ملحمة موت وحياة أبطالها أهل القصير

معاناة آلاف النازحين المدنيين والجيش الحر من مدينة القصير (الجزيرة)
آلاف النازحين من المدنيين من مدينة القصير (الجزيرة-أرشيف)
undefined

عبد الرحمن عمار

كانت مرحلة النزول من فوق الجدار الصخري والوصول إلى الطريق العام وعبوره، ذروة الملحمة التي عاشها أكثر من عشرة آلاف إنسان، وقد صنعوا أحداثها وفصولها بالدماء والأرواح والدموع والخوف والعناء. وربما كان يظنّ كل من تجاوز هذه المرحلة ونجا بروحه، ولم يشاهد أحداً يستشهد أمامه، أن الأمور مضت على خير ما يرام، ولكن ما حدث كان أشد وأقسى من كل التوقعات، فهناك العشرات من العابرين سقطوا شهداء في تلك المنطقة الرهيبة، دون أن نعرف حتى أسماء أقرب المقربين إلينا إلا بعد حين، كما هو الحال مع "مالك" ابن أخي، وهو أحد "قواشيش" الثورة ونشطائها، حيث لم أعلم باستشهاده إلا بعد يومين من خروجنا من تلك المنطقة. كما أن هناك المئات من العابرين فُقدوا، وبقي مصيرهم مجهولاً، ولا أحد يعرف هل هم أحياء أم معتقلون أم جرحى أم شهداء.

وكنت أشرت سابقاً إلى أن اثنين ممن كانوا معنا في المجموعة -ونحن عشرون شخصاً- قد استشهدا، وفُقد الثالث، وذكرت أحد الشهيدين، وهو حسنين ناصر الذي استشهد أمس في معركة البستان. واليوم في منطقة العبور استشهد الثاني، وهو علي محمد الصليبي الذي رافقنا في الرحلة، وهو يقود سيارة "الفان" التي ذكرتها أكثر من مرة. أي إن نسبة من استشهدوا وفُقدوا من مجموعتنا في هذه الرحلة تبلغ 15%، وبناء على هذه النسبة المحتملة، ولو قدرنا الحد الأدنى لعدد الخارجين من القصير هو ثمانية آلاف إنسان، فيكون العدد الإجمالي للشهداء والمفقودين 1200 إنسان، وهذا رقم رهيب حقاً، مع أن العدد الحقيقي هو أكثر من ذلك.    

أدركت أن لزوجة الدماء التي تسيل على جسدي هي من دمائهم. وبناء على مبدأ "الحي أبقى من الميت"، فقد تمّ حمل الجرحى وسرنا تاركين جثمانَي هناء عيوش وصهرها في المكان الذي استشهدا فيه

وهناك حقائق تهتزّ لها القلوب حزناً وأسى، وصار الناس يتداولونها في ما بعد، بعد أن سمعوا بها ممن كان شاهداً على ما وقع وما جرى. وسوف أذكر حادثتين اثنتين سمعتهما من أكثر من مصدر:

الحادثة الأولى، أن امرأة -ربما هي من العائلة التي أشرت إليها سابقاً- كانت تمسك بطفليها وتمشي مع الماشين قاصدة عبور تلك المنطقة اللعينة، وشاءت الأقدار أن يصاب أحد الطفلين برصاصة قاتلة، وهي تمسك بيده، فماذا فعلت تلك الأم الثكلى؟ حملت صغيرها الشهيد وقبّلته، ودموعها تنهمر على وجهه المضرّج بالدماء، ولم تفكر في أن تواريه في قبر يليق به كإنسان، فهذا من "سابع المستحيلات"، ولذلك وضعته بحنان على الأرض، وقبلته وودّعته بنظرة خاطفة، وحزمت أمرها، وأمسكت بيد ابنها الثاني وانطلقت به، لعلّها تسلك به طريق النجاة.  

والحادثة الثانية، ما حدثني به عبد السلام حول استشهاد الممرضة هناء عيوش. وهناء كانت منذ إنشاء المستشفى الميداني شعلة متوقدة من العمل الإنساني، وما من مرة زرتُ فيها المستشفى الميداني في القصير إلا وكانت موجودة، وأشاهدها تعتني بهذا الجريح أو ذاك، وقد أشرت إليها سابقاً في أحداث معركة بستان اللوز، حيث كانت تسعف الجرحى بقلب شجاع، دون أن تحسب لأزيز الرصاص حساباً يُذكر، بل كان كل تفكيرها ينحصر في إسعاف المصابين ومحاولة إنقاذهم من الموت، وها هي الآن في ذمة الله. يرحمها الله.

