أغوار البحر الأحمر .. ثروة كامنة تنتظر الاستغلال

موقع الغور الملحي الحار “أطلانطيس-2" بمنتصف البحر الأحمر.

د. وحيد محمد مفضل*

يحتل البحر الأحمر أو بحر القلزم، كما كان يعرف قديما، مكانة فريدة ومتميزة وسط بقية البحار العالمية الأخرى، وهذا بسبب موقعه الإستراتيجي وبسبب أهميته التاريخية والدينية والتجارية أيضا.

فهو يقع في منطقة من العالم كانت مهدا لأكثر من حضارة قديمة وعريقة (الفرعونية في مصر وسبأ في اليمن، وحضارة الأنباط والرومان والأردن والشام)، كما أن هذه المنطقة كانت مهبطا للديانات السماوية الثلاث الكبرى (الإسلام والمسيحية واليهودية).

وفضلا عن هذا، يحظى البحر الأحمر بثروات وموارد طبيعية عديدة ومتنوعة، ولا تحتاج سوى بعض الخطوات العملية الجادة من أجل استخراجها والانتفاع بها.

ومن هذه الثروات الأغوار الحارة فائقة الملوحة الموجودة قرب قاع البحر والتي تخفي تحتها طبقة سميكة من الرواسب الغنية بالمعادن الاقتصادية الثمينة، مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد الخام والرصاص والكروم والزنك.

وتوجد معظم هذه الأغوار على أعماق سحيقة في منتصف البحر الأحمر في المياه البحرية الإقليمية المشتركة الواقعة بين حدود المملكة العربية السعودية والسودان، لذا يقتصر حق استغلالها الاقتصادي على هاتين الدولتين، وهذا حسبما ينص عليه قانون البحار الدولي.

تعود قصة اكتشاف هذه الأغوار إلى منتصف الستينيات من القرن الماضي حينما اكتشفت إحدى سفن الأبحاث البريطانية، وهي السفينة الشهيرة ديسكفري وجود غور ملحي ساخن على عمق حوالي 1500 متر

قصة الاكتشاف
وتعود قصة اكتشاف هذه الأغوار إلى منتصف الستينيات من القرن الماضي حينما اكتشفت إحدى سفن الأبحاث البريطانية، وهي السفينة الشهيرة ديسكفري وجود غور ملحي ساخن على عمق حوالي 1500 متر في المنطقة الواقعة بمنتصف البحر الأحمر أمام مدينة جدة.

وفي العام التالي اكتشفت سفينة الأبحاث "أطلانطيس-2" التابعة لمعهد وودز هول لأبحاث علوم البحار والمحيطات بالولايات المتحدة الأميركية، غورا آخر في منطقة مجاورة، على عمق 2000 متر.

وقد أثار هذان الاكتشافان فضول عدد آخر من العلماء الأميركيين، مما دفع المؤسسة الأميركية للعلوم في العام 1966 إلى إرسال رحلة بحرية استكشافية خصيصا من أجل دراسة وجمع معلومات عن هذه الأغوار العجيبة، مع سفينة أبحاث أميركية ثانية، وهي السفينة "تشين".

وتمكنت "تشين" من جمع معلومات وبيانات هامة للغاية عن هذه الأغوار، وعن طبيعة التربة والرواسب المكونة لقاع البحر الواقع في نطاقها. وأطلقت أسماء السفن البحثية الثلاث (ديسكفري وأطلانطيس-2 وتشين) على الأغوار الثلاثة السابقة.

واكتشف بعد ذلك عدد آخر من الأغوار في أجزاء أخرى من البحر الأحمر، منها "كبريت" و"شعبان" في الشمال، و"سواكن" و"بورسودان" في منتصف البحر الأحمر، وإن بقيت الأغوار الثلاثة السابقة خاصة غور "أطلانطيس" هي الأدفأ والأكثر غنى بالثروات المعدنية.

كما تأكد وجود طبقة سميكة وواعدة اقتصاديا من الرواسب المحتوية على كميات كبيرة من المعادن الفلزية، مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد الخام والرصاص والكروم والزنك.

