البرازيل عملاق الجنوب
تحت المجهر

البرازيل عملاق الجنوب

الحلقة تسلط الضوء على بلاد الكرنفالات والسامبا وكرة القدم والأمازون، مكامن قوتها ومقومات نهضتها الاقتصادية التى تؤهلها لمنافسة كبرى الدول والأمم، وخصائص هويتها.

– المجتمع البرازيلي وانصهار الأعراق
– الجالية العربية ودورها في المجتمع البرازيلي

– ساوباولو.. نيويورك أميركا الجنوبية

– السياسة البرازيلية والعضوية الدائمة لمجلس الأمن

– البرازيل.. الفوارق الطبقية ومشكلة الفقر


undefined


رشيد جعفر: بيليه أفضل وأشهر لاعب كرة قدم في التاريخ بدون منازع، أسطورة حية، ثروة قومية رسمية بقرار من برلمان هذه البلاد، كرَّس رياضة كرة القدم كجزء لا يتجزأ من هوية مواطنيه وكالرياضة الأكثر شعبية في العالم، قهوة ذات نكهة عالمية مستخلصة من حقول شاسعة جلبت ولا تزال ثروات هائلة لشعب هذه البلاد وجعلتها أكبر دولة منتجة ومصدرة للبن في العالم، الأمازون أكبر غابة استوائية في العالم أجمع، يخترقها نهر بالاسم ذاته هو الأكبر في العالم من حيث كمية المياه المتدفقة، يمد العالم بخمس المياه المستهلكة فيه وهو ثاني أطول نهر في العالم بعد النيل، الكرنفال أكبر مهرجان موسيقي وبشري في العالم أجمع تتخلله رقصات السامبا الشهيرة بألوانها الزاهية في قلب هذه البلاد النابض، إحدى أشهر وأجمل مدن العالم ريو دي جانيرو.. هذه هي بعض الحقائق التي أكسبت البلاد شهرة واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم لكن أرض بيليه وكرة القدم والأمازون والقهوة والكرنفال والسامبا أكثر من هذه العناصر بكثير، أهلا بكم إلى البلاد التي يُطلق عليها في أميركا اللاتينية اسم عملاق الجنوب، ريو دي جانيرو بوابة البرازيل التاريخية وواجهتها الاجتماعية، ريو دي جانيرو إحدى أشهر مدن العالم وواجهة البرازيل الجميلة بل ومنافستها على الشهرة العالمية، غابات استوائية من جهة وشواطئ ساحرة من جهة ثانية وبينهما إحدى أجمل مدن العالم، قبل حوالي خمسة قرون وبعد رحلة مضنية عبر المحيط الأطلسي دخلت مجموعة من السفن البرتغالية هذا الخليج.. خليج غوانابار لتكتشف أرض عذراء لم تطأها قدما أجنبي من قبل ولم يرى سكانها الأصليين غريب بينهم منذ بداية ارتباطهم بهذه الأرض قبل آلاف السنين، كان ذلك في الفاتح من يناير من عام 1502 ولأن المستكشفين البرتغاليين اعتقدوا أنهم بلغوا مصب نهر عظيم فقد أطلقوا أسم ريو دي جانيرو أي نهر يناير على هذه المنطقة.. لكن تاريخ وصول الأوروبيين إلى العالم الجديد كان قد بدأ قبل ذلك بنحو عامين على يد مستكشف برتغالي آخر بدرو الفارس كابرال الذي كان السبَّاق إلى اكتشاف البرازيل في الثاني والعشرين من شهر أبريل من عام 1500 وكان ذلك عن طريق الصدفة، فعندما أبحر كابرال من لشبونة في التاسع من شهر مارس من عام 1500 على رأس أسطول بمقاييس ذلك الزمن من ثلاثة عشرة سفينة يعاونه ألف ومائة بحار، كان ينوي التوجه إلى الهند في مهمة كلفه بها ملك البرتغال آنذاك مانويل الأول، سلك المستكشف البرتغالي الطريق التي كان قد سلكها قبله مواطنه الرحالة الشهير فاسكو دي غاما أي بمحاذاة القارة الأفريقية مرورا برأس الرجاء الصالح في طريقه إلى الهند، غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن كابرال التي أرغمتها عواصف المحيط الأطلسي القوية على الانحراف عن خط سيرها فاتجهت غربا وجنحت إلى هذه السواحل، أطلق كابرال على المنطقة المستكشفة اسم ترادا فيرا كروز أي أرض الصليب الحقيقي وبعد عام على اكتشافها أي في عام 1501 أرسلت الحكومة البرتغالية بعثة أخرى بقيادة الرحالة الإيطالية أميركو فيسكوتشي إلى المنطقة التي عاد منها بخشب ثمين يسمى برازيل ومن ثم أطلق أسم البرازيل على البلاد الجديدة، على هذه الشواطئ التي أصبحت بعد قرون تحمل أسماء مثل إبانيما وكوباكبانا وحازت شهرة في العالم أجمع لجمالها الطبيعي انتهت رحلات العديد من المستكشفين البرتغاليين بعد أسفار مضنية ومليئة بالمخاطر في أعماق المحيط الأطلسي ومن هذه الشواطئ تبدأ رحلتنا التي لا تقل صعوبة في أعماق المجتمع البرازيلي، نظرة سريعة إلى الخارطة تكفي لإدراك جسامة المهم فالبرازيل رقعة جغرافية ضخمة في أميركا الجنوبية، تبلغ مساحتها نصف مساحة المنطقة تقريبا وبالتالي فلها حدود مشتركة مع جميع دول المنطقة باستثناء تشيلي والإكوادور وهذا ما يجعلها تبدو وكأنها قارة أكثر من ها دولة، في هذا الموقع الجغرافي المتميز وعلى هذه الرقعة الشاسعة التي تبلغ مساحتها ثمانية ملايين وخمسمائة ألف كيلو متر مربع مما يجعلها خامس أكبر دولة في العالم من حيث المساحة بعد روسيا والصين والولايات المتحدة وكندا، في هذه الرقعة يسكن مائة وثمانون مليون نسمة مما يجعل البرازيل أيضا خامس أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان بعد الصين والهند والولايات المتحدة وإندونيسيا.. ورغم أن مسألة دراسة هذا المجتمع عن قرب مهمة من الجسامة بما كان، إلا أن مدينة ريو دي جانيرو ولحسن حظنا تعتبر نموذج مصغر للمجتمع البرازيلي مما يسهل عملية المهمة شيئا ما، إذاً كيف يمكن الغوص في هذا المحيط البشري والطبيعي؟ وكيف يمكن استيعاب خمسة قرون من تاريخ هذا البلد القارة الحافل بالأحداث واحتواء مجتمعه المتفجر بالطاقات وتقييم اقتصاده المندفع بالإمكانيات وفهم سياسته الخارجية المتعددة الاتجاهات وحصر كل ذلك في دقائق معدودة؟ كنا كمن يحاول إدخال مياه المحيط في زجاجة صغيرة فانكسر خاطرنا كما تنكسر هذه الأمواج على شاطئ كوباكبانا لمجرد التفكير في المحاولة وجسامة المهمة.. وكأن كل هذه الصعوبات لا تكفي، واجهتنا معضلة حتى قبل بدأ رحلة الغوص في أعماق المجتمع البرازيلي وهي كيفية حل لغز اكتشاف البرازيل، فبعد أن اعتقدنا أننا وضعنا المسألة جانبا ووفينا الرحالة البرتغالي بدرو الفارس كابرال حقه وشعرنا بالاطمئنان على أن الاكتشاف مسجل باسمه في أمان في الثاني والعشرين من أبريل من عام 1500،طاردنا هاجس معلومات تاريخية أخرى مفادها أن الأسباني بسنتي يانييز بينزون كان قد سبق كابرال إلى البرازيل في الفاتح من يناير من العام نفسه، إذاً مَن هو مكتشف البرازيل الحقيقي هل هو كابرال أم بينزون أم أن الأمر لا يكتسي أهمية تذكر؟