الممرضة هناء
قال عبد السلام كنت جريحاً لا أستطيع السير، فحملني النشامى على نقالة، وحين وصلنا إلى "منطقة الموت" كانت الممرضة هناء عيوش تسير قربي، ومعها ابنتها وصهرها، والقصف مستمر وإطلاق الرصاص لم يتوقف، وفجأة سقطت قذيفة هاون قربنا، لم أشعر إلا وبعض الأجساد تتكوّم فوقي، بدأتُ ألامس جسدي، أحسست بلزوجة الدماء، صرت أفكر: هل أصبت إصابة قاتلة؟ هل أنا حيّ أم ميت؟ وأخيراً اتضح الموقف.. استشهدت هناء عيوش وصهرها مهند مهدي جمرك، أما ابنتها فقد أصيبت بجروح بليغة، وأجسادهم تتكوم فوقي. وهكذا أدركت أن لزوجة الدماء التي تسيل على جسدي هي من دمائهم. وتابع عبد السلام حديثه: وعلى مبدأ "الحي أبقى من الميت" فقد تمّ حمل الجرحى وسرنا تاركين جثمانَي هناء عيوش وصهرها في المكان الذي استشهدا فيه.  

في ذلك الوقت، وفي تلك المواقف العصيبة، لم تتوفر أية قدرة على أن يطبق القول المأثور "إكرام الميت دفنه"، فالظروف لم ولن تسمح بذلك أبداً. وهكذا بقيت هناء عيوش بدون إكرام، لا هي ولا صهرها، ولا الطفل الذي ذكرته قبل قليل، ولا العشرات من الشهداء الذين سقطوا، فبقيت جثثهم ملقاة على الأرض في العراء. فلا حول ولا قوة إلا بالله.

إن هاتين الحادثتين اللتين ذكرتهما ليستا إلا نموذجين من حوادث الموت الكثيرة التي حدثت أثناء عبور الفتحة. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

                                 *****
كانت النداءات لا تزال تتوارد من الهاتف اللاسلكي: تقدموا، توجهوا شرقاً، اعبروا من شمال النيران، اعبروا من جنوبها، وبعدها ستقتربون من الطريق العام، أسرعوا، واحرصوا على أنفسكم، وهكذا ظل نداء الهاتف اللاسلكي يتوارد على أسماعنا، ونحن نهتدي بتلك النداءات.

وصل بي الإرهاق والألم في قدميّ إلى حد لا يُطاق، وأنا مطلوب مني أن أسير، وبالسرعة القصوى، وكنت أحس بأن جسدي يكاد يتقطع من الوسط، تحاملت على نفسي، كان ابن أخي يمسك بيدي ويعينني على السير، ولولاه لكنتُ تهالكت على الأرض وبقيت حتى يأتي شبيحة النظام، وتتصرّف معي كيفما شاء لها التصرف.

كانت القذائف مستمرة بالانفجار في أماكن متفرقة، وأزيز الرصاص نسمعه قريباً منا، وحين نستشعر الخطر ننبطح على الأرض، والأرض كلها أحجار وشوك، لا يهم، فالهروب من الموت يجعلنا ننهض دون أن يقول أحدنا: "آآآآخ". وهكذا نعاود السير من جديد، وفجأة وصلنا إلى طريق معبد، ظننته طريقا عاما (حمص-دمشق)، ثم خاب ظني، ولكن السير عليه كان مريحاً بعض الشيء، على الأقل تخلصت مما يضغط على قدميّ من أحجار مدبّبة حادة.

كانت القذائف مستمرة بالانفجار في أماكن متفرقة، وأزيز الرصاص نسمعه قريباً منا، وحين نستشعر الخطر ننبطح على الأرض، والأرض كلها أحجار وشوك، لا يهم، فالهروب من الموت يجعلنا ننهض دون أن يقول أحدنا: "آآآآخ"

رائحة الموت
أثناء ذلك، كان العديد من العابرين ممن سبقونا، يسيرون أمامنا على شكل مجموعات متتابعة، والمسافة طويلة بيننا وبينهم، وكنا بالكاد نراهم على ضوء النيران المشتعلة، فصرنا نهتدي بهم ونتبعهم كيفما اتجهوا، وأخيراً وصلنا إلى الطريق العام، والرصاص ينهمر حولنا، وكان شعوري أثناء عبوره أشبه بشعوري وأنا أعبر طريق حمص-القصير في الليلة الماضية. إنه شعور غارق في الرعب ورائحة الموت، وفي الوقت ذاته ممزوج بنور خافت من الأمل والرجاء.

