نقطة ساخنة

الإسلام في آسيا الوسطى

الإسلام الشعبي في آسيا الوسطى، الإسلام الحكومي واللعبة السياسية، طشقند بين التاريخ والحاضر، وادي فرغانة والأحزاب الإسلامية المسلحة المعارضة، سمرقند بين التاريخ والإسلام والحركات المسلمة.

مقدم الحلقة:

أسعد طه

تاريخ الحلقة:

25/04/2002

– الإسلام الشعبي في آسيا الوسطى
– الإسلام الحكومي واللعبة السياسية

– طشقند بين التاريخ والحاضر

– وادي فرغانة والأحزاب الإسلامية المسلحة المعارضة

– سمرقند بين التاريخ والإسلام والحركات المسلمة

undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined

أسعد طه: إذا ما سرت وهامتك تطاول السماء، ورأيت في الدرب عالماً في الفقه والكيمياء، والفن في كل ركن والشعر والأدباء، إذا المخبرون مكبلون والحكام رهن المساءلة والناس على اختلاف المعتقد سواسية، إذا وطنك إلى المستضعفين ينحاز وأوروبا تقرع لسفنه العابرة الأجراس، اعلم إنك قد بت هنا، وإنك إلى الوراء قد عدت بالذاكرة، فتهيأ ليالي طوال، لعل ما كان يعود يوماً من الأيام.

السلام عليكم، آسيا الوسطى معادلة صعبة، سبعون عاماً من الشيوعية، عشر أعوام من الاستقلال، خمسون مليون من السكان، الذين واحد والقومية أكثر من مائة والكيانات السياسية هي خمسة أما الهوية فهي متخبطة بين الأصالة والمعاصرة، وكأن لا مجال للجمع بينهما، عندما انهارت الشيوعية ظننا أن شطراً عزيزاً من عالمنا الإسلامي قد ارتد إلينا حراً مستقلاً، يحمل نصيبه من إرث مارد قد انهار، فيفيدنا بحضارته المادية ونفيده بموروثنا العقائدي، لكن سرعان ما خابت آمالنا، فلا عاد لنا ولا عدنا له، وظل في مساحة ربما هي الفاصلة بين الشرق والغرب، على طرف يقف زعماؤه السياسيون الرسميون يحملون تاريخهم الشيوعي القديم ، وولاءاتهم الغربية الحديثة، وكل ما استفادوه منا هو من تجاربنا الرسمية، الإقرار بأمر الدين دين لا يحرك ساكناً، محاصر بين جدران المساجد، مدان إذا ما خرج إلى الحقل أو المصنع أو قاعات الدرس أو البرلمان، على الطرف الآخر يقف هؤلاء الذين أرادوا المفاصلة وأعلنوها صراحة دولة إسلامية لا مكان فيها للعلمانية أو النظم الغربية، والهدف يسار له أحياناً بالطرق السلمية وأكثر الأحيان بالطرق العسكرية، بين الطرفين هناك الإسلام الشعبي، جموع الناس التي لم تهزم إيمانها سنوات الشيوعية الطويلة لكنها لم تدع هذا الإيمان كما كان طرياً نقياً، فاختلط بالعادات والتقاليد، وتشرذم فرقاً وجماعات، الإسلام في آسيا الوسطى هو المعادلة الصعبة.

شيء غريب يشدك إلى هذه البلاد، شيء تحتار في أمره، أهو حسن المشهد أم أنه بساطة الحياة، أو هو ربما وداعة الناس، تفكر قليلاً وتكتشف بعدها أن هذه وتلك ما هي إلا عوامل إضافية، وأن الإسلام الأسيوي هو في الحقيقة ما يغريك بالبقاء هنا، ليس بالضرورة أن تكون أصولياً لأن تفكر بهذه الصورة، بل ربما قد تكون أميركياً وقد رأينا من قبل كيف أن الإسلام مع الثروة قد جذبا القوى الإقليمية والدولية لهذه المنطقة، على كل حال الإسلام هنا له خصوصيته، قد لا تراه واقعاً حياً مجسداً لكنك بالتأكيد تشعر أنه قد امتزج مع أرواح الناس وهويتهم، حتى بات من المستحيل أن تفصله عنهم، وهي مسألة أثبتها التاريخ بعد أن فشلت الشيوعية بكل آليتها وعلى مدى 70 عاما في أن تنزع الدين من نفوس الناس، هؤلاء الذين عرفوا بأنهم شعوب مسالمة، ولذلك قدموا للأمة قبل الفرسان مشاهير العلماء والأئمة، ثم إن الإسلام هنا قديم، قارب أن يكون عمره من عمر الرسالة نفسها، فأول احتكاك للإسلام بهذه المناطق بدأ بعد الانتهاء من فتح إيران عام 31 هجرية، ويحفظ التاريخ أسماء قيادات إسلامية عديدة كانت لها صولات وجولات هنا، كان من أشهرها قتيبة بن مسلم الذي حقق نجاحات متلاحقة بين عام 86 و97 هجرية، حتى أنه وصل إلى حدود الصين، وبحسب التاريخ أيضاً فإن آسيا الوسطى شهدت انتشارا سريعاً وواسعاً للإسلام على أراضيها، ورغم ذلك فإنها لم تخضع فعلياً وبشكل كامل للخلافة الإسلامية المركزية، بل إنها كثيراً ما كانت مسرحاً للقلاقل والنزاعات، وساحة خلفية للصراعات الفكرية والسياسية في دولة الخلافة، ثم أنه كان لها بعد ذلك ما شغلها من هموم، وهي التي عانت المغول والتتار وقياصرة روسيا إلى أن اختتمت عهود الاستعمار بإعلان جمهورياتها الخمس الاستقلال عام 1991.

شيرين أكنر (معهد الدراسات الشرقية والأفريقية – لندن): غالبية السكان من المسلمين السنة على المذهب الحنفي، ولكن أثناء الحكم السوفيتي كانت تقتصر ممارسة الطقوس الدينية الإسلامية على زيارة المساجد وممارسة بعض طقوس الأعياد والمناسبات الدينية، فيما عدا ذلك لم يعرف الناس الكثير عن الدين أو عن فلسفة وتعاليم الإسلام.

الإسلام الشعبي في آسيا الوسطى

أسعد طه: أينما ذهبت هنا ستستمع حكايات تؤرخ لصفحة مؤلمة في تاريخ آسيا الوسطى عن الوسائل البشعة التي استخدمتها الشيوعية لمحو الإسلام من حاضر المنطقة، وهو ما فشلت فيه فشلاً ذريعاً، بل إن الإسلام برز عند استقلال جمهوريات آسيا الوسطى عن الاتحاد السوفيتي كبديل طبيعي للأيديولوجية الشيوعية المنهارة، بديل تبنته الشعوب الحائرة بتلقائية، وتبنته القيادات الطامعة في الاحتفاظ بالسلطة، وتبنته أيضاً بل أولاً تيارات الإسلام السياسي.