المجتمع البرازيلي وانصهار الأعراق

أنطونيو إدميلسون رودريغز- الجامعة الكاثوليكية- ريو دي جانيرو: نحن لا نهتم بمعرفة من اكتشف البرازيل أولا بل ما يهمنا هو النتيجة التي نراها في يومنا هذا والنتيجة التي أمامنا مسجلة بأسم البرتغال، فنحن في البرازيل لم نعد نفكر بحدث الاكتشاف بحد ذاته بل إننا نركز على ما تحقق منذ ذلك الاكتشاف، فقد شهدت البلاد عبر هذه الفترة الطويلة عملية تحول جذرية كان من نتيجتها أن أصبحت البرازيل مجتمع له خصوصياته.

رشيد جعفر: نبدأ رحلتنا من ريو دي جانيرو وكلمات أستاذ التاريخ الفخور بمدينته ترن في آذاننا، الأهم هو النتيجة ما نراه أمامنا الآن وما نراه أمامنا هو مدينة يشعر فيها الزائر ومن أول وهلة بمزيج من الحيوية والنشاط والمرح ودفء المشاعر الإنسانية بين هذه الحشود رغم ضغوط الحياة اليومية، المدينة تعكس بقوة ووضوح تنوع أعراق الشعب البرازيلي وطباع أبنائه وهمومهم اليومية وأفراحهم وأحزانهم وآلامهم وآمالهم.

أومبيرتو كنديل- معلق صحفي: ريو دي جانيرو هي العاصمة التقليدية للبرازيل، العاصمة الثقافية والتاريخية للبلاد لأنها تعكس صورة المجتمع البرازيلي بصدق بفضل تنوع أعراق أبنائها، فسكان المدينة هم في واقع الأمر صورة معبرة عن جميع البرازيليين بمختلف أعراقهم لذلك تبقى ريو دي جانيرو دائما أكبر إنتاج ثقافي للبرازيل لأنها نموذج مصغر عن المجتمع البرازيلي.

رشيد جعفر: نحاول الغوص في المجتمع البرازيلي من خلال هذه المدينة الساحرة التي يسحرك سكانها بطيبتهم الفطرية ويعشقون جمال الحياة قبل جمال مدينتهم، نقترب أكثر من سكان ريو دي جانيرو لأخذ فكرة عن هوية المجتمع البرازيلي ومعرفة ما يميزه عن المجتمعات الأخرى في أميركا الجنوبية.

مواطنة برازيلية أولى: الفرق بيننا وبينهم هو أن البرازيليين سعداء أكثر من جيرانهم ويعبرون عن مشاعرهم بطريقة أفضل ويستمتعون بحياتهم أكثر من جيرانهم، البرازيليون مريحون جدا.

مواطن برازيلي أول: نحن شعب مضياف له جاذبية خاصة يتسم بالمرح ودفءالمشاعر والانفتاح على الثقافات الأخرى كما أن هويتنا مشكلة من ثقافات متعددة، أسمع أن جيراننا في أميركا الجنوبية منغلقون شيء ما.

مواطنة برازيلية ثانية: ما يميز الشعب البرازيلي عن غيره هو أننا الدولة الوحيدة في أميركا الجنوبية التي يتحدث سكانها اللغة البرتغالية كما أننا طيبون ومنفتحون ونحترم جميع الثقافات.

