الصحفيون بمصر.. رعب البحث عن الحقيقة

صورة قائمة تداولها نشطاء ووسائل إعلام لصحفيين مطلوبين من قبل النيابة المصرية (نشطاء) الصورة أرشيفية سبق نشرها بالموقع
قائمة تداولها نشطاء ووسائل إعلام لصحفيين مطلوبين من قبل النيابة المصرية (نشطاء)
عبد الرحمن محمد-القاهرة
بلا مبالاة وفتور، ألقى أمجد سعيد نظراته الأخيرة على مسكنه السابق، وهو يجلب منه آخر أغراضه، مستقبلا مرحلة جديدة لا يدري أتطول أم تقصر.. كيف لا وهو لم يكمل فيه عاما رغم ما يتطلبه تغيير المسكن من مشقة وعناء وكلفة مادية.

لا حنين ولا غصة في الحلق كما هي الحال في التجربة الأولى، التي لا تزال علاماتها محفورة في ذاكرة الصحفي أمجد (اسم مستعار) التي لم تمض عليها إلا شهور، حين اضطر لأول مرة لترك منزله الذي أمضى فيه "أحلى سنوات العمر"، حيث بدأ حياته الزوجية واستقبل أيام سعده ووصول أطفاله للحياة.

وبينما يغلق أمجد سعيد عليه باب منزله الجديد مستقبلا أول أيامه فيه، يتسرب إليه خوف وقلق من ألا يطول مكوثه فيه، فتتكرر معاناته، ليبدأ رحلة بحث جديدة عن مسكن آخر طلبا للأمان وخوفا من الملاحقة الأمنية التي لم يكن يتصور أن يكون مصدرها عمله الذي يحب؛ الصحافة.

يتذكر سعيد فصول هذه المعاناة التي بدأت بالقبض على أحد زملاء المهنة ممن شاركه العمل في أحد المواقع الإخبارية التي لا تخضع سياستها لإملاءات النظام القائم، وتعرضه لتعذيب شديد أدى به للإبلاغ عنه وعن عدد من زملائه وأماكن سكنهم، ليصبح مطاردا، ويضطره الأمر لتغيير محل سكنه مرتين وأخذ الاحتياطات اللازمة لذلك.

ويسرد سعيد للجزيرة نت جانبا من تلك "الاحتياطات اللازمة" التي يشاركه في الأخذ بها عشرات الصحفيين والإعلاميين ممن ليسوا على هوى النظام، ولا من مروجي بضاعته، ومنها ضرورة الانتساب لمهنة بديلة، وتغيير وسائل اتصاله المختلفة بشكل دوري، وإجراء عملية "تنظيف" يومي لهاتفه وحاسوبه وحساباته في مواقع التواصل الاجتماعي.

‪ودنان اعتقل على خلفية حواره مع جنينة ولا يزال في عداد المختفين قسريا‬ (مواقع التواصل الاجتماعي)
‪ودنان اعتقل على خلفية حواره مع جنينة ولا يزال في عداد المختفين قسريا‬ (مواقع التواصل الاجتماعي)

حب يأفل
ويخشى سعيد أن يتغير شعوره بشكل كامل تجاه مهنته التي بدأ حبه لها مبكرا مع بدايات تكوّن وعيه، ولم يتصور قط أن تصل الحال به إلى أن يتجنبه أصدقاء الطفولة خوفا على أنفسهم، أو أن يتلقى تهديدا من مصادر صحفية بسبب استمرار عمله في مؤسسات لا تمجّد النظام وسياساته.

وبين الفينة والأخرى، تسري في جسد الصحفي أمجد قشعريرة كلما تذكر مطالبة زميله المعتقل له (التي نقلتها زوجته عنه) بالبعد عن العمل الصحفي بشتى صوره، حتى وإن لم يتوفر له بديل يحقق الحد الأدنى من حياة كريمة؛ فالموت جوعا أهون في تقديره من صنوف العذاب التي يتعرض لها بشكل يومي.