خلال جولة دامت أسابيع طويلة بين دول آسيا الوسطى نكتشف أن المشهد الإسلامي ليس هو ذاته في كل دول المنطقة، بمعنى أن منسوب الالتزام الديني ومظاهر ذلك تختلف بين منطقة وأخرى، فهنا في طاجيكستان مثلاً نرى مساجد ومدارس دينية عديدة، وهو نفس الحال في أوزبكستان، ونفهم من التاريخ أن الإسلام شهد ازدهاراً في هاتين المنطقتين باعتبار أن شعبيهما كان من الشعوب المستقرة، على عكس الحال في المناطق التي تعرف اليوم باسم كازاختسان وقيرغستان وتركمانستان، حيث اللون الإسلامي يبدو باهتاً بعض الشيء وذلك لأن شعوبها كانت من الجماعات الرعوية الرحل، مهما كان الأمر فإن السواد الأعظم من الناس هنا اختلط الإسلام لديها بالخرافات والتقاليد والعادات، وغاب عنها فقه الدين وأحكامه، في منطقة تركستان بجنوبي كازاخستان زرنا مقام الخوجة أحمد ياسوي وهو ثاني مكان مقدس بعد الكعبة بحسب الاعتقاد السائد هنا، هذه المنطقة المسماة بتركستان تعد مركزاً للصوفية في كازاخستان التي تتمتع بجاذبية خاصة لدى شعوب وسط آسيا، وقد نشأت هنا طريقتان كبيرتان للصوفية وهما النقشبندية والياساوية، وينظر سكان وسط آسيا إلى هاتين الطريقتين نظرة تقديس واحترام، وساعد تغييب العلماء في العهد الشيوعي على أن يخلط بهما ما ليس في الإسلام من شيء، ما لفت أنظارنا أيضاً ليس انتشار الخرافات بين الإسلام وحسب، وإنما أيضاً مساس هيبة الدين مساس هيبة الدين ووقاره، عندما ذهبنا لزيارة المسجد الرئيسي في مدينة (آلمأتي) بكازاخستان كانت فتيات أنصاف عرايا يطفن به، وقد صادفنا عرساً ينم عن رغبة المسلمين في عدم الاكتفاء بإجراءات الزواج المدني، وإنما الإصرار على أن يكون ذلك وفقاً الشريعة الإسلامية، لكن هذه الرغبة لا تنعكس على مظهر الناس على الأقل في حضرة المساجد ودور العلم، لكن يمكن أن نسجل بجذر إرهاصات صحوة إسلامية ونقول بحذر حتى لا تقاس بنظيرتها في العالم العربي، فالتمسك بفتات الدين وتعلم أساسياته يجب أن يعد هنا ضمن مظاهر الصحوة الإسلامية في مدينة (آلمأتي)، زرنا عائلة الأب روسي والأم كازاخية اقترنت بزوجها غير المسلم خلال العهد الشيوعي، وها هي تحاول استرداد هويتها وإصلاح ما يمكن إصلاحه.

أم كازاخية: لم أتحدث مع أحد من رجال الدين، لكنني عرفت الإسلام من أخي الذي يدرس في باكستان، ومنه عرفت أشياء كثيرة، لقد أهداني كتاباً يحوي ترجمة لمعاني القرآن، احتفظت به في حقيبتي، وأعطاني كتباً إسلامية أخرى لم أهتم بها كثيراً، لكن أثارتني مسألة الصيام وقررت صيام رمضان، لقد اهتديت إلى الإسلام بفضل الله وحده، وأذكر أنني خلال يوم أو ربما نصف يوم تعلمت شروط الصلاة وباشرت في تأديتها، لا يذهب زوجي إلى الكنيسة ولا أدري ما السبب، لكنه يؤمن بالله، وعندما أقرا القرآن أشرح له معاني ما اقرأه، ولدي أشرطة كثيرة عن الإسلام، دائما نستمع لها سوياً وقد أثرت في كلانا.

[فاصل إعلاني]

أسعد طه: الزائر لآسيا الوسطى بوسعه أن يلحظ أيضاً إقبالاً على صلوات الجمع بالمساجد وكذلك اهتماماً بدراسة الدين، وهو أمر يجب تقديره في بلاد ينقصها العلماء، وتحوم شبهة الإرهاب فيها حول من يسهب في التعبير عن مشاعر دينية جياشة، أو رغبة في تعلم أصول الدين، إجمالاً فإن المشهد العام يفيد أن لدى الناس هنا شعوراً عميقاً بالانتماء لهذا الدين، وهو شعور يترجم أحياناً إلى أسلوب حياة، ويظل كامناً في النفوس في أكثر الأحيان، وفي الغالب فإن مفهوم الإسلام يشوبه النقص وتفسده الخرافات والتقاليد، وفي كل الأحوال فإنه مكبل بسياج السلطة، رغم أنها هي الأخرى ترفع لواء الإسلام، وهنا مكمن الغرابة.

شيرين أكنر: بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بدأ كل القادة الذين ظلوا في السلطة بعد الحقبة السوفيتية بعرض الإسلام كأسلوب فكر بديل للحكم ليحل محل الماركسية واللينينية، وبذلك عاد الإسلام إلى الساحة الدولية بشكل واضح، وتم بناء العديد من المساجد والمدارس وأصبح الكثير من الشباب وكبار السن مهتمين بالدين.

أسعد طه: عندما انهار الاتحاد السوفيتي أدركت القيادات الحاكمة في آسيا الوسطى أنها بحاجة للاستدارة 180 درجة للاحتفاظ بكرسي السلطة، ففعلت وأعلنت طلاقها الشيوعية واقترانها بالديمقراطية، ثم هي لمست بحسها السلطوي رغبة شعبية عامة في استرداد الهوية الدينية، فما كان منها هي الأخرى إلا أن رفعت شعار الدين، وأمام كاميرات الصحفيين أدى رئيس أوزبكستان ورئيس قيرغستان القسم على القرآن الكريم عند توليهما منصب الرئاسة، كما قام جميع القادة في المنطقة بتأدية فريضة الحج، فضلاً عن مظاهر إسلامية أخرى.

ترسونياي بولات زاكير (برلماني إسلامي في قيرغستان): كانت أولى آثار الديمقراطية في قيرغستان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي هي الصحوة الإسلامية وأذكر تماماً أن الناس في أيام الأعياد أقاموا الصلوات في الساحة المركزية وبدأ كثير من الناس يدعون إلى الله، سواء من المسلمين أو المسيحيين أو حتى الديانات الأخرى، لكن بعد مرور سنتين من الاستقلال بدأ كل ذلك يعود إلى الوراء، لأن الغالبية العظمى من السلطة تتشكل من الناس الذين تربوا على الأيديولوجية الشيوعية.


