في مشافي غزة المظلمة.. بكاء وموت بطيء
محمد عمران-غزة
ولأن مستشفى الدرة كان ضمن ثلاثة مستشفيات رئيسية بقطاع غزة توقف العمل فيها بشكله الطبيعي واقتصر على حدوده الدنيا لنفاد الوقود المشغل للمولدات الكهربائية، فقد اضطرت أم ياسين لانتظار دورها خلال ساعات وصل الكهرباء المحدودة لعمل الفحوصات اللازمة لابنتها ذات الشهور العشرة.
لكنها لم تفلح في إجراء تلك الفحوصات، لأن الكهرباء انقطعت بمجرد دخولها غرفة الأشعة، وليس بمقدورها توفير المال لإجراء تلك الفحوصات في مختبرات خاصة لارتفاع تكلفتها، مما اضطرها للقبول ببعض الأدوية المسكنة والعودة إلى منزلها.
ساءت حالة الرضيعة بعد عدة أيام، واضطرت أمها لإدخالها المستشفى مجددا والانتظار لوقت آخر حتى وصل الكهرباء وإجراء الفحوصات المطلوبة، لتكتشف إصابتها بحمى شوكية متفاقمة كان يمكن السيطرة عليها بسهولة في بدايتها لولا تأخر اكتشافها.
وبينما تعبر أم ياسين عن خشيتها من فشل العلاج الموصوف لابنتها لكونها في مرحلة متأخرة من المرض، تتساءل بغضب عما يحدث لابنتها وغيرها من الأطفال في المستشفى "أيعقل أن يموت أطفالنا فقط لأنه لا يوجد وقود لتشغيل مولدات الكهرباء؟".
أحزان الأمهات
وتسببت أزمة نقص وقود المولدات الكهربائية بالمستشفيات -خصوصا مستشفيات الأطفال- في مآس ومواقف موجعة كثيرة لم تكن الأمهات يتخيلن حدوثها مع فلذات أكبادهن ولو في أسوأ كوابيسهن، عندما يحتجن إلى استخدام جهاز الإرذاذ (الاستنشاق أو التبخيرة) لتنظيم التنفس لدى أبنائهن فلا يستطعن بسبب انقطاع الكهرباء.
وهذا ما أبكى الفلسطينية بهاء الريفي وهي تحتضن ابنها مؤيد (شهران) لأكثر من ست ساعات، وقد تلون جسده ووجهه لصعوبة التنفس دون أن تقدر على فعل أي شيء له، حتى فاض بها الكيل وقالت بوجع "الموت أشرف لنا من حياتنا.. نحن نتحمل، لكن الأطفال.. والله حرام".
ولئن كان الحال كذلك مع أم مؤيد المتواجدة بالمستشفى منذ ثلاثة أيام، فإن من عاش أزمة انقطاع الكهرباء من بدايتها يبدو أكثر ألما وغضبا كحال نهى ساكن المرافقة لحفيدها عمر (شهران) منذ أسبوعين.
وبينما كادت نهى تفقد حفيدها أثناء تشغيل جهاز لشفط الشوائب من أنفه لانقطاع كهرباء محدودة توفرها ألواح الطاقة الشمسية عبر مقبس وحيد بالغرفة، اضطرت لجلب كشاف يدوي لاستخدامه عند تقديم الأدوية للرضيع خلال الليل، بعدما توقفت إضاءة هاتفها المحمول لنفاد شحنه عدة مرات.
وضع مأساوي
وتمثل نماذج المعاناة السابقة غيضا من فيض المآسي في مستشفيات غزة، حيث تنقل أقسام بأجهزتها ومرضاها وطواقمها الطبية إلى مستشفيات أخرى، وتغلق أقسام كاملة للمختبرات والأشعة ونحوها، بينما يُجمع المرضى في مكان واحد ليتكدسوا ببعض الغرف كما يقول مدير مستشفى الدرة للأطفال الدكتور ماجد حمادة.
وبرزت أزمة نفاد وقود المولدات الكهربائية قبل أسبوعين مع غياب أي تمويل لشراء الوقود سواء من قبل الحكومة الفلسطينية أو الجهات الدولية المتكفلة بتوفيره خلال الفترة الأخيرة.
ويتحدث مدير مستشفى الدرة عن تمديد أسلاك خارجية للاستفادة من بعض الكهرباء المتوفرة من الألواح الشمسية لبضع ساعات، وانقطاع الكهرباء بساعات الليل دون توفر أي بديل، إضافة إلى العمل في أوضاع متردية لا تتناسب مع حاجة المستشفيات بحدها الأدنى، مما سبب تراجعا كبيرا في جودة رعاية المرضى.
وبينما اضطرت وزارة الصحة بغزة لإيقاف العمل في 19 مستشفى ومركزا صحيا، فإن الأخطر -حسب الدكتور حمادة- يكمن في غياب أي تعهد لحل الأزمة، بما ينذر بكارثة تلحق بالقطاع الصحي المعتمد على 13 مستشفى و54 مركزا صحيا حكوميا تقدم خدماتها لنحو مليوني فلسطيني في غزة.