رشيد جعفر: كيف انصهرت هذه الأعراق وشكلت هذا المجتمع المتعدد الثقافات؟ تُمعن النظر في هذه الأمواج البشرية التي لونها التاريخ عبر خمسة قرون من الزمن، تحاول أن تتفحص الوجوه لعلك تجد وجوه لها ملامح مشتركة ومميزة كما هو الشأن في مجتمعات أخرى لها هذه الميزة مثل السويد أو السنغال أو الصين على سبيل المثال حيث يرى الزائر تشابه عام في الملامح. لكن جهودك تذهب هباء فليس هناك ما يمكن أن تسميه البرازيلي النموذجي، كيف تولد هذا المزيج العرقي إذاً؟

"
مدينة ريو دي جانيرو مركز للتبادل الثقافي انصهرت فيه الثقافات المختلفة للمهاجرين الذين اندمجوا وشكلوا مجتمعا متجانسا له هوية واحدة وهم يتحدثون لغة واحدة بتشجيع من الكنيسة الكاثوليكية
"
     أنطونيو إدميلسون

أنطونيو إدميلسون رودريغز: كانت مدينة ريو دي جانيرو عبر التاريخ ومنذ اكتشاف البرازيل مركز مهم للتبادل الثقافي انصهرت فيه الثقافات المختلفة للمهاجرين من مختلف الأعراق في بوتقة واحدة، فالمستوطنون البرتغاليون والأفارقة والهنود الحمر والمهاجرون الأوروبيون وغيرهم.. كلهم اندمجوا مع بعضهم بعضا وشكلوا مجتمع متجانس له هوية واحدة ويتحدثوا لغة واحدة بتشجيع من الكنيسة الكاثوليكية.

رشيد جعفر: الكنيسة الكاثوليكية لها حضور قوي هنا فعدد أتباعها يقدر بـ 85% من السكان وهو ما يجعل البرازيل أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان الكاثوليك بل وإن ردود فعل بعض البرازيليين أتسم بالمرارة لعدم اختيار القس البرازيلي كلاوديو هومس رئيس أساقفة ساوباولو خلفا للبابا الراحل يوحنا بوليس الثاني وقد علَّق بعضهم قائلا اختاروا قسا ألمانيا زعيما للكنيسة الكاثوليكية لكن لا يمكنهم تجاهل حقيقة أن أكبر عدد من الكاثوليك موجود هنا في البرازيل.. لكن تعدد الأعراق لم يحل دون اندماجها في مجتمع له هويته وخصوصياته التي تميزه عن باقي مجتمعات أميركا الجنوبية، بل كان عامل أساسيا في توحيد أبناء البرازيل وتشكيل هوية موحدة لهم ولم يكن عامل تقسيم يفرق بينهم على أساس العرق كما في دول أخرى، فرغم تعدد هذه الأعراق إلا أن جميع سكان البرازيل يتحدثون اللغة البرتغالية مثلا وتُعتبر هذه الهوية المميزة أحد الركائز التي يستند عليها البرازيليون فيما يتعلق بتحقيق حلم قديم وهو تحويل بلادهم إلى دولة كبرى في العالم تحتل مكانة مرموقة على الساحة الدولية ولعل هذا هو ما يفسر السر في استمرار هذا الحلم وهو حلم قديم قدم البرازيل نفسها منذ كانت مقاطعة تابعة للتاج البرتغالي إلى يومنا هذا مرورا بفترة الإمبراطورية وفترة الجمهورية بل ولم يتلاشى ذلك الحلم حتى خلال فترة الحكم العسكري العصيبة بين عامي 1964 و1985 لكن الحلم بدأ يداعب خيال البرازيليين مرة أخرى بعد وصول الرئيس لويز ايناسيو لولا دا سيلفا إلى الحكم قبل حوالي عامين ونصف، فالرئيس الذي يتمتع بشعبية كبيرة حتى خارج البرازيل أعطى ذلك الحلم زخم جديدا في المجال الاجتماعي، أولا بفضل شخصيته وثانيا بفضل سياساته الطموحة.

مواطن برازيلي ثان: الرئيس لولا يحظى بالاحترام فقد بدأ من أسفل الهرم لكنه كافح حتى حقق أهدافه وأعتقد أنه نجح في تحديد ما يحتاجه البرازيليون وحقق العديد من الإنجازات خلال فترة حكم وجيزة وهناك شعور كبير بالأمل بين البرازيليين في قدرته على ملأ الثغرات المتبقية وإحداث تغيرات جذرية والارتقاء بالبلاد إلى آفاق أعلى.

مواطن برازيلي ثالث: أنا أؤمن دائما بقدرة البرازيل على تحقيق تقدم في هذا المجال ومن حقنا أن نبقي ذلك الحلم حيا فكل ما حققناه حتى الآن من تقدم ما هو إلا جزء من ذلك الحلم والفضل في ذلك يعود إلى الرئيس لولا الذي يتمتع بمصداقية لم تشهدها البرازيل في أي رئيس قبله، كما أنه رجل مخلص ويتمتع بشخصية قوية ويحظى باحترام لا يحظى به السياسيون الآخرون.

