تحت المجهر

الصومال.. بصيص أمل

ثلاثة عشر عاماً مضت على انهيار الدولة في الصومال حولت الحياة فيه إلى جحيم: الفوضى ضاربة وأمراء الحرب يتنافسون على قيادة البلد نحو المجهول، ومع ذلك فهناك من يعزف أنشودة الأمل ويتطلع إلى انبعاث أمة استعصت على الفناء.

مقدم الحلقة:

حسن الراشدي

ضيوف الحلقة:

عبد النور درمان: حزب جبهة الصومال الموحد
عبد الله حاشي: مدير بنك
مريم عارف قاسم: كاتبة وبرلمانية
أبو بكر أمين شامو: رجل أعمال
وآخرون

تاريخ الحلقة:

24/07/2003

– واقع الحرب الأهلية في الصومال وتداعياتها
– عبد النور درمان ومحاولاته إعادة الاستقرار إلى الصومال

– نماذج من مساعي الصوماليين لبعث الحياة في الجسد الصومالي

– دور جامعة مقديشو في النهوض بالمستوى التعليمي للخروج من الأزمة

– دور إذاعة وتلفزيون هورن أفريكا في التواصل بين الصوماليين

واقع الحرب الأهلية في الصومال وتداعياتها


undefinedحسن الراشدي: أحداث عديدة تعاقبت على الصومال عقب سقوط نظام الرئيس السابق محمد سياد بري عام 1990 انتهت بنشوب حرب أهلية مدمرة خلَّفت ثلاثمائة ألف قتيل.

بدأت مؤشرات تلك الحرب في يونيو/ حزيران عام 91، حينما انتخب حزب المؤتمر الصومالي الموحد محمد فرح عيديد أميناً عاماً، وقتها رفض الرئيس بالإنابة محمد علي مهدي حليف الحكومة الإيطالية التخلي عن الحكم لعيديد، وكان ذلك سبباً في انطلاق شرارة الحرب الأهلية وسط وجنوب البلاد، ثم ما لبث الصراع أن دخل التدويل من بابه الواسع، تدخلت قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في الصومال لإيصال المساعدات لملايين اللاجئين وضحايا المجاعة، ولحل أزمة الصومال المستعصية، إلا أنها أخفقت في وقف حمامات الدم، وفي الخامس من يونيو/حزيران 93، وبعد أن لم تفلح قوات حفظ السلام في تهدئة الوضع استنجدت بالقوات الأميركية التي واجهت مقاومة عنيفة بدورها أدت في مارس 94 إلى وقف البحث عن ثمانية عشر من جنودها المفقودين في الصومال والانسحاب مع قوات غربية أخرى تاركة شعب الصومال يواجه قدره المحتوم.

ثلاثة عشر عاماً مضت على انهيار الدولة، لم يعرف الصوماليون خلالها معنىً للاستقرار أو الطمأنينة، فهجر أكثر من مليوني متعلم إلى أوطان أخرى تلقفتهم لاجئين، ثم سرعان ما انصهروا في مجتمعاتها، بينما كرس أمراء الحرب وزعماء القبائل مكانتهم وتنافسوا على قيادة الصومال إلى المجهول، كل شيء هنا يُذكِّر بالجحيم، أطلال شاهدة على المأساة، وذاكرة تعيش على النبش في الماضي البعيد.

أبو بكر أمين شامو (رجل أعمال): هنا صورة لفندق العروبة، كان أكبر فنادق الصومال، انظر كيف كان وكيف أصبح، دمروه وخربوه، وهذا ما كان يُعرف بقوس النصر الذي بنته إيطاليا، كان يشكل الشارع الرئيسي في مقديشيو، إلا أنه تحول إلى غابة، وهنا صورة البنك المركزي الصومالي، انظر كيف كان وكيف أصبح بعد الحرب. وهذه كنيسة مقديشيو انظر شكلها قبل الحرب، وبعد الحرب، وهذا هو البرلمان الصومالي قبل الحرب، وقد هُدِّم بعد الحرب.

