نقطة ساخنة

المسلمون في تايلند

مراحل العنف التايلندي تجاه فطاني، المسلمون في تايلند بين الإنجاز والانحياز، موسم الثورة والغضب، حقان متناقضان أو هكذا يبدوان: حق مجموعة عرقية أو دينية في تقرير مصيرها في بلد ما وحق هذا البلد في الحفاظ على وحدة ترابه الوطني.

مقدم الحلقة:

أسعد طه

ضيوف الحلقة:

عدة ضيوف

تاريخ الحلقة:

28/10/1999

– مراحل العنف التايلندي تجاه فطاني
– المسلمون في تايلند بين الإنجاز والانحياز

undefined

أسعد طه: انتهى موسم الثورة والغضب قال أبي: هلَّت مواسم القرنفل واليسامين والبرتقال، حلت مواسم الفرح، هذا زماننا يا أحبتي يأتي فاحلموا، هذا زماننا فاكبروا وكبروا وهللوا وجدلوا خيوط الشمس ثوب عُرس وسرج فارس فنحن قال أبي للسلم إن جنحوا وإذا شاءوا فللسيف المهند البتار.

أسعد طه:السلام عليكم، حقان متناقضان، أو هكذا يبدوان، حق مجموعة عرقية أو دينية في تقرير مصيرها في بلد ما، وحق هذا البلد في الحفاظ على وحدة ترابه الوطني، الصدام بين أنصار الحقين هو الحالة التي أفرزتها المتغيرات الدولية الأخيرة، والتي أدت إلى سقوط أنظمة عتيقة، وتهاوي أيدلوجيات كانت قد نجحت إلى حد كبير في تزويد الدعاوى القومية والدينية لهذا الشعب أو ذاك. على خارطة العالم اليوم هناك العديد من الحروب التي فجرتها هذه الإشكالية، حق تقرير المصير، وحق الوطن في الحفاظ على وحدة ترابة الوطني، والأمثلة على ذلك عديدة وكثيرة، ربما أشهرها المثال البلقاني والمثال القوقازي، لكن هنا في الشرق الأقصى تحديداً في (تايلند) ثمة أمر يلفت الانتباه، وثمة موقف يستحق الدراسة بعد أن نجح الطرفان في التوصل إلى حلول وسط، والاتفاق على الحياة المشتركة، هل هنا إذن نقطة ساخنة؟ نعم باعتقادي نعم وإن غاب عنها دوي المدافع وعويل النساء وصرخات الأطفال. هنا نقطة ساخنة، لأنها تجربة مهمشة على الساحة الدولية رغم أنها جديرة بأن تحتزى وتكرر، ولأن هناك من يتربص بها، ويريد لها أن تنضوي، رغم أنها نجحت في أن توقف نزيف الدم من المتقاتلين لأهداف يعدونها ثانية، وبسببها تضيع وتجوع أجيال وأجيال، هاكم التفاصيل.

"مرحباً بك في بلد الابتسامة"، هو ما ستجده مكتوباً لدى وصولك إلى مطار العاصمة (بنكوك)، وما ستشعر لاحقاً إنه ليس شعاراً فحسب، فألف سبب هنا يدعوك لأن تبتسم، سحر المشهد، وأناقة المكان، ودماسة الأخلاق، حتى ليندهش الصحفيون أمثالنا من أن حرباً يمكن أن تكون هنا أو حتى كانت.

تايلند المساحة تزيد عن خمسمائة كيلو متراً مربعاً، والسكان عن ستين مليون، 60% منهم يشتغلون بالزراعة، و 20% بالصناعة، والآخرون بالتجارة والخدمات العامة، فيما ثلث السكان يقطن المدن، و 10% من إجمالي عددهم تكتظ بهم العاصمة. إلى الجنوب إذن صاحب المشكلة، وصاحب قصة طويلة من الصراع تعود إلى قرون مضت.

: هذه المنطقة كانت تدعى في السابق "مملكة الفطاني المالوية"، فنحن المسلمون كانت لنا دولتنا الحرة هنا، ولكن ومنذ عام 1832 أصبحنا جزءاً من دولة السيام التي تعرف اليوم بتايلند، وهكذا باتت مملكة الفطاني جزءاً من مملكة الأكبر، وصرنا نحن المسلمون أقليةً بعد أن كان أجدادنا أغلبية هنا قبل مائتي أو ثلاث مائة عام.

