السنغال/ ج1
نقطة ساخنة

السنغال.. بين العلمانية والصوفية ج1

تبحث الحلقة السنغال بين العلمانية والصوفية. بلاد في أقصى الغرب الأفريقي حيث ديمقراطية تناقض الواقع الإقليمي وفقر لا يحول دونها وحركة انفصالية تخضع لها.

– داكار.. أناقة فرنسية في قلب القارة الأفريقية
– كازامانس وآمال الاستقلال

undefined

أسعد طه: هل أتاكم نبؤنا هنا؟ نحن منكم وإن كانت الأرض عنكم تبتعد، لساننا غير لسانكم ربما، اللون والثوب والشعر ربما، لكننا والله مثلنا مثلكم نفس الفرح والوجع، نفس الحاجة وذل المسألة، نفس المسبحة والمئذنة، نفس الهيمنة، مهلا ربما في الأمر ما هو مختلف، الحاكم عندنا يأتي ثم ينصرف، السلام عليكم، ثمة ما يدعوك لأن تأتي إلى هنا، ديمقراطية مثيرة في بلد إفريقي يعاني من ويلات الفقر والتخلف وصوفية تحكم كل صغيرة وكبيرة في حركة المجتمع وعلمانيون يعتمدون على الدين وسيلة للوصول إلى الحكم ومستعربون ومتغربون يتصارعون على هوية الوطن، هنا نقطة ساخنة، ليس بمعنى الحرب والعنف وإنما بما تمثله من قضايا حساسة ومصيرية تخص هذا البلد وتؤثر على هذه المنطقة وتتشابك مع واقعنا في العالم العربي والإسلامي، مرحبا بكم في السنغال.

داكار.. أناقة فرنسية في قلب القارة الأفريقية

لا شك أنني بتُّ في واحدة من أجمل المدن في غرب القارة الإفريقية، طقس متبدل وطبيعة ساحرة، شوارع ضيقة ومزدحمة، صياح وضجيج، حكايات وأساطير، أشياء عتيقة وأخرى حديثة، أما الناس فهم مسالمون بطيؤو الحركة، طيبو المعشر، أيها السادة أنتم في داكار.. وداكار هي هكذا وعليكم أن تحبوها هكذا، عند الشاطئ تشعر أن العاصمة السنغالية كما لو أنها تتمدد داخل المحيط الأطلسي وهي الواقعة في أقصى غرب القارة الأفريقية، يعيش بها مليونان من البشر تتنوع مصادر دخلهم لكن يغلب عليها الزراعة والصيد، بحسب التاريخ فإن داكار مسكونة منذ قديم الأزل وبحسب الجغرافيا فإنها عاصمة بلاد محاطة من الشمال بموريتانيا ومن الشرق بمالي ومن الجنوب الغربي غينيا بيساو ومن الجنوب بغينيا فيما تحتضن بداخلها جمهورية غامبيا، صور داكار في الستينيات توحي بأنها كانت مدينة أنيقة كما لو أنها واحدة من الضواحي الفرنسية وهي التي ظهرت لأول مرة على الخريطة عام 1750 كقرية صغيرة بنتها قبائل اللبو قبل أن يؤسسها المحتل الفرنسي عام 1857 كعاصمة لإدارة مستعمراته في غرب أفريقيا، في داكار عادةً ما يبدأ الزائر جولته الاستطلاعية من ميدان الاستقلال وهو الميدان الذي شهد عام 1960 مظاهرات حاشدة طالبت فيها الجماهير بالاستقلال بعد أن تناوب البرتغاليون والهولنديون والإنجليز على استعمار البلاد فيما دام حكم الفرنسيين حوالي قرنا ونصف قرن من الزمان، أما هذا الرجل فهو ليبولد سنغور شاعر زنجي حائز على جائزة نوبل للآداب ينتمي إلى الأقلية المسيحية، قاتل مع الجيش الفرنسي في الحرب الثانية وبات أول رئيس للسنغال عندما نالت حريتها في الخامس من سبتمبر/ أيلول عام 1960، سنغور زعيم الحزب الاشتراكي السنغالي حكم البلاد لواحد وعشرين عاما ثم خلفه نائبه عبده ضيوف ليحكم هو الآخر لتسعة عشر عاما قبل أن يهزمه رجل ظل في المعارضة لعشرين عاما يُدعى عبد الله واد، صبيحة اليوم التالي لوصولنا داكار أُبلغنا أن رئيس الدولة يرغب في لقائنا، توجهنا إلى القصر الرئاسي الذي شُيد قبل قرن من الزمان ليكون مقرا للحكومة أيام الاستعمار وقبل أن يصبح لاحقا قصرا رئاسيا، في غرفة متواضعة استقبلنا الرئيس وضمتنا جلسة بذل الرجل فيها جهدا للتأكيد على أهمية العلاقات بين العالم العربي وبلاده التي تنتظر انعقاد مؤتمر القمة الإسلامية على أراضيها عام 2006، المفاجأة أن الرئيس اقترح أن نقوم بجولة في شوارع العاصمة داكار مشياً على الأقدام هكذا ببساطة، مشيا على الأقدام، لاحقا قادتنا سيارته حتى ميدان الاستقلال ثم منها ترجَّل لينفرط عِقدُنا وسط حماس جماهيري جارف، عبد الله واد يبلغ من العمر ثمانين عاما، حصل على شهادته الجامعية من فرنسا، درس الرياضيات وعلم النفس وعلم الاجتماع والمحاماة والاقتصاد، يفتخر أنه بين أقرانه من رؤساء وقادة إفريقيا، يحمل أكبر عدد من الشهادات الجامعية، دخل السجن وتعرض للاختطاف وشُنت الحملات على سمعته المالية ونُفي إلى فرنسا، كلها كانت لفترات محدودة لكنها أكسبته مصداقية لدى أنصاره الذين يثمنون كافحا سياسيا بدأه منذ أن كان طالبا بفرنسا مرورا بتأسيس الحزب الديمقراطي السنغالي عام 1974، يعود الرجل الثمانيني إلى القصر الرئاسي الذي دخله في الأول من أبريل/ نيسان لعام 2000 ليتولى رئاسة بلاده بعد أن حصل على قرابة 60% من أصوات الناخبين لتنتقل السلطة بذلك إلى المعارضة في بلد عاش دوما أجواء استقرار سياسي فيما الانقلابات العسكرية كانت في الأغلب هي التقليد السائد للوصول إلى السلطة في الدول المحيطة بها، بالولوف أي اللغة المحلية السائدة فإن داكار تعني شجرة التمر الهندي، في شوارعها المزدحمة لن تعدم طريقة يمكنك بها أن تتلمس آراء الناس المتباينة وستجد من يهمس لك لا تعتقد أن ما رأيته من استقبال حافل للرئيس دلالة على شعبيته.

