي لكنه قال إن الانفصال سيكون قرارا طوعيا من مصر، فضلا عن أن الوقت مبكر على مناقشة هذا الأمر، أصر بيفن على توضيح الموقف وسأل إن كانت مصر تريد منح السودان فرصة للتحرر أن تطلب تسوية دائمة لسيادتها لا بد من إيضاح قدرة السودانيين على نبذ تلك السيادة إذا شاؤوا، فرد صدقي بأن سؤال مستر بيفن لا يمكن أن يجب عنه سوى المستقبل".

سيد فليفل: بريطانيا لعبت على مسألة السيادة يعني أفهمت السودانيين أن مصر ما دامت تتحدث عن السيادة فهي تجعل نفسها فوق السودانيين، أي دولة السيادة فيها تكون بالأساس للشعب وليس العنصر، والمتخيل في هذا الوقت أن العناصر السودانية سوف تدير شؤون السودان يعني ده اللي كان مفهوم، لكن بريطانيا نجحت في أن تأخذ كثيرا من المقولات التي أطلقتها الرأسمالية المصرية عن مصالح مصر في السودان والتوسع الرأسمالي وإمكانية نفاذ العمالة المصرية إلى السودان والامتداد إلى أن هذه الإجراءات سوف تستعمر مصر بمقتضاها السودان. وطبعا هذا كذب كبير لأن مصر عندما أدارت السودان 61 سنة من سنة عشرين إلى الثمانينات لم يحدث أن وجد في السودان أن وجد أعداد كبيرة من الضباط ومن الجنود، حتى ما كان يسمى الجيش المصري في عهد محمد علي أو في عهد خلفائه كان عدة آلاف من الجنود من قوات متعددة أغلبها من السودانيين.


المعلق: في اليوم الثاني للاجتماعات كانت الأحاديث كلها من الجانبين تدور حول مصالح السودانيين لنقرأ على لسان صدقي "فيما يخص مصالح السودانيين فعلينا أن نذكر أن السيادة المصرية على السودان قد تجسدت دائما في الحرص على سلامة السودانيين والمساعدة القوية لهم في كافة مناحي الحياة وقد قدمت مصر تلك المساعدة دون مقابل ودون أغراض خفية، علاوة على هذا فإن السودان لا يمثل بذاته كيانا سياسيا ومن مصلحة السياسين أن يظلوا مرتبطين بدولة منظمة تربطهم بها روابط التاريخ وتملك فهما تاما لمصالحهم بفضل الروابط القائمة الجغرافية والعرقية والدينية واللغوية".

بيتر وودورد: كان وجودهم في السودان محدودا للغاية منذ عام 1942 عندما طرد العديد من الموظفين الرسميين المصريين عقب مقتل السير ليستاك المندوب السامي البريطاني في القاهرة لذا كان المصريون على علم بوضعهم، كان نفوذهم محدودا في الإدارة والحكومة ولكن وجود بعض الأصدقاء السودانيين الذين سيعارضون البريطانيين، أي الاتحاديين، سيستبدل النفوذ المصري بحلفاء جدد من معارضي الإنجليز أو الوطنيين السودانيين الاتحاديين.


المعلق: فور عودته إلى مصر في السادس والعشرين من أكتوبر من عام 1946 أدلى اسماعيل صدقي بتصريح قال فيه "اليوم أقر بأنني نجحت في مهمتي وذلك أن الوحدة بين مصر والسودان تحت التاج المصري قد تقررت بصفة نهائية" وقد نشر هذا التصريح قبل إذاعة نصوص مشروع المعاهدة الذي لم يشر إلى أي نوع من الوحدة بين مصر والسودان بل كان صريحا في إبقاء نظام الإدارة القائم طبقا لاتفاقية 1899 ونجد في الملحق الرابع من الوثيقة البريطانية مذكرة من آرنست بيفن تلخص حواراته في مجلس العموم البريطاني والتي يشير فيها إلى مسودة بروتوكول السودان ونصها على حق السودانيين في اختيار وضع السودان مستقبلا أي الاستقلال عن مصر لو شاؤوا، تشير الوثيقة أيضا إلى أن الصحف البريطانية كانت قد هاجمت الحكومة لتخليها عن السودان لمصر من دون مقابل وانتشرت التقارير عن نية المصريين إيقاف التطور السياسي السوداني عند هذا الحد وإبقاء السودان تحت التاج المصري إلى الأبد.

بيتر وودورد: هذه الانتقادات كانت مبررة لأن بروتوكول المحادثات بين صدقي وبيفن كان غامضا ويشير إلى المصالح السودانية لكنه لا ينص على حق السودانيين في الاختيار بين الاتحاد مع مصر أو الانفصال كدولة مستقلة، وعندما عاد صدقي إلى مصر لوح بالبروتوكول مدعيا أن لمصر سيادة على السودان.

سيد فليفل: فلما انتشر هذا الأمر أصبحت الرأسمالية البريطانية تقول يبدو أن الحكومة البريطانية اتفقت مع المصريين على أن ينسحب البريطانيون من السودان، وأين تذهب المصالح البريطانية في القطن وغير القطن؟ من هنا وضعت الحكومة البريطانية موضع الدفاع واضطر بيفن إلى أن يذهب إلى البرلمان لكي يدافع عن حكومته وعن نفسه.


المعلق: يقول الباحث الدكتور عبد الحميد الحناوي إن وزير الخارجية البريطاني دعا رئيس الوزراء المصري إلى موافاته برسالة تفسيرية تلحق بالمعاهدة وعندما لم يتلق ردا كلف الحاكم العام للسودان سير هيوبرت هيدلستون بأن يعلن على لسان الحكومة البريطانية أن المحادثات الأخيرة المصرية البريطانية لم تتعرض لحكومة السودان أو سلطتها بأي تغيير وأن الحكومة البريطانية لن تسمح بأي تغير في نظام الحكم في السودان، وكانت تصريحات اسماعيل صدقي التي نفاها الجانب البريطاني قد أثارت الأطراف الداعية إلى الانفصال عن مصر داخل السودان الذي شهد مظاهرات احتجاج على تصريحات صدقي اصطدمت بمتظاهرين مؤيدين للوحدة مع مصر وهكذا استمرت اللعبة بين مصر وبريطانيا إلى جولات أخرى.