البوركيني وامتحان العلمانية والحرية بفرنسا

A Muslim woman wears a burkini, a swimsuit that leaves only the face, hands and feet exposed, on a beach in Marseille, France, August 17, 2016. REUTERS/Stringer
مسلمة ترتدي البوركيني في شاطئ بمرسيليا في فرنسا (رويترز-أرشيف)
زهير حمداني
 
أسعف مجلس الدولة الفرنسي في اللحظات الأخيرة الديمقراطية الفرنسية باعتبارها أصل الديمقراطيات الغربية من" سقطة" كانت ستشكل "لطخة" على ثوب دولة الحرية والإخاء والمساواة بتعليقه قرار حظر ارتداء البوركيني على الشواطئ، وهو قرار لم ينه الجدل بشأن مفاهيم العلمانية وكذلك موقع الإسلام في المجتمع الفرنسي.

 
وفي ردود الأفعال على قرار مجلس الدولة -وهو أعلى مستوى في القضاء الإداري بالبلاد- قالت صحيفة لوموند في افتتاحية لها إنه "في نهاية الأمر -وكما يجب أن يحصل في الديمقراطيات- فقد انتصرت قوة القانون بعد عدة أسابيع من الجدل إلى حد الهستيريا"، وامتدحت الصحيفة حكمة القرار.
 
وأكدت الصحيفة في افتتاحيتها أن مجلس الدولة أعاد التذكير بالمبادئ التي تقوم عليها الدولة العلمانية، مشيرة إلى أن المنع ليس الحل السحري وأن الحريات الدينية تبقى أساسية وأن على الجمهورية حماية هذه الحريات ما لم تشكل تهديدا للأمن العام.
 
وقالت الصحيفة إنه "إذا كان الحق قد قال كلمته وبشكل واضح فإن الجدل لا شك سيتمر بشأن موقع الإسلام في المجتمع الفرنسي، خاصة في السياق الحالي". 

من جهتها، رحبت صحيفة لوفيغارو اليومية المحافظة بالقرار، وحذرت من أن اليمين الفرنسي سيجدد دعواته لحظر البوركيني، خصوصا مع مماطلة عدد من البلديات في تطبيق التعليق، ورجحت أيضا أن يتواصل الجدل بشأن الموضوع.

‪جاب من تحرك احتجاجي في لندن ضد قرار حظر البوركيني‬ جاب من تحرك احتجاجي في لندن ضد قرار حظر البوركيني (الأوروبية)
‪جاب من تحرك احتجاجي في لندن ضد قرار حظر البوركيني‬ جاب من تحرك احتجاجي في لندن ضد قرار حظر البوركيني (الأوروبية)
أسئلة العلمانية
ويأتي الجدل بشأن البوركيني -باعتباره لباسا إسلاميا وفق الرؤية الفرنسية- في سياق ردود الأفعال على الهجمات الأخيرة في نيس وقبلها باريس والمناخ المعبأ بـالإسلاموفوبيا، ويرى الباحث في قضايا العالم العربي والإسلامي صلاح القادري أن قرار حظر البوركيني المعلق يشكل انتهاكا للدستور الفرنسي ومبدأ العلمانية نفسه الذي يمنع التدخل في الحريات الشخصية.
 
وكانت صورة إجبار الشرطة امرأة على خلع اللباس على شاطئ في مدينة نيس بعد صدور قانون الحظر بمثابة "القدح" في القضية التي تحضر بقوة في السجالات السياسية وربما ستكون جزءا مهما في الحملات للانتخابات الرئاسية العام المقبل والرهانات على اليمين.
 
وقضية البوركيني كانت مساءلة صريحة وواضحة لمفهوم العلمانية في فرنسا ومدى شموليته وتأويلاته، وقد جاء قرار الحظر وبعده التعليق في فترة سمحت بها دول غربية -مثل كندا والسويد وأسكتلندا وبريطانيا– للشرطيات بارتداء الحجاب الذي يعد لباس إسلاميا صريحا، وهو ما يطرح السؤال في فرنسا وفق الكثير من المحللين: هل العلمانية تتعلق بالدولة أم بالمواطن؟
 
وفي تعليقها بشأن قرار منع البوركيني تقول عاهدة زناتي -وهي أسترالية من أصول لبنانية- لصحيفة الغارديان إنها صممت هذا اللباس "من أجل تحرير النساء وليس سلبهن حريتهن"، وتقول إن البوركيني ليس رمز الإسلام بل هو رمز الفرح والترفيه والصحة، مشيرة إلى أن السياسيين الفرنسيين وطالبان ليس أحدهما أفضل من الآخر، على حد قولها.
 