عبد اللطيف كوليبالي- صحفي: عندنا ينتقل الرئيس ويتجمع الناس من حوله فأنا لا أستطيع انطلاقا من هذا أن أقول إن الرئيس له شعبية ولا أستطيع أن أنفي ذلك أيضا عندما لا يذهب الناس إليه لأنه في البلاد المنظمة والتي تتقدم فيها السياسة الديمقراطية فشعبية الأنظمة لا تقاس بكمية الأشخاص الموجودة في اجتماع سياسي أو تظاهرة لكن في جميع الأحوال فإنني آخذ حذري من الزحام الذي يلتف حول رئيس الدولة لأنه كما تعلمون فإن الرئيس في إفريقيا قد ينتخب اليوم وقد يكون هناك انقلاب عليه في اليوم التالي.

أسعد طه: بغض النظر عن تقييم مدى شعبية الرئيس فإن الرئيس نفسه يؤمن أن هذا الجدل العلني الدائر حوله هو أحد ثمار الديمقراطية التي يعيد فضل ترسيخها في المجتمع السنغالي إليه ويعتقد أنها إنجازه الأهم خلال السنوات الخمس التي قضاها حتى الآن في الحكم.

"
عندما توليت مشروع الدستور استشرت الصحفيين والكتاب والجامعيين والعمال والرؤساء وأدلى كل منهم برأيه وملاحظاته ثم استخلصت الصيغة النهائية التي أرضت الجميع
"
عبد الله واد

عبد الله واد- رئيس السنغال: أعتقد أن السنغال قد أنهى مشواره لتنمية الديمقراطية لأن كل المؤسسات الديمقراطية قائمة لدينا ودستور تم تطويره وصياغته عن طريق السنغاليين جميعا، قد يكون هذا الأمر غريبا ولكن ذلك ببساطة كان نتيجة أنني توليت مشروع الدستور واستشرت الصحفيين والكتاب والجامعيين والعمال والرؤساء وأدلى كل منهم برأيه وملاحظاته ومن هنا فقد استخلصت الصيغة النهائية التي أرضت السنغاليين جميعا.