أسعد طه: بتلك الكلمات اختصر هذا الأكاديمي نشأة الصراع في المنطقة، وإذا أردنا المزيد فإن إطلالة تاريخية تفيد أن عام 1782 شهد في تايلند دفء حكم سلالة (شاهري) تلك التي يعد ملك تايلند الحالي هو التاسع فيها، وبعد أربعة أعوام اختيرت (بانكوك) عاصمةً للمملكة الفتية التي أعلنت عزمها السيطرة على الفصائل المسلمة الواقعة في جنوب البلاد ولتستمر الحروب الشرسة ستة وأربعين عاماً تنجح المملكة بعدها في فرض وصايتها على مملكة فطاني، وتقسمها إلى سبع مقاطعات، يحكمها سبع سلاطين من أهل المنطقة، لكنهم يدفعون الجزية كل ثلاث سنوات، وبشكل من أشكال الحكم الذاتي، غير أن تايلند آثرت أن تضم فطاني إليها رسمياً عام 1902، وتعيد تقسميها إلى أربعة أقاليم يديرها حكام يعينون مباشرة من بانكوك، تلك التي باشرت في ممارسات استعمارية استهدفت تذويب هوية المنطقة، وكان أن شهد عام 1968 مولد منظمة تحرير فطاني المتحدة، التي أعلنت الجهاد لتحرير أرضها، ولتدور مواجهات شرسة مع الحكومات العسكرية التي تناوبت على سدة الحكم في بانكوك، إلى أن حلت الثمانينات مع ما واكبها من نزوع الحكومة إلى الديمقراطية والخيار السلمي.


مراحل العنف التايلندي تجاه فطاني

إذن لدينا مرحلتان من العنف التايلندي تجاه مسلمي فطاني، الأولى كانت عنفاً مسلحاً صرفاً دار عبر خمسة حروب، انتهت كما ذكرنا بإعلان بانكوك فرضها الوصاية على فطاني عام 1832، وفي ذاكرة الناس هنا ما رواه الأجداد عن بشاعة تلك المرحلة وكيف ساقت القوات التايلندية آلاف الأسرى المسلمين مئات الكيلو مترات حفاة، وصولاً إلى العاصمة، ليتم تسخيرهم هناك في حفر القنوات وشق الطرق.

وأما المرحلة الثانية من العنف التايلندي تجاه فطاني فقد أعقب إعلان بانكوك ضم فطاني لها رسمياً، وهو الذي تمثل في تلك الممارسات الاستعمارية التي أقدمت عليها الحكومات العسكرية المتتالية في بانكوك، والتي تمثلت في الآتي:

إلغاء الحكم الذاتي الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة عقب خضوعها لتايلند.

التغيير الديمغرافي عبر تشجيع سكان تايلند على استيطان المنطقة.

التعامل مع المسلمين كمواطنين من الدرجة الثانية.

مصادرة ثروات الجنوب لصالح الحكومة المركزية.

منع المرأة المسلمة من ارتداء حجابها، خصوصاً في المدارس والمصالح الحكومية.

إجبار المسلمين على التخلي عن لباسهم التقليدي لصالح مثيله التايلندي.

منع تدريس لغة مسلمي المنطقة الملاوية، وفرض اللغة التايلندية.

السيطرة على المؤسسات التعليمية الدينية التقليدية للمسلمين بغرض تذويب الهوية الدينية والعرقية لهم.

فرض تدريس البوذية على التلاميذ والطلاب المسلمين.

استبدال قوانين الشريعة الإسلامية التي كان معمولاً بها بقوانين مدنية.

لقد عملت الحكومات العسكرية المتتالية في بانكوك ما في وسعها لدمج المنطقة وتذويب هويتها، وإلحاقها بالشمال في المضمون وفي الشكل، وفي سبيل ذلك أقامت أكبر تمثال لبوذا على أراضيها في فطاني، تحديد في منطقة (آنار سواك)، مما اعتبره المسلمون حينها استهزاءً بمشاعرهم وعقيدتهم.

………: في تايلند لدينا تاريخ طويل من الأنظمة العسكرية ومن الأزمات، لكن هذا انتهى الآن، خاصة في هذه المنطقة، حيث الوضع اليوم أكثر استقراراً، على مدى حوالي 40 سنة كانت الأنظمة العسكرية تميل إلى أن تكون قومية، وكانت لها بالفعل سياستها القومية، وهذا سبب مشكلة للمجموعات العرقية في هذه المنطقة، وأعتقد أن المسألة الأساسية كانت في الحملات التي اعتمدت من أجل توحيد اللغة، فقد فرض على المسلمين.. فرض عليهم أن يكتبوا وأن يقرأو بغير لغتهم الأم، رغم أن لديهم لغتهم وثقافتهم المالوية الخاصة بهم، لكن الجيش التايلندي كان يريد ويصر أن يكونوا تايلنديين خالصين.