الإسلام الحكومي واللعبة السياسية

أسعد طه: لقد أرادت النخب الحاكمة في آسيا الوسطى إمساك العصا من المنتصف فهي من ناحية عبرت عن رغبة إسلامية تستقطب بها الرأي العام لدى شعوبها، ومن ناحية أخرى صاغت دساتير جديدة أكدت فيها علمانية دولها، والفصل التام بين المسجد والدولة، وأخرجت من حسابها تماماً أي احتمالية لتضمين أي أحكام إسلامية في إطار قانوني، وبات من الواضح أن قادة المنطقة يستخدمون الإسلام كوسيلة سياسية فقط وحسب مفاهيم خاصة، ثم يسقطونه عندما لا تكون لهم به حاجة، حتى أن معلقاً سياسياً قال: إن الإسلام في أوزبكستان هو ما يريده الرئيس أن يكون، وهي مسألة لا تخص أوزبكستان وحدها.

ترسونباي بولات زاكير: لا أخشى القول إننا عندما نحلل الآن فترة العشر سنوات من الاستقلال يتضح لنا أن جميع قادة قيرغستان بمن فيهم رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية والوزارات والبرلمان وقادة الولايات والمدن والنواحي قد تخلوا كلهم عن الدين، وكانوا يبررون بعدهم عن الدين في العهد السوفيتي بالضغوط التي كنا نتعرض لها، والآن إذا كان هناك ما يخص الدين فإنك لا تجد من يهتم به.

أسعد طه: هذا الإسلام الحكومي كوَّن على عينه إدارات دينية هي بمثابة أدوات لسياساته تكون مسؤولة عن التعليم الرسمي وتسجيل الوعاظ وإقصاء غير المؤهلين، وتحت هذا اللفظ الأخير يندرج كل من لا يوالي الحكومة، كما تشمل مهام هذه الإدارات مواجهة فكر جماعات الإسلام السياسي المناوئة للسلطة، وهي تضم تيارات متعددة، لكن قبل الحديث عن الإسلام الحركي ربما يكون من المفيد الترويح عن النفس بمشاهد قيرغستان التي يطلق عليها سويسرا آسيا.

قيرغستان هي صغرى جمهوريات آسيا الوسطى، تبلغ نسبة الروس فيها 15% من سكانها فيما تشكل المناطق الجبلية 94% من مساحة البلاد، ويسكن عاصمتها (بشكيك) 800 ألف نسمة.

قيرغستان بلد جميل لكن ليس له ما لكازاخستان من مصادر طبيعية ولا ما لأوزبكستان من تاريخ وثقافة ولا يتميز بموقع مركزي كالذي تتميز به تركمنستان، ولا يتمتع أمله بما يتمتع به أهل طاجيكستان من روح قتالية، في المقابل فإن قيرغستان هي الدولة الوحيدة في آسيا الوسطى التي لم يكن رئيسها عضواً في الحزب الشيوعي خلال العهد السوفيتي، ومنذ أن انتخب في الخامس عشر من أكتوبر عام 1991 وعلى مدى أكثر من 10 سنوات ظلت قيرغستان أكثر دول المنطقة ليبرالية وديمقراطية، غير أن المعارضة تتهم الرئيس الآن بأنه بات يضاهي جيرانه في سحق المعارضة السياسية، وكبح الإعلام والتلاعب بنتائج الانتخابات.

أميل علييف (زعيم حزب معارض – قيرغيستان): الهدف الرئيسي لأحزاب المعارضة هو مطالبة رئيس الجمهورية بالإعلان عن بناء دولة ديمقراطية حسب بنود دستور الجمهورية الذي اختاره ووافق عليه الشعب القيرغيزي، ولكن خلال الخمس سنوات الأخيرة لم ترغب الحكومة في تحقيق هذه الأهداف، وتبنى فيرغستان الآن كدولة ملكية تضغط على جميع أنواع الحريات وتسعى الحكومة إلى تمكينها من السلطة من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية ضخمة.

أسعد طه: هذا الاتهام ترفضه الإدارة الحاكمة وتبرر بعض الإجراءات المتخذة بدواعي مواجهة المتطرفين أي تيارات الإسلام الحركي التي تتمركز في وادي فرغانة.

على طاولة وادي فرغانة تبدو الأوراق متداخلة للغاية، الإسلام الرسمي والشعبي والحركي، الهوية والقومية والنفوذ الخارجي، الحكمة هنا في قيرغستان تقول: إن قليلاً من الديمقراطية قد يُصلح- بإذن الله- كثيراً من الداء وإلا قُلبت الطاولة رأساً على عقب. بعض الجيران لا يعتقد في صحة ذلك.

[موجز الأخبار]


طشقند بين التاريخ والحاضر

أسعد طه: عناء السفر والتجوال بين مدن وجمهوريات آسيا الوسطى يبدده هذا الشعور اللذيذ بطعم التاريخ. أسماء وأحداث لطالما سمعنا بها أو قرأنا عنها أو ربما درسناها في كتبنا المدرسية نجدها هنا، هنا يقف التاريخ شامخاً ينذر كل من يتجاهله ويذكر بأنه قد يعيد نفسه، لكن بأسماء وثياب مختلفة مرحباً بكم في (طشقند) مركز آسيا الوسطى وقلبه النابض.

هذه المدينة العتيقة يحمل لها التاريخ ذكريات عديدة، ففي زمن كانت مركزاً تجارياً هاماً على طريق الحرير، وفي آخر حاضرة إسلامية تؤمها نخبة العلماء والمثقفين، وطشقند اليوم -فضلاً عن أنها عاصمة أوزبكستان- تعد كبرى مدن آسيا الوسطى بسكانها البالغ عددهم مليونين وثلاثمائة ألف نسمة.

إنها مدينة تعج بالنشاط والحيوية، وتضم ميادينها الرئيسة رموزاً تاريخية وثقافية، لعل من أهمها هذا التمثال الذي احتل موقع تمثال لينين وهو لـ(تيمور لنك) الذي يعده الأوزبك مؤسس دولتهم ويرون أن تاريخه قد تعرض لحملات تشويه. في ركن آخر من المدينة نجد تمثالاً للشاعر والكاتب (علي ياشير نافوي) الذي شهد القرن الرابع عشر الميلادي أعماله المكتوبة باللغات الأوزبكية والفارسية والعربية، وقد بات من عادات الأوزبك اليوم أن يؤم التمثال المتزوجون حديثاً والمنجبون أطفالهم الأوائل، وإذا كانت هناك حملة منظمة لإحلال الرموز الأوزبكية محل الرموز الشيوعية، فإن الأوزبك يبقون على ما يرون أنه نافع من العهد السوفيتي. الزخم الثقافي والتاريخي الذي تتمتع به البلاد إنما يتسق مع حقيقة أن أكبر وأفضل نخبة مثقفة في بلدان آسيا الوسطى إنما تعيش هنا في أوزبكستان هذا البلد المغلق المحروم من إطلالة على البحر والمعتمد على الأنهار في زراعة أراضيه والمحتل للمرتبة الثالثة على مستوى العالم للدول المصدرة للقطن.