باب ديوب- رئيس البرلمان: نعم تستطيعون ملاحظة ذلك على كل المستويات فأنتم تعرفون أنه منذ وصول الرئيس إلى الحكم وحتى الآن تم إدراج حق التظاهر دستوريا وحق المسيرات وهو حق غير موجود في كثير من البلاد، هذا يظهر كل يوم لم نعد نعرف القنابل المسيلة للدموع في وسط الشوارع أثناء تظاهرات الطلاب الدارسين ولقد عرفناها هنا من قبل في داكار.

أبو بكر جستن انجاي- صحفي: الشيء الإيجابي في ديمقراطيتنا هو أنه لم تعد هناك صحيفة الحزب الواحد، لم يعد هناك حزب يسحق الآخرين، لم يعد هناك من يستطيع أن يحصل على 90% من الأصوات وذلك شيء إيجابي بالنسبة لنا نحن السنغاليين لأنه عندما يكون لدينا 90% من الأصوات لا تكون ديمقراطية بل تتحول إلى جمهورية موز.

أسعد طه: في المقابل فإن شريحة لا بأس بها من المجتمع السنغالي تؤمن بغير ذلك وتنزع عن الرئيس فضل إرساء قواعد الديمقراطية في البلاد.

مصطفى نياس- زعيم حزب تحالف القوى التقدمية: كان السنغال مستقلا منذ عام 1960 أي منذ أربعين عاما والمكاسب الديمقراطية كانت تحققت بفضل الشعب السنغالي طوال تلك الأعوام الأربعين والرئيس في الحكم منذ أربع سنوات، إذاً فقد أتى ليضيف حجرا لمبنى كان في الأصل موجودا.

أبو بكر جستن انجاي: تاريخيا يجب القول إن السنغال بلد له عادات ديمقراطية وبصفة خاصة فإن تقاليده السياسية هي تقاليد مسالمة للغاية، على سبيل المثال فالسنغال لم يعرف أبدا أية انقلابات عسكرية منذ استقلاله في عام 1960 وحتى يومنا هذا، الحياة السياسية كانت دائما كثيفة ومتوهجة، كانت لدينا دائما تعددية سياسية وحتى في عهد الحزب الواحد لسنغور كانت هناك مناقشات واختلافات وحوارات.

أسعد طه: الطراز الفرنسي في الأبنية يذكِّرنا بزمن المحتل الذي يقال إن السنغال ورثت عنه بعض التقاليد والمبادئ الديمقراطية بدليل أن العديد من القوى السياسية التي تحكم الشارع السنغالي الآن قد وُلدت في زمن الاستعمار كما كان لمن جاء إلى الحكم بعد الاستقلال عطاءات على هذا الدرب.

مصطفى نياس: في شهر مايو عام 1974 قرر الرئيس سنغور أن ينهي نظام الحزب الواحد وكان السنغال أولى الدول الإفريقية التي أنهت ذلك النظام، أصبحت هناك ثلاثة أحزاب ثم أربعة، عندنا وصل الرئيس عبده ضيوف إلى الحكم في الأول من يناير عام 1981 قرر أن يفتح الباب أمام تكوين الأحزاب من دون قيد، أعتقد أننا اليوم في السنغال لدينا من الأحزاب حوالي سبعة وسبعين حزبا، إذاً فهذا النظام لم يتم خلقه من قبل الرئيس عبد الله واد لكنه وجده هنا بل بفضل هذا النظام تم انتخابه.

أسعد طه: يا لروعة الأسواق الشعبية، عالم مذهل يختصر الوطن بكامله، باعة جوالون وآخرون يفترشون الأرصفة على غير هدى وبضاعة من كل نوع وبشر من كل صِنف وصياح وضجيج، هذه الحيوية السائدة في هذه الأسواق مثلها يسود في المطابع ودور الصحافة فالأجواء الديمقراطية التي تعيشها السنغال تنعكس على تفاصيل الحياة اليومية ومنها تلك الحركة النشطة لإصدار الصحف والمطبوعات المختلفة.

عبد الله واد: لدينا اليوم عشر أو خمسة عشر جريدة يومية، عندما بدأت في السياسة كانت هناك صحيفة واحدة، كانت صحيفة الحكومة، لم يكن لأحد الحق في أن يصدر أي جريدة أخرى، أنا أصدرت ثاني صحيفة واليوم هناك عشر جرائد تصدر كل يوم وتهاجم الحكومة بدون أي قلق ويتحدثون بحرية شديدة حتى أن بعض الناس يقولوا لي أنهم يبالغون ولكني متسامح جدا لأني أعتقد أن الديمقراطية هكذا.

أسعد طه: لكن هناك من يخالف الرئيس رأيه.

