المجتمعات الفائقة العدد.. صناعة خيال المخ

FILE - This Oct. 1996 file photo shows a replica of a Neanderthal man at the Neanderthal museum in Mettmann, western Germany. Next time you call someone a Neanderthal, better look in a mirror. Much of the genes that help determine most people’s skin and hair are much more Neanderthal than not, according to two new studies that look at the DNA fossils hidden in the modern human genome. Scientists isolated the parts of the non-African modern human genetic blueprint that still contain Neanderthal remnants. Barely more than 1 percent comes from 50,000 years ago when modern humans leaving Africa mated with the soon-to-be-extinct Neanderthals. (AP Photo/Heinz Ducklau, File)

يدعي علماء الأنثروبولوجي أن فصيلة الهوموسيبين (الإنسان الحديث) حاولت الخروج من أفريقيا متجهة إلى الجزيرة العربية قبل حوالي مائة ألف سنة، ولكنهم ووجهوا بقتال شرس من قبل جماعات النياندرثول فأعيدوا مرة أخرى من حيث أتوا، كانت الحرب متكافئة من حيث أعداد المقاتلين في كفتي الصراع، ولكن النياندرثول -ببنيتهم الجسدية الكبيرة وتأقلمهم مع بيئتهم- استطاعوا أن يثنوا الهوموسيبين عن إكمال مسيرة الزحف خارج أفريقيا لأكثر من ثلاثين ألف عام. وبقيت آثار أجساد الهوموسيبين في التراب لتدل على أثر المسير غير الموفق.

وبعد مرور تلك الفترة الزمنية الطويلة (من سبعين ألف سنة إلى نحو ثلاثين ألف سنة في الماضي) -وفي وقت ظهور بعض أنواع فنون الرسم والأدوات والتقنيات والأسلحة التي استخدمها الإنسان القديم- خرج الهوموسيبين من أفريقيا ليصطدموا مرة أخرى بالنياندرثول، ولكن هذه المواجهة أتت بسلاح فتاك لم تمتلكه أي الفصائل البشرية الأخرى. وما كان من الهوموسيبين إلا أن طردوا النياندرثول إلى حيث لا عودة، حتى قُضي عليهم ولم تبق لهم باقية، ثم انتقل البشر بعد ذلك إلى مناطق متفرقة، وقضوا على فصائل أخرى من البشر مثل الهومو دونيسوفا أو الهومو إركتوس وغيرهم، وتسيد الإنسان الحديث الكرة الأرضية كلها. هذه القصة يحكيها بعض علماء الأنثروبولوجي، وقد لا تكون دقيقة، ولكن الآثار تشير إليها، وكما يقال: "اسأل عشرة مؤرخين عن التاريخ تحصل على 11 إجابة مختلفة".

ما هو هذا السلاح الفتاك الذي واجه به الهوموسيبين باقي الفصائل البشرية؟ لم يكن هذا السلاح هو الرمح ولا النبلة ولا السهم ولا الحجر، بل هو العقل، وبالتحديد هو سلاح الخيال، إنه السلاح الذي استطاع أن ينقل الإنسان من مجتمعات لا تتعدى المائة والخمسين فردا إلى مجتمعات فائقة العدد، وبهذا الترابط الكبير والاتفاق فيما بيننا تغلبنا نحن (الإنسان الحديث) على الآخرين، واليوم نجني ثمار استخدام هذا السلاح لتكوين مجتمعات تصل أعداد أفرادها إلى المليارات.

العلم يبين أن الفرد الواحد يستطيع أن يرتبط بمتوسط 150 شخصا، ويطلق على هذا العدد بعدد دنبار

عدد دنبار
العلم يبين أن الفرد الواحد يستطيع أن يرتبط بمتوسط 150 شخصا، ويطلق على هذا العدد بعدد دنبار (Dunbar Number)، فأكثر من هذا العدد ستكون الصداقات صعبة المتابعة، ولا يمكنك معرفة ما هو تركيب العلاقات بين الأشخاص بعد ذلك. هذا العدد يرتبط مع تركيبة المخ وبالخصوص فيما يرتبط باللوزة الدماغية كما دل عليها بحث نشر في مجلة "نيتشر ماغازين". فكلما كان عدد الأفراد الذين يرتبط بهم الشخص الواحد أكبر كلما كانت اللوزة الدماغية أكبر، وبعدد دنبار يتحدد عدد الأفراد في الجماعات الصغيرة.

