تحت المجهر

في مصر.. طب للبيع

سلطت حلقة (17/2/2016) من برنامج “تحت المجهر” الضوء على واقع القطاع الصحي في مصر، وكيف تحوّلُ الضغوط الحياتية أحياناً الطبيب إلى مقاول، والمريض إلى تاجر يعرض أعضاءه للبيع.

قبل عشرة أعوام، وعند إنهائي الدراسة في المرحلة الثانوية، رشحني مكتب التنسيق للالتحاق بكلية الطب جامعة المنصورة وفقاً للتوزيع الجغرافي، لكنّي أبديت الرغبة في الالتحاق بمعهد السينما، وقد بدت الرغبة غريبة للغاية! فهل يمكن لمن يحصد هذا المجموع الكبير في الثانوية أن يتخلى عن "كلية القمة" إلا أن يكون مجنوناً؟

وأعتقد أنه لولا حصولي على منحة دراسية للدراسة بإحدى الجامعات الأجنبية في مصر، لكنت الآن طبيباً يمارس هذه المهنة من دون شغف حقيقي، أو هجرتها بعد التخرج كما يفعل البعض.

طوال هذه الأعوام العشرة الأخيرة، كنت دائماً على مقربة من أصدقائي، زملاء الدراسة الثانوية الذين ذهبوا لدراسة الطب، أستمع إلى حكاياتهم بين أروقة محاضرات الدراسة في كليات الطب والمستشفيات الجامعية، ثم رحلة التخصص الطويلة بداية من الامتياز والتكليف والنيابة، وأحلام الماجستير والدكتوراه أو الهجرة لدول الخليج أو ألمانيا أو إنجلترا أو أستراليا.

وكانت قصصهم الصغيرة الدافع القوي كي أبدأ مع فريق العمل في البحث في قضية المنظومة الصحية في مصر، ومشاكلها المعقدة بين المسؤولين الحكوميين الذين يندهشون مرارا وتكرارا من الوضع المزري في القطاع الصحي، وكأنهم لا يعلمون السبب وراء هذه الحال.

ومطالب الأطباء بزيادة مرتباتهم الضعيفة للغاية، أو معاناتهم من ضعف الإمكانيات الطبية، وافتقادهم إلى أبسط أدوات تشخيص المرض كجهاز قياس الضغط مثلاً! والمرضى الذين لا يصلون المستشفيات إلا وقد استحكم بهم المرض بسبب العوز وارتفاع كلفة التداوي.

تجارة
كان أصدقائي من طلبة الطب يحكون لي عن المرضى المزمنين الذين اتخذوا من أمراضهم سبيلاً لكسب الرزق، هؤلاء البسطاء الذين يعانون أمراضاً بلا علاج، وقد حفظوا أعراض مرضهم باللغة الإنجليزية وبمصطلحات طبية دقيقة عن ظهر قلب، فراحوا يعلمون الشباب الأطباء مقابل المال، في دروس الخصوصية، وفي المحاضرات العملية، وفي الامتحانات أيضا! وعن المريض الذي يرفض أن يسمح للطالب بأن يكشف عليه قبل أن يمنحه مبلغاً من المال، وقد يزيد السعر أو ينخفض حسب شدة حاجة الطالب، إذ أضحى المرض مهنة مثل غيرها من المهن مع الوقت بعد أن يئس من علاجها ومن منظومة الطب في بلده.

كانت البداية البحث عن هؤلاء المرضى المزمنين، حاولنا اختراق عالمهم بين مستشفيات قصر العيني والدمرداش، ذهبنا إلى مقهاهم الشهير في حي المنيل الجامعي، ولكي نتعرف على عالمهم أكثر قبل التصوير، زعمنا أننا نعمل لصالح طبيب كبير يعطي دروساً خصوصية ويبحث عن "حالات دراسية مزمنة"، دلنا صاحب المقهى على السمسار.

وأخذنا السمسار ليعرض علينا ما في جعبته من حالات دراسية، بعد دقائق وجدنا في المقهى عدداً من البسطاء، عرضها علينا السمسار: "هذه حالة كبد، هذه حالة قلب، هذه حالة روماتيزم، هل تريد أطفالاً؟ أم تفضل مريضات من العجائز؟ كله موجود، وكل شيء بثمنه"! صفقة تجارية هي، لكل مريض حالة ثمن، وكلما ندرت الحالة وتعقدت زاد سعرها، وكلما تعلمت الحالة مواصفات مرضها غلا ثمنها!

بعد أن تعرفنا على أبعاد عالم المرضى المزمنين، اخترنا شخصياتنا بين سمسار متخصص في تزويد الأطباء بالحالات الدراسية، ومريض مزمن بسيط فقد عمله في مصنع للنسيج قبل ثلاثين عاماً بسبب مرضه، ووجد نفسه "مجنداً" لتعليم الأطباء الشباب حالته إلى أن صارت مهنته "عيان" (أي مريض باللهجة المصرية).

ومثلما صار المرض تجارة، صارت مهنة الطبيب تجارة أيضا، بين راتب هزيل تصرفه له الدولة وذكريات سنوات طويلة من الدراسة والكد والاجتهاد، يسأل الكثير من الأطباء أنفسهم: أليس من حق الطبيب بعد سنوات طويلة من الشقاء والمعاناة أن يفتتح عيادته الخاصة ليكسب المال؟ أليس من حقه أن يعمل في المستشفيات الخاصة ليأخذ مرتباً محترماً؟ أليس من حقه أن يبحث عن فرصة عمل أفضل في بلاد الخليج العربي أو الغرب؟

أثناء البحث أيضاً صدمتنا الأرقام التي ترفعها وزارة الصحة عن أعداد الخريجين من كليات الطب في البلاد، الذين لا يتوظف منهم سوى النزر اليسير داخل مصر، قررنا السفر لألمانيا للبحث عن الأطباء المصريين العاملين هناك، واكتشفنا الفارق الكبير بين المنظومة الطبية في مصر وألمانيا حيث قال لنا أحد الأطباء إنهم كانوا يعتبرون كلية الطب في مصر "ست سنوات دراسة وسنة دراسة لغة ألمانية"، في إشارة إلى أهمية اللغة الألمانية لهم سعياً للسفر للعمل في ألمانيا.

في مصر يقال لكي تعيش كريماً عليك أن تتجنب ثلاث مؤسسات رئيسية: المصالح الحكومية وأقسام الشرطة والمستشفيات الحكومية. ربما يكون من الشائع في الإعلام المصري أن نتحدث عن أخطاء الأطباء، لكن من يتحدث فعلاً عما يواجهه هؤلاء الأطباء من مشاكل وصعوبات وضعف الإمكانيات، وقوة الانتظار من ممارسين لمهنة هي رسالة قبل أي شيء؟

المخرج: علاء مصباح