أسعد طه: رد الفعل الطبيعي أن انقسم المسلمون إلى تيار يتبنى الخيار المسلح، مطالباً بتحرير فطاني واستقلالها عن تايلند، فيما تيار آخر ارتأى الخيار السلمي، وهو الخيار الذي يحتاج دوماً إلى طرفين يؤمنان به، وهو ما بدا صعباً في ظل الحكومات العسكرية المتتالية في بانكوك، وهكذا كُتب على هذه المناطق الجميلة أن تشهد مواجهات عديدة، وأن يعاني أهلها المسلمون ما عانوا، إلى أن حلت الثمانينات بما حملته من بشائر الحرية والديمقراطية. الملفت في التجربة التايلندية أن نقطة التحول في سياسات بانكوك تجاه المسلمين لم تأت نتيجة اتفاق مكتوب بين الطرفين، وإنما بقرار أحادي منها اعتمد على ثلاث ركائز، الديمقراطية، التعليم، التنمية الاقتصادية، ولتأتي النتيجة الطبيعة في تحول المسلمين من الخيار العسكري إلى الخيار السلمي، في مشوارهم الطويل لاسترداد حقوقهم.

وفي مشوارنا نحن إلى الجنوب قصدنا مدينة (بئان)، تحديداً منزل ( حادي ألنج بن عبد القادر) عالم الدين الثائر، وأحد أربعة مجاهدين أعدمتهم السلطات التايلندية في الثالث عشر من شهر آب / أغسطس لعام 54) وقد استشهد ابنه معه، واتهمت السلطات التايلندية ابنه الثاني بتأسيس حركة إسلامية انفصالية، فهرب إلى السويد، فيما ابنه الثالث (زينتو بمينا) انحاز إلى الخيار السلمي، رجل في الستينات من عمره، قضى نصفها تقريباً عضواً في البرلمان، يتزعم النواب المسلمين، الذين يقدر عددهم الآن بخمسة وأربعين نائباً، حكى لنا الرجل قصة والده.

: تقدم والدي (حادي ألنج) مراراً بشكاوى إلى الحكومة التايلندية لرفع الظلم عن أهل المنطقة، ولكن لم تكن هناك أية استجابة، بل قاموا بإلقاء القبض عليه، وحكم عليه بالسجن أربعة سنوات، لكنه أخرج منه قبل إتمام مدة العقوبة، فعاد إلى (بثني)، وحول بيته هذا إلى مدرسة للعلوم الدينية، ولكن السلطات التايلندية منعته من استكمال هذه المهمة، وقامت الشرطة باستدعائه إلى مدينة(تون كلا) ومعه أخي، وذلك في الثالث عشر من آب/ أغسطس عام 54، وعلمنا بعد ذلك أنهما أُعدما.

أسعد طه: لكن بانكوك آثرت مع حلول عام 80، ومع تولي الرجل القوي (كِرم تينا تولالوندا) رئاسة الوزراء أن تنحي جانباً خيار القوة، وأن تُحد من قبضة العسكر، وأن تبعدهم عن الساحة السياسية للبلاد، وهو ما نجح فيه الرجل بالفعل، بحلول عام 86، وفي زمنه أيضاً أقرت الخطة الشهيرة بإسم إنقاذ الجنوب.

: عند وصل (كِرمْ) إلى رئاسة الوزراء ذهبت إليه مع عدد من النواب، طالبين العدالة في زمن كثر فيه اغتيال المسلمين، وقلنا له إذا لم تأخذ المسألة بجدية فإن الناس ستعود إلى القتال، صحيح أن مشاكلنا لم تحل كلها في عهده، لكن الأوضاع تحسنت، ومع انتهاء فترة حكمه كانت الأعمال القتالية قد خفت تدريجياً.

: كان تحت حكم عسكري، وتغير أوضاع.. وضع البلاد إلى حكم يتجه إلى الديمقراطية نوعاً.. شيئاً فشيئاً، وبذلك تغير.. تغير موقف العلماء تجاه التعامل مع.. مع الحكومة، حتى صار من المسلمين من يستطيع أن.. أن يدخلوا إلى البرلمان التايلندي، ويستطيعون أن يصوتوا لصالح المسلمين، ويستطيعوا أن يحققوا بعض المطالب لصالح المسلمين في هذه المنطقة، وبهذا تغير موقف المسلمين هنا، علماء، وشعباً، وساسة، تغير مواقفهم تجاه.. تجاه الحكومة، و.. ويصل الآن إلى قناعة بأن.. بأن التعامل أو المجابهة السلمية هو أفضل.. أفضل وسيلة كل مشاكل المسلمين الذين يواجهون في هذه المنطقة.