حسن الراشدي: تعقيدات الحياة في الصومال أبشع من أن توصف، لقد ازداد عدد الفقراء فهجر المزارعون أراضيهم وضيعاتهم إلى ضاحية مقديشيو ووسطها بحثاً عن حماية العشيرة وعن ملاذ آمن يضمن لهم البقاء والبقاء وحده، هذه الظروف المعيشية القاسية لا تستثني سوى قلة قليلة من مجموع عشرة ملايين صومالي تعيش غالبيتهم تحت خط الفقر المدقع، إذ لا يزيد دخل الفرد عن دولار واحد في الشهر، علماً بأن سعر صرف الورقة الخضراء الواحدة يزيد بقليل عن سبعة عشرة ألف شلن، عملة الصومال التي لا تتداولها البنوك، ولا يقبلها التجار.

حتى العام 1990 كانت شبكة الطرق تمتد من ميناء بربرة شمالاً مروراً بالعاصمة مقديشيو إلى ميناء كسميو على مسافة تقدر بواحد وعشرين ألف كيلومتر، ألفان وستمائة كيلو منها معبدة، أما اليوم فلم تعد الطرق صالحة للاستخدام، بل إن استعمال تلك الطرقات يعتبر مجازفة، إذ تنتشر عصابات قطاع الطرق على طول امتدادها ناهيك به الميليشيات المسلحة التي تنفرد بالسيطرة على عده جهات ومحاور، وتفرض على سائقي الشاحنات ومستخدمي الطريق رسوماً بالقوة.

ولا تزال الميليشيات المسلحة تشكل عنصراً أساسياً في بسط أمراء الحرب نفوذهم، وتتشكل في الغالب من شبان القبيلة التي ينتمي إليها الزعيم الذي يتولى رعايتهم وتسليحهم، ويتقاضى أفراد هذه الميليشيات أبخس الأجور التي تصل في أفضل الأحوال إلى بضعة دولارات في الشهر، ومعظم هؤلاء يعملون من دون أجر مقابل إطعامهم وجبة أو وجبتين في اليوم، ومدهم بزادهم اليومي من عشب القات. وتعد غالبية هؤلاء المقاتلين من ذوي الخبرة القتالية خاضوا المعارك وتمرسوا على حمل السلاح والرماية.

ومعظم هؤلاء الشباب المسلحين تتراوح أعمارهم ما بين الثالثة عشرة والتاسعة عشرة لم يلجوا المدارس ولم يتعلموا حرفة منذ انهيار الدولة عام 91.

وفي غياب الشرطة والجيش ومقومات الدولة عموماً أصبح الاعتماد على أفراد الميليشيات المسلحة مشروعاً تجارياً مربحاً، وبالإضافة إلى أمراء الحرب والزعماء السياسيين صار التجار وأصحاب المشاريع الاستثمارية بدورهم يوظفون هؤلاء المسلحين لتوفير حمايتهم الشخصية وحماية مشاريعهم.

عبد الله حاشي (مدير بنك): تعرف إنه الصومال صحيح مافيش، يعني مافيش قانون، مافيش دولة، مافيش.. لكن فيه.. يعني ما يُسمى ما أدري أيش أقول باللغة العربية بس فيه نخوة في الناس يعني، لأن مش كل واحد يروح وينهب عن الناس، يعني أصلاً التقاتل هذا دي.. فيه ثأر في بعض الأحيان، لكن هو موجَّه بالسياسة أصلاً يعني، فيه ناس يتقاتلون في الموضوع السياسة والمنصب، لكن بالنسبة للتجار عملوا حاجتين، أولاً يعني يحمون أنفسهم بمالهم.. بأموالهم يعني، يعني يشتروا الأسلحة وعندهم جنود يعني ناس يعني.. فما فيش أي يعني، ما فيش واحد يتعدى على الآخر أبداً يعني، فيعني فيه أمن نسبي.. يعني فيه.. فيه أمن نسبي، طبعاً ويعني حسب.. حسب يعني الأمن هذا يعني بتكون دائماً يعني حتى المبالغ اللي نجيبها هنا يعني دائماً هي بترتبط حسب الأمن الموجود يعني.