ونجحنا في العبور، أصبحنا شرق الطريق العام، ومباشرة تسللنا بين أشجار حراجية يتخلّلها بناء لم أتبين ملامحه، فتجاوزناه، وسرنا جنوباً بجوار حائط يوازي الطريق العام، وبقينا نسير مسافة نحو كيلومتر، وأخيراً بدأ بياض الفجر ينتشر في الآفاق، ثم رأينا شخصاً واقفاً، ربما يكون من أهل تلك المنطقة، فملامح التعب والإرهاق والعناء لا تبدو عليه مطلقاً، قال لنا بدون مقدمات، وهو يشير بإصبعه نحو الجنوب: هل ترون تلك الأبنية البعيدة؟ اتجهوا صوبها، وهناك ستكونون في أمان. وهكذا وصلنا إلى ذلك المكان الذي يُطلق عليه "مدينة الأحلام"، وهذه أول مرة أسمع بهذا الاسم، ولكنه اسم معبّر.
                          
الجمعة 7/6/2013.. وصلنا إلى مدينة الأحلام، وما أدراكم ما مدينة الأحلام! هي مشروع سياحي قيد الإنشاء، مؤلف من شارع عريض وطويل، قيل لي طوله 1200 متر، ومن جانبيه مساحات مهيّأة  للبناء على شكل فيلات.

كان الناس لا يزالون يفدون إلى ذلك الشارع حتى صار يغصّ بالمخلوقات البشرية من أوله حتى آخره، وهناك التقينا بالعديد من الأحباب الذين فقدناهم مؤقتاً على طريق الرحيل، ومنهم ابن اختي ومعيني في الرحلة، وكانت المساعي والتحركات للخروج من هناك تسير على قدم وساق، فالوقت ليس وقت انتظار أو اصطياف في مدينة الأحلام.

ولسذاجتي، وأقولها للمرة الثانية، لم أفكر بصعوبة الوضع، فقد قدّرت أنني سوف أصل إلى مدينة دير عطية، حيث تقيم أم العيال وأم الأحفاد والأحفاد في بيت ابنتي الكبرى، خلال ساعتين أو ثلاث على أبعد تقدير، فالمسافة بين المكانين لا تزيد على ستين كيلومتراً، اتصلت قبل شروق الشمس، تكلمت مع أم الأحفاد، طمأنتها عن حال الجميع، كنت متلهفاً لرؤيتهم جميعاً، ولا سيما الأحفاد، فقلت لها مازحاً أيقظي الأولاد، سنصل إلى عندكم خلال ساعتين، ولكن الساعتين امتدتا إلى يومين ونصف اليوم أيضاً. وسوف أروي لكم لماذا خطوة خطوة.

شحن البشر
كانت مجاميع الناس تبحث عن سيارات لتنقلهم إلى الأماكن والمناطق المناسبة، فأهل القصير وثوارها يبغون التوجه إلى حسياء ومنطقة القلمون، وثوار حلب إلى حلب، وثوار دير الزور إلى دير الزور. وكل هذه الأعداد الكبيرة تحتاج إلى قوافل كثيرة من السيارات، والقوافل تحتاج إلى متطوعين وإمكانيات وتنظيم لتوفير عشرات السيارات في الأوقات المناسبة، وقد تبيّن لي في ما بعد أن معظم ما ذكرت قد توفر بحدوده الدنيا، ولكن الوضع صعب، ويحتاج إلى أوقات طويلة، وما علينا إلا الصبر.

كنا نرى بعض السيارات، وهي تتكدس بالأجساد البشرية، وتغادر شارع مدينة الأحلام، وكنا نحن موعودين بسيارة قد تأتي بين لحظة وأخرى لكي تشحننا إلى بلدة قارة في القلمون، ولكن السيارة لم تأتِ، وانتظرنا، لم يعد هناك مجال لتأمين أية سيارة، وعلينا أن نذهب إلى طرف هذا الشارع بقصد التوجّه إلى قرية "الديبة".

كنا نرى بعض السيارات وهي تتكدس بالأجساد البشرية، وتغادر شارع مدينة الأحلام، وكنا نحن موعودين بسيارة قد تأتي بين لحظة وأخرى لكي تشحننا إلى بلدة قارة في القلمون، ولكن السيارة لم تأتِ، وانتظرنا، ولم يعد هناك مجال لتأمين أية سيارة

حتى أنت يا مدينة الأحلام تتآمرين على قدميّ! كان من المتخيّل أن يكون شارعك معبّداً، ناعماً، يشتهي الواحد منا أن يضع خده على تلك المَلاسَة والنعومة، وينام 24 ساعة على الأقل، ولكنني وجدتك يا شارع مدينة الأحلام مفروشاً بالحصى المكسّر الشبيه بأنياب الوحوش المفترسة، وليس لي خيار سوى أن أسير عليك "غصباً عن أنفي"، و"شحاطي"، وقدماي المتورمتان، وأصابعي المجروحة تلعن كل حصاة تصطدم بها، فذلك الحصى الحاد يأبى إلا أن يُقبّلَ قدميّ تقبيلاً أشبه بتقبيل المسامير للجدران.