الجالية العربية ودورها في المجتمع البرازيلي

رشيد جعفر: مشاعر مشتركة رغم تعدد الأعراق والأجناس فأجداد هؤلاء البرازيليين الذين هاجروا من أوطانهم الأصلية إلى البرازيل منذ أوائل القرن السادس عشر جاؤوا من مناطق مختلفة من العالم، فالمهاجرون الأوائل قدموا من البرتغال لذلك تنحدر غالبية البرازيليين من أصول برتغالية ثم جاء أولئك المهاجرون بالعبيد من إفريقيا ابتداء من القرن السادس عشر للعمل في مزارع القطن والبن وقصب السكر وتوالت أفواج المهاجرين من دول أوروبية أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا وألمانيا ومن دول آسيوية خاصة اليابان وكذلك من منطقة الشرق الأوسط وخصوصا من سوريا ولبنان.

ليندا أبي جودة– برازيلية من أصل عربي: أبي وأمي أتوا من البلاد بالسنة 1880 أبي أسمه اسكندر أيوب، أمي كاثلين حداد أيوب، جاؤوا جابوا بنتين الآن بالبرازيل وهنا بالبرازيل ستة أولاد.

رشيد جعفر: وغوصنا أكثر في شرائح المجتمع البرازيلي بين هذه الأعراق المختلفة بحثا عن الحضور العربي، بدأت هجرة العرب إلى البرازيل في منتصف القرن التاسع عشر وهو تاريخ لا تسجله الدوائر الرسمية في البرازيل فحسب بل تجده محفور في ذاكرة أحفاد أولئك المهاجرين بشكل يثير الدهشة.

ماريو رزق الله– برازيلي من أصل عربي: جاء جدي وأسمه جورج رزق الله إلى البرازيل في عام 1895 قادم من مدينة حلب السورية التي ولد ونشأ فيها وبعد وصوله عمل في شركة لبيع معدات الألومنيوم ثم ما لبث أن اشتراها وأصبح رئيس لها في عام 1898 وقد توسعت الشركة على مر السنين وأصبحت ملك لأسرتي ومتحف لها.

رشيد جعفر: ماريو رزق الله مثله مثل بقية البرازيليين من أصل عربي مندمج تماما في المجتمع البرازيلي ويساهم في رفاهية بلده في مجال التجارة الذي تفوق فيه المهاجرون العرب على بقية مواطنيها، فقد ورث مسؤولية الإشراف على الشركة التي أسسها جده قبل قرن من الزمان ولا تزال تعمل بنجاح حتى الآن وفي الموقع نفسه الذي أنشأت فيه في عام 1898، غير أن البرازيليين من أصل عربي لم يحبسوا طاقاتهم الإبداعية في المجال التجاري فحسب بل اقتحموا مجالات أخرى غير التجارة.

"
الجالية العربية حققت نجاحات في قطاعات أخرى غير التجارة، في المجال السياسي هناك كثيرون من المتحدرين من أصل عربي أعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب وحكام للولايات
"
      أنطونيو سركيس

أنطونيو سركيس– رئيس الغرفة التجارية العربية– البرازيل: الجالية العربية تحقق نجاحات في قطاعات أخرى غير التجارة ومن الصعب أن تجد بين الجالية العربية الضخمة هنا أسرة ليس من بين أفرادها طبيب أو مهندس فالأسرة العربية تسهر على تعليم أبناءها وفي المجال السياسي هناك كثيرون من المتحدرين من أصل عربي أعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب وحكام للولايات.

رشيد جعفر: من بين هؤلاء السياسيين باولو معلوف الحاكم السابق لولاية ساوباولو وميشيل تامر الرئيس الحالي لحزب الحركة الديمقراطية في البرازيل وغيرهما، بل وحتى في مجال الإعلام كان المعلق الرياضي نيقولا توما هو أول من قدم تغطية إذاعية مباشرة لمباراة في كرة القدم في تاريخ البرازيل وكان ذلك في عام 1931 وجاء بعده آخرون اقتحموا هذا المجال أي مجال الإعلام من أوسع أبوابه.

جواو كارلوس سعد– رئيس مجموعة بانديرانتس للإعلام: تأسست هذه المجموعة في عام 1937 وبدأت كمحطة إذاعية صغيرة، غير أنها أصبحت اليوم مجموعة كبيرة تضم قناتين للتليفزيون العام وثلاثة قنوات تليفزيون كيبل تقدم خدمات بالاشتراك واحدة مخصصة للأخبار وأخرى للرياضة والثالثة للمجال الزراعي وتعمل جميع هذه القنوات على مدى أربع وعشرين ساعة، كما تضم المجموعة ستة محطات إذاعات وصحيفة.. وصحيفة على شبكة الإنترنت وهناك مشروعات لتوسعة المجموعة في المستقبل.

رشيد جعفر: أكثر من اثني عشر مليون برازيلي من أصل عربي يسهمون منذ قرابة قرن ونصف بشكل بارز في تقدم البرازيل ورفاهيتها لكن نجاحهم وشهرتهم والاحترام الذي يحظون به كان ثمرة تضحيات كثيرة بذلها أجدادهم الذين وصلوا إلى هذه البلاد وهم لا يعرفون حتى لغتها.

أنطونيو أبي جودة– برازيلي من أصل عربي: حياة المهاجرين العرب الأوائل كانت صعبة جدا ومليئة بالتضحيات، مثلهم في ذلك مثل الإيطاليين والأسبان معظمهم كانوا يعملون في التجارة ويسافرون ببضائعهم إلى مناطق نائية في داخل البرازيل وغالبا كم كانوا يسافرون مشيا على الأقدام لكنهم كافحوا حتى حققوا استقرارهم تدريجيا وضمنوا العيش الكريم لأبنائهم وأحفادهم.

