أبعد من مقاييس الكربون

Steam rises from the stakes of the coal-fired Jim Bridger Power Plant outside Point of the Rocks, Wyoming, in this file photo taken March 14, 2014. The U.S. Supreme Court on Tuesday delivered a major blow to President Barack Obama by blocking federal regulations to curb carbon dioxide emissions from power plants, the centerpiece of his administration's strategy to combat climate change. REUTERS/Jim Urquhart/Files
غاز ثاني أكسيد الكربون هو المسبب الرئيسي للاحتباس الحراري وتغير المناخ لكنه ليس السبب الوحيد (رويترز)

كاميلا مورينو ودانيال سبيش شاسي وليلى فوهر

خلال السنوات العشر الماضية أصبح "تغير المناخ" مرادفا تقريبا "لانبعاثات الكربون"، ويُقاس انخفاض الغازات المسببة للاحتباس الحراري في الغلاف الجوي بالأطنان من "معادل الكربون" (ثاني أكسيد الكربون)، الذي برز بوصفه الهدف الأسمى للسعي وراء الحفاظ على كوكب الأرض، لكن مثل هذا النهج المبسط لا يمكن أن يحل أزمات بيئية معقدة ومترابطة للغاية، والتي نواجهها حاليا.

تركز السياسات البيئية العالمية الضيقة على "مقاييس الكربون" مما يعكس هاجس القياس والمحاسبة على نطاق واسع

وتركز السياسات البيئية العالمية الضيقة على "مقاييس الكربون"، مما يعكس هاجس القياس والمحاسبة على نطاق واسع، ويستخدم العالم الآن التفكير التجريدي -السعرات الحرارية، والأميال، والجنيهات، والآن الأطنان من ثاني أكسيد الكربون- الذي يبدو هادفا وموثوقا به، خاصة عندما يتضمن لغة "الخبراء" (والتي تكون غالبا اقتصادية). وكنتيجة لذلك، فإننا نميل إلى التغاضي عن الآثار المترتبة على تاريخ كل تجريد، وديناميات السلطة والسياسة التي ما تزال تؤثر فيها.

هناك مثال رئيسي للتجريد العالمي القوي والوهمي إلى حد ما، وهو الناتج المحلي الإجمالي، الذي تم اعتماده كمقياس رئيسي للتنمية والأداء الاقتصادي لكل بلد بعد الحرب العالمية الثانية، بينما كانت القوى العالمية تبني مؤسسات مالية دولية كان من المفترض أن تعكس قوة اقتصادية نسبية. وعلى الرغم من أن الناتج المحلي الإجمالي أصبح اليوم مصدرا لإحباط واسع، فإنه لا يعكس الواقع المعيش. ومثل أنوار السيارة العالية، يمكن أن تكون الأفكار التجريدية منيرة جدا، لكنها أيضا تحجب ما يقع خارج نطاق ضوئها.

ومع ذلك، ما يزال الناتج المحلي الإجمالي -إلى حد بعيد- المقياس المهيمن لتقدير درجة الازدهار الاقتصادي، الأمر الذي يعكس هاجس العالمية الذي رافق انتشار الرأسمالية في جميع أنحاء العالم. اٍن التصورات المعقدة والحساسة والنوعية التي تعكس الخصوصيات المحلية هي ببساطة ليست مثيرة للإعجاب بالمقارنة مع تفسيرات الكمية الشاملة والخطية.

بدأت سياسة المناخ على طريق صخري وعنيف محفوفة بالبدائل المنسية، وفي غضون ربع القرن الماضي ارتكبت ثلاثة أخطاء

سياسات خاطئة
وعندما يتعلق الأمر بتغير المناخ، تتم ترجمة هذا التفضيل إلى الدعم الأحادي لإيجاد حلول تُقلل بشكل طفيف انبعاثات الكربون الصافية، ومن شأنها تقليص التحولات الاقتصادية الواسعة أو تقويض قدرة المجتمعات المحلية على تعيين مشكلات محددة ووضع حلول مناسبة لها. ويعود هذا النهج إلى مؤتمر قمة الأرض عام 1992 في ريو دي جانيرو، حيث بدأت سياسة المناخ على طريق صخري وعنيف محفوفة بالبدائل المنسية، وفي غضون ربع القرن الماضي ارتكبت على الأقل ثلاثة أخطاء:

أولا– قدمت الحكومات في القمة وحدة ثاني أكسيد الكربون لحساب القياس بطريقة ملائمة لآثار غازات الاحتباس الحراري المختلفة، مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز. اٍن الاختلافات بين هذه الغازات مسألة عميقة -من حيث إمكانات الاحترار، وكم وقت تبقى في الغلاف الجوي؟ وأين تظهر؟ وكيف تتفاعل مع النظم البيئية والاقتصادات المحلية؟ اٍن وحدة واحدة من القياس تبسط الأمور إلى حد كبير، مما يسمح لصناع السياسة بتقديم الحل العام نفسه لهدف خاص وشامل.

ثانيا– أكد مؤتمر تغير المناخ للأمم المتحدة أهمية تقنيات "نهاية الأنبوب" (وهي الأساليب التي تهدف إلى إزالة الملوثات من الجو)، مما مكن صناع القرار من تحويل الانتباه بعيدا عن الهدف السياسي الأكثر تحديا الذي هو الحد من أنشطة إنتاج تلك الانبعاثات في المقام الأول.