عبد النور درمان ومحاولاته إعادة الاستقرار إلى الصومال

حسن الراشدي: واقع الحال في الصومال يلخص حقيقة أن الحكومة الانتقالية برئاسة عبد القاسم صلاد حسن والتي تمخَّضت عن مؤتمر السلام الذُي عقد في عرتا بجيبوتي عام 2000 فشلت في بسط سيطرتها على كل أرجاء البلاد، كما عجزت عن استعادة النظام وإعادة البناء، فتبخر الأمل الذي ساور الصوماليين وتعالت أصوات في أوساطهم تطالب المجتمع الدولي بالتدخل لتشكيل حكومة ثانية مع نهاية ولاية حكومة صلاد على غرار ما حدث في أفغانستان، فكان لابد من ظهور لاعب جديد على رقعة الصراع بنفس مواصفات كرزاي الأفغاني، وكرزاي الصومال كما يلقبه البعض يُدعى عبد النور أحمد درمان ابن الدبلوماسي المخضرم أحمد درمان، هو في بداية الخمسينات غادر الصومال ولم يتجاوز العاشرة من العمر إلى واشنطن، وهناك تعلم وتخرج من إحدى الجامعات الأميركية مهندساً كهربائياً، امتهن التجارة بعد أن أدى الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الأميركي.

صخب الحياة الأميركية لم ينسه هموم الصومال التي يتابع فصولها هناك ككل الصوماليين في المهجر، في أواخر التسعينيات انضم إلى حزب مؤتمر الصومال الموحد وانتخب أميناً عاماً له، وبقي عبد النور ملتصقاً بالجذور، طامحاً إلى التغيير في الصومال، متربصاً مجيء اللحظة المواتية للعودة إلى وطنه.

من دُبي كان يتابع ترتيبات الدعوة التي وجهها إليه أنصاره وأبناء قبيلته لمبايعته رئيساً للبلاد، لم يكن هيناً عليه رفض الدعوة، وهو الأميركي المتشبع بتقاليد القبيلة، ولكنه بقي متردداً ليكثف اجتماعاته واتصالاته بأعوانه ومبعوثي القبائل والناشطين السياسيين قبل توجيهه الدعوة لعقد مؤتمر استثنائي لحزبه في الرابع من يوينو/حزيران عام 2003 بمقديشيو.

اتصالاته بواشنطن وباريس ولندن ومقديشيو لم تنقطع ليل نهار، من دُبي كان عبد النور يتابع تفاصيل مؤتمر المصالحة الوطنية الصومالية الذي استمر عقده في كينيا ثمانية شهور لم يفلح المشاركون خلالها في الاتفاق على إيجاد مخرج لأزمة فراغ السلطة في مقديشيو، كان عبد النور دائم الاحتجاج، غير راضٍ على انعقاد هذا المؤتمر بمشاركة ممثلين يُحمِّلهم مسؤولية ما آل إليه الصومال.

اتخذ قرار المواجهة مع بقية مواطنيه المجتمعين في كينيا، حمل حاله وراح إلى نيروبي لمواجهة أبناء جلدته بتلك الحقيقة.

عبد النور درمان (حزب جبهة الصومال الموحد): أتيت هنا شخصياً لأوجه دعوة للمشاركين في مؤتمر المصالحة لحضور مؤتمرنا في مقديشيو، ولأشكر الحكومة الكينية ودول الجوار وعلى رأسها إثيوبيا وجيبوتي للمساعدة التي تقدمها للصومال منذ زمن طويل، ومحاولتها عمل أي شيء لإخراج الصومال من أزمته، ومهما كانت العقبات فإنني أعتقد أنه بمقدور الصوماليين بمفردهم أن يجدوا حلاً لمشكلتهم، الوضع في الصومال يحتاج إلى وقت كافٍ لحل مشكلاتنا بأنفسنا، أما الحاضرون هنا في مؤتمر المصالحة منذ شهور فقد أخفقوا في إيجاد حل لأنهم لا يمثلون الصوماليين.