عبد اللطيف كوليبالي: لقد كنت في ظل نظام الحزب الاشتراكي أكتب كصحفي مقالات معارضة ونشرت كتابا شديد الانتقاد لهذا النظام ولم يتم تهديدي أبدا ولكن عندما كتبت كتابي الأخير ضد النظام الحالي تلقيت تهديدات حقيقية بالقتل كما لاحظت أن الشرطة تستدعي الصحفيين كثيرا وببساطة بالغة وتم سجن بعضهم، أنا أمارس هذه المهنة منذ حوالي عشرين أو خمسة وعشرين عاما، لم يحدث من قبل أبدا أن تم استدعاء صحفي من قِبل الشرطة وبالتالي لم أرَ صحفيين يسجنون، اليوم ولسوء الحظ نعيش ذلك.

أسعد طه: احتفالا بصيد وفير أو بانتهاء موسم الحصاد اعتادت القبائل السنغالية قديما أن تحتشد هكذا للاستمتاع بواحدة من أهم وأقدم الرياضات التقليدية في البلاد وهي المصارعة، رويدا.. رويدا يدخل المتصارعون إلى الحلبة، لا تدهشك عضلاتهم بقدر ما تدهشك قدرتهم على الجمع بين المتناقضات، سوائل صنعها السَحَرَة تحمي بادعائهم الأبدان وتأتي بالنصر وصور الشيوخ والأئمة لجلب البركة وطقوس وثنية تمنح القوة، في إحدى الزوايا تنهمك فرقة موسيقية في الغناء آملة في استثارة حماس المصارعين والجمهور على حد سواء، مع غروب الشمس يبدأ المتنافسون في الاشتباك، خارج الحلبة بل خارج المكان برمته يجري اشتباك آخر هذه المرة بين الحكومة والمعارضة.

عبد اللطيف كوليبالي: لقد فشل الرئيس فشلا ذريعا فيما يخص الشفافية وإدارة شؤون الدولة فسوء التوزيع ما زال حاضرا بشدة في السنغال والفساد أقوى مما كان عليه قبل خمس سنوات، كما أعتقد أن لدينا مشاكل في التنظيم السياسي، لدينا مشاكل الحكم الصالح ولدينا مشاكل سلوكية، الشباب ما زالوا يعانون في أغلبهم من البطالة، الشعور بعدم الأمان ينمو في مدننا، الهجرة الريفية أصبحت أكثر كثافة اليوم مما كانت عليه بالأمس، مدننا تختنق، المرور أصبح مستحيلا في مدينة داكار.

أسعد طه: الكثير من الانتقادات لحكم عبد الله واد تحتفظ بها المعارضة التي تمثلها قوتان رئيسيتان، الحزب الاشتراكي الذي رفض زعيمه لقاءنا لمجرد أننا أجرينا لقاءً مع خصمه رئيس البلاد بحسب ما نقل لنا مساعدوه والقوة الأخرى يمثلها حزب تحالف القوى التقدمية بزعامة مصطفى نياس الذي خاض الانتخابات متحالفا مع الرئيس واد وشغل منصب رئيس الوزراء لأحد عشر شهرا قبل أن ينقلب على الرئيس ويتحول إلى المعارضة لأن الرئيس على حد قوله لم يفِ بوعوده.

مصطفى نياس– زعيم حزب تحالف القوى التقدمية: في البرنامج الذي سلمناه إلى الناخبين السنغاليين كان من المخطط له أولا إصلاح مؤسسات الدولة أي وضع نظام برلماني يحترم حقوق السلطة التنفيذية، الوعد الثاني كان أن نخصص معظم الموارد الداخلية والخارجية للقطاع الريفي حتى نتمكن من تثبيت السكان في أماكنهم في الوقت نفسه نزيد من إنتاجهم من المحصولات الزراعية، الوعد الثالث الذي كنا قد قطعناه على أنفسنا كان متعلقا بمسألة البنية التحتية اللازمة للتنمية، المسألة الرابعة هي تطوير التعليم والتكوين المهني، الالتزام الأساسي الخامس كان يخص علاقاتنا بالخارج ثم قبل ذلك كله فإن القاعدة الأساسية هي تدعيم الديمقراطية والتعددية الحزبية.

أسعد طه: سألنا الرئيس عما اتهمه به حليفه السابق خصمه الحالي من عدم الوفاء بالوعود الانتخابية.

عبد الله واد: ليس لديّ تعليق، بالنسبة لي هذه مشكلة من الماضي، اسمعوا، التغيير في السنغال حقيقي، في البداية الحزب الذي كان هنا قضى خمسين عاما في السلطة ولزمني أنا من سبعة وعشرين إلى ثلاثين عاما من الكفاح الديمقراطي حتى أزيله، كنت أستطيع أن أزيله بالقوة وأنا أعرف ذلك لأن الحشود كانت دائما من ورائي.