أسعد طه: لقد دخلت البلاد حينها بالفعل مرحلة جديدة ومصيرية بعد أن تقهقر العسكر إلى ثكناتهم، وبدأت مرحلة التحول نحو الديمقراطية.

…………: لو لم تتم عملية التحول إلى الديمقراطية في تايلند لدام الصراع إلى أمد غير محدود، خصوصاً وأن الإنفصاليين كانوا يعتقدون أنهم سيحصلون يوماً على دعم إخوانهم المسلمين في الخارج، ولكن عندما بدأت الحكومة تغير من سياستها تحسنت الأوضاع، بعد أن دعت المسلمين للعمل معها يداً بيد، كما أنها عينت بعض الأئمة كمستشارين حكوميين لإدارات المقاطعات هنا، لقد أدركت الحكومة بالفعل أنه قد حان الوقت لأن تتوقف عن معاملة الأقلية المسلمة في جنوب تايلند كمواطنين من الدرجة الثانية.

أسعد طه: وأثبتت الأحداث بالفعل أن جرعات الديمقراطية كانت كفيلة لبدء انحصار الخيار العسكري في صفوف المسلمين، ليس استسلاماً، ولكن استبدلاً لخيار بخيار آخر، اعتباراً لحقيقة تفرض أن الطرف القوي في أي نزاع هو الذي يحد للطرف الآخر مسلكه، وبدأ المقاتلون بالفعل في تسليم أنفسهم على مراحل، قاصدين التحول إلى معركة أخرى، تُوظف فيها آليات الديمقراطية، لاسترداد الحقوق المسلوبة.

…………: شرحنا لشعبنا أننا جئنا لنحارب من خلال النظام البرلماني، وأن ذلك سيفضي إلى نتائج أفضل من حرب الأدغال، التي تودي بأرواح الكثيرين من أبنائنا، لكن البعض رفض هذا الطرح، وفر إلى ماليزيا، في هذا الوقت كنا نتحدث عن ضرورة التجمع في قوة سياسية واحدة، بديلاً لنضال نوابنا البرلمانين بشكلٍ منفرد، سعياً لاسترداد المزيد من حقوقنا.

أسعد طه: صحيح، فقد أدرك المسلمون أن قدرتهم التفاوضية مع الحكومة ضعيفة، ومن ثم قرروا في الثالث من آيار/ مايو لعام 86 تأسيس حركة الوحدة،والتي حددوا استراتيجياتها الأساسية في تأمين مقاعد وزارية بهدف الحصول على حصة أكبر من السلطة ، تمكنهم من تحقيق أهدافهم.

…………: ينبغي على العمل النيابي أن يتوافق مع القوانين والإجراءات والأنظمة، كما أنه ينبغي أن يراعي التشكيلات الحزبية، وفئات الدعم، ولأننا بالفعل راعينا هذه الأمور، فقد حققنا مكاسب متعددة، وكانت لنا نحن المسلمون فرصة اعتلاء مناصب ومواقع مهمة، فأنا على سبيل المثال رئيس البرلمان، كما أن وزير خارجية البلاد مسلم، وهما موقعان مهمان ويمنحان بحسب التمثيل الشعبي، كما أن قائد الجيش في هذه المناطق مسلم، وهكذا يمكننا أن نرى أن مشاركة المجتمع المسلم في العمل السياسي تزداد بشكل تدريجي.


المسلمون في تايلند بين الإنجاز والانحياز

أسعد طه: خمسة وأربعون نائباً مسلماً في برلمان يترأسه مسلم، لبلدٍ يشغل منصب وزير خارجيتها مسلم، ليس هو الإنجاز الوحيد الذي دعي بالغالبية العظمى من المقاتلين المسلمين لإلقاء سلاحهم، والتوجه نحو آليات العمل السلمي، فالحقيقة أنه واعتباراً من الرابع من آزار/ مارس لعام 89 اعتمدت حكومة بانكوك استراتيجيات متنوعة ارتكزت على التعليم والتنمية، وقبلهما على المزيد من الديمقراطية، ومن ثم باشرت في اجراءات تهدف إلى تحديث البنية التحتية للمنطقة، وتوفير الرعاية الصحية،وتطوير الإنتاج الزراعي، والصناعي والسياحي، والحفاظ على ما تمتاز به هذه المناطق المسلمة من موارد طبيعية وثقافية خاصة في اللغة والفنون. عندما كنا نجوب شوارع الجنوب نسجل بكاميرا (الجزيرة) ما بان من مظاهرإسلامية كان هناك دوماً من يؤكد لنا أن المشهد الآن يبدو مختلفاً تماماً عما كان قبل عشر سنوات، حين كان يُعد حجاب المرأة تمرداًعلى نظام الحكم، والمحاكم الإسلامية دعوة للإستقلال، واستخدام أهل المنطقة لغتهم الخاصة محاولة إنقلابية، حين كان الحفاظ على الهوية رمزاً للتخلف وتآمراً مع قوى خارجية أصولية بالتأكيد.