إذا كان هذا هو الحد المتوسط الذي يستطيع الشخص من خلاله أن يُكوّن الروابط الشخصية المستقرة، وبالتالي تتكون الجماعات الصغيرة، فكيف استطعنا إذن أن نكون مجتمعات كبيرة الحجم؟ فهناك مثلا شركة غوغل الأميركية والتي تضم 46.421 موظفا، وكذلك مواطنتها مايكروسوفت وهي تضم نحو مائة ألف موظف، ماذا عن الدول؟ كيف تمكن الناس من الاجتماع تحت مظلة دولة تحتوي على مليار شخص أو أكثر؟ كيف يمكن للبشر أن ينتقلوا من الروابط الاجتماعية الصغيرة نسبيا إلى روابط مكونة من مليارات الأفراد؟

حتى نجيب على هذا السؤال لنتساءل أولا عن شركة غوغل، ما هي شركة غوغل؟ إن قلنا هي الحواسيب الموجودة في المجمع الكائن في ماوتن فيو كاليفورنيا، فهل بتدمير الحواسيب كلها سنقضي عليها؟ بالطبع لا، لأنه من الممكن شراء حواسيب بديلة ووضعها في المقر مرة أخرى لتعود الشركة كما كانت، ماذا يحدث لو أن فيروسا شرسا مدمرا محا جميع البرامج التي يستخدمها ملايين الناس في البحث؟ فهل سنقضي على غوغل؟ بالطبع لا، فالموظفون يمكنهم إعادة البرمجة مرة أخرى، لتعود إلى صدارتها في البحث على الإنترنت. ماذا لو أن الموظفين أصيبوا بمرض فقُضي عليهم جميعا؟ لا شك أننا من الممكن أن نأتي بموظفين آخرين لاستبدالهم لتدب الحركة في الشركة مرة أخرى. ماذا لو ألقينا بقنبلة على المباني كلها، فهل ذلك كافيا ليمحو الشركة؟ لا، فبإمكان الشركة أخذ قرض من البنك ثم إعادة بناء المباني مرة أخرى.

إذن، ما هي شركة غوغل؟ شركة غوغل هي فكرة موجودة في أذهان الناس، إنها فكرة تمثيلية، لا يمكن تدميرها بتدمير مظاهرها المادية الخارجية، كما أن دولا دمرت بالقنابل الذرية وبعضها اُستعمر، ولكنها بقيت لطالما بقيت الفكرة التخيلية في أذهان الناس، وإن دمرت مظاهرها الخارجية سيتمكن الناس من إعادة إعمارها. وعلى هذا تجتمع الناس بالملايين، إنها لا تجتمع على العلاقات والروابط، إنما على تلك الأفكار التخيلية.

أخبر قردا يمسك بموزة بأنك ستقايضه بموزته هذه مقابل مخزن من الموز تقدمه له بعد عشر ساعات، لن يمكنك أن تثنيه عن ترك موزته المادية، فالفكرة المستقبلية التخيلية غير مقبولة لديه. لكن أطلب من إنسان أن يستثمر في شركة هو وعشرات الآلاف من الناس للحصول على عوائد بعد عشر سنوات، ستجد قبولا واسعا للمبدأ.

كيف إذن يمكن القضاء على غوغل؟ للقضاء على غوغل سنحتاج لفكرة تخيلية أخرى اسمها "القانون"، وبجرة قلم واحدة، يمكن تفكيك الشركة وإلغاؤها من أذهان الناس حتى لا تعود مرة أخرى، وبهذه الأفكار التخيلية اجتمع الهوموسيبين في جماعات فائقة العدد، واستطاعوا مسح باقي الفصائل من على الأرض -كما يدعي بعض علماء الأنثروبولوجي- فتسيدنا الكرة الأرضية بأفكار من وحي الخيال. إن كانت الأعواد لا يمكن كسرها وهي مجتمعة، فكذلك الأفراد لا يمكن تفكيك مجتمعاتهم ما دامت قائمة على الخيال.
_________________
أستاذ مساعد في كلية الدراسات التكنولوجية – الكويت

المصدر : الجزيرة