أسعد طه: لكن المعارضة تبنت مبادرة مطالبة برحيل الرئيس واد قبل نهاية فترة حكمه تقول إنها لتفادي وقوع البلاد في دوامة عنف خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2007 وتتهم الرئيس بأنه المسؤول عن انهيار الأداء الاقتصادي للبلاد وإهدار المال العام وتراجع الاستثمارات.

عبد الله واد: لقد نجحت على مستوى إدارة الدولة في أشياء هامة غير عادية فميزانية البلاد تضاعفت، عندما وصلت إلى الحكم من عام 2000 إلى العام 2004 كانت خمسمائة مليار واليوم أصبحت أكثر من 1200 مليار بدون فرض أي ضرائب جديدة، في الجانب الاجتماعي خصصت 40% من ميزانيتنا للتعليم وللتكوين المهني و10% للصحة كما قمت بشق طرق لم تكن لتوجد من قبل في السنغال وأنشأت ما يسمى بأكواخ الصغار التي نستقبل فيها الأطفال من عمر سنتين إلى أربع وست سنوات لتعليمهم بواسطة الألعاب التعليمية المحروم منها أطفال إفريقيا كما أننا بصدد بناء جامعة المستقبل المخصصة للطلاب الأفارقة وليس فقط للسنغاليين.

[فاصل إعلاني]

كازامانس وآمال الاستقلال

أسعد طه: في مطار داكار هذا ما يتكرر دائما، أعضاء الحكومة يودعون الرئيس الذي تتهمه المعارضة بأنه كثير الأسفار يعيش خارج البلاد أكثر مما يعيش داخلها إما مشاركا في مؤتمر أو متقلدا لوسام، واحدة من هذه الزيارات يُستقبَل فيها الرئيس بحفاوة ويُمنح خلالها جائزة لحقوق الإنسان والواقع أن الولايات المتحدة الأميركية تنظر بعين الرضا إلى السنغال ولذلك خصها الرئيس بوش بأن تكون فاتحة جولته الإفريقية في يوليو/ تموز عام 2003، سيادة الرئيس هل تتلقون دعما أميركيا خاصا؟

عبد الله واد: لا.. أنا صديق للرئيس جورج بوش هذا صحيح، الصداقة شيء يخلقه الله، لقد تقابلنا في المرة الأولى ووقع بيننا تعارف وهو يحب ما أفعله يحب الديمقراطية التي أتبناها ويحب احترامي لحقوق الإنسان، على الرغم من ذلك أنتم تعرفون أنه ليس بوش وحده هو من يحب السنغال فالرئيس شيراك أيضا يحب السنغال، كل البلاد المتقدمة اليابان، ألمانيا، أيرلندا، لكن لأن أميركا هي البلد الأقوى في العالم فإن ذلك يلفت الأنظار ولكن يجب عليّ أن أقول لكم شيئا إنه إلى الوقت الذي أحدثكم فيه الآن فإن أميركا لم تنفق دولارا واحدا على السنغال بسبب علاقاتي مع الرئيس بوش زيادة عما تنفقه في مالي أو النيجر أو تشاد أو في أي بلد آخر.

"
العلاقات الفرنسية السنغالية تمتد لأكثر من ثلاثة قرون  فالاقتصاد الوطني في السنغال 80% رأسمال فرنسي و90% من الشركات الكبيرة هي شركات فرنسية و95% من البنوك هي بنوك فرنسية
"
عبد اللطيف كوليبالي

عبد اللطيف كوليبالي: أنا لا أعتقد أنه يمكن لنا أن نتكلم عن تقارب أميركي وتحول على صعيد العلاقات من فرنسا إلى أميركا، هذه ملاحظة سطحية جدا للعلاقات الدبلوماسية السنغالية في الخارج، إذا أراد السنغال أن يستبدل فرنسا بأميركا لن تمكن من فعل ذلك فالعلاقات الفرنسية هي علاقات تمتد لأكثر من ثلاثة قرون والحقيقة أن 80% من رأس المال الذي يدير الاقتصاد الوطني في السنغال هو رأسمال فرنسي و90% من الشركات الكبيرة هي شركات فرنسية و95% من البنوك هي بنوك فرنسية.