حسن الراشدي: ها قد دقت ساعة الصفر، بدأت طائرة (تيبوليف) الروسية في الهبوط بأحد مطارات مقديشيو، كانت علامات القلق بادية على محيَّاه، قلقٌ ممزوجٌ بحالة مخاضٍ وترقب، لقاء جماهيري لا شك أنه هوَّن من حدة اللحظة، لقاء أعقبته لقاءاتٌ وتجمعاتٌ واستعداداتٌ ليومٍ مشهود، ثم اختار الحزب واختارت القبائل وقدماء الضباط والجنود والعقلاء اختاروا بل بايعوا عبد النور رئيساً للبلاد.

أدى عبد النور بعدها القسم أمام عشيرته ومبايعيه، أقسم ألا يهدأ له بال، أو يغمض له جفن حتى يعود الصومال إلى سابق عهده، على هذه النبرة المتفائلة والدعم الرئيس المبايع، وكله أمل كان حريصاً على تنقية الأجواء وزرع الطمأنينة في النفوس ونزع سلاح الميليشيات وبناء غد مشرق، وحتى إعداد هذا البرنامج لم تكن أخبار الرئيس مطمئنة ولا كافية لتأكيد ربحه الرهان، إلا أن الأمل لم يتبخر.

[فاصل إعلاني]

نماذج من مساعي الصوماليين لبعث الحياة في الجسد الصومالي

حسن الراشدي: أمثال عبد النور عديدون، صوماليون يراودهم الأمل في بعث الحياة في جسم عليل ليس له من قوة ولا حول، نموذج آخر هي الدكتورة ديغة أول طبيبة صومالية كانت ضمن وفد من الطلبة الصوماليين الذين تخرجوا من إحدى كليات الطب في باكستان، رفاق رحلة التحصيل وبعد أن تخرجوا اختاروا الانتشار في أرض الله الواسعة، أما هي فأبت واختارت العودة.

د. ديغة أحمد (طبيبة): يعني أول مرة لما طلعنا أيام الحرب أصل إحنا قعدنا أول أيام الحرب يعني كنا مقتنعين إن حالنا حال غيرنا ويعني طلعنا من هين نتعلم ولما خلصت من التعليم يعني من الطبيعي.. نرجع للمكان الوحيد اللي هو أهلنا فيه، ونحاول نساعد اللي علمونا إياها، يعني كانوا هم في ظروف صعبة وصرفوا علينا وتعبوا علينا، يعني الطبيعي نرجع نساعدهم، ويعني فيه حالات حصلت لما كنت بالدراسة، أمي تعورت، أخويا الصغير تعور، فكانوا فيه دكاترة ما طلعوا من أيام الحرب وقاعدين لحد الحين يساعدوا الناس من غير مقابل من غير أجر كتير، فجيت آخد يعني مكاني في المجتمع وأساعد الناس زي ما ساعدوا أهلي.

حسن الراشدي: كل يوم في حياة هذه الطبيبة يشكل تحدياً جديداً، المعوقات عديدة، وظروف العمل محبطة، وصحة المرضى أمانة، وفي كل يوم يتقوى إيمانها بعدم الاستسلام.

د.ديغة أحمد: ظروف صعبة، ما عندنا معدات كافية، وما عندنا أجهزة عصرية، بنستعمل المعدات القديمة اللي كانت يعني قبل أيام الحرب قبل 13 سنة، المعدات اللي كانت هنا لسه بنستعملها، لأن ما عندنا الميزانيات اللي نشتري فيها معدات، يعني يا دوبنا نمشي، نحاول نساعد الناس على قد ما نقدر، يعني بنشوف مرات تكون فيه عملية، والشخص يعني ما عنده حدا والناس الدكاترة أو الناس يتبرعوا الدم له لأن ما عندي.. ما عنده حد، وزي حالتي أنا

O negative ، وO negative يعني rare، يعني بدي مرتين في الـ 3 أشهر دم تبرع.

