صدمة العبودية "السافرة" بليبيا والمستترة عالميا

مهاجرو غرب أفريقيا بيعوا في أسواق العبودية بليبيا
المهاجرون الأفارقة يبحثون عن فرصة الوصول لأوروبا عبر شبكات تهريب البشر بليبيا (الجزيرة)
زهير حمداني
 
أحدثت التقارير الإعلامية التي رصدت بيع مهاجرين أفارقة بالمزاد العلني في ليبيا صدمة وردود أفعال واسعة عالميا، وتظهر الصور العبودية بمعناها "التقليدي السافر" في وقت تنتشر مظاهر العبودية الجديدة في مختلف أنحاء العالم وتطال الملايين، لتطرح سؤالا عن قيمة الإنسان في الكثير من المجتمعات والدول.
 
ويظهر مقطع الفيديو الذي بثته قناة "سي أن أن" شبانا من منطقة جنوب الصحراء يباعون بسعر1200 دينار ليبي (نحو 800 دولار) في أماكن لم يكشف عنها من ليبيا، من أجل العمل في المزارع وقطاع البناء.
 
وعبرت الأمم المتحدة عن صدمتها، كما طالب الرئيس الغيني ورئيس الاتحاد الأفريقي ألفا كوندي بملاحقات قضائية على خلفية ما سماها "التجارة الخسيسة التي تعود إلى حقبة أخرى". وطلبت النيجر إدراج الموضوع على جدول أعمال قمة الاتحاد الأفريقي التي تنعقد في أبيدجان يومي 29 و30 من الشهر الجاري.
 
وأثار الفيديو غضب الكثير من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، واستياء الكثير من نجوم الأدب والفن والرياضة الأفارقة، بينهم مغني الراب الإيفواري الشهير ألفا بلوندي الذي وصف الأمر بأنه "مذل وغير مقبول".
 
‪هجرة الأفارقة إلى ليبيا مع الأوضاع الأمنية السيئة فتحت المجال لانتهاكات ضدهم من قبل بعض تجار البشر والمهربين‬ هجرة الأفارقة إلى ليبيا مع الأوضاع الأمنية السيئة فتحت المجال لانتهاكات ضدهم من قبل بعض تجار البشر والمهربين (غيتي)
‪هجرة الأفارقة إلى ليبيا مع الأوضاع الأمنية السيئة فتحت المجال لانتهاكات ضدهم من قبل بعض تجار البشر والمهربين‬ هجرة الأفارقة إلى ليبيا مع الأوضاع الأمنية السيئة فتحت المجال لانتهاكات ضدهم من قبل بعض تجار البشر والمهربين (غيتي)
الرق ومعضلات ليبيا
و"سوق النخاسة" -كما وصفته صحيفة لاكروا الفرنسية- قد يكون الجانب الظاهر من جبل الجليد، إذ إن البلد الذي يعاني الاحتراب الداخلي والانقسامات والانهيار الأمني ويستعصي فيه الحل السياسي أصبح مجالا مفتوحا لممارسات كثيرة غير إنسانية خاصة تجاه المهاجرين الأفارقة الذين يقصدونه كممر للهجرة نحو أوروبا، وفق ما تنقله وسائل الإعلام والمنظمات الدولية.
 
وظاهرة العبودية التي كشفها التقرير تضاف إلى المعضلات العديدة التي تعيشها ليبيا الممزقة، ولعل ذلك كان السبب في تداولها الواسع أو ردود الأفعال المنددة عالميا -والمبررة على كل حال- وقد اختلفت التفسيرات بين تناولها كظاهرة شاذة أفرزتها الظروف الراهنة، وبين الانزياح بها إلى تأثيم المجتمع والدولة بشكل كلي.
 
ويرى متابعون أنه في مجتمع يشهد حالة من الاضطراب الكلي في غياب القوانين الرادعة والسلطة المركزية القوية وتسيطر فيه مليشيات معظمها منفلتة، وساقته حرب السنوات السبع إلى تغييرات موجعة في بنيته الاجتماعية وحتى الأخلاقية، وأصبح فيه القتل بأبشع الطرق على الملأ ليس مستغربا أن تنهض فيه ظاهرة العبودية بالصورة السافرة التي أظهرها "الفيديو".
 
ويقارب آخرون ما حصل باعتباره حالة منفردة وظرفية وغير منتشرة بالقدر الذي تم تداوله في المجتمع الليبي، وهي -كما يرون- تعبر عن "مرض" اجتماعي أفرزته ظروف معينة، وعلاجه سيكون الاستقرار والأمن وسلطة الدولة وسيادة القانون.
 
