مقابر المستوطنين.. احتلال للأرض وما تحتها

مقبرة عيلي
مقبرة تابعة لمستوطنة "عيلي" أقيمت على أرض الحاجتين معزوزة وفاطمة ومواطنين آخرين (الجزيرة)

عاطف دغلس-نابلس

من وقت قريب وعلى بعد أمتار من أرض "الخوانق"، تسمَّرت معزوزة وفاطمة (60 و50 عاما) مكانهما وهما ترقبان بقلق وحسرة مستوطنين كانوا يشيعون ميتا لهم استعدادا لدفنه في أرضهما.

تقطَّب وجه السيدتين واستشاطتا غضبا وهما تنظران لما حلّ بأرضهما، فمن "جنة" تعمرها مئات أشجار الزيتون والتين، تحوّلت "الخوانق" إلى مقبرة للمستوطنين، لتصبح واحدة من أكثر من ثلاثين مقبرة تحوي ستمئة قبر تنتشر في مستوطنات عدة بالضفة الغربية، وفق ما ذكرته منظمة "كيريم نافوت" الإسرائيلية، التي قالت إن نحو 40% من قبور المستوطنين بنيت على أراض ذات ملكية فلسطينية خاصة.

تملك معزوزة وفاطمة ستين دونما من بين أربعمئة دونم (الدونم ألف متر مربع) تعود لأهالي قريوت جنوب نابلس، حيث تنحدران.. اقتطعها مستوطنو مستوطنة "عيلي" الجاثمة على أراضي القرية منذ ثلاثة عقود، وأقاموا فوقها مقبرة سميت "زورا" (مقبرة عيلي) وصاروا يُشيَّعون إليها موتاهم "من الداخل والخارج".

رصدت السيدتان ذلك بعينيهما مرات عدة، كان آخرها خلال موسم الزيتون الماضي، حيث حطت طائرة مروحية سوداء قرب المقبرة التي غطتها أشجار السرو الكثيفة، وشرع المستوطنون بنقل ميتهم الذي بدا أنه "شخصية مهمة"، ودفنوه فيها.

الحاجة معزوزة تملك عائلتها أرض
الحاجة معزوزة تملك عائلتها أرض "الخوانق" التي خصصها المستوطنون لدفن موتاهم (الجزيرة)

رغم الغصة
حينها لم تقو السيدتان اللتان تزامن وجودهما ومزارعين آخرين في أرضهم قرب المقبرة على تحريك ساكن، بسبب الجنود المدججين بالأسلحة الذين يجوبون المكان حماية للمستوطنين، كما أنهما متخوفتان من تضييع "أيام التنسيق"، وهي أيام من السنة لا تتجاوز أصابع اليد، يخصصها الاحتلال للفلسطينيين لحراثة أراضيهم داخل حدود المستوطنات وقطف محاصيلهم بقيود عسكرية ولمدة ساعات معينة.

للتو وحال وصول الجزيرة نت إلى منزلهما في القرية، كانت معزوزة وفاطمة قد عادتا منهكتين وعابستين من أرض "الخوانق"، حيث "المقبرة المشؤومة"، فهذه المرة لم يسمح جنود الاحتلال لهما -على غير عادتهم- بمرافقة زوجيهما إلى الأرض، فعادتا صوب القرية سيرا على الأقدام.

تواظب معزوزة وفاطمة منذ قدومهما قبل أكثر من ثلاثة عقود زوجتين للشقيقين محمود وموسى فلاح في قريوت، على رعاية أراضي زوجيهما التي تجثم فوقها ثلاث مستوطنات من أصل خمس تضع يدها على نحو 70% من أراضي القرية، وتعد "عيلي" أخطرها وأكثرها تطرفا، فهي تزحف لتمتد فوق أربع قرى فلسطينية جنوب نابلس.

تقطَّب وجه فاطمة غضبا وطافت دموع القهر بمقلتيها وهي تروي للجزيرة نت معاناتهما، فبشغف تنتظر هي ومعزوزة وقت التنسيق وتحبسان أنفاسهما شوقا للأرض، فقد اعتادتا مصاحبة زوجيهما والعمل سوية، حيث ينشغل الزوجان بالحراثة بينما تعشبان هما الأرض وترقبان المستوطنين خشية أذاهم الذي تجرعته العائلة ألوانا، آخره قبل أيام عندما قطعوا عشرين زيتونة "رومانية" قديمة.

"لكن ذلك لن يُغير من واقع الأمر شيئا، فأرض الخوانق ستظل لنا" كما تقول فاطمة التي أردفت بأن زيارتهم لها وإن كان عبر التنسيق، فهو "إقرار" من الاحتلال بأنهم أصحابها و"تفنيد لمزاعم المستوطنين شراءها".

جانب من مستوطنة
جانب من مستوطنة "عيلي" التي تجثم هي ومستوطنات أخرى على أراضي المواطنين في بلدة قريوت (الجزيرة)

ومثل فاطمة، تعرف معزوزة حدود الأرض جيدا، وتعي محاولات المستوطنين طمسها وتغيير معالمها، وقد سعت مرارا لاصطحاب أبنائها لرؤيتها، لكن الجنود يرفضون إدخال من هم دون سن الخمسين عاما، "وكأنهم لا يريدون للجيل الشاب معرفة أرضه" بحسب السيدة.

ويقول التقرير الإسرائيلي إن المقابر أقيمت على أراض ذات ملكية خاصة صودرت بحجج أمنية، وتنوعت بين صغيرة و"إقليمية" كبيرة، ودفن فيها حتى الآن أكثر من 1400 مستوطن.

استيطان المقابر
وينطلق المستوطنون عبر ذلك من فكر "أيديولوجي عقدي" يسعى لتثبيت وجودهم ونسبهم للأرض. ويؤكد خليل التفكجي الباحث والخبير الفلسطيني بشؤون الاستيطان أنها "أراض محتلة" يغصبها المستوطنون، وأن تشييد المقابر ليس إلا وسيلة أخرى "لتهويد" الأرض.

ويقول التفكجي إنه فوفق عقيدتهم لا تنبش القبور ولا تزحزح من مكانها، فهي تُقام فوق "أرض الميعاد" وهي "وقف يهودي" من البحر للنهر، وبالتالي فإن بناء المقابر يمنع إعادة تسليم الأراضي لأصحابها.

وإمعانا في ذلك، يقيم المستوطنون مقابرهم خارج المخطط الهيكلي للمستوطنات لتسهيل احتلال الأرض وضمها، "لذلك فإن مخطط البناء في مستوطنة "عيلي" -حيث المقبرة- يصل إلى 7200 وحدة سكنية، ويمتد فوق أراضي أربع قرى فلسطينية.

لكن "مكر المستوطنين" ليس له معنى في قاموس معزوزة وفاطمة، فهما ذات يوم ستحرران "الخوانق" وإن تطلب ذلك "الموت فيها"، بحسب ما تقولان.

المصدر : الجزيرة