أنا الحالة صعبة، الإيدز.. يعني مشكلة عندنا، أصلاً فهاي قضية بدائية ما عندنا (Case) كتير، بس الحالات اللي عندنا ما عندنا مكان لهم.

يعني المريض الـ HIV Positive يجي عندنا نشخصه نشوف إنه عنده HIV Positive ما عندنا مكان نوديه.. لازم يرجع لأهله والله عالم اللي بيسويه، يعني مرض خطير معدي زي إيدز كان المفروض يكون عندنا أماكن له بس ما عندنا ميزانيات أو إمكانيات نعمل أماكن للإيدز.

حسن الراشدي: أمام عجز الحكومة الصومالية في القيام بمسؤولياتها كاملة في رعاية المرضى وتعليم الأطفال وإقرار الحقوق المكتسبة للمواطنين أخذ المجتمع المدني وبعض رجال الأعمال وبعض المهاجرين تلك المسؤوليات على عاتقهم، فبنوا المستشفيات والعيادات الخاصة، وشيدوا المدارس التعليمية الخاصة التي تستوعب أكثر من ثلثي الأطفال في سن التعليم مقابل رسوم زهيدة، وهذه المشاريع التنموية حديثة، ولم يكن ليكتب لها أن ترى النور وشبح الحرب جاثمٌ.

د. ديغة أحمد: إحنا هيئة المطافئ.. قطاع خاص، والأجور بتاعهم بيجي من رجال الأعمال، عندنا في الأيام هذه هيئة تصلَّح الطرق، بس من قطاع خاص يجي الفلوس من الصوماليين اللي في بره، بيبعتوا الفلوس هم، يعني بيحاولون على قَد ما يقدروا، بس مش كفاية.

فرصة الصومال الوحيدة مع المتعلمين، يعني لازم المثقفين والمتعلمين يرجعوا الصومال يحاولوا يعني يعملوا الآن في ها الـ(…) ، بيحاولوا يعني يساعدوا الصوماليين يرون إنه في عالم تاني عالم السلاح والحرب، فيه عالم تاني يعني عندنا مكان في العالم (…) يعني وكمان عندنا (NGO Reputation) يعني يعلم الميليشيات الصناعة اليدوية..، ويعلموهم النجارة وتصليح السيارات وتصليح التليفزيونات، يعني هم بيحاولوا يخلوا للناس شغل تاني غير السلاح.

حسن الراشدي: تصر الدكتورة ديغة على اطلاعنا على جوانب أخرى من أنشطة المجتمع المدني داخل مقديشو، تعرفني على الكاتبة الصومالية مريم عارف قاسم، أحد أبرز وجوه المجتمع المدني في الصومال، تنحدر مريم من أسرة ميسورة، أجبرتها ظروف الحرب الأهلية على مغادرة البلاد في بداية التسعينيات ثم ما لبثت أن عادت، عادت مريم وكلها إيمان بأن مصير الصومال هو بيد الصوماليين وحدهم، ومن هذا المنطلق خاضت تجارب الكتابة والنشر والعمل السياسي للتعريف بقضيتها، فانخرطت في المجتمع المدني.

تعلن مريم بأن الخلاص قادم لا محالة، آنذاك سيأتي على أيدي الصوماليين الميسورين والمتعلمين، فكان أن تبرعت ببيتها هذا الذي أصبح اليوم داراً للحضانة، يعمه أطفال صغار يتربون منذ النشأة على حب الصومال.

ولا تخلو حياة هؤلاء الرجال والنساء ممن يحملون بذرة الأمل في الخلاص، لا تخلو حياتهم من المخاطر، فهم برأي أمراء الحرب مغرِّدون خارج السرب.