في ساحة جميلة ومزركشة تقبع بناية البرلمان التي تسمى باللغة الأوزبكية (أوري مجلس)، أي المجلس الأعلى وينعقد المجلس أربع مرات في العام وتستغرق كل دورة يومين ويقضي أعضاؤه -البالغ عددهم 250 عضواً- الفترة المتبقية من العام في مناطقهم الانتخابية مما يحجم أي دور للمعارضة ويصعب تشريع القوانين وسنها ويبدوأن هذه المهمة الشاقة موكولة إلى رئيس الجمهورية.

الرئيس (إسلام كريموف) وُلد عام 1938 في مدينة سمرقند منتمياً إلى القومية الأوزبكية -بحسب المعلومات الرسمية -فيما يتردد أنه طاجيكي الأصل، لغته الأولى هي الروسية، لكنه تعلم الأوزبكية في وقت متأخر من حياته، وقد شغل مناصب سياسية رفيعة خلال العهد السوفيتي، إسلام كريموف كان السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في أوزبكستان ثم بات رئيساً للجمهورية عام 1990، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وإعلان الاستقلال احتفظ إسلام كريموف بمقعد رئيس الجمهورية في أول انتخابات تشهدها البلاد. هذا الماضي الشيوعي لإسلام كريموف لم يمنعه التأكيد في كل مناسبة على الهوية الإسلامية للبلاد وإن كان لا يفوته التذكير بأن الدستور ينص على علمانية الدولة وفي كتابه "أوزبكستان على طريق الانبعاث الروحي" نقرأ قوله: "لا يمكن أن نتصور أمتنا من دون دين أجدادنا الحنيف، إن قيم ومفاهيم الدين الإسلامي قد دخلت في حياتنا إلى درجة أنه سنفقد كينونتنا من دونها وأن الشاب والكهل في معرض التعبير عن علاقتهما لأي شيء يتوجهان إلى الله تعالى، ويعتبران أن حياتهما هبة عظيمة من الله تعالى" هذه المقولة جاءت كذلك ضمن خطبته التي ألقاها نهاية عام 99 عند افتتاح الجامعة الإسلامية بطشقند، وهي صرح علمي يهدف إلى تنشئة جيل يجمع بين علوم الدين والدنيا ويقطع الطريق على ظاهرة التطرف- كما يقول القائمون عليها- وتضم جامعة طشقند الإسلامية كليات متخصصة في تاريخ الإسلام وفلسفته وعلوم الشريعة والاقتصاد والعلوم الطبيعية وعلوم الحساب وتكنولوجيا المعلومات، وبها أقسام لتدريس اللغات الشرقية والغربية، وقيل لنا إن الجامعة تشهد إقبالاً من الطلاب يفوق قدرتها على استيعابهم خصوصاً وأنها تُعد تابعة لرئاسة الوزراء على خلاف المؤسسات الإسلامية الأخرى التي تتبع الإدارة الدينية وهي الإدارة التي تعتبر أنها أنجزت الكثير منذ الاستقلال.

عبد الرشيد قاري بحراموف (مفتي أوزبكستان): كان في أوزبكستان قبل الاستقلال سبعون مسجداً زادت خلال السنوات العشر بعد الاستقلال إلى ألفين، نفس الحال بالنسبة إلى المدارس الدينية التي زادت من اثنين إلى عشرة في كل الجمهورية وهي في الحقيقة بمثابة معاهد، فضلاً عن معهد الإمام البخاري.

أسعد طه: هذه الفاعليات الدينية إنما تتم بتوجيه وإرشاد من رئيس الجمهورية المنتخب في أجواء ديمقراطية بحسب مرافقنا الحكومي الذي دون صحبته لا يُسمح لنا بالتصوير أو الحركة، وقد أضاف أن الحكومة تبذل جهوداً كبيرة لتطوير البلاد صناعياً وتسعى إلى تحديثها وفتح أبوابها أمام الاستثمارات الأجنبية وكذلك أمام حركة السياحة، وهو أمر قد يلقى استحسان البعض، لكن لا يحظى برضا الجميع.

[فاصل إعلاني]

وادي فرغانة والأحزاب الإسلامية المسلحة المعارضة

أسعد طه: خارطة القوى الإسلامية في آسيا الوسطى يمكن قراءتها بشكل واضح في وادي فرغانة وهو الوادي المقسَّم بين ثلاث دول. طاجيكستان وأوزبكستان وفرغستان، ويُعد مفتحة الإسلاميين في المنطقة، ويبث اسمه الرعب في قلوب أهل السلطة باعتبار أنه مأوى الفصائل الإسلامية المسلحة.

المشهد يدل على أن فرغانة هي واحة أكثر منه وادي، مساحات ممتدة من الأراضي المسطحة التي تتمتع بأفضل تربة في كل آسيا الوسطى وتنعم بطقس هو الأفضل كذلك، طقس لم يعكره سوى قلم (استالين) الذي قسم آسيا الوسطى إلى خمس جمهوريات في عشرينيات القرن العشرين، وقسم هذا الوادي بين ثلاث منها على أمل أن تغرق- حال استقلالها- في نزاعات حدودية وصدامات عرقية وخلافات أخرى متعددة.

نود عبدبيف (صحفي قيرغيزي مستقل): لقد عاش الناس هنا قروناً طوالا كعائلة واحدة، مثلاً الأوزبك يشتغلون في الزراعة والقرغيز في الرعي، ليتكاملوا على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، لكننا الآن نسمع عن مشكلات بين الدول فيما يخص الموارد المائية ومصادر الطاقة والطرق والخلافات حول ملكية الأرض ومشكلات اقتصادية أخرى.

أسعد طه: هذه النزاعات تثير الاضطراب والتوتر بين دول الوادي الثلاث، لكن الوادي بحد ذاته يعاني مشكلات متعددة كنتيجة طبيعية لتراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه المنطقة منذ إعلان الاستقلال.

سينيه سجنابنا (مجموعة الأزمات الدولية-قيرغستان): مشكلات الوادي هي واحدة ولهذا يصعب الحديث في مشكلة الطرف الأوزبكي وحدها أو المشكلات الطاجيكية أو المشكلات الغرفيزيه [القيرغيزية]، ولكن من الواضح بأن مشكلة الطرف الأوزبكي هي أصعب وأخطر مقارنة بالدول المجاورة الأخرى، وإن الأوضاع في أزبكستان ستؤثر قطعاً وبشكل مباشر على الأوضاع في جميع مناطق وادي فرغانة.

أسعد طه: بالبحث في دفاتر الماضي القريب تدرك أن الإسلام والديمقراطية كانا يستحوذان على الناس هنا لحظة إعلان الاستقلال، أما الإسلام فلأنه هوية الأجداد المغيبة وهو البعد التاريخي للأمة وأما الديمقراطية فلأنها بضاعة الغرب التي بها ارتفع شأنه وبدونها انهار شأن المنظومة الشيوعية .

