فرنسا وآل الحريري.. بين الوالد والولد

French President Emmanuel Macron and his wife Brigitte Macron, Saad al-Hariri, who announced his resignation as Lebanon's prime minister while on a visit to Saudi Arabia, his wife Lara and their son Houssam are pictured at the Elysee Palace in Paris, France, November 18, 2017. REUTERS/Benoit Tessier TPX IMAGES OF THE DAY
ماكرون مستقبلا سعد الحريري وأسرته بأجواء عائلية (الفرنسية)
محمد العلي-الجزيرة نت

استعادت فرنسا هذا الأسبوع صورتها المشرقة في أنظار اللبنانيين، عندما نجحت في  تخليص رئيس وزرائهم سعد الحريري من قبضة السعودية، في خضم أزمة سياسية ودبلوماسية متعددة الأوجه، وبلغت دراما الحريري في نظرهم نهايتها السعيدة عند وصوله مع بعض أفراد أسرته إلى باريس، وحلولهم بعد ساعات ضيوفا على الرئيس مانويل ماكرون في قصر الإليزيه.

ولم تكتم يومية "لوريان لوجور" اللبنانية الناطقة بالفرنسية انبهارها بما صنعته دبلوماسية فرنسا للحريري أولا، وبلاده في المقام الثاني، فعنونت نسختها الصادرة في اليوم التالي بعبارة "باريس في دور اليد الإلهية".

بالنسبة للمحللين، كان سفر الحريري غير المنتظر إلى باريس محصلة صراع إرادات غير متوقع بين فرنسا كدولة عظمى والسعودية كقوة إقليمية، وقد كسبه الرئيس الشاب مانويل ماكرون، وأضافه إلى رصيد نجاحات فرنسا الدبلوماسية في عهده. أما بالنسبة للناس العاديين فكان خروج الحريري الأشبه بأعجوبة من السعودية حدثا استثنائيا سلط الضوء مجددا على العلاقة الخاصة التي تربط لبنان بفرنسا، والتي تعود جذورها إلى أربعة قرون، كما لفت الأنظار للمنزلة التي يتمتع بها آل الحريري عند الطبقة السياسية بباريس.

وتفيد سيرة رفيق الحريري والد سعد بأن الأسرة التي بنت ثروتها من أعمال المقاولات في السعودية، نسجت الخيوط الأولى لعلاقتها مع الفرنسيين مطلع الثمانينيات حين التقى رجل الأعمال اللبناني- السعودي وقتها، السياسي جاك شيراك عندما كان الأخير رئيسا لبلدية باريس.

صداقة واستثمارات
نشأت بين الرجلين صداقة متينة، زادتها متانة استثمارات مجموعة رفيق الحريري وصفقاتها في فرنسا، واتخذت شركة "أوجيه إنترناشونال" التابعة للمجموعة والمتفرعة عن "سعودي أوجيه"، الشركة الأم العملاقة، مقرا لها في باريس.

وبالتوازي مع ازدهار أعمال رفيق الحريري داخل السعودية وخارجها، ما لبث عالم السياسية أن جذبه خلال المفاوضات العسيرة في مدينة الطائف السعودية، وهو ما أهّل الرياض عام 1989 لإنهاء حرب لبنان الأهلية المتواصلة منذ 15 عاما؛ فقد سهل "الوسيط رفيق الحريري" أمر ولادة تسوية الطائف، وهي التي منحته بعد ثلاثة أعوام تذكرة دخول لمقر رئاسة الحكومة في سراي بيروت.

أما صديقه الفرنسي المعروف بمشاعره الطيبة حيال العرب، فقد نجح بدوره في الوصول إلى الإليزيه عام 1995. بعد ذلك التاريخ باتت علاقة الرجلين متعددة الأبعاد؛ حيث تزاوج فيها السياسي بالاقتصادي بالشخصي بالنظر للروابط الشخصية والأسرية التي جمعتهما.

ومثلما عادت تلك الروابط بالفائدة على فرنسا التي يرأسها شيراك بصورة استثمارات عقارية وبنكية، كان الصديق الفرنسي سندا للسياسي اللبناني القادم من قطاع الأعمال، وأتت صداقة الرجلين أكلها عندما تأزمت علاقة الحريري بالسوريين الذين كانوا يجثمون على صدر الطبقة السياسية في لبنان، ويوجهون أشرعتها من دمشق.

شيراك تعهد بالانتقام لمقتل الحريري بتشكيل المحكمة الدولية (غيتي)
شيراك تعهد بالانتقام لمقتل الحريري بتشكيل المحكمة الدولية (غيتي)

أتت ورطة الحريري من إصرار الرئيس السوري الشاب بشار الأسد عام 2004 على تمديد غير دستوري لولاية صديقه اللبناني إميل لحود، وسط اعتراض الحريري الذي كان قد غادر المنصب إثر خلافه مع الأخير. وتجمع كل الروايات على أن الأسد هدد الحريري خلال لقائهما الأخير قائلا "إذا أراد شيراك إخراجي من لبنان، فسأكسره على رأسك".

كان يمكن لهذا التهديد -الذي يعكس خشية الأسد من النفوذ الفرنسي التاريخي في لبنان- أن يذهب أدراج الرياح لولا الحدثان الكبيران اللذان تبعاه وغيّرا وجه لبنان وسوريا إلى الأبد؛ وهما صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 واغتيال الحريري بعد ذلك بشهور، وهو الأمر الذي وجّه كل الشبهات إلى دمشق، التي اضطرت في مايو/أيار 2005 لسحب جيشها من لبنان جراء تداعيات الاغتيال.

في مذكراته الصادرة عام 2011 تحت عنوان "الزمن الرئاسي" يتحدث شيراك باستفاضة عن مسؤوليته عن صدور القرار الدولي، وعن استثماره علاقته الطيبة مع الزعيم الروسي فلاديمير بوتين والصيني هوجنتاو لتمريره، ويتناول أيضا تحذيراته المتكررة للحريري من السوريين حتى أسبوعين قبل الاغتيال، ويصف شعوره "بالانهيار" عند تلقيه نبأ الاغتيال؛ "كأنني فقدت أخا فقد كنت أقلق عليه منذ أشهر".

الانتقام
ويقر في حديثه عن صديقه القديم بأنه قطع وعدا لنازك أرملة الحريري أثناء تعزيتها بمنزلها بباريس بالقول "لن أترك الجريمة من دون عقاب". وهو ما وفّى به عام 2007 عند رعايته مع الرئيس الأميركي جورج بوش تشكيل المحكمة الدولية من أجل لبنان لملاحقة قتلة رفيق الحريري.

قبل مغادرته الإليزيه في العام ذاته، أراد شيراك إيصال رسالة إضافية إلى اللبنانيين عبر آل الحريري. فمنح سعد -الذي كان زعيما للأغلبية النيابية- وساما فرنسيا بدرجة فارس، وتعهد بحضور رموز فريق 14 آذار بأن "تبقى فرنسا وفية للبنان واللبنانيين".

لم يكن آل الحريري أقل سخاء مع شيراك (85 عاما) بعد التقاعد، فقد وضعوا تحت تصرفه شقة من طابقين تقع في "رصيف فولتير"، على الضفة اليسرى لنهر السين، واستمرت إقامته فيها لحين مغادرته منها عام 2015 بسبب تقدمه في العمر، وعدم ملاءمتها لوضعه الصحي.

المصدر : الفرنسية + مواقع إلكترونية