مريم عارف قاسم (كاتبة وبرلمانية): البارحة كنت مع إحدى الصديقات في زيارة لمدرسة في وضع التشييد بأحد الأحياء الشعبية في مقديشو، وقد فوجئنا هناك بمسلحين يطلقون النار علينا، ولكن الله سلم، ومثل هذه التصرفات لا تحد من عزمنا ولا ترهبنا، لأننا نؤمن بأن قدرنا محدد من قِبل الله، ولن نموت إلا بأجل، ونحن لم نفقد البأس ولا الشجاعة، لأن في الصومال فئة تسعى لأن تغير الوضع إلى الأفضل، أتوجه إلى الصوماليين في الخارج الذي يخشون العودة، أقول لهم لا تخافوا، ستجدون هنا أناساً يعملون من أجل تغيير الأوضاع، وكلنا كصوماليين سواسية وبإمكاننا تغيير الوضع في الصومال.

حسن الراشدي: ينشط المجتمع المدني في الصومال بمختلف جمعياته وهيئاته في ربط الجسور مع المنظمات والجمعيات الأهلية عبر العالم، وهي في معظمها من أوروبا وكندا وأميركا، وتحصل تلك الجمعيات على مساعدات متنوعة في تدريب الكوادر التعليمية والتقنية، وتبادل الزيارات، وفي الترويج للمشاريع الاستثمارية المشتركة، يحدث هذا بينما تغيب المنظمات وهيئات الإغاثة الإسلامية والمنظمات الأهلية العربية عن الصومال.

مريم عارف قاسم: إحنا ما نبغي فلوس، إحنا عندنا هذا الوطن شوف.. شوف أحطه كده الحبة درة.

حسن الراشدي : .. تنبت.

مريم عارف قاسم: تنبت اليوم الثاني، لأن إحنا نبغي إخوان يشتغلوا معانا، مش يعطونا فلوس، ما تعطوا فلوس للصومال، فلوس ما.. ما نبغي فلوس، إحنا ما نبغي.. ما.. ما نبغي ثمن، نبغي الـTool .

حسن الراشدي: الأدوات.

مريم عارف قاسم: الأدوات من.. من.

حسن الراشدي: مثل صيد السمك.

مريم عارف قاسم: للصيد، أن والعرب يعطوا فلوس لهذا الحكومة وهذا الرجل، إقليمية، هذا الشخص و.. لا.. لا.. لازم لو العرب طب حقيقة تسوي حاجة للصومال أعطونا مشاريع.. مشاريع، فيه طرق الآن في مقديشو شقت.. شفت الطريق، خلي يسوي هذا الطريق، فيه الناس في الصومال يموتوا عطش، أعطينا إن (water wells)، آبار.. آبار، ما نبغي فلوس.. ما نبغي فلوس من.. من العرب واحد، بعدين أنا أقول في في الكتب.. في الكتاب مالي هنا، أنا أقول إنه (until) لغاية ديسمبر 1992.. ما.. ما كانش عرب عندنا مساعدة في الصومال، كنا نموت جوع هنا، وبعدين جاءوا الأميركان، وأوروبا كلها جاءت، ليش أنتم After أميركان؟ ليش ما بتجئيوا لوحدكم؟ ليش تجيئوا مع الأميركان؟ الآن لو أميركا تقول صومالي لازم نعطي الصومالي فلوس، كل العرب تعطينا فلوس، وكل العرب تجي هنا وتشتغل معانا، وكل العرب تحط هذا وهذا وهذا، لكن لو أميركا ما.. ما تعطي حاجة للصومال العرب ما راح تعطي برضو.

دور جامعة مقديشو في النهوض بالمستوى التعليمي للخروج من الأزمة

حسن الراشدي: يخشى المجتمع المدني في الصومال من أن تتفكك البلاد وتصبح ملاذاً للمنظمات الإرهابية وتتحول إلى أفغانستان أخرى، وذلك إذا لم يسارع المجتمع الدولي لتقديم مزيد من المساعدات، ويساهم في تأسيس قوات شرطة جديدة، وفي إعادة بناء البنية التحتية والنهوض بالقطاع التعليمي وقطاع الخدمات، إلا أن هذه الصورة القاتمة للمستقبل لا تثبط الهمم ولا العزائم، جامعة مقديشو مثال الأمل والتحدي رغم السنوات العجاف التي أتت على الأخضر واليابس، ورغم معاناة الناس في صراعها المستميت من أجل سد الرمق، ظلت الجامعة حاضرة، وظل العلم والتحصيل حلم العديدين وزادهم لكسب المعركة والخروج من النفق المظلم.