رشيد جعفر: العرب ورغم حضورهم القوي في المجتمع البرازيلي ليسوا إلا شريحة من نسيج اجتماعي يفخر بأن تعدد أعراقه عامل يوحد بين أفراده في المشاعر والأهداف والآلام والآمال، لا تمثل مدينة ريو دي جانيرو مجرد واجهة البرازيل الجميلة وعاصمتها السياحية فحسب بل إنها تشكل عينة عن المجتمع البرازيلي بتنوعه العرقي وإرثه الثقافي وهويته المتميزة فهي بالتالي العاصمة الثقافية للبرازيل أيضا، غير أن المدينة لا تعطي الصورة الكاملة عن الإمكانيات الهائلة والطاقات المتنوعة والموارد الضخمة للبرازيل، هذه الصورة تعكسها عاصمة البلاد الاقتصادية والصناعية ساوباولو.

[فاصل إعلاني]

ساوباولو.. نيويورك أميركا الجنوبية

رشيد جعفر: ساوباولو.. هذه هي نيويورك أميركا الجنوبية، بعض الإحصائيات تضعها في المرتبة الرابعة عالميا من حيث عدد السكان وأخرى تضعها في المرتبة الثالثة بل وتؤكد أخرى أنها ثاني أكبر مدينة في العالم بعد طوكيو ومكسيكو سيتي لكن المؤكد هو أنها أكبر مدن أميركا الجنوبية بدون منازع والعاصمة الاقتصادية والصناعية للبرازيل، هنا يعيش قرابة 21 مليون نسمة يأمنون ثلث إجمالي الناتج القومي للبرازيل، في هذه الشوارع تمر حوالي أربعة ملايين وخمسمائة آلاف سيارة يوميا، فيما ينقل مترو المدينة في يوم واحد عدد المسافرين الذين ينقلهم مترو واشنطن في شهرين، هنا تهبط أو تقلع طائرة مرة كل دقيقة ونصف من أحد مطارات المدينة الثلاثة ويتم صرف 55 شيكا في الثانية في مصارفها الـ 1500، مدينة عملاقة بكل المقاييس تبتلع كل ما يصل إليها بدون رحمة، سكانها الملقبون باسم الباوليستا معروفون بالجِد والعمل الدؤوب مقارنة مع السكان ريو دي جانيرو المعروفين بميلهم إلى الاستمتاع إلى الحياة في مدينتهم الجميلة والطريف أن سكان ريو دي جانيرو الملقبون باسم الكاريوكا يسخرون من سكان كبرى مدنهم ويصفونهم بالناس الذين بسبب كثرة عملهم يحرمون أنفسهم من تذوق طعم الحياة لكن سكان ساوباولو يردون على ذلك بالقول ريو دي جانيرو كسالى والأحرى بهم أن يعملوا لمعرفة قيمة العمل، شرائح واسعة من سكان ساوباولو تعمل ساعات طويلة في مصانع المدينة ومعاملها ومراكز أبحاثها ومعاهدها التكنولوجية ومؤسساتها المالية لمواكبة سرعة الاقتصاد البرازيلي الذي يحتل المرتبة الثامنة في العالم من حيث القوة والخامسة من حيث الحجم.

أنطونيو سركيس: في البرازيل قاعدة زراعية عريضة إضافة إلى ثرواتها الطبيعية الضخمة ما يجعلها أحدى الدول الرئيسة المصدرة للمواد الزراعية والثروات المعدنية في العالم ما يعزز اقتصادها بطبيعة الحال، أضف إلى ذلك أن الصناعات البرازيلية تحتل مكانة مرموقة في العالم فشركة امباير مثلا هي ثالث أكبر شركة لصناعة الطائرات في العالم بعد شركتي بوينج وايرباص العملاقتين وهناك أيضا صناعات أخرى مزدهرة كصناعة السيارات والشاحنات والدبابات وطائرات الهليكوبتر والطائرات المقاتلة والأجهزة الطبية والمعدات الكهربائية والإلكترونية وما يميز هذه المنتجات الصناعية أنها تنافس مثيلاتها بقوة في الأسواق العالمية بسبب جودتها العالية وأسعارها المناسبة.

رشيد جعفر: يعمل أبناء ساوباولو في مدينة طاحنة بضغوطها اليومية ومن بينها زحام حركة المرور الخانقة حيث يحترق البنزين والأعصاب في آن واحد يوميا لكنهم يتحملون ذلك ويكدون للحصول على لقمة العيش وأيضا للمساهمة في ازدهار الاقتصاد الذي يراهن البرازيليون على أنه الأداة الرئيسية لتحقيق حلم تحويل البرازيل إلى قوة كبرى على الساحة الدولية، غير بعيد من ساوباولو وعلى مسافة تقطعها السيارة في 45 دقيقة نشاطا اقتصادي من نوع آخر، ميناء سامبروس الذي يعود تاريخ إنشاءه إلى عام 1545 هو أكبر موانئ أميركا الجنوبية قاطبة وعصب رئيسي في الاقتصاد البرازيلي. لكن هل بلغ الاقتصاد البرازيلي من القوة ما يجعله قادرا على إحداث هذه القفزة؟

أنطونيو سركيس: نعم في البرازيل طاقة بشرية قوامها 180 مليون نسمة ويبلغ إجمالي ناتجها القومي سبعمائة مليار دولار وهو في زيادة، نحن نتوقع أن تصبح البرازيل قوة اقتصادية كبرى في العالم في فترة ليست بعيدة فاقتصادنا يبلغ ضعف اقتصاد كلا من الهند وروسيا مثلا كما أنه اقترب في العام 2003 من حجم اقتصاد الصين، هذا بالإضافة إلى أن التكنولوجيا المتطورة ومن بينها التكنولوجيا المستخدمة في المجال الزراعي ستساهم في تحسين أداء اقتصاد البلاد التي ستصبح قوة اقتصادية كبرى في غضون سنوات.