ميزي ويشيردينغ (منظمة العفو الدولية – لندن): عند انهيار الاتحاد السوفيتي كان لدول وسط آسيا آمال كثيرة في أن تضع أقدامها على أعتاب الديمقراطية والتحرر وأن تلعب مسألة حقوق الإنسان دوراً ريادياً، وكانت هناك مبادرات جيدة من قبل فيرغستان مثلاً والتي ركزت على حقوق الإنسان والحرية، ولكن لسوء الحظ استمرت هذه الأوضاع فترة قصيرة في جميع الجمهوريات إلى أن تبين للنخب الحاكمة أن البقاء في السلطة أكثر أهمية من بناء جمهورية أو دولة تعتمد على القانون والنظام واحترام حقوق الإنسان.

أسعد طه: هذا ما تبين للحكام بعد فترة وجيزة من الاستقلال، أما الشعوب فقد اكتشفوا أنهم تخلصوا من الشيوعية سبب البلاء، لكنهم لم يفوزوا بالإسلام، ولم ينعموا بالديمقراطية، ولم تتنزل عليهم بركات الغرب ورفاهيته وهي أجواء مناسبة لتفعيل المعارضة العلمانية والإسلامية على حد سواء.

ميزي ويشيردينغ: في عام 92 بدؤوا التشديد على المعارضة في أوزبكستان وبدؤوا اعتقال أعضاء من (الرخت وبلنج) وحظروا عمل الجماعات المعارضة واضطر الكثير من القادة إلى الفرار مثل محمد صالح الذي ترك أوزبكستان إلى المهجر، أما أعضاء المعارضة المعروفون، فقد انتهى بهم الأمر إلى السجون، فكانت تجربة ديمقراطية قصيرة جداً في أوزبكستان وأظن أن هذه الحملة لم تكن في الجمهوريات الأخرى بنفس هذه الضراوة.

أسعد طه: في شطر وادي فرغانة الواقع في جمهورية أوزبكستان يسكن ثلث السكان ويُعد قلب المنطقة الصناعية في البلاد وهو كما كل أنحاء الوادي يعاني مشكلات اقتصادية جمة وسكانه هم هؤلاء البسطاء وقود الحرب إذا ما وقعت، ضحايا الاستبداد إذا ما استشرى في البلاد.

سينيه سجناينا: لم تتوافر في أوزبكستان آلية تمكن المعارضة من التعبير عن مواقفها وطرح وجهات نظرها والمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية كما هو حاصل في المجتمعات الديمقراطية، والطريق الوحيد لهذه الأطراف هو اللجوء إلى تأسيس أحزاب دينية أو الانضمام إلى ما هو قائم منها.

أسعد طه: أحزاب إسلامية متعددة نشأت بعد الاستقلال، حركتها العواطف الدينية الجياشة أكثر مما حركتها أيديولوجيات وأفكار وبعد مواجهات ساخنة مع الأنظمة الحاكمة استقرت خارطة تيارات الإسلام السياسي لتكون كالآتي: الحركة الإسلامية في أوزبكستان، وتصنف على أنها جماعة راديكالية تهدف إلى الإطاحة بالحكم القائم وإقامة دولة إسلامية.

حزب التحرير: وهو حركة عالمية تهدف إلى إقامة الخلافة الإسلامية.

حزب النهضة الذي أُسس في طاجيكستان.

فيما دُرج على استخدام لفظ الوهابين على أية معارضة إسلامية بغض النظر عن هويتها الفكرية.

وادي فرغانة مثَّل لهذه الأحزاب قاعدة انطلاق للجوء إلى العمل السري والانحياز إلى خيار القوة، بعد أن استوعبت حقيقة أن الأنظمة الحاكمة حاملة الإرث الشيوعي ليست ديمقراطية ولا حتى علمانية، ناهيك عن أن تكون إسلامية والأسوأ في هذه الأنظمة أنها اختارت العنف سبيلاً للمواجهة.

ميزي ويشير دينغ: ما أستطيع قوله أن الرئيس لا يطبق فعلياً احترام حقوق الإنسان أو الاتفاقات الدولية التي وقعتها أوزبكستان في مجال حقوق الإنسان، ومن خلال الأدلة التي وصلتنا تبين لنا أنه لا يحترم حقوق الإنسان أو يطبقها مع أنه قد أعلن أنه هو الشخص الوحيد الذي يدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

أسعد طه: في التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية لعام 2001 ورد الآتي فيما يخص أوزبكستان: "تواصل ورود أنباء حول ممارسة الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون التعذيب وإساءة المعاملة ضد أعضاء في التجمعات الإسلامية المستقلة وبحسب ما ورد قُبض بصورة تعسفية على المئات من المتهمين بالانتماء إلى عضوية حزب التحرير، وهو حزب إسلامي محظور، ومن بينهم النساء، وحُكم عليهم بالسجن مدداً طويلة بعد محاكمات جائرة، وتوفي عدة سجناء في الحجز نتيجة التعذيب كما زُعم، وصدر ما لا يقل عن ثلاثة عشر حكماً بالإعدام، ونُفذ ثمانية أحكام بالإعدام فُرضت بعد محاكمات جائرة"، صور مؤلمة لتعذيب المعتقلين الإسلاميين في أوزبكستان تحدثت عنها تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية وصلت إلى حد تهديد المعتقلين باغتصاب زوجاتهم وأمهاتهم أمام عيونهم، وهي تهديدات لا تطلقها الشرطة جزافاً وإنما ترتكبها في حق المعتقلين وذويهم على حد سواء بحسب تقارير المنظمات الحقوقية، فضلاً عما يتعرض له كل من يُشك في أمره خارج السجون من المراقبة الدائمة والفصل من الدراسة والحرمان من الوظائف وكافة صور التضييق الأخرى في الحياة العامة.

ميزي ويشير دينغ: هناك ما بين سبعة إلى عشرة آلاف مما يسمي بالسجناء الإسلاميين وهم أناس تم الحكم عليهم بسبب انضمامهم إلى تنظيم إسلامي، بينما عدد المحتجزين من العلمانيين المعارضين هو أقل بكثير، لأنه من الواضح أن أول التجديدات وقعت في بداية التسعينيات، وبذلك تبقى عدد قليل من الناس، ويبدو أنه في السنوات الأربع الأخيرة كان تركيز الحكومة على المعارضة الإسلامية.

أسعد طه: مهما كان الأمر في أوزبكستان، ومهما وُصفت بأنها تعاني ديكتاتورية أشد من ديكتاتورية العهد السوفيتي فإن هناك ما يُوصف بأنه أشد نظم آسيا الوسطى ديكتاتورية، وهو النظام القائم في تركمنستان، هذا البلد الذي يُعد أكثر جمهوريات آسيا الوسطى عزلة، وهي الوحيدة بينها التي لم تمنحنا تأشيرة دخول، حيث كل شيء ممنوع، الأحزاب السياسية ممنوعة، والاجتماعات من أي نوع ممنوعة، والإعلام تحت السيطرة المطلقة للحكومة، رئيس تركمنستان هو ذات الرجل الذي كان رئيسها في العهد الشيوعي (صابر مراد نيازوف)، الحائز 99.5% من الأصوات في أول انتخابات بعد الاستقلال، والمنتخب عام 99 رئيساً مدى الحياة، وقد انتشرت صوره وتماثيله في كل مكان، وأُطلق اسمه على المؤسسات والهيئات والميادين المختلفة في أنحاء البلاد، وتحول مكان ميلاده ومدرسته إلى مزارات مقدسة.