وقد أجرت جامعة الملك عبد العزيز ممثلة في كلية علوم البحار بمدينة جدة دراسات إضافية على غور أطلانطيس في العام 2011، وأرسلت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية الكائنة بثوال شمال جدة رحلة بحرية استكشافية العام الماضي لدراسة خصائص هذا الغور والأغوار القريبة منه، وهو ما أسفر بالفعل عن إماطة اللثام عن كثير من الأسرار وجمع مزيد من المعلومات عن الخصائص الهيدروغرافية والبيولوجية المميزة لهذه الأغوار.

تشبه أغوار أطلانطيس وديسكفري وتشين وغيرها من أغوار البحر الأحمر الحارة إلى حد كبير الينابيع والعيون المائية الحارة المألوفة لنا والموجودة على اليابسة، مع فارق جوهري واحد، هو وجودها تحت سطح المياه عند عمق كبير قرب قاع البحر

نتائج الدراسات العلمية
تشبه أغوار أطلانطيس وديسكفري وتشين وغيرها من أغوار البحر الأحمر الحارة إلى حد كبير الينابيع والعيون المائية الحارة المألوفة لنا والموجودة على اليابسة، مع فارق جوهري واحد، هو وجودها تحت سطح المياه عند عمق كبير قرب قاع البحر.

كما تختلف بطبيعة الحال خصائصها الكيميائية والمعدنية عن خصائص الينابيع الحارة، وهذا نتيجة تباين المصدر الصخري المنبعثة منه والعوامل الحرارية المسببة.

وبهذا الخصوص توضح نتائج التحاليل الفيزيائية والكيميائية التي أجرتها السفينة "تشين" وغيرها من سفن الأبحاث، أن درجة حرارة المياه في هذه الأغوار يمكن أن تصل إلى 62 درجة مئوية، كما يمكن أن ترتفع فيها نسبة الملوحة إلى 10 أضعاف درجة الملوحة العادية.

وتتميز هذه الأغوار بغناها من العناصر المعدنية الثقيلة خاصة الحديد والمنجنيز والنحاس والزنك، حيث تصل تركيزات هذه العناصر إلى 1000 ضعف التركيزات المتعارف عليها في بقية أجزاء البحر الأحمر والبحار والمحيطات الأخرى، وهو ما يعكس في الوقت نفسه غنى رسوبيات القاع الموجودة في محيط هذه الأغوار بنفس المحتوى المعدني.

ويعد غور أطلانطيس الأشهر والأكثر ثراء من حيث المحتوى المعدني وكمية الطمي المتمعدن بين كل هذه الأغوار، وتبلغ مساحة هذا الغور نحو 60 كيلومترا مربعا، ويتمركز في المياه العميقة على عمق 2000 متر تقريبا الواقعة قبالة مدينتي جدة على الساحل السعودي وبورسودان على الجانب السوداني.

وتوضح التحاليل والاختبارات المعملية التي أجريت على رواسب هذا الغور أنها تحتوي على كميات اقتصادية للغاية تقدر إجمالا بحوالي 97 مليون طن من مختلف الخامات والمعادن الفلزية، منها مليونا طن من الزنك، ونصف مليون طن من النحاس، فضلا عن آلاف الأطنان الأخرى من معادن الرصاص والفضة والمنجنيز والكادميوم والكوبالت.

كما يؤكد أحد الباحثين غناها النسبي بمعدن اليورانيوم. وقد قدر حجم العائد المادي المتوقع حال استغلال هذه الرواسب اقتصاديا بحوالي 2.5 مليار دولار، وهذا بعيد اكتشاف الغور في العام 1967.

 حفزت النتائج السابقة كلا من المملكة العربية السعودية والسودان بوصفهما الدولتين اللتين لهما حق الاستغلال الاقتصادي لغور أطلانطيس ومعظم الأغوار الأخرى، على إنشاء الهيئة السعودية السودانية لاستغلال ثروات البحر الأحمر في العام 1974

مرحلة جني الثمار
وقد حفزت النتائج السابقة كلا من المملكة العربية السعودية والسودان بوصفهما الدولتين اللتين لهما حق الاستغلال الاقتصادي لغور أطلانطيس ومعظم الأغوار الأخرى، على إنشاء الهيئة السعودية السودانية لاستغلال ثروات البحر الأحمر في العام 1974، والتي تهدف بدورها إلى الاستغلال المشترك للثروة المعدنية الكامنة في قاع وتحت قاع البحر الأحمر، وأيضا إلى الاستفادة من تطبيقاتها الاقتصادية.

