تحت المجهر

بين الرمضاء والنار.. مأساة اللاجئين الإرتيريين بالسودان

“منذ ثلاثين سنة وشعبنا يباع ويموت، ولا أحد يسأل عنا.. نقول فقط الله معنا”. هذه صرخة أطلقها أحد اللاجئين الإرتيريين بمعسكرات اللجوء بشرق السودان لحلقة 20/8/2014 من برنامج “تحت المجهر”.

تبدو قضية اللجوء الإرتيري إلى السودان قديمة زمنيا، فالبداية كانت مع الغزو الإثيوبي لإريتريا في مطلع الستينيات، لكنها رغم ذلك لا تزال  تعكس واقعا مأساويا للعديد من شعوب أفريقيا التي ترزح تحت نير الفقر والجهل والمرض، وتعاني ويلات النزاعات الطائفية والحروب الإثنية والأنظمة السياسية الدكتاتورية ولا سبيل أمامها سوى الشتات والهروب ولو إلى مصير مجهول.

كانت البداية ملاحظة كثرة الأخبار الواردة في الصحف ووسائل الإعلام عن العثور على جثث بعض الأفارقة في صحراء سيناء منزوعة الأعضاء، مشوهة من آثار التعذيب، حكى لنا أحد الشبان الفارين من مخازن عصابات الاتجار بالبشر كيف تم خطفه من معسكر الشجراب للاجئين في شرق السودان واقتيد إلى مصر لتقايض أعضاؤه بفدية من طرف عصابات للاتجار بالبشر، فهناك من يؤمن بأن هؤلاء اللاجئين المعدمين حياتهم زهيدة، ولا يجد بأسا في أن يجعل لموتهم قيمة بانتزاع أعضائهم وبيعها في الأسواق العربية والإسرائيلية.

 لم تكن المعلومات كافية لدينا بشأن حجم تلك المعسكرات ولا المشكلات التي توجد بها؟ كيف يدبرون أمور غذائهم وما هو طبيعة الدور الذي تقوم به الدولة السودانية من ناحية، والمفوضية الدولية لشؤون اللاجئين في سبيل تحسين ظروف معيشتهم من ناحية أخرى ؟ ممَ يهربون؟ المعسكرات خاضعة لإشراف الأجهزة الأمنية السودانية التي تتولى مهمة تأمين المعسكرات وحماية نزلائها فكيف يتم اختطافهم من داخل المعسكرات من طرف عصابات الاتجار بالبشر؟

لم تكن مهمة الوصول إلى المخيمات والبحث عن حالات من القاطنين بها شاقة فلقد استطاع هؤلاء الشبان الإرتيريون التواصل سواء من داخل معسكرات اللاجئين أو حتى أولئك الذين رست بهم سفن الهرب في أحد الموانئ الأوروبية ليملؤوا الفضاء الإلكتروني بأناتهم وشكواهم، ويطلقوا دعوات الاستغاثة تخاطب الضمير العالمي، وللفت نظر المهتمين إلى مجموعات عالقة بين وطنين في حالة من الجمود فلا قيظ البلد الأم إرتيريا مرحب بهم ولا نار بلد اللجوء كانت دافئة عليهم، هو برزخ من الأرض فرض عليهم البقاء في حالة المنزلة بين المنزلتين.

ساعدنا على المهمة التواصل مع الشبان الإرتيريين المتواجدين في دول أوروبا، حيث مكّنونا من قدر كبير من المعلومات عن ظروف الحياة داخل المعسكرات، ووفروا لنا اتصالا ببعض أقرانهم داخل المعسكرات حيث التقينا بهم في إحدى المدن السودانية بعيدا عن أعين أجهزة الاستخبارات الإرتيرية التي قيل لنا إنها تداهم معسكرات اللاجئين داخل الأراضي السودانية لتقوم بالقبض على بعض شخصيات المعارضة السياسية من حين لآخر، توثقنا من المعلومات وتوسعنا في فهم أبعادها، وقررنا الانتقال للتصوير داخل المعسكرات.

بدأ الانتقال إلى معسكرات اللاجئين، وكانت المهمة الأصعب، فظروف الحياة صعبة للغاية على من اعتاد نعيم المدنية، وعصابات الاتجار بالبشر المعروفة بـ"الرشايدة" وغيرها تحيط بالمعسكر في انتظار أن تطل فريستها برأسها، والكهرباء التي تنقطع طوال الليل وأكثر ساعات النهار والتي لم تكن تتيح لنا سوى عدد قليل من ساعات العمل نهارا، وفوق ذلك كله كان علينا أن نقضي ليالينا في المعسكر الذي يبعد عن ولاية كسلا نحو ثلاثمائة كيلومتر في قلب صحراء السودان الشرقية في أكواخ صغيرة من الطين والقش، تلك التي يسميها أهل السودان "الغوطية"، وهي مفتحة الأجناب تكشف أكثر مما تستر، وتعلن أكثر مما تحجب، فهل تمنع عنا غدر عصابات الخاطفين؟

في النهاية تمكنا بفضل التعاون الكبير بين فريق العمل وقدرته على التضحية من أجل إخراج عمل متميز حول قضية باتت مع الزمن قضيتنا. وأصبح تركيزنا بشأن نقل قصص هؤلاء اللاجئين المنسيين للوجود، وأن نعطي الفرصة للمرة الأولى لبعضهم لرواية قصة الفرار واللجوء والمستقبل الغامض والذي يهدد جيلا كاملا من الإرتيريين، والذين حلموا بدولة مستقلة يعيشون فيها بحرية وكرامة تحولت إلى نظام دكتاتوري غيب قصتهم وآمالهم في العيش الكريم، ومجتمع دولي أسقطهم من حساباته السياسية وتركهم فريسة لمصير مجهول.