السياسة البرازيلية والعضوية الدائمة لمجلس الأمن

رشيد جعفر: وفيما يسير ركب الاقتصاد البرازيلي بوتيرة سريعة على خط التنمية يحذو البرازيليين الأمل في أن يلعب الاقتصاد دورا حاسما في تقدم البلاد ورخاءها مما سينعكس بالضرورة بشكل إيجابي على مكانتها السياسية في العالم، وسط زخم هذه الطاقات البشرية والطبيعية الهائلة التي تتوفر عليها البرازيل وهو ما تعكسه بقوة العاصمة الاقتصادية للبلاد ساوباولو تتزاحم الأفكار بشأن تحديد الاستراتيجية المناسبة التي يتعين اتباعها داخليا وخارجيا حتى تصبح البرازيل قوة كبرى على الساحة الدولية لكن تبقى الكلمة النهائية في هذا الأمر للقيادة في مركز صنع القرار العاصمة السياسية برازيليا، برازيليا ليست لها لا جاذبية ريو دي جانيرو ولا حيوية ساوباولو ومع ذلك فإنها عاصمة البلاد السياسية ومركز صناعة القرار فيها، أبصرت برازيليا النور خلال فترة حكم الرئيس الراحل جوسيلينو كوبتشيك الذي أعلن في نهاية الخمسينيات خطة لتنفيذ مشاريع طموحة للنهوض بالبرازيل في جميع المجالات، فترة طوي فيها أمل البرازيليين في إمكانية تحول بلادهم إلى دولة كبرى، صمم المهندس المعماري الشهير أوسكار نميير المدينة على شكل طائرة رمزا لانطلاقة البرازيل نحو مصاف الدول الكبرى وانتقل مقر الرئاسة والحكومة والبرلمان إلى العاصمة الجديدة في عام 1960، في السابع والعشرين من شهر أكتوبر من عام 2002 شهدت برازيليا والبرازيل حدثا بارزا في تاريخهما تمثل في وصول أول سياسي يساري ومن الطبقة العاملة إلى منصب الرئاسة في البلاد، تعهد العامل السابق في مصانع الصلب والزعيم النقابي البارز لويز ايناسيو لولا دا سيلفا بنقل البرازيل إلى مستوى أعلى ومنحها مكانة مرموقة على الساحة الدولية، تجلى ذلك بوضوح في سياسته الخارجية النشطة التي اتسمت بطرح عدد من المبادرات على المستوى الدولي، لقاءات مع زعماء الدول الكبرى لتأكيد سعي البرازيل إلى اللحاق بها والعمل إلى جانبها كشريك وليس كتابع، لقاءات مع زعماء الدول المجاورة للتأكيد على طموح البرازيل في تزعم عملية توحيد دول أميركا الجنوبية ولو في المجال الاقتصادي كمرحلة أولى، لقاءات مع زعماء الدول السائرة في طريق النمو للتأكيد على رغبة البرازيل في الدفاع عن مصالحها وإسماع صوتها للدول النامية وتعزيز الحوار بينها فيما يسمى بحوار الجنوب جنوب وإحلال العدالة في النظام التجاري الدولي في عملية تؤكد البرازيل أنها حوار وليست صراع بين الشمال والجنوب. ومن هذا المنطلق كدولة قوية بين الدول السائرة في طريق النمو تقترب من مصاف الدول النامية، تتمسك البرازيل بحقها في طلب الحصول على العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي.

"
تمسك البرازيل بحقها في طلب الحصول على العضوية الدائمة بمجلس الأمن الدولي ليس هوسا بهذه المسألة بل هو جزء من اهتمامنا بعملية إصلاح نظام الأمم المتحدة
"
        سيلصو أموريم

سيلصو أموريم– وزير الخارجية البرازيلي: هذا ليس هوسا من جانبنا بهذه المسألة بل هو جزء من اهتمامنا بعملية إصلاح نظام الأمم المتحدة التي لا يمكنها الاستمرار في العمل بنظام تم وضعه في النصف الثاني من القرن الماضي، إن هذا الوضع لم يعد ممكنا في الوقت الراهن لأنه يقود شرعية القرارات التي يتخذها مجلس الأمن الدولي، كنت سفيرا لبلادي لدى الأمم المتحدة عندما كانت تفرض عقوبات على ليبيا وأتذكر أنه جاءت لحظة لم تعد دول الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي ترغب في تنفيذ تلك العقوبات لأنها كانت غير مرتاحة لمصداقية مجلس الأمن ونسبة تمثيل الدول الأعضاء فيه، أعتقد أننا وصلنا إلى لحظة حاسمة تفرض إدخال إصلاحات على نظام الأمم المتحدة، من بينها منح دول من العالم السائر في طريق النمو مثل البرازيل والهند ودول أخرى العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي رغم أنني أفضل إلغاء ذلك الامتياز بصورة تدريجية.

رشيد جعفر: ويرى البعض أن هذا التحرك المكثف للدبلوماسية البرازيلية بما في ذلك المساهمة في حل النزاعات في بعض دول أميركا الجنوبية ما هو في الواقع ألا رسالة مهذبة للولايات المتحدة مفادها أن دول المنطقة تفضل أن ترسم سياساتها بنفسها وفقا لمصالح شعوبها وليس وفقا لمصالح واشنطن التي تهيمن تقليديا على جاراتها في الجنوب وهو السبب وراء المقولة القديمة في واشنطن بأن أميركا اللاتينية ما هي ألا بمثابة الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.