ميزي ويشير دينغ: في تركمنستان لا توجد معارضة، وهو أمر غير مقبول على الإطلاق، ومن الواضح تماماً أن كل شئ يتم إقراره عن طريق رئيس تركمنستان، وكل من يختلف معه في الرأي يُعد فوراً من المعارضين ويجابه بنفس المعاملة، كما كان الأمر زمن الحكم السوفيتي السابق. يوجد في تركمنستان نفي داخلي، وبالنسبة إلى التركمانيين لا يوجد تغيير ملموس أو ذو قيمة، وإذا كان هناك تغيير فهو للأسوأ، لأنه لا توجد حالياً حرية رأي من أي نوع كان في تركمنستان.

أسعد طه: تركمنستان تتمتع بثروات طبيعية ضخمة من نفط وغيره، وهي ثالث منتج للغاز على مستوى العالم، ورغم ذلك فإن البلاد تعيش أوضاعاً اقتصادية واجتماعية متردية، حتى أن معدل الدخل للفرد يبلغ 33 دولاراً في الشهر، وهو أمر ليس بمستغرب باعتبار أن الفساد هو قرين الديكتاتورية، ما يمكن أن يكون مستغرباً هو أن منظمات حقوق الإنسان تتحدث في عشرات التقارير عن ديكتاتورية الأنظمة الحاكمة في آسيا الوسطى، هذه المنظمات الحقوقية نشأت في الغرب الذي يرفع راية الديمقراطية، ويؤيد في الوقت ذاته هذه الأنظمة الديكتاتورية، فهل الغرب يدور مع مبادئه، أم أنه يدور مع مصالحه؟

سمرقند بين التاريخ والإسلام والحركات المسلحة

سمرقند مساجد، وقباب، وأضرحة، وبقايا قصور، محطة رئيسية على طريق الحرير التاريخي، زينة الأرض كما جاء ذكرها في المصادر التاريخية القديمة، مركز الكون كما سمَّاها (تيمور لنك) الذي جعلها عاصمة لإمبراطوريته، فيما تقول الرواية العربية إن الإسكندر الأكبر هو من أسسها، في كل الأحوال ظلت سمرقند تلهم خيال الشعراء والأدباء وتثير في نفوس أهل العلم والدين مشاعر الشوق لعهد كانت سمرقند فيه تضخ العلم والعلماء للعالم الإسلامي، عندما غزاها آخرون قالوا إنما جئنا لنبقى، وهو الأمر الذي لم يتحقق.

سمرقند واحدة من مدن العالم الرائعة، عاش فيها علماء وفنانون، وكتب عنها مؤلفون وأدباء من كل مكان وزمان، خمسة وعشرون قرناً من الزمان هو عمرها، تاريخ طويل لفته الحكايات والأساطير لمدينة داهمتها خيول الإسكندر الأكبر، ووصلها الإسلام فآمنت به وصلح أمرها، ونصبها (تيمور لنك) عاصمة بلاده، ودمرتها جحافل (جنكيز خان) الضارية، ولم تسلم من الاحتلال الروسي للمنطقة الذي جعلها عاصمة لأوزبكستان عام 1924 لست سنوات، قبل أن تصبح طشقند هي عاصمة البلاد. كل من يأتي إلى هنا ليس له إلا أن يُردد مقولة الإسكندر الأكبر الشهيرة: "كل ما سمعته عن سمرقند من محاسن صحيح باستثناء أنها أجمل مما كنت أتصور"، هذا الجمال يأخذ بعداً حضارياً وروحياً عميقاً بالآثار الإسلامية الدالة على عهود العلم والعلماء، وهي عهود أشرقت فيها الأفكار وغربت الأصنام، وغاب عن أمر الفُتيا فيها فيها أنصاف المتعلمين وشيوخ السلطان.

في قلب المدينة ميدان شهير يُسمى (ريكستان)، وهو تحفة معمارية فريدة، تعبر بصورة جلية عن منجزات قرون طويلة، ريكستان كانت في الأمس البعيد مكاناً تلتقي فيه ثلاث مدارس دينية كبرى هي أقرب لأن تكون جامعات، حيث كانت تُدرَّس فيها إلى جانب الدراسات الدينية علوم الفلسفة والرياضيات والفلك قبل أن تصبح اليوم مزاراً للسائحين، تعقد فيها يومياً قبيل المغرب جلسات الرقص الشعبي.

إلى جهة الشرق من ميدان ريكستان مسجد وضع (تيمور لنك) أساسه بعد حملته المظفرة إلى الهند نهاية القرن الرابع عشر، وأطلق عليه اسم زوجته (ببيخانم) ويُعد أكبر مسجد في آسيا الوسطى، وقد أصابه الدمار عندما تعرضت المدينة لزلزال شديد عام 1897، وفي ناحية أخرى من سمرقند ما يُعتقد أنه قبر (كثم بن عباس) بن عم النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي استُشهد في سمرقند، ويُعرف هنا بأنه أول من جلب الإسلام إلى آسيا الوسطى.

المدارس الدينية هنا ليست آثاراً فحسب، بل هي واقع يومي أيضاً، وهو ما يعتبره الرسميون دليلاً على رغبة حكومية في الفصل في السياسة الداخلية بين الإسلام وبين الحركات الإسلامية المتطرفة، وها نحن في مدرسة الإمام البخاري التي أُعيد فتحها قبل 5 سنوات لتشهد اليوم إقبالاً كبيراً من أبناء المنطقة.

طالب 1: لم نكن نعلم أن الإسلام له هذه المكانة الهامة في التاريخ، ونحن نبحث الآن عن المزيد من المعرفة عن أجدادنا الذين عاشوا هنا وقاموا بالكثير من أجل الحضارة الإسلامية.

طالب 2: أعتقد أن الوهَّابية هي أحد التهديدات التي تواجه الإسلام، وليس في بلادنا من تهديدات أخرى، وأرى أن هناك الكثير من الوسائل لتعلُّم الإسلام غير طريق الوهابية، فنحن لدينا جامعة إسلامية، وحوالي عشر مدارس في أنحاء الجمهورية.

أسعد طه: الوهَّابية التي تطلق هنا على كل تيارات الإسلام السياسي دون تمييز يُؤخذ عليها أنها تفتقد لتصورات وبرامج محددة تسعى إليها سوى هذا النداء الذهبي بإقامة دولة إسلامية، وهي متهمة بمعاداة الديمقراطية، ومدانة باعتماد القوة سبيلاً وحيداً لتحقيق مآربها.

شيرين أكنر: الحركة الإسلامية في أوزبكستان كما يوحى اسمها هي حركة نشأت محلياً وهدفها المعلن هو إقامة ولاية إسلامية ضمن مشروع الخلافة الإسلامية، ولكن خلف هذا الإعلان هناك القليل من المحاولات من جانب أتباع هذه الحركة لشرح ما يحاولون تحقيقه أو كيفية تحقيقه.