هنا في بانكوك لا يسع المرء إلا أن يستشعر سعادة ورضا مسؤوليها عن أداء حكوماتهم، وطريقة تعاطيها بشأن قضية المسلمين في الجنوب. رغم بعض الانتقادات الصادرة من المسلمين تجاه حكومة بانكوك بسبب تلكوئها في تنفيذ ما تبقى من مطالب، وإلى حد التشكيك في نواياها.

الطرقات والميادين الرئيسية تزدان بصور الملك الحالي، الذي اعتلى عرش تايلند عام 46، وهو التاسع على قائمة ملوك ثلالة الشاكري، وهو أيضاً أطولهم حكماً، في بلد قام منذ عام 1932 على نظام ملكي دستوري ، مستوحى من النظام البريطاني مع بعض الفوارق، وبالرغم من كون نظام الدولة برلماني، أي أنه يفترض ألا يكون للملك أي دور فاعل إلا أن الواقع يفيد أن الأحداث الكبرى التي مرت بالبلاد، كالانقلابات مثلاً، كان الملك سبب نجاحها أو سقوطها، على كل حال فإن الخيار الديمقراطي وجد دعماً بلا شك من الملك، وإلا ما كان قد اعتمد، وفي المقابل فإن المسلمين تنازلوا، ولو مؤقتاً عن مطلب الانفصال عن تايلند، وخلال مفاوضات عام 92 كانت المطالب الرئيسية للمسلمين تتركز في الأتي:

أن يحكم المسلمون أنفسهم بأنفسهم.

أن تعترف بانكوك بالإسلام كديانة في المرتبة الثانية للدولة التايلندية.

السماح بعودة المحاكم الشرعية إلى فطاني.

وأن تكون اللغة الملاوية هي اللغة الرسمية مناطقهم.

وأن تنال هذه المناطق حقها من التنمية الاقتصادية، على ألا تتعارض التنمية الاجتماعية المطلوبة مع ثقافة وقيم المجتمع المسلم.

لم تتحقق كل مطالب المسلمين، وإن تحقق قدر كبير منها، يمكن أن نقول أنه يثبت حُسن نوايا الحكومة التايلندية، لكنه لا يعفيها من مسؤوليتها.

…………: يريدون أن يكون لهم محاكم شرعية خاصة لهم، وإلى الآن لم يوافقوا الحكومة عليها، رغم أن هناك.. إذا كان هناك في أمور شخصية.. في الأحوال الشخصية، سواء كان في.. في الزواج، وفي المواريث، إذا كان المدعي.. مدعى عليه في هذه المنطقة مسلم، إذا قدم شكواه للمحكمة فيُحكم حسب الشريعة الإسلامية، لأن في كل محكمة في المحافظات الأربع الجنوبية هناك قاضيان شرعيان، يتولا النظر في القضايا الإسلامية التي تتعلق بالأحوال الشخصية.

…………: إن المطلب الأساسي هو زيادة فرص التعليم في مناطقنا، ومع أن الحكومة قطعت شوطاً بالفعل في هذا الإطار، فإن عقبة اللغة ما زالت قائمة، كما أن مدارس القرى لا يمكنها منافسة مدارس المدن، على صعيد توفير الفرص للإلتحاق بالجامعة، وبالتالي فإننا ما زلنا نعاني نقصاً في هذا المجال، كما أننا نرغب في أن يكون للحكومة دور في تعزيز المدارس الدينية لدينا.

أسعد طه: للتأكيد فإن هناك من بين المسلمين من يشكك بنوايا الحكومة، ويرى أنها تهدف إلى تحقيق ذات الغايات التي كانت تسعى لها بالآلة العسكرية، ولكن هذه المرة بالوسائل السلمية، تلك الوسائل التي من شأنها أن تُذيب هوية الجيل المقبل.