د. علي الشيخ أحمد أبو بكر (رئيس جامعة مقديشو): جامعة مقديشو عندما كنا نفكر في تأسيسها، كنا نعتبرها جامعة.. جامعة الأمل، جامعة الإرادة، جامعة التحدي، لأنها جامعة تأسست بين أوساط فئات متناحرة من أهلنا، ولم يكن للعلماء والمفكرين الصوماليين أي دور، لأنهم ليسوا من هؤلاء المتحاربين، وليس لهم مؤسسة ترعى شئونهم، فبدأنا في تشكيل هذه المؤسسة التعليمية التي ما كان يحلم بها أحد من الصومال، لأن الصوماليين كانوا يعرفون دائماً شيء اسمه الحكومي، مؤسسات حكومية، تعليم حكومي، جامعة حكومية، كل شيء كان حكومي، وخاصة عندما كنا نعيش في مرحلة عاشها الشعب تحت حكم استبدادي قاسي استمر حوالي 21 عاماً، مُحِيَ من الوجود أي مؤسسة أهلية، والمجتمع المدني، وكل شيء أصبح حكومي، فعندما أصبح كل شيء أهلي ولم يكن لأي حكومي أي وجود، فبدأت أنا بفكرة جامعة أهلية، وهي جامعة مقديشو، جامعة.. الجامعة الذي تكون كما أخبركم الأخوة الآخرين عدد من الكليات والمعاهد العلمية ليس معزولة عن المجتمع، فمن أحد.. من الاتحادات التي هي الجامعة جزء منها اتحاد جامعات العالم الإسلامي، واتحاد الجامعات العالم العربي، واتحاد الجامعات الأهلية الخاصة في العالم العربي، والآن تصبح قريباً إن شاء الله عضواً في رابطة اتحاد الجامعات الإسلامية واتحاد الجامعات الأفريقية.

حسن الراشدي: كان عدد أعضاء هيئة التدريس بجامعة مقديشيو في الموسم الدراسي 97، 98 لا يزيد عن عشرة أساتذة وارتفع في العام الدراسي الموالي إلى واحد وتسعين أستاذاً، أما الطلبة فقد بلغ عددهم ألفاً وثلاثمائة طالب وطالبة، ولكن نسبة كبيرة منهم لا تواصل التحصيل بسبب الظروف الاقتصادية المحيطة بالبلد، إذ تصل نسبة من ينقطعون عن الدراسة للسبب نفسه 25%.

وتضم جامعة مقديشيو ست كليات تدرس خمسة عشر تخصصاً جامعياً، كما تعمل الجامعة أيضاً على نشر ثقافة السلام في المجتمع عبر تنظيم المؤتمرات وعقد الندوات، كل مباني الجامعة مستأجرة ولا تتوافر على أبسط مواصفات المباني الجامعية، إلا أن الجامعة ومن خلال حضورها العربي والإسلامي تمكنت من كسب مساعدات لبناء مبناها الجديد الذي دخل أشواطه النهائية، وتتمثل رسالة جامعة مقديشيو في إعداد إنسان مرحلة ما بعد الحرب الأهلية في الصومال، إنسان يؤمن بالإخاء والتعاون والعمل، ويرفض التعصب والقبلية والتناحر، ويسعى لبناء أمة استعصت على الفناء.