سينية سجناينا: أُسس حزب التحرير في بداية عام 1990، وهذا الحزب موجود في عدد من الدول العربية التي أُسس بها منتصف الخمسينات، ولكن هناك فوارق كبيرة بين حزب التحرير في الوطن العربي وحزب التحرير في آسيا الوسطى، وهم يعتقدون أنه بعد تأسيس دولة الخلافة سيحلون جميع المشكلات، وعندما تسألهم ماذا ستعملون في اليوم الثاني بعد تأسيس دولة الخلافة؟ فهم يصمتون، ولا يتمكنون من الإجابة، لأنهم بالفعل لا يملكون أي برنامج سياسي.

أسعد طه: الحركات الإسلامية في آسيا الوسطى ليس لها أطروحات سياسية متكاملة، وهي مسألة قد تكون محتملة، لكن ما لا يحتمل عند عموم الناس هو رفض الآخر ونبذ الديمقراطية، وما لا يحتمل عند السلطة محاولة إقصائها عن الحكم، وما هو مرفوض للجميع اللجوء إلى العنف.

سلسلة من الصدامات شهدتها المنطقة، ونُسبت إلى الإسلاميين، منها وقوع سلسلة تفجيرات بالعاصمة الأوزبكية طشقند في السادس عشر من فبراير عام 99، كان أخطر هذه التفجيرات ما جرى عند مبنى رئاسة الوزراء، بينما كان موكب الرئيس (إسلام كاريموف) على وشك الوصول، وفي خرق مدهش للإجراءات الأمنية المكثفة ما دعا جهات حقوقية دولية أن تعتقد أن الحادث كان مدبَّراً من قبل الرئيس نفسه لتبرير حملته لإقصاء الإسلاميين.

ميزي ويشير دينغ: قُتل ستة عشر شخصاً وجُرح المئات في انفجارات طشقند في فبراير 99، وتبع ذلك اعتقالات على مدى واسع، وفي يوليو وأغسطس من ذلك العام جرت محاكمات لأعداد كبيرة من الناس اتُّهموا بأنهم منظمون لتلك الانفجارات أولهم علاقة ما بالموضوع، الغالبية العظمي منهم حُكم عليهم بعقوبة الإعدام، وقد قُمنا نيابة عن المحكومين عليهم بالاستئناف لدى المحكمة، وذلك ليس فقط لأننا ضد عقوبة الإعدام، ولكن أيضاً لأنه كان هناك الكثير من الشك في مصداقية تلك المحاكمات، وكذلك لاعتقادنا ببراءة هؤلاء الناس.

أسعد طه: انفجارات طشقند وجدت من يرد تهمة ارتكابها عن الإسلاميين، غير أن أحداث أغسطس عام 99 لم تجد مدافعاً حين قام إسلاميون مسلحون في وادي فرغانة بخطف مجموعة من المسؤولين القرغيز وأربعة من علماء الجيولوجيا اليابانيين وطالبوا بدفع فدية، ما أدى إلى وقوع مواجهات مسلحة استمرت شهرين، وانتهت بدفع اليابان الفدية وإطلاق سراح الرهائن، وبعد عام تكررت المواجهات في منطقة باتكين بقيرغستان.

عبد الرشيد قارى بحراموف: لقد استغلت بعض الأحزاب الدينية الممنوعة حتى في بلدانكم العربية استغلت عطش الناس إلى دينهم وحرصهم على تعلُّم مبادئه وتعاليمه، وراحت تبث أفكارها ومبادئها الخاصة المتطرفة، لكن عبر الجهود التي بذلتها الإدارة الدينية، وبفضل وعي الناس استطعنا أن نعبر هذه الأزمة.

أسعد طه: على بعد ثلاثين كيلو متراً إلى الشمال من سمرقند يقبع مقام الإمام البخاري، هذا المقام الذي تعرَّض للأذي أيام العهد السوفيتي، وأُعيد ترميمه عام 98 برعاية الرئيس الأوزبكي ليصبح الآن مزاراً يأتيه الناس للزيارة والتبُّرك.

قال لنا خادم المسجد إن أصحاب الحاجات يأتون إلى هنا ليتباركوا بهذه المياه المقدسة، لعلَّ حوائجهم يستجاب لها، ويبدو أن هذا هو الإسلام المطلوب دعمه وترسيخه، ذات الخادم شرح لنا فرحاً أن نظام الري في حضرة الإمام البخاري يأتي ضمن التحديثات التي قام بها الرئيس، وقد أنجزه الإسرائيليون -على حد قوله- الذين يتمتعون هنا بنفوذ واسع بحسب ما رأيت.

"في كل الدنيا يسقط الضوء على الأرض إلا هنا في بخارى فإنه يسطع منها"، قول مأثور عن تلك المدينة التي تحمل نعوتاً متعددة: المدينة الفاضلة، المقر الأعظم، بخارى الشريفة، وتحمل من الزمان 2500 عام، لذا فإن الزائر هنا يكاد يرى التاريخ يجري في شوارع المدينة المزدانة بملامح مجد قديم، وِلمَ لا وهي تكتظ بالعديد من المدارس والمساجد والمكتبات العتيقة،وهي مسقط رأس العديد من العلماء الذين أثروا حياة المسلمين بما تركوه من علم نافع يُراد به بناء حضارة تجمع بين الدين والدنيا، ولا تفرِّق بين الدين والسياسة.

سوق بخارى تمنحك إيحاءً بأنها هي ذات السوق التي كانت يوماً قائمة على درب الحرير الشهير، وهي كغيرها من المدن الأوزبكية تريد أن تقول لزائريها إنها كانت يوماً تجمع بين الدين والدنيا، منارة المسجد (كالون) المبني عام 1127 على يدي (أرسلان خان) التي كانت تُعد حينها أطول بناية في آسيا الوسطى بارتفاعها البالغ سبعة وأربعين متراً، وقد أثارت دهشة (جنكيز خان) وإعجابه عندما أتى على رأس جحافله إلى هنا، وقد أُعيد بناء المسجد في القرن السادس عشر بعد تعرُّضه للدمار الشديد بسبب الزلزال، على كل حال فإن جولة في هذه المدينة التي وصلها قتيبة بن مسلم عام 707 كفيلة بأن تثير في النفوس مشاعر متضاربة، مرة بالفخر لمجد قد ولَّى، ومرة أخرى بالانكسار لقلة الحيلة والهوان على الناس.

قائمة العلماء الذين أنجبتهم آسيا الوسطى طويلة، هؤلاء الذين نالت مؤلفاتهم شهرة عالمية كبيرة، واحتفظت بقيمتها وأهميتها العلمية حتى يومنا هذا، هؤلاء العلماء كان أمر الدين عندهم يتعدى العلوم الدينية إلى علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع، وحتى العلوم الأكاديمية التي رفعوا من شأن أمتهم بإبداعهم فيها، لكن لم يكن بينهم جاهل يدعي علماً أو متطرف ينبذ الآخرين، ويصدر حكماً بالموت في حقهم.