…………: لقد كانت سياستنا دائماً محاولة استيعاب ودمج الأقليات في النظام، وبالتالي فإن التغييرالذي حدث في الثمانينيات كان في نفس الاتجاه مع تعميقه وتحديده. في الستينات والسبعينات كانت لنا مشاكل في الجنوب، ليس مع الأقلية المسلمة فحسب، بل مع المقاتلين الشيوعيين أيضاً، لذلك كانت مشاكل الجنوب ذات طابع أمني، ولما تلاشت أدركنا أن سياسة الدمج ستكون في طريق أفضل، ومن ثم عمدنا إلى خلق أجواء من الفهم المتبادل بين البوذيين والمسلمين، وكذلك بين الحكومة في بانكوك وبين المسلمين في الجنوب.

أسعد طه: القراءة المتشائمة لموقف الحكومة هي التي تدفع بعناصرمسلمة على أن تبقى مختبئة في الغابات، بانتظار لحظة مناسبة لأن تعاود من جديد بث الروح في الخيارالمسلح.

…………: نعم ما زال هناك انفصاليون، لكنهم أقلية عددية بين المسلمين، وليس لهم تأثير على الناس في الجنوب، ومع استرداد المزيد من حقوقنا السياسية، وترسيخ قاعدة المساواة في المواطنة بيننا وبين الآخرين سيتناقص نفوذ هؤلاء المقاتلين، وسيلتفون معنا حول الخيار الديمقراطي.

…………: سياستنا في هذا المضمار تقوم على أمرين، إذا اشتركت هذه العناصر في أعمال عنف وإرهاب، فإننا نضرب وبقوة، أما إذا كانت هذه العناصر تنتمي إلى الحركة الانفصالية، لكنها لم تتورط في أعمال عنف فإننا جاهزون لممارسة أقصى درجات المرونة.

أسعد طه: مسلمو فطاني أو المسلمون في تايلند استشراف مستقبلهم في حاجة لقراءة -ولو سريعة- لمعطيات مجتمعهم ولخصائصه المختلفة، ولمواقف شرائحه المتعددة، إلى الأمر إذن.

إذا أردنا الحديث عن المنطقة فإن جنوب تايلند هو بلا شك المصطلح المستخدم من قِبَل السلطات الرسمية، لكن فطاني بالتأكيد هي المصطلح المحبب لدى مسلميها، لما يحمله هذا الاسم من دلالات التاريخ، التاريخ الذي كان يطلق هذا الاسم فطاني على مساحة تقدر بخمسين ألف ميلاً مربعاً، فيما تبلغ مساحتها اليوم ستة عشر ألف ميلاً مربعاً، بعد أ ن ضُمت إلى تايلند، وأصبحت واحدة من أربع محافظات في الجنوب، يمثل المسلمون أغلبيتها، وهي الإضافة إلى فطاني، (جالا) (وناري سواه)، و(كاتور). وفي غياب إحصاءات موثوق بها فإن نسبة المسلمين الذين يعيشون هنا، وفي كافة أنحاء البلاد تتراوح ما بين وإلى 20% من إجمالي نسبة السكان، البالغ عددهم واحدة وستين مليون نسمة، وقد وصل الإسلام فطاني عبر الرحالة والتجار، وهي التي اشتهرت بأنها نقطة التقاء على خط التجارة الدولي الرابط بين الشرق والغرب، وفضلاً عن الموقع الجغرافي الهام، فقد عُرفت فطاني بغني مواردها الطبيعية، وبشدة خصوبة أراضيها، وبوفرة ما يكتنزه باطنها من نفط وغاز طبيعي.

الناس هنا بسطاء، مسالمون، مهندمون، رغم ضيق اليد وقلة الحيلة، الشوارع والطرقات حتى في القرى وأطراف المدن نظيفة أنيقة، رغم محدودية الدخل والإمكانيات، بمعنى أنك تجد هنا الفقر، لكنك لا تجد ما يرافقه دوماً من مظاهر سلبية. أما الحياة فهي دافئة وزاخرة بالحركة، في المناطق السكانية والتجمعات العمالية، كما هي في الأسواق، حيث ستلحظ وجوداً قوياً للمرأة التي تدير الأمور في أغلب الأحيان في صمتٍ تام، فيما الزراعة هي مصدر رزق الناس، وكذلك بعض الأعمال الصناعية، غير أن الصيد يحتل المرتبة الأهم. مشاريع البنية التحتية من ربط طرق ورعاية صحية وغيرهما تسير وتيرتها بتواضع، وتؤتي ثماراً جيدة، ولكنها غير كافية لغرس الخيار السلمي، والمستوطنون البوذيون الذين جلبتهم الحكومة إلى المنطقة تجمعهم وأهلها سمات الحياة المشتركة الآن.