أسعد طه: صادف وجودنا يوم الاحتفاء بالجيش، في القارة الإفريقية اعتادت الشعوب على الانقلابات العسكرية والديكتاتوريات وغياب صناديق الاقتراع أو تزويرها، الأمر هنا يبدو مختلفا تماما، لذلك لم تثرني وأنا الصحفي العربي قضية على يدِ مَن وُلدت الديمقراطية في السنغال الاستعمار أم من تولى زمام الحكم بعد الاستقلال أم الرئيس الحالي عبد الله واد؟ المهم أن هناك ديمقراطية، لكن قد يكون من المنطق البحث في أسباب شيوع الديمقراطية في هذا البلد النائي في أقصى الغرب الإفريقي رغم أنه يعاني مما تعاني منه بلدان أخرى وتتحجج به أنظمتها للحيلولة دون إرساء قواعد الديمقراطية، أعني الفقر والأمية والحركات الانفصالية، قبيل الغروب والحضور أبناء آنجور واحدة من أقدم القرى السنغالية والمناسبة عُرس تقليدي والمكان هو الخلاء حيث يمكن أن يحتفل الفقراء، العروس بثوبها الأبيض ترحب بالضيوف والصور التذكارية تسجل المناسبة وعلى دقات طبول الطمطم تتبارى الفتيات في أداء الرقصات التقليدية، عرفت أن الناس هنا تتقاسم ما فيما بينها الأعباء المالية التي يُضطر إليها أحدهم وفي كل المناسبات، في الأفراح والأحزان، حالة فريدة من التضامن الاجتماعي، من أفراح الفقراء إلى أحيائهم أكواخ صدِئة وحوائط مائلة وممرات ضيقة ورائحة نفاذة، سيارات يغسلن الملابس ونسوة يطهون ما لا يلذ ولا يطيب من الطعام والصغار يلهون بالمتاح من الألعاب وصبايا يقتلن الوقت على قارعة الطريق، أنه حي وَكَمْ غرب العاصمة داكار ويعني اسمه باللغة المحلية الذين يعيشون في الحفرة، كان أغلب سكانه يشتغلون بالصيد قبل أن تُستحدث فيه الكثير من المهن الأخرى، بالطبع فإن داكار ليست كلها هكذا غير أنه وبحسب الإحصاءات الرسمية فإن حوالي 51% من سكان السنغال تحت خط الفقر و6% من السكان أُميون فيما تبلغ الديون الخارجية ثلاثة مليارات من الدولارات، عبد الله واد استجاب لنصائح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بتحرير الاقتصاد والخصخصة فاستحق منهما التهنئة على سياساته التي أدت في نظرهما إلى ارتفاع دخل الفرد وحافظت على معدلات النمو، لكن ذلك لم يمنع عشرات آلاف من الفلاحين من القيام بمظاهرات عارمة في شوارع داكار في يونيو/ حزيران عام 2003 احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية المتردية كما ورد في الصحف المحلية، اللافت هنا هو أن الفقر والأمية لم يحولا دون قيام نظام ديمقراطي بل بفضل هذا النظام استطاع الفقراء والمحرومون التعبير عن أنفسهم وبفضله أيضا يمكن مواجهة خطر الحركات الانفصالية، في مطار داكار نستقل طائرة صغيرة في طريقنا إلى الجنوب، من علٍ يبدو المشهد جديرا بأن تتوقع السنغال أن يصل عدد سائحيها إلى مليون ونصف المليون بحلول عام 2010، أما وجهتنا فهي كازامنس.. كازامنس تبدو على الخريطة في شبه عزلة عن السنغال، يحدها من الشمال غامبيا ومن الجنوب غينيا بيساو وغينيا ومن الشرق مالي ومن الغرب المحيط الأطلسي، من نافذة الطائرة أراقب المشهد وأتذكر ما قرأته عن أن كازامنس لها باع طويل في مقاومة الاستعمار الفرنسي لكن لما حان الاستقلال طالبت بالانفصال عن السنغال وأن ذلك كلف الانفصاليين والقوات الحكومية سقوط بضع مئات من القتلى والجرحى منذ عام 1982، تحط الطائرة في مطار عاصمة الإقليم زجنشتور التي تتميز بطابعها الإفريقي الخالص الذي لم يتأثر بثقافة المستعمر وفنونه، في الطريق يفيد مرافقنا أن مساحة كازامنس تبلغ تسعة وعشرين ألف كيلو متر مربع وأن 62% من مساحتها مغطاة بغابات كثيفة تعبرها ممرات مائية ويسكنها مليون وأربعمائة ألف نسمة، الإحصاءات الرسمية تقول إن 62% منهم مسلمون غير أن الظاهر العام هو الوجود المسيحي والوثني، توجهنا إلى مركز قيادة الحركة الانفصالية، فوجئنا بحشود في انتظارنا، طُلبت مني تحيتهم على طريقة الزعماء العرب ففعلت وتقمصت الدور تماما حتى أنني فكرت في فرض حالة الطوارئ، استقبلنا بحفاوة الأب دياماكون سنغور زعيم حركة المتمردين، رجل في نهاية عقده السابع، نُصب قسيسا قبل خمسين عاما وظل لفترة طويلة تحت المراقبة والإقامة الجبرية في بيته أو في إحدى الكنائس.