ومن مهام هذه الهيئة تحديد منطقة الاستغلال المشتركة بين الدولتين، والنظر في طلبات منح رخص الكشف والتنقيب أو عقود الاستغلال، وتنظيم الإشراف على الثروة المستخرجة في مرحلة الإنتاج، وغير ذلك من المهام المتعلقة باستخراج هذه الثروة وتنظيم حق الانتفاع بها.

ورغم بعض التعثر والتوقف، أسفرت جهود الهيئة في العام 2010 عن إصدار أول رخصة تعدين لاستغلال الثروات الفلزية الكامنة في قاع البحر الأحمر من ذهب وفضة ونحاس وزنك وغيرها من المعادن الموجودة في منطقة غور أطلانطيس، التي أطلق عليها اسم "كنز البحر الأحمر".

وهذه الخطوة، وإن جاءت متأخرة كثيرا، تعد بادرة إيجابية، ويمكن أن تشكل نقطة انطلاق وعامل جذب للشركات المتخصصة نحو استغلال باقي الكنوز المعدنية المطمورة وراء أغوار البحر الأحمر الحارة.

وحسب المعلومات المتوفرة، ينتظر البدء في الاستغلال الاقتصادي للطمي المتمعدن وراء غور أطلانطيس في وقت لاحق من هذا العام، حيث أثبتت الدراسات وجود جدوى اقتصادية من وراء استخراج هذه المعادن، كما أقيم في هذا الإطار مصنع تجريبي في ينبع شمال جدة من أجل استخلاص هذه المعادن الاقتصادية من خاماته.

رغم النتائج المشجعة والمؤشرات الإيجابية، لا يخلو الأمر من صعوبات أو تحديات، وبعضها يمكن أن يعوق استغلال ثروات الأغوار الكامنة بطريقة مجدية اقتصاديا أو آمنة بيئيا

صعوبات وتحديات
ورغم النتائج المشجعة والمؤشرات الإيجابية السابقة، لا يخلو الأمر من صعوبات أو تحديات، وبعضها يمكن أن يعوق استغلال ثروات الأغوار الكامنة بطريقة مجدية اقتصاديا أو آمنة بيئيا.

ومن هذه الصعوبات، على سبيل المثال، وجود الطمي المتمعدن تحت الأغوار على أعماق كبيرة جدا، وهو ما يتطلب إمكانيات كبيرة وتقنيات متطورة للغاية ومكلفة من أجل استخراجه، مما يرفع التكلفة ويجعلها في بعض الأحيان غير مجدية اقتصاديا.

كما لا يخلو الأمر من بعض المشكلات القانونية نتيجة وجود هذه الثروات في المياه الإقليمية المشتركة لكل من السعودية والسودان، وتعارض بعض الأنشطة والاتفاقيات مع قانون البحار الدولي والقوانين المنظمة للملاحة وحق الانتفاع للثروات الموجودة في قاع البحار.

أما من الناحية البيئية، فإن عملية استخراج المعادن والركاز من الطمي سوف تؤدي بالضرورة إلى انتشار العكارات وتلوث المياه البحرية، وهو أمر سوف يؤثر سلبا بطبيعة الحال على الكائنات البحرية القاعية والهائمة المتواجدة بالمنطقة.

من جهة أخرى أثبتت أيضا الدراسات الجيوفيزيقية أن تدفق الطفلة والطمي من الأغوار الحارة ومن الشقوق الصخرية الموجودة بالقاع يمكن أن يؤدي إلى زيادة معدلات اتساع البحر الأحمر، وهو ما يمكن أن يؤدي على المدى البعيد إلى انفصال منطقة القرن الأفريقي عن أفريقيا.

_______________

* باحث علمي من مصر، حاصل على الدكتوراه في الدراسات البيئية والاستشعار عن بعد.

المصدر : الجزيرة