تحت المجهر

خمسون توقيعا

رصدت حلقة 19/11/2014 المعادة معاناة المصريين من الإجراءات الإدارية عند مراجعة الهيئات الحكومية، بدءا من مناقشة الرسائل الجامعية إلى استخراج الشهادات ومعاملات التعيين أو مشاكل استصدار تصاريح الاستثمار.

في خطاب له في ديسمبر/كانون الأول 2004 ذكر الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك صراحة أنه -في مقابلة مع أحد المسؤولين الأتراك- خجل من ذكر عدد الموظفين في الجهاز الإداري بمصر، والذي هو وليد بيرقراطية يتيه معها المواطن بين مختلف الإدارات الحكومية.  

مصطلح "البيرقراطية" ظهر في ألمانيا على يد الفيلسوف ماكس فيبر أواخر القرن الـ19، وتنادي نظرياته بضرورة التقيد الحرفي بمجموعة من القوانين التي تحدد صلاحيات الموظفين بدقة ضمن لوائح مكتوبة حتى يتم ضبط إيقاع العمل عبر نموذج دقيق.

وبدأت البيرقراطية في مصر منذ عهد محمد علي باشا وتطورت بعد ثورة يوليو 1952، حيث عاش الموظف عصره الذهبي، ولكن التضخم الحقيقي والترهل لجيش الموظفين كان زمن الانفتاح (زمن الرئيس الراحل أنور السادات) ليصل في عهد مبارك إلى ستة ملايين موظف حكومي.

يقول أستاذ التاريخ بالجامعة الأميركية خالد فهمي لحلقة 19/11/ 2014 (المعادة) من برنامج "تحت المجهر"، إن مركزية الدولة المصرية وهيمنتها سمة أساسية حتى في العهد الليبرالي وعهد الانفتاح، مشيرا إلى أن الناس غير منتبهة إلى أن التوسع الضخم جدا في عدد موظفي الدولة وفي الإدارات الحكومية حصل وقت الانفتاح.

ويضيف فهمي أن مشكلة الإدارة القوية والبيرقراطية القوية ليس لها رادع، وبسبب غياب أي رقابة شعبية عليها، فإن هذه الإدارة تخدم نفسها وليس عموم الناس، ويرجع ذلك إلى أن الدولة منذ بدايتها تكون قمعية بالأساس، وليست مبنية على أي علاقة تعاقدية بين الحاكم والمحكوم.

ويصف المواطن المصري شريف عبد العظيم إنهاء إجراءات الدراسة في الخارج بأنها معاناة تشبه الفيروسات والميكروبات والأمراض، ويقول إنه كان معيدا في هندسة القاهرة، وجاءته منحة من كندا لينجز هناك شهادة الدكتوراه، ومن أجل القيام بهذه الخطوة كان عليه أن يعمل شيئا اسمه "إخلاء طرف" ومعاناها أنه غير سارق أي شيء من الجامعة، وقد لزمه ذلك ثلاثة أسابيع للحصول على الإمضاءات.

وتؤدي البيرقراطية المتمثلة في دوامة التوقيعات -التي لا تنتهي حتى تبدأ من جديد- إلى اغتيال أي مبادرة أو رغبة في التطوير أو سعي للإنماء والإعمار، حيث تمثل سلسلة من الإجراءات المتشابكة التي يختلط فيها الهزل بالجد أحيانا، لكنها في النهاية أسلوب عمل للإدارة ومعاناة يومية للمواطن.

ورغم كل المحاولات الحكومية من فتح بوابة إلكترونية حكومية وتقليص النوافذ التي يتعامل معها المراجع، فإن الواقع يثبت أنها مجرد حبر على ورق في مواجهة روتين العمل الحكومي العصي على الكسر.

مفارقة
وفي المقابل، يتضح أيضا أن المعاناة ليست مقصورة على المواطن وحده، بل تصيب الموظف الذي يجد نفسه في معمعة لوائح إدارية لم تتطور منذ عقود بشكل يلغي أي إمكانية للتطور في ظل تحجر كامل للعقليات المسيرة للعمل.

وتجعل طريقة العمل المعتمدة على "التراتبية الكلاسيكية" ونظام الأجر المبني على المحفزات المتحولة، الموظف في بنية إدارية أساسها لوائح تسمح بتحصيل مقابل غير معلن للخدمة العمومية، مما ساعد على انتشار الفساد والرشوة، وترهلت الخدمات الحكومية مما أفرغ العمل الإداري الحكومي من مفهوم خدمة المواطن.

والمفارقة أن ميدان التحرير الذي أصبح رمزا للاعتصام والتظاهر ضد الفساد واستبداد العديد من الحكومات المصرية المتعاقبة، صار رمزا للبيرقراطية المركزية المصرية، حيث إنه يحتوي على المجمع الإداري الذي يحمل اسم "مجمع التحرير" الذي بُني أوائل خمسينيات القرن الماضي، ويضم أكثر من 1200 غرفة يعمل فيها قرابة تسعة آلاف موظف يتبعون عشر وزارات.

وقد كتب الأديب التشيكي فرانس كافكا رائد الكتابة عن السلطة المجهولة التي تضطهد الفرد وتقمعه، "أن كل ثورة تزول ولا تترك وراءها إلا مخلفات وأوحالا بيرقراطية جديدة".