سيلصو أموريم: لسنا الحديقة الخلفية لأيا كان وكل من يعتقد ذلك فهو مخطئ تماما، نحن لدينا مصلحة في الحفاظ على استقرار أميركا الجنوبية ونقوم بتقديم المساعدة لدول في المنطقة عندما تواجه أزمات كما حدث في بوليفيا وفنزويلا مثلا، نقوم بذلك في صمت وعن طريق الإقناع والحوار بدون ممارسة أي ضغوط أو التهديد بقيام عمليات عسكرية، الوضع الجيوسياسي في أميركا الجنوبية يتغير وإذا كان هناك اتحاد فإنه لن يكون لمواجهة أحد بل لجعل المنطقة أكثر سلاما، نحن نعالج الأوضاع بطريقتنا الخاصة ولا نريد من أحد أن يفرض علينا كيف نفعل ذلك.

البرازيل.. الفوارق الطبقية ومشكلة الفقر

رشيد جعفر: لكن إذا كانت البرازيل تتوفر على المقومات اللازمة للانتقال إلى مصاف الدول النامية مثل المساحة الشاسعة والطاقة السكانية الكبيرة والموقع الاستراتيجي والاقتصاد القوي والديبلوماسية النشطة إلا أنها لا تزال تواجه مشاكل عويصة مثل سائر دول العالم الثالث، فرغم الصناعات المتقدمة والتكنولوجيا المتقدمة تعاني البرازيل من ظاهرة الفوارق الطبقية الهائلة في مجتمعها إذ تعتبر الهوة بين الأغنياء والفقراء الأوسع في العالم أجمع.

كارمن جونكيرا– الجامعة الكاثوليكية بساوباولو: الفوارق الاجتماعية في البرازيل شاسعة فهناك الأثرياء الذين يذهبون إلى نيويورك لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مثلا، فيما لا تكسب فئات واسعة من الشعب أكثر من دولار أو دولارين في اليوم وهذا مبلغ زهيد في آخر الشهر لا يتحمل الإنفاق على الغذاء والسكن والضروريات الأخرى للأسرة، معدل الأسعار يصل أحيانا إلى عشرة آلاف دولار في الشهر بالنسبة للبعض وأربعة دولارات فقط للبعض الآخر، أحيانا ترى مظاهر الثراء وأنت تتجول في شوارع ساوباولو لكنك عندما تسافر بالمترو ترى أحياء الصفيح والمظاهر البطالة في مناطق قريبة، سيتطلب الأمر وقتا طويلا لتحقيق التوازن وإصلاح هذا الخلل الاجتماعي.

رشيد جعفر: هذا ما لاحظناه في بعض شوارع مدينة ريو دي جانيرو فهناك الأحياء السكنية الراقية جدا من ناحية والأحياء الفقيرة التي تنبت وسطها من ناحية ثانية، أحياء تشعر فيها وكأنك من دولة من الدول التي تقود ركب الدول المتقدمة وأحياء على مسافة قريبة تحس فيها وكأنك في واحدة من أفقر دول العالم وإذا كان الشغل الشاغل لبعض الأثرياء هو متابعة حركة مؤشرات الأسهم في البورصة ومراقبة نمو ثرواتهم المتزايدة على جانب، فهناك آخرون على الجانب الآخر لا يجدون ما يقتاتون به وهمهم الوحيد هو تأمين ما يكفي من الطعام لسد رمقهم، مشكلة الفقر بارزة هنا في حي غوشنيا أكبر أحياء الصفيح في ريو دي جانيرو حيث يسكن ثلث سكان المدينة، المشكلة تفرض نفسها بقوة، هناك من يشغل نفسه بتتبع ما يجري في بلاده ومواكبة التطورات التي تشهدها البرازيل منذ وصول الرئيس لولا إلى الحكم وهناك من ينتظر دون جدوى بيع بضاعته البسيطة من مشروبات قلَّ أن يقبل عليها أحد فيعمد إلى احتساء مرارة واقعه من حين لآخر وهناك من يبحث عن فرصة يخرج بها من ظروفه القاسية بل ويجرب حظه أحيانا في اليانصيب لعل القدر يبتسم له، صور مختلفة للمعاناة لكن الجميع هنا يحلمون بتخطي الحواجز والعبور نحو حياة كريمة، ريكاردو هو أحد هؤلاء، في الخامسة والأربعين وأحد خمسة وأربعين مليون برازيلي يعيشون في حالة فقر مدقع حسب الإحصاءات الرسمية.

ريكاردو- مواطن برازيلي: الحياة هنا صعبة جدا لكنني غير قادر على السكن في فندق، نعاني الكثير في هذه الظروف القاسية لكننا نساعد بعضنا بعضا.

رشيد جعفر: يذكر ريكاردو الفندق بسخرية تشوبها المرارة التي تعكسها عيناه الحزينتان لأنه يدرك أن المبيت في فندق ولو لليلة واحدة يفوق استطاعته بكثير، يحاول القيام ببعض الأعمال البسيطة مثل بيع الجرائد وتفريغ حمولة شاحنات خفيفة وحراسة السيارات وغسيلها مقابل أجر زهيد يسد به رمقه، غير أن تلك الأعمال غير مضمونة يوميا وأحيانا لا يجد سيارات يغسلها فيلهي نفسه بغسل بعض الأواني التي يستخدمها في الطبخ من حين لآخر حسب توفر الطعام ويرى ريكاردو أن أفراد الطبقة العليا من الأثرياء يريدون أن يبقوا في أماكنهم في القمة وأن يبقى الفقراء عند أسفل الهرم وإلى أن يتحقق حلمه في امتلاك بيت والعيش في ظروف أفضل يواصل ريكاردو نمط حياته اليومية بين مشاعر الأمل في توفير قوت يومه والإحساس باليأس من عدم قدرته على سد رمقه.