صور الملك تجدها كما في العاصمة بانكوك في كل مكان، في الميادين وفي الشوارع، غير أن فطاني التاريخية تزدان حقاً بما حباها الخالق، من الحسن الذي يأخذ بالألباب

………: ظاهرة عودة.. عودة المسلمين إلى الإسلام هذا واضح، وهذه الظاهرة يعم.. تعم البلاد كلها، وتعم جميع طبقات الناس، وخاصة المتعلمين منهم، أقصد المتعلمين ليس تعليم إسلامي، ليس تعليم.. المتعلمين عموماً سواءً كان دراستهم في العلوم الإنسانية، في الهندسة، وفي.. في التكنولوجيا، .. هناك ظاهرة أنهم يعودون إلى الإسلام، والظاهرة التي نستطيع أن نشاهدها هو أن نستطيع نشاهد النساء هنا، الطالبات والنساء الموظفات هن يلبسون.. يحاولون أن يلبس الزي الإسلامي، وهناك مطالب من..من الطلاب الجامعات، وطلاب..، وطلاب الثانويات، وموظفات في الحكومة أن يُسمح لهن بلباسها الزي، ووافقت.. ووافقت الحكومة على.. على.. على الجميع.. للجميع على أن يكون لهم الحق.. على أن يكون لهم زي إسلامي ، سواء كانوا موظفات في.. في الدوائر الحكومية، أو كانوا طالبات في الجامعة أو في الثانوية.

أسعد طه: ما يلفت نظرك هنا هو هذا الإهتمام غير العادي لمسلمي فطاني بمسألة التعليم، بدءاً بالديني، وانتهاءً بالمدني، هم يطلقون إسم (صُندق)على الكتاب، وذلك الذي يلتحق به التلاميذ في سن مبكرة ليتعلموا أصول الدين على يد الشيخ، وقد نجحت كتاتيب قطاني في استقطاب أبناء المسلمين من أنحاء تايلند، وامتداداً إلى دول الجوار، أندونيسيا، وماليزيا، وكامبوديا.

غير أن عام 1970 شهد بداية تحويل هذه الكتاتيب إلى مدارس نظامية، فمن جهتها أرادت الحكومات العسكرية تحت غطاء ما أطُلق عليه الإصلاح التعليمي التدخل في عمل هذه الكتاتيب، وبما تمثله من أهمية في الحفاظ على الهوية، التي كان تذويبها هدفاً لعسكر بانكوك، ومن جهتهم سعى شيوخ الكتاتيب لإجهاض المحاولة، وكذلك لتحديث هذه المؤسسات التقليدية، وقد اعتمدوا في ذلك على أبنائهم العائدين من بعثات للدول العربية والإسلامية. الأجواء التي أخرجتها عملية التحول شطر الديمقراطية منذ بداية الثمانينات أسهمت في تطوير مؤسسات التعليم لدى المسلمين، ولعل مدرسة الإصلاحية بمدينة (جالا) مثالاً على ذلك، وهي التي حازت على لقب أفضل مدرسة في تايلند لثلاث أعوامٍ متتالية.

…………: العلماء أو رجال الدين يعني في هذه المنطقة يعني هم.. يعني فقط يريدون أن ينشروا.. يعني ينشروا يعني التعليم الإسلامي، هذه يعني كإيش؟ يعني هدف أول أو الغاية، يعني ما عندهم أي .. يعني أي هدفٍ يعني مادي، وقد يعني يضحي أنفسهم.. يضحون بأنفسهم لأجل نشر الإسلام، وأيضاً المدرسة كانت ليست فقط يعني للتعليم في.. في مكان ما، ولكن هي أيضاً من رسالتها كانت يعني للدعوة أيضاً، للدعوة إلى مناطق أخرى.

أسعد طه: نفس الحال فيما يتعلق بمدرسة الرحمانية في مدينة قطاني، وربما تكون من المناسب هنا الإشارة إلى الدعم السعودي السخي غير الرسمي ، الذي تحظى به هنا مؤسسات المسلمين التعليمية، مما دفع البعض للتشكيك في هذه الجهود الدعوية، والحديث عما يسمونه بخطر الوهابية.

عودة إلى مدينة جالا، حيث امتدت الجهود التعليمية إلى مجال التعليم الجامعي، وحيث شُيدت أول جامعة خاصة، هي الوحيدة الإسلامية، بين ثلاث وأربعين جامعة أهلية على مستوى تايلند.

…………: نحن المسلمون في جنوب تايلند حتى الآن لم نملك جامعةً، أو يعني منُشأ أو كلية أو معهد على المستوى الجامعي، إلا هذا.. إلا هذه الكلية، فيعتبر من طموح أهل هذا البلد، لأن يعني أهل هذا البلد هم أرسلوا أبناءهم وبناتهم إلى الدول العربية والإسلامية، في كل يعني أنحاء العالم، لأن ما لديهم من مكان يكملون دراستهم بـ.. على المستوى الجامعي.