بعد أن خرجنا من شارع مدينة الأحلام مرت سيارة بيك آب متوجهة إلى قرية "الديبة"، توقفت وركبت فيها، حظي يفلق الصخر، فالديبة تبعد عن مدينة الأحلام بحدود ثلاثة كيلومترات، ولولاها لكنت سرت هذه المسافة مشياً على أقدامي المتورمة. ألم أقل لكم حظي يفلق الصخر. ثم وصلت إلى مدرسة القرية، وهناك ألقيت بنفسي على طرف الحائط، كان الصقيع الذي لم يفارقنا طوال ليالي هذه الرحلة، لا يزال ينخر في بدني، فانتقلت من جانب الحائط قليلاً، إلى حيث تنتشر أشعة الشمس، ونمت نوماً عميقاً مقدار ساعة أو أكثر، ثم استيقظت وأنا لا أزال أرتجف من البرد، برد حزيران.

كانت باحة المدرسة واسعة، وهي باحة عشوائية، لا تنظيم فيها، وكان الكثير ممن لجأوا إلى هذا المكان يسندون ظهورهم على الجدار. نظرت بعيداً فوجدت بيوتاً أشبه بالخيام، وهناك نساء وأطفال يدخلون ويخرجون، وبعد فترة جاءت امرأة في الخمسينيات من عمرها تحمل إبريقاً وكأسين من البلاستك، كانت تنتقل من واحد إلى آخر من الساندين ظهورهم على الجدران، وهي تسكب رشفة أو رشفتين من القهوة الحلوة، وتقول معتذرة أرجو ألا تؤاخذونا، كان من الواجب علينا أن نقدم لكم فطوراً، ولكن… ". ثم ظهر الإحراج على ملامح وجهها الأنيس، وقطعتْ كلامها بإشارة من يدها، تدل على عجزها عن تقديم الفطور لهذه الأعداد الكبيرة، فشكرناها الشكر العميق، وحين ذاك سألها أحد الموجودين هل أنتم من قرية الديبة؟ فقالت لا، نحن من مدينة الرستن، هربنا من الموت ولجأنا إلى هنا. عندئذ شعرت بأن وجداني كله يهتز، وصرخت من أعماق نفسي دون أن يسمعني أحد: الله أكبر، والله يا ابنة الحلال، أنت كريمة وابنة كرام، وأصيلة وابنة أصلاء". واعتلج قلبي بالدموع من شدة التأثر. أما أهل الديبة فقد بدأوا يغادرون قريتهم حين رأونا نتوافد إليها، لقد خافوا على أنفسهم من الوباء الذي يعشّش في عنائنا وجوعنا وأسانا ودموعنا التي نذرفها على أرواح الشهداء، هذا هو الوباء الذي خاف منه أهل القرية. 

والآن، ماذا نفعل؟ والجوع بدأ ينهش أجسادنا، لا بأس، فبعض محلات بيع الأغذية ظلت في القرية لتصريف بضائعهم بالسعر الذي يفرضونه، وهكذا ذهب ابني وابن أخي وائل ليفتشا عن طعام مناسب، ثم أحضرا بعض معلبات التونة والجبنة وسطل لبن أيضاً، وكيساً كبيراً مليئاً "بالأقماع أو البواري أو القبابيع" -سموها ما شئتم- وهي المصنوعة من مادة البسكويت الرقيق، والتي تُستخدم لوضع البوظة المحلاة فيها. ثم قيل لنا: هذا هو خبزنا، فاليوم جمعة ولا خبز هنا أبداً. فصرنا نأكل ونحمد الله، ونحن نضحك أحياناً على هذا الخبز المبتكر، وقد ذكّرني ذلك بالنكتة التي تُروى عن ابنة ماري أنطوانيت -فيما أظن- فحين مرّ متظاهرون جائعون من أمام  قصر أبيها الملك، وأطلّت من الشرفة, وسألت عمّا يريد هؤلاء؟ فقيل لها إنهم لا يجدون خبزاً، فقالت لهم بسذاجة: "طيب.. ما داموا لا يجدون الخبز، فليأكلوا بسكويت".
ولكننا نحن أكلنا "القبابيع" بدلاً من الخبز مضطرين ومجبرين.

_________

النص هو مقطع من مخطوط ينشر لاحقا للأديب والشاعر السوري عبد الرحمن عمار حول الخروج الأخير لسكان القصير بعد سقوطها بيد ميليشيات نظام الرئيس بشار الأسد وجنوده وقوات حزب الله. ويسجل الكاتب قصة الخروج كما حصلت بالفعل بين 4 و8 يونيو/ حزيران عام 2013 .

المصدر : الجزيرة