ويشير نشطاء فرنسيون إلى أن حظر البوركيني "أظهر ازدواجية فرنسا في مفهومها بشأن العلمانية"، وأنه لا يوجد في القوانين الفرنسية ما يدعم حظره، وأن الحريات الشخصية تعد بندا أساسيا في دولة القانون الفرنسية بما يجعل مسألة حظره والجدل بشأنها مناقضا لمفهوم العلمانية نفسه.
 
ويؤكد آخرون أن القانون الخاص بحظر الرموز التي تشير إلى المعتقدات الدينية لا يطبق إلا في المدارس الحكومية، لكن البعض يعتبرون أن الأمر يأتي في سياق توجه عدد من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وسويسرا وبلجيكا وإيطاليا وغيرها إلى حظر النقاب.
‪مانويل فالس أيد حظر البوركيني ورآه
‪مانويل فالس أيد حظر البوركيني ورآه "استعبادا للمرأة"‬ مانويل فالس أيد حظر البوركيني ورآه "استعبادا للمرأة" (الأوروبية)

النخب والسياسة
ويقول الكاتب والمحلل السياسي الفرنسي بيير بيرتيلو للجزيرة إن هذه القضية أضرت بسمعة فرنسا كبلد للحريات والقانون، وإن هناك حالة عاطفية وليست عقلانية بشأن قضية البوركيني التي بدأت في مدينة نيس كرد فعل على الهجوم الذي جرى هناك بالاعتداء على نساء كن يرتدين البوركيني.

ويرى بيرتيلو أن رئيس الوزراء مانويل فالس أصيب بخيبة أمل من حكم مجلس الدولة، وتعرض لانتقادات من عدد من وزراء حكومته بسبب موقفه من الأزمة، أما الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي فقد استغل تلك الواقعة للإعلان عن ترشحه للرئاسة.

وكان فالس قد أعلن تأييده لقرارات الحظر، قائلا إن البوركيني يمثل "استعبادا المرأة"، فيما رأى ساركوزي أن ارتداء البوركيني "عمل سياسي، وقد يدعم التطرف ويسبب الاستفزاز".

ولا تتقاسم النخب الفرنسية وجهة النظر نفسها من القضية، فوزيرة التعليم نجاة فالو بلقاسم -وهي من أصول مغربية- تقول إنها شخصيا تؤيد الحظر، لكنها ترى أن "الدوافع وراء حظره سياسية، وتفتح المجال أمام المشاعر العنصرية".

وفي المعسكر الاشتراكي، قال النائب بينوا هامون -الذي ينوي الترشح لانتخابات الرئاسة 2017- إن توقيف نساء يرتدين البوركيني "يعد استهزاء بالعلمانية الفرنسية"، محذرا أيضا من تحول الأمر إلى استهداف الإسلام والمسلمين بغية تحقيق مكاسب سياسية بحتة، وفق تعبيره.

وكلام هامون يوافق عليه الكثيرون من المسلمين ومن نخب فرنسية تطرح علامات استفهام بشأن تفاقم الجدل الدائر في فرنسا حول الدين (الإسلامي خاصة)، وترجع هذا التوتر الزائد في المقاربة إلى خصوصية العلمانية الفرنسية في سياقاتها التاريخية.

ومن هذا المنطلق فإن قضية البوركيني والصبغة القانونية التي أضفيت إليها قبل تعليقه من قبل مجلس الدولة ستضيفان عاملا للانقسام في المجتمع الفرنسي -الذي يتضمن نحو ستة ملايين مسلم، إذ إن المناخ العام الحالي يدفع باتجاه توترات مزمنة بشأن "المظهر"، كالحجاب والنقاب والبوركيني، والذي تعتبره الجاليات المسلمة "ثوابت"، فيما تحار العلمانية الفرنسية وقوانينها ومؤسساتها في تأويله بين الحرية الشخصية والرمز الديني.

المصدر : الجزيرة