أسعد طه: كتب الدين التي خطها علماء قطاني، والمعروفة بإسم كتاب(كارى) كان تُطبع في أواخر القرن الماضي بمكة والقاهرة، قبل أن تؤسس بفطاني ثلاث دور للنشر، فضلاً عن المطابع التي واكبت ما يمكن تسميته بالصحوة التعليمية الإسلامية، وفي الحقيقة فإن هذا النشاط التعليمي الديني مفهوم إذا ما أدركنا أن علماء الدين هنا كانوا وما زالوا يلعبون دوراً بالغ الأهمية، قلما تجد مثله في مناطق أخرى للمسلمين، وحين تبحث في تاريخ مسلمي فطاني ستجده يتحدث مراراً عن انتقادات العلماء.

…………: كان للعلماء في.. في ذلك المرحلة.. في تلك المرحلة هو دور.. دور المرجعية كل شيء يواجه الشعب من المشاكل كان المرجع هو.. كمرجع هم.. مرجع متاح هم.. هم العلماء، لأ ليس هناك من يتزعم.. زعيم أو زعماء أو قادة في المجتمع إلا هؤلاء العلماء فقط، لذلك كان العلماء كان لهم.. كان لهم رأي.. كان رأيهم كأنه توجيه عام للشعب، أي رأي يصدر منهم.. إيش.. يشعر.. يشعر الشعب بأن هذا الرأي هو الحل للمشاكل، هو.. هو.. هو.. هو الطريق الذي يجب أن يسيروا عليها.

………: رأينا ولله الحمد، ولاحظنا أن جهود العلماء لا.. لا تقتصر فقط في مجال نشر العلم.. العلوم الدينية فقط وإنما يعني يتجاوز عن ذلك إلى نشر العلوم العصرية، وكذلك قاموا بواجباتهم نحو إيش اسمه؟ قيادة الأمة في المجالات، بعضها مجالات سياسية، وكذلك مجالات اقتصادية، ومجالات تربوية، هكذا كل المجالات يعني نجد العلماء يعني يعطي.. يعطون سهماً كبيراً فيها.

أسعد طه: هذا الدور غير العادي تواصل حتى في زمن السلم، وظل العلماء مؤثرين في حياة مواطنيهم، وعلى الرغم من الأطر السياسية المتعارف عليها، والقائمة الآن، وحافظوا على وضعهم كحلقة وصل بين الساسة المسلمين وبين المسلمين أنفسهم.

………: في الحقيقة تغير دور العلماء لا يزال كالثابت، بل يزيدون من دورهم بعد أن زادوا من علمهم، و.. من ثقافتهم، ومن دراستهم، ولكن هنا.. ولكن حدث في هذا الوقت أن.. أن وجدت زعامات أخرى، هناك زعامات سياسية، إذا كان هناك مشاكل سياسية الناس ما يذهبوا إلى العلماء، يذهب إلى.. إلى النواب، الذي يستطيع أن يحل مشاكله،وإذا كان هناك مشاكل مع الإيش.. مع الجهات الحكومية هناك كبار الموظفين في الحكومة، الناس يستطيع أن يتجه إلى هؤلاء، لذلك في الوقت الحاضر أصبح إيش.. الزعامات متعددة، ليس تنحصر في.. في العلماء فقط، بخلاف ما كان في.. في.. في الستينات في الخمسينات، وفي أوائل السبعينات، ها.. ومع ذلك العلماء يحاولوا أن يكون لهم شأن في كل ما يتعلق.. في .. بمجرى حياة المسلمين في هذه المنطقة، لا يريد أن ينسلخ حياة الناس هنا عن إيش؟ عن.. عن تعاليم الدين وتعاليم الإسلام.

أسعد طه: حين كنا نتهيأ لمغادرة فطاني كانت ثمة خاطرةٍ تلح، زمن العسكر كان مؤلماً، لكن العدو كان مكشوفاً، زمن الرخاء وجاه الإخوان يبدو الآن زاهياً، لكنه يخفي الخصم، نفساً بين الجنب، أو فهماً غير صحيح، يحول دون أن تكون الشجرة كما المأمون، أصلها ثابت وفرعها في السماء.

تلك إذن هي العصا السحرية، مزيداً مزيداً من الحرية والديمقراطية. العسكر إلى ثكناتهم، والناس إلى خيارهم، إمساك بمعروف، أو انفصال بإحسان، هذا هو عقد الراشدين بديلاً عن شرعة الغاب. السلام عليكم.