دور إذاعة وتلفزيون هورن أفريكا في التواصل بين الصوماليين

أحمد عبد السلام (مدير إذاعة وتليفزيون هورن أفريكا): فكرة إنشاء محطة للإذاعة والتليفزيون هي من ابتكار ثلاثة كنديين من أصل صومالي، كنا جميعاً خارج البلد لأكثر من عقد من الزمن، وفي نهاية التسعينيات اهتدينا إلى أن البلد بدأ يشهد نوعاً من الاستقرار بعد مضي أكثر من عشر سنوات من الحرب الأهلية، لم تعد الأمور إلى طبيعتها الأصلية لكن الظروف باءت ملائمة بالقدر الذي يسمح لنا بالعودة، كانت قناعتنا وقتها أنه من دون مساهمة الصوماليين وعودتهم من الشتات لم تتمكن البلاد من استعادة استقرارها، عدنا وكنا نتساءل ماذا يمكننا أن نقدمه للصوماليين؟ فاستعرضنا عدة أفكار قبل أن نهتدي إلى هذه الفكرة التي لم تكن قابلة للتخيل في ذلك الوقت، تم التفكير في إقامة محطة إذاعية خاصة ذات أغراض تجارية، بالإضافة إلى محطة تلفزة في مقديشيو، التي تشكل مركز الصراع، وأحسسنا بأن أن المشروع سيشكِّل مساهمة هامة للصوماليين، إلا أننا نعتقد بأن إحدى المشكلات الأساسية تتمثل في وصول معلومات خاطئة إلى الصوماليين، ومن هذا المنطلق خططنا لأن تكون الإذاعة إطاراً للبرامج الحوارية.

حسن الراشدي: وتبث المحطة الإذاعية برامجها باللغة الصومالية مدة ثماني عشرة ساعة في اليوم، تخصص أربع ساعات منها لإعادة بث برامج إحدى المحطات الدولية التي تبث بالعربية والإنجليزية والصومالية، وقد ساهمت هذه المحطة بعد ثلاث سنوات مضت على وجودها في تعميق الوعي بضرورة الحوار بين مختلف مستمعيها كما شكلت متنفساً يعتمد عليه المواطن الصومالي في التعبير عن رأيه إزاء قضاياه المصيرية.

فارح محمد يوسف (منتج بمحطة هورن أفريكا): البرنامج الذي أقدمه مخصص للاستماع إلى آراء المستمعين بخصوص مواضيع الساعة، فموضوع اليوم كان يدور حول آراء الناس في مرشحي الرئاسة الذين يرغبون في قيادة البلاد، فقد كنا نسأل المستمعين عن آرائهم في نوعية المترشح الذي يتمنون وصوله إلى سدة الحكم، كما كنا نسأل أيضاً عن مواصفات الرئيس القادم، وكانت معظم الإجابات تشترط أن يكون الرئيس القادم متديناً ومتفتحاً ومتعلماً.

أحمد عبد السلام: جميع المواضيع التي تتناولها برامجنا الحوارية تنبع من صميم المجتمع، بما فيها موضوعات الحرب والسلام والصراع وأسباب استمراره، ومن المسؤول عنه؟ ومن يقتل مَن؟ ولماذا نحن في هذا الفوضى منذ اثنى عشر عاماً؟ أين زعماؤنا التقليديون؟ وماذا حدث لنخبنا السياسية؟ وماذا عن قادة الحرب، وأين الشباب والنساء والمثقفون؟ إنني أتحدث عن ثلاث سنوات من الحوار بين مختلف الأطراف، أعتقد أن الانطباع العام كان إيجابياً جداً إذ أصبحنا نعترف ببعضنا البعض، ونتواصل فيما بيننا، وفجأة اكتشف كل واحد منا أن مشاكلنا واحدة.

حسن الراشدي: نماذج اختارت أن ترى نصف الكوب ممتلئاً، يحدوها الأمل في قرب الخلاص، ولسان حالها يردد قول الشاعر:

أُعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

أبو بكر أمين شامو (رجل أعمال): مستقبل الصومال يعني أظن إن هذه المرة أحسن من الأول بكثير، لأن في الأول كان منطق.. منطق الكلام ما كانش فيه، منطق البندقية كان يمشي الآن دلوقتي الناس تعبت من الحروب، مش عايزين الحرب.

حسن الراشدي: وإلى أن يأتي يوم آخر ينهي عتمة المصير، سيظل الإنسان الصومالي متشبثاً ببصيص الأمل، مصِّراً على الموت واقفاً كالأشجار في انتظار الفرج.

هذا حسن الراشدي يحييكم من مقديشو، وإلى اللقاء.