وفي سياق الجدل الواسع حول الموضوع، شدد معلقون ومتابعون على أن انهيار الدولة ومؤسساتها وضرب أنساقها القيمية بضغوط الحرب والفقر وغيرها يفتح الباب واسعا للممارسات العبودية بشكلها القديم والمعاصر. وضرب بعضهم مثلا بأسواق النخاسة والسبايا التي فتحها تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق.
 
وفي سياق ردود الأفعال على القضية، اعتبر موفد الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا غسان سلامة أن الأمر لا يتصل دائما بنية سيئة، بل بعدم قدرة حكومة لا تملك الأدوات الضرورية للحكم وفرض الأمن.
 
‪مؤشر الرق العالمي: نحو 46 مليون شخص في 167 بلدا يعانون من أحد أشكال العبودية المعاصرة‬  مؤشر الرق العالمي: نحو 46 مليون شخص في 167 بلدا يعانون من أحد أشكال العبودية المعاصرة (رويترز)
‪مؤشر الرق العالمي: نحو 46 مليون شخص في 167 بلدا يعانون من أحد أشكال العبودية المعاصرة‬  مؤشر الرق العالمي: نحو 46 مليون شخص في 167 بلدا يعانون من أحد أشكال العبودية المعاصرة (رويترز)

قضية عالمية
وفي تغطيتها للموضوع، طرحت لوموند الفرنسية سؤالا يتعلق بما إذا كان "بالنسبة للبعض" استعباد الأفارقة أكثر قبولا في السودان أو أفريقيا الوسطى مما هو عليه في ليبيا؟ وهل يجب أن يكون للرق من داخل أفريقيا شكل من أشكال الشرعية؟

 
وأشارت الصحيفة إلى أنه وفقا للمؤشر العالمي للرق، ظل نحو 46 مليون شخص في 167 بلدا عام 2016 يعانون من "الرق الحديث" سواء بالعمل القسري أو الزواج القسري أو "العبودية المنزلية" أو أشكال أكثر حدة.
 
ونقلت عن تقرير مشترك أعده مكتب العمل الدولي ومؤسسة "ووك فري فاونديشن" الأسترالية في أغسطس/آب أن نحو 13.6% من العبيد في العالم يوجدون في أفريقيا جنوب الصحراء، وخصوصا بجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية والصومال وجنوب السودان والسودان وموريتانيا.
 
وأشارت إلى أن بلدانا مثل غانا ونيجيريا وإثيوبيا وحتى جنوب أفريقيا -خصوصا عبر صناعة الجنس- تشارك أيضا في ممارسات تتخذ أشكالا عديدة من العبودية وتقوم جميعها على مبدأ اعتبار الإنسان سلعة.
 
وترى الصحيفة أن "الفضيحة الليبية" أثارت فقط ما خفي في بلدان أفريقية أخرى جراء الاحتراب والفقر والبؤس، كما الهند ونيبال. وإضافة إلى الدول الأفريقية فإن دولا مثل باكستان ونيبال وهايتي والصين تضم أعلى معدل لانتشار الرق في العصر الحديث. ويناهز عدد ضحايا العبودية الحديثة في الهند لوحدها الـ 14 مليون شخص وفق مؤسسة "ووك فري فاونديشن".
 
وتشير غولنارا شاهينيا، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بأشكال الرق المعاصر أن "الرق المعاصر غالبا ما يحدث في المناطق التي يصعب الوصول إليها من الدولة أو ما يعتبر عالما خاصا. حيث الاتجار بالنساء في الدعارة، وتجارة المخدرات، والاتجار بالأعضاء البشرية، أو غيرها من أنواع التجارة التى تلحق ضررا كبيرا بالإنسان وكرامته".
 
ووفقا لهذه المقاربة، يمكن مساءلة حتى المجتمعات الغربية ذاتها، حيث كشفت تحقيقات عن انتشار العبودية بأشكالها المعاصرة في دول أوروبية مثل بريطانيا وإيطاليا وغيرها عبر استغلال العمال والعبودية الجنسية في شبكات الدعارة، وكشف مؤشر الرق العالمي على وجود 11 ألفا و700 ضحية لأشكال العبودية المعاصرة في بريطانيا عام 2016.
 
وفي سياق هذه الأرقام والبيانات، يصبح الفيديو الذي التقط عن "سوق العبيد" في ليبيا مؤشرا آخر كاشفا وصادما على اعتبار العبودية ظاهرة عالمية بعضها بّينٌ وبعضها مستتر، ما زالت تصم الحضارة البشرية، وقد زادتها الحروب وتردي الأوضاع الاقتصادية والسقوط الأخلاقي لبعض الفئات تفاقما.
المصدر : الجزيرة