دياماكون سنغور- زعيم حركة القوى الديمقراطية لكازامانس: حتى نتمكن من فهم مشكلة كازامنس لابد أن ننتبه إلى ثلاث نقاط رئيسية، أولا الحقوق القانونية لملكية أراضي كازامنس، الثانية هي المقاومة الكازامنسية الطويلة والثالثة هي الرفض لكل فرد معادٍ لإرادة الحياة المشتركة وهذا يفسر السبب وراء كفاح الكازامنسيين، بالأمس ضد البرتغاليين والفرنسيين والإنجليز واليوم ضد هؤلاء الذين يعيشون معنا ويرفضون إرادة الحياة المشتركة والذين يتصرفون باستعمارية أكثر من المستعمر الأبيض والذين ينزعون عن مواطنينا وأهلنا كل ما لديهم.

أسعد طه: كان الحديث يجري في بهو ضيق وقد التف حول الأب سنغور أنصاره ومنهم مقاتلون سابقون في حركته، أسترجع ما قيل لي عن العوامل التي ساهمت في إيجاد هذه الأزمة.

أبو بكر جستن انجاي: التاريخ والجغرافية لهما دور أساسي في ذلك التاريخ بمعنى أن هناك جزء من كازامانس كان مستعمرا من قبل البرتغاليين حتى عام 1886 في وقت كانت فيه أماكن أخرى من السنغال تحت الاحتلال الفرنسي لفترة طويلة من الوقت، أيضا هناك مشكلة الجغرافيا فعندما تكون في كازامانس وتريد التوجه إلى شمال السنغال فإن هناك بلد يجب عبوره، بلد مستقل عضو في الأمم المتحدة يسمى غامبيا لها نفس حجم كازامانس ويعيش فيه نفس الأعراق التي تعيش في كازامانس مما جعل أهل كازامانس يقولون إذا كانت غامبيا مستقلة وتستطيع أن تكون مختلفة عن السنغال فلماذا لا نستطيع نحن أيضا أن نكون مستقلين عنه؟

أسعد طه: الحركة الانفصالية تصر على شرعية قضيتها وتتهم الحكومة بأنها قامت باستغلال الموارد الطبيعية لكازامانس بطريقة عشوائية وعملت على توطين السنغاليين في أراضيها وتخريب السياسة التعليمية والسيطرة على الإدارة وزيادة أعداد الجيش السنغالي في المنطقة زيادة مُطَّردة.

دياماكون سنغور: من وجهة النظر القانونية لم يحدث أبدا أن كانت كازامانس جزءا داخليا تابعا للسنغال وحتى في زمن الاستعمار لم يحدث أبدا أن كانت كازامانس جزءا ضمن مستعمرة السنغال، كازامانس كانت مع السنغال ولكن ليس داخلها ونحن كنا قد قبلنا أن نعيش معا ولكن بعد ذلك حدثت تجاوزات أدت إلى نشوء الموقف الذي نعيشه اليوم.

أسعد طه: هنا الصناعة تكاد تكون غائبة والزراعة هي ما يعتمد عليه السكان الذين يزرعون الأرز والفول السوداني والقطن وإن كان الصيد والرعي يمثلان أيضا موردا مهما من موارد اقتصاد كازامانس فضلا عن السياحة، على الطريق توقفت سيارتنا ودخلنا إلى إحدى القرى التقليدية، الرجال غائبون، الحاضرون هم بعض النسوة والكثير من الأطفال ولغة لا نفهمها باستثناء تلك، أُبلغت أن لكازامانس ملكا وأنه من الواجب علينا زيارته لتقديم الشكر له على السماح لنا بالتجوال والتصوير في مملكته، جلسنا طويلا في منطقة ما وسط الغابة ثم خرج لنا رجل يرتدي زيا أحمر اللون حافي القدمين لكنه تعامل معنا فعلا كما يتعامل الملوك وتبادل أعوانه وممثل الحكومة الذي كان برفقتنا إلقاء الخطب الترحيبية وكانت وسائل الإعلام المحلية حاضرة، على كل حال فإن الأجواء الودية السائدة الآن لا يمكن أن تمحو تقارير منظمة العفو الدولية عن انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان ارتكبها الطرفان الحكومة والحركة الانفصالية قبل أن يُقْدما على توقيع معاهدة للسلام في الثلاثين من ديسمبر/ كانون الأول عام 2004 كانت ثمرة الجهود التي بذلها الرئيس عبد الله واد لحسم هذه الإشكالية.

دياماكون سنغور: ليس هناك سلام بدون عدالة، ليس هناك عدالة بدون الحقيقة، ليست هناك حقيقة بدون المعرفة والتطبيق الصحيح لقوانين الله ومعطياته الأساسية.

أسعد طه: بموجب هذه الاتفاقية تعهد الانفصاليون بالتخلي عن العمل العسكري وتعهدت الحكومة بتعمير وتنمية المنطقة وتطهيرها من الألغام وإعادة اللاجئين وإدماج المقاتلين في الجيش السنغالي والإفراج عن السجناء فيما الأب سنغور لا يطمح إلى منصب سياسي.

دياماكون سنغور: شعاري واختياري الرُهباني هو أن أكون قِسَّا إلى الأبد حتى أضع في العالم الحقيقة وعمل الخير والعدالة والسلام بينما أضع في قلوب الناس حكم الله.

أسعد طه: احتفال تقليدي دُعينا إليه كان واضحا خلاله أن ثمة اختلافات تميز المنطقة عن بقية أنحاء السنغال لكن ذلك لا يبدو مبررا كافيا في نظر الحكومة للانفصال فخريطة العالم تضم دولا ذات ثقافات وأعراق مختلفة كما أن رغبات الانفصاليين ليست مبررا لفرض حالة الطوارئ ووأد الديمقراطية التي بفضلها تم التوصل إلى اتفاق سلام، نعود إلى داكار ومنها إلى المعتقل، هنا قضى عبد الله واد فترة غير طويلة رهن السجن السياسي ومن هنا أُطلق سراحه ليكون آخر سجين سياسي يتم الإفراج عنه ولتصبح سجون السنغال خالية من المعتقلين السياسيين، في سيارته حكى لنا بعض الذكريات.

عبد الله واد: لم أكن أتخيل أبدا أن أوضع في غرفة ويتم حبسي، لكن حسنا لقد حدث ذلك، في أول يومين يكون لديك الكثير من الخوف ولكنك بعد ذلك تتعود، في هذا الوقت تبدأ في تقدير الحرية عندما تكون محروما منها وتمت محاكمتي وأُطلق سراحي مبرأ من قبل المحكمة، المرة الثانية نفس الشيء وقضيت ثلاثة شهور في السجن والمرة الثالثة قضيت خمسة شهور.

أسعد طه: بالزي التقليدي يغادر الرئيس قصره الرئاسي في رحلة بدت لنا في نهايتها غريبة، الحشود هذه المرة لم تكن كلها عفوية وقد أُعد للأمر سلفا وكأنه استعراض للقوة أمام شاشات التلفاز، مئات البسطاء ومثلهم من المنتسبين إلى الحزب الحاكم يوقفون موكب الرئيس مرات ومرات وهو سعيد بذلك، يغادر سيارته لتحية هذا الرجل أو تلك المرأة ثم يعود فيواصل رحلته، على الطريق فتية وفتيات اصطفوا وهم يرتدون الشارات الحمراء يعلنون غضبهم واحتجاجهم، يتوقف موكب الرئيس، يحتد شاب وهو يخاطب الرئيس معبرا عن مطالبة أبناء المنطقة بتأسيس مدرسة إعدادية، ثم وعود بالاستجابة ثم يستكمل الموكب طريقه إلى مدينة إنباكي حيث اجتمع حشد غفير في مؤتمر حزبي عام، إلى هنا كان الأمر عاديا لكنه غير عادي أن الرئيس الليبرالي صاحب النزعة الغربية المدعومة أميركيا توجه إلى بيت متواضع كان الزحام خارجه لا يُحتمل، في الأمر ما يوحي أن من بداخله ذو مكانة رفيعة، لاحقا أُدخلنا إلى غرفة مزودة بإضاءة خضراء فيها سرير متواضع وشيخ وقور يجلس على كرسيه فيما سيادة الرئيس يجلس على الأرض عند أقدام هذا الرجل الذي هو صالح إنبكي شيخ الطريقة المُريدية إحدى الطرق الصوفية الرئيسية في السنغال الذين بإشارة منهم يتشكل المشهد السياسي في البلاد وفي ذلك حديث آخر hotspot@aljazeera.net .