مدرسة مير العرب تحتفظ بتاريخ طويل، وهي إحدى مؤسستين تعليميتين في كل أنحاء الاتحاد السوفيتي ظلت أبوابهما مفتوحة طيلة العهد الشيوعي، وقد بُنيت هذه المدرسة في القرن السادس عشر ليرتادها الطلاب في دورة دراسية تستمر خمس سنوات، أما البنات فلهنَّ مدرستهنَّ الخاصة بهنَّ.

مديرة المدرسة: بدأ مدرسة (جباري كالون) للنساء عملها في الأول من سبتمبر عام 1992م، ولدينا الآن 277 طالبة، تلقين دروساً في الدين وعلوم الدنيا، لقد بُنيت هذه المدرسة في القرن السادس عشر الميلادي على يد سيدة تُسمي (أُباشا بيبي).

طالبة 1: تبدأ الدراسة عند الساعة الثامنة والنصف من صباح كل يوم، ونحن نتلقى دروساً في العربية والقرآن الكريم والصرف والحديث، كما ندرس أيضاً مواد غير دينية، مثل التاريخ، والجغرافيا، والفيزياء، والرياضيات.

طالبة 2: بعد الاستقلال الذي تم قبل عشر سنوات باشرت هذه المدرسة وظيفتها، وعندما أتيت هنا وجدت شروط الدراسة جيدة، وعندما كنت في المدرسة رأيت بعض السيدات يرتدين الحجاب، وكان هذا حلمي أن أرتدي الحجاب مثل الأخريات.

أسعد طه: في مسجد النقشبندي بأطراف مدينة بخارى نشهد صلاة الجمعة، هذا الإمام الصوفي الذي يحفظ الناس عنه قوله: "إن يدك ينبغي أن تعمل، بينما روحك تكون مع الله" على كل حال لا أعرف لماذا تذكرت في هذه الأجواء ما ذكره المؤرخون هنا من أن رفات 2700 من الصحابة والتابعين يحتضنها وادي فرغانة، هؤلاء الذين استُشهدوا لقاء نشر الإسلام في آسيا الوسطى.

فلنعد إلى وادي فرغانة على أن تكون هذه المرة من جهة قيرغستان، إلى (أوش) إذاً.

في عام 2000 احتفلت (أوش) بمرور 3 آلاف عام على تأسيسها، وهي اليوم ثانية كبرى المدن في قيرغستان، ويسكنها 300 ألف نسمة من أعراق مختلفة من قرغيز وأوزبك وطاجيك وتقع أوش على الطرف الشرقي من وادي فرغانة، ويشرف عليها حاجز صخري يسمي تاج سليمان، يضفي على المدينة سحراً وبعد مزاراً للناس الذين يعتقدون أن النبي سليمان قد أدى الصلاة عنده ذات مرة.

نزور (أوزجان) التي تبعد 55 كيلو متراً عن (أوش)، وتسكنها غالبية من الأوزبك، المشهد في سوقها الرئيسة يعكس حالة من التعايش الآمن بين القوميات المختلفة التي تسكن المنطقة، غير أن الواقع يفيد أن (أوزجان) كانت مسرحاً لأعمال عنف عرقي في نهاية التسعينيات أدت إلى سقوط ضحايا قدر عددهم بأكثر من ألف مواطن من قوميتي الأوزبك والقيرغيز، الحكومة تتهم الحركات الإسلامية بأنها تستخدم ورقة النزاعات العرقية لإثارة القلاقل ضدها، فيما يرى الإسلاميون أن غياب الحريات العامة، وتفاقم الأزمة الاقتصادية الناجمة عن امتصاص الحكومات القائمة لثروات الشعب هو الذي يدفع بالناس إلى التذمر طرق مختلفة، وأن تبني الإسلام كفيل بحل المشكلات العرقية.

ترسوبناي بولات زاكير: لقد تعبنا من توجيه النداءات إلى رئيس الجمهورية والحكومة بأن قيرغستان باتت أشبه بأوزبكستان، حيث يتم ملاحقة ليس فقط القادة وإنما أيضاً المتدينين ورجال الدين وحيث تغلق الكثير من المساجد، وللأسف فإن قيرغستان وصلت إلى هذا الطريق.

أسعد طه: من الصعوبة أن يتوصل صحفي أجنبي إلى لقاء أي من العناصر الفاعلة من الحركات الإسلامية هنا، باعتبار أن كلا الطرفين تحت الرقابة المشددة، الإسلامي والصحفي، غير أن لقاء قصيراً أجريناه مع عضو في حزب التحرير كان حريصاً خلاله على تأكيد خيار حركته السلمي.

عضو حزب التحرير: قبل عام 1997 كان الحزب أكثر تأثيراً وأكثر وزناً في المجتمع، لكن الحزب أجبر بعد ذلك على العمل في الخفاء بعد حملة الاضطهاد التي تعرض لها من قبل الحكومة الأوزبكية وهي الحملة التي فضحت نوايا النظام الحاكم المعادي لفكرة إقامة دولة إسلامية، وأدت إلى تعاطف الناس معنا، الذين أدركوا أننا حزب سياسي نسير على درب رسول الله عليه الصلاة والسلام.

أسعد طه: ألف فكرة وفكرة تقفز إلى ذهنك وأنت تهم بمغادرة آسيا الوسطى، ترى كيف سيكون شكل المستقبل بعد سنوات قليلة وتحديات خطيرة تواجه المنطقة، أزمة اقتصادية، وصراعات عرقية، ونزاعات حدودية، وتدخل خارجي طامع في ثروات المنطقة، وحركات إسلامية يشوه متطرفها معتدلها، وديكتاتورية غير عابئة لا بالإسلام ولا بالديمقراطية ولا بالعلمانية، ساعية إلى السلطة والثروة في جولة بأوزبكستان نزور مزارع ومصانع للقطن، لقد فرض الروس خلال العهد الشيوعي على أبناء المنطقة ماذا يزرعون، وماذا يحصدون، تبعاً لما تمليه مصالحهم، والآن في زمن شرطي العالم يُفرض على أبناء آسيا الوسطى أن يفتحوا أبواب بلادهم على مصارعها لتكون أراضيهم قواعد عسكرية لإدارة الحرب ضد الإرهاب كما هو معلن، فيما هناك مقاصد أخرى، لو كنا خبثاء لقلنا إنها الإسلام والثروة.

في نهاية المطاف يبدو المشهد عجيباً للغاية، فوق الأرض مآذن وتحت الأرض آبار نفط، في الخلفية سارق بزي شرطي وفي المقدمة مسروق مدان وبينهما -للأسف- مساحة كافية وزمن مواتٍ لقلب كل الموازين، وتغيير كل المعايير، لكن الستار لم يسدل بعد فثمة لاعب رئيسي ينتظر دوره، فثمة من يتهيأ ويتسلح بشروط النهضة، السلام عليكم.