ريكاردو: النار جاهزة لكن أين الطعام حتى أطبخ.

رشيد جعفر: هذا هو السؤال الذي يؤرق الرئيس لولا فهو من أسرة فقيرة ويعرف هذا الوضع حق المعرفة، لذلك بادر منذ اليوم الأول لتوليه الرئاسة إلى إطلاق مبادرة الجوع صفر أي القضاء على الجوع والعمل على توفير الغذاء اللازم لكل برازيلي وقد صرَّح بأنه إذا تمكن من تحقيق ذلك الإنجاز بعد فترة انتهاء رئاسته فإنه سيدرك عند إذاً أنه نجح في مهمته في الحياة والحقيقة المرة هي أن السبب في وجود خمسة وأربعين مليون برازيلي في حالة فقر لا يعود إلى عدم قدرة الأراضي الشاسعة للبرازيل على توفير الغذاء الكافي لهم بل لانخفاض القدرة الشرائية لهؤلاء إذ لا يمكنهم وضعهم من شراء كل ما يحتاجون إليه من مواد غذائية. لكن الفقر ليس وحده الذي يسبب انزعاجا للبرازيليين ويقلق حلمهم بالتحليق إلى آفاق أعلى واللحاق بركب الدول المتقدمة فالعنف الذي يؤدي إلى ارتفاع الجريمة بشكل كبير يزيد من تفاقم المشاكل في المجتمع البرازيلي.

حلمي نصر– جامعة ساوباولو: طبعا لا ننسى أن هنا نسبة التوالد كبيرة جدا، عدد البرازيليين سوف يصل أو وصل إلى 180 مليون وهذا عدد كبير جدا وما قلت كل الرغبات وكل السعي للطوائف لكسب العيش، ليس هناك عناية فائقة من ناحية الأمن مثلا، يعني أنا عشان أعيش في ساوباولو.. وهذه ظاهرة جديدة يعني عندما أنا وصلت إلى البرازيل لم يكن بهذا الشكل، كنت أخرج نصف الليل من السينما وأعود إلى بيتي ماشيا ولا أخاف أي شيء ولكن من عشرين سنة إلى الآن نظرا إلى ازدياد المشاكل الاجتماعية وعدم وجود كنترول للجرائم.. بحيث إن البرازيل طابعها خاص يعني هنا مثلا لما واحد يقتل واحد ويهرب وبعدين يمسكوه يقعد حر ما يتحبسش لأن اللي.. يحبس لما يقبض عليه أثناء الجريمة، إذا لم يكن.. لم يقبض عليه من أثناء الجريمة يظل حرا إلى أن يحاكم، هذه أشياء لا توجد في مجتمعات أخرى أنت واخد بالك، عدم وجود الأمن بصورة كافية جعل الجريمة تزداد وهذا عيب في الواقع في المجتمع الذي نعيش فيه ولكن التطور ما نقدرش نمنعه إلا إذا كان في أسباب قوية من الحكام ومن المجتمع ذات نفسه لعدم وجود هذه الظاهرة.

رشيد جعفر: في ظل هذه المتناقضات اقتصاد قوي وتكنولوجيا متطورة ومساحة شاسعة وموقع استراتيجي وطاقة بشرية كبيرة تجعل البرازيل تبدو وكأنها دولة متقدمة إلى جانب الفقر المدقع وفوارق طبقية هائلة وارتفاع معدل الجريمة وسوء أوضاع السكان الأصليين تجعلها تبدو وكأنها من دول العالم الثالث، كيف تريد البرازيل أن تصبح دولة كبرى ذات مكانة مرموقة على الساحة الدولية في مثل هذه الظروف؟

سيلصو أموريم: الرئيس لولا يتفق معك تماما في هذا وهو يرى أن هذه المتناقضات هي عار في واقع الأمر، ربما هي جزء من إرثنا التاريخي لأننا ننتمي إلى مجتمع كان حتى القرن التاسع عشر يعتمد على الرق، لذلك سيتطلب الأمر وقتا طويلا للخروج من هذا الوضع لكننا نتحرك بالفعل في هذا الاتجاه، فالسياسات الاجتماعية ومن بينها مبادرة القضاء على الجوع بدأت تؤتي ثمارها هنا، هكذا نحاول حل هذه المشاكل لأننا إذا كنا نحاول فقط تحقيق حلم الدولة الكبرى والعظمة في المجال الاقتصادي أو حتى في مجال السياسة الخارجية لكن بدون حل مشاكلنا الاجتماعية فإن تلك العظمة ستكون فارغة لأن العظمة الحقيقية الوحيدة تأتي من رفاهية المواطنين وتحسين أوضاعهم، أعتقد أنه ليس هناك من يعي هذه النقطة هنا أكثر من الرئيس لولا.

رشيد جعفر: وسط هذه الاندفاعة القوية التي تشهدها البرازيل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية منذ مجيء الرئيس لويز ايناسيو لولا دا سيلفا إلى الحكم ينتظر قرابة مائة وثمانين مليون برازيلي من قياداتهم وضع الاستراتيجية المناسبة لتسخير الطاقات الهائلة للبلاد وتحويل البرازيل إلى قوة كبرى على الساحة الدولية ويكاد يكون هناك إجماع في الرأي بين البرازيليين على أن بلادهم قادرة على الانطلاق نحو مصاف الدول المتقدمة وأن تحقيق هذا الحلم القديم أصبح مجرد مسألة وقت لا أكثر.