ثالثا– قرر صناع السياسة التركيز على صافي الانبعاثات، مع الأخذ بعين الاعتبار العمليات البيولوجية التي تنطوي على الأرض والنباتات والحيوانات جنبا إلى جنب مع تلك التي ترتبط مع حرق الوقود الأحفوري. وتماما مثل المنشآت الصناعية، عولجت حقول الأرز والأبقار كمصدر الانبعاثات، والغابات الاستوائية، وزراعة الأشجار الأحادية والمستنقعات كمصارف الانبعاثات. وقد بدأ صناع السياسة إيجاد حلول تتضمن موازنة الانبعاثات بالخارج، بدلا من خفضها في الداخل (أو في المصدر).

بعد ما يناهز عقدين من الزمن، لم تكن محاولة موازنة الانبعاثات راسخة فقط في سياسة المناخ؛ بل وجدت أيضا طريقها إلى النقاش الواسع الدائر حول السياسة البيئية

بروتوكول كيوتو
وبحلول عام 1997، عندما تم اعتماد بروتوكول كيوتو، كانت "المرونة" أمر اليوم، وكان التداول في شهادات الانبعاثات (أو تصاريح التلوث) الخيار السياسي المفضل. وبعد ما يناهز عقدين من الزمن، لم تكن محاولة موازنة الانبعاثات راسخة فقط في سياسة المناخ؛ بل وجدت أيضا طريقها إلى النقاش الواسع الدائر حول السياسة البيئية.

لقد ظهرت أسواق جديدة تسمى "خدمات النظام الإيكولوجي" في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، "التخفيف المصرفي للأراضي الرطبة" في الولايات المتحدة من بين هذه الأسواق القديمة، وينطوي على المحافظة والزيادة أو خلق أرض رطبة أو تيار يعوض الآثار السلبية للمشروع المخطط لنظام إيكولوجي في مكان آخر. ويتم ذلك عن طريق إصدار الشهادات التي يمكن تداولها، ويعوض "التنوع البيولوجي" مخططات تعمل بنفس الطريقة: يمكن لشركة أو فرد شراء "أرصدة التنوع البيولوجي" للتعويض عن "البصمة البيئية".

بدلا من تغيير نظامنا الاقتصادي لجعله يدخل ضمن الحدود الطبيعية لكوكب الأرض، نقوم بإعادة تعريف الطبيعة بطريقة تنسجم مع نظامنا الاقتصادي

أهمية التغيير
وإذا كانت هذه المخططات تبدو مناسبة إلى حد ما، فلأنها ملائمة. ففي الواقع هي ترتكز على المفهوم الخاطئ نفسه، مثل متاجرة الانبعاثات، وفي بعض الحالات تقوم بترجمة التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية إلى ثاني أكسيد الكربون. وبدلا من تغيير نظامنا الاقتصادي لجعله يدخل ضمن الحدود الطبيعية لكوكب الأرض، نقوم بإعادة تعريف الطبيعة بطريقة تنسجم مع نظامنا الاقتصادي، ومن خلال هذه العملية نقصي أشكالا أخرى من المعرفة دون إعطاء بدائل حقيقية.

والآن، في أعقاب قمة المناخ في ديسمبر/كانون الأول الماضي في باريس، أصبح العالم على وشك اتخاذ منحى خاطئ آخر، من خلال تبني فكرة "الانبعاثات السلبية"، التي تفترض أن التقنيات الجديدة سوف تكون قادرة على إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، ولم يتم بعد اختراع هذه التقنيات، وحتى لو اخترعت، فإن تنفيذها سيكون خطرا للغاية.

وبدلا من متابعة حلول ثابتة، وترك الوقود الأحفوري في الأرض، والابتعاد عن الزراعة الصناعية والاتجاه نحو البيئة الزراعية، وخلق اقتصادات خالية من النفايات، واستعادة النظم الإيكولوجية الطبيعية، نعتمد على بعض الابتكارات الخارقة لإنقاذنا، فقط في اللحظة الحاسمة. يجب أن تكون حماقة هذا النهج واضحة.

فإذا استمرت مقاييس الكربون في تشكيل سياسة المناخ، لن تعرف الأجيال الجديدة سوى كربون مُقيد، أو عالم منخفض الكربون، هذا في حالة إذا كانوا محظوظين. وبدلا من متابعة مثل هذه الرؤية التبسيطية، يجب علينا اتباع إستراتيجيات أكثر ثراء تهدف إلى تحويل الأنظمة الاقتصادية للعمل داخل ومع بيئتنا الطبيعية.

لذلك، فإننا سنحتاج إلى طريقة جديدة في التفكير تشجع على المشاركة الفعالة لاستعادة والحفاظ على المساحات، حيث يمكن للنهج البديل أن ينمو ويزدهر، ولن يكون من السهل فعل ذلك، لكنه سوف يستحق كل هذا العناء.
_______________
كاميلا مورينو: باحثة في الجامعة الاتحادية الريفية في ريو دي جانيرو، ومؤلفة كتاب سيصدر قريبا يحمل عنوان "مقاييس الكربون والمعادلات الجديدة المستعمرة".
دانيال سبيش شاسي أستاذ التاريخ في جامعة لوزان، يعمل على تطور نظم المعرفة.
ليلى فوهر تترأس قسم البيئة والتنمية المستدامة في هاينريش بول شتيفتونغ في برلين.

المصدر : بروجيكت سينديكيت