معاناة الصحفيين يعززها تزايد تعسف السلطات وانتهاكاتها الصارخة لحقوقهم، بعدما تجاوز عدد المعتقلين مئة صحفي -حسب مصادر حقوقية- كان آخرهم الصحفي معتز ودنان، الذي اعتقل على خلفية إجرائه حوارا صحفيا مع المستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، ولا يزال في عداد المختفين قسريا.

ويكشف مصدر مقرب من أسرة الصحفي ودنان عن أنه تعرض لتهديدات في الأيام التي سبقت اعتقاله بعد إجرائه الحوار مع جنينة، جاء بعضها من أطراف من أسرة جنينة حمّلته مسؤولية "توريط" المستشار الذي اعتقل على خلفية تصريحاته، في حين جاء بعضها من أطراف مجهولة يغلب على الظن أنها أمنية.

ولفت المصدر -الذي طلب عدم الكشف عن هويته- إلى تواصل ودنان مع أعضاء بمجلس نقابة الصحفيين وإبلاغهم بتلك التهديدات ومخاوفه منها، إلا أن عدم استشعاره بما يطمئنه في ردود مَن تواصل معهم دفعه لمحاولة الاختفاء خوفا من الاعتقال، لكن يد الأمن كانت أسبق في القبض عليه أثناء محاولته السفر لقريته.

‪العربي يعدد الكثير من مظاهر معاناة الصحفيين بمصر‬ (مواقع التواصل الاجتماعي)
‪العربي يعدد الكثير من مظاهر معاناة الصحفيين بمصر‬ (مواقع التواصل الاجتماعي)

اعتداء وإخفاء
وكشف المصدر عن تعرض ودنان لاعتداء بدني ولفظي أمام أقربائه الذين كانوا معه وقت القبض عليهم، قبل أن يفرج الأمن عن أقربائه في اليوم التالي، ويبقيه وينكر وجوده لديه، ليصبح من حينها في عداد المختفين قسريا.

ومطلع الأسبوع الماضي، تقدم البرلماني المصري إيهاب غطاطي باستعجال وقعه ستون نائبا لمناقشة تعديل على المادة الخاصة بنشر "أخبار من شأنها الإضرار بالدولة والتحريض عليها من الخارج" من قانون العقوبات، لتصل العقوبة للإعدام، بعد أن كان حدها الأقصى الحبس خمس سنوات وغرامة لا تتجاوز خمسمئة جنيه.

ويعدد قطب العربي رئيس المرصد العربي لحرية الإعلام الأمين العام المساعد السابق للمجلس الأعلى للصحافة عددا من مظاهر المعاناة التي يتعرض لها الصحفيون بمصر، ومنها الحرص على عدم إعلانهم هويتهم الصحفية في أي عمل ميداني، وتجنب إجراء أي حوارات مع شخصيات معارضة أو مستقلة، والاضطرار للنشر بأسماء مستعارة.

ويشير في حديثه للجزيرة نت إلى أن شريحة الصحفيين المستقلين باتت من أكثر الشرائح التي تتعرض لضغوط على مختلف المستويات، مما جعل حياتهم غير مستقرة، لافتا إلى وجود قضية مفتوحة تحت اسم "مكملين 2" تضم عشرات الإعلاميين من مختلف الاتجاهات، تهمتهم التواصل مع إعلام تصفه السلطة بالمعادي.

وبينما ينهي مراسل الجزيرة حديثه مع الصحفي أمجد عبر أحد برامج التواصل الإلكتروني، يبالغ الأخير في الإلحاح بضرورة حذف الحوار المكتوب بينهما، وتكرار التأكيد على أهمية النشر باسم مستعار لا يوضح شخصيته، مبديا في الوقت ذاته تخوفه الشديد من أن تجلب روايته هذه المعاناة ضررا هو في غنى